نشأة الباطنية وأثرها في الأديان (1)
تعريف الباطنية
لقد عرفت الحركة الباطنية عدة تعريفات، يجمعها تركيز الباحثين على الحركات الباطنية في الإسلام، ولم يتحدث هؤلاء الباحثون عن الحركات الباطنية في الديانات الأخرى، سماوية كانت أم غير سماوية، حتى كأنها من نتاج الدين الإسلامي دون سواه، مع أن استقراء التاريخ والأديان، وبشكل موجز وسريع، يظهر أن الحركات الباطنية في الإسلام ليست سوى إعادة لصياغة الحركات الباطنية في الأديان الأخرى متزينة بزي إسلامي.
فقد قيل في تعريفها إنها الحركات القائلة بأن لكل نص ديني ظاهرًا وباطنًا، ولكل تنزيل تأويلًا[1].
وتأويل ظواهر النصوص بالبواطن مما يصعب أن يضبط تحت قانون واحد، يمكن الرجوع والاحتكام إليه، ولهذا فقد تتباين تأويلاتهم للنص الواحد، فتصل حدًّا ربما يبلغ بها مستوى التناقص، إذ ما دامت النصوص الدينية المقدسة عبارة عن رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأسرار مكتومة، وأن الطقوس والشعائر، بل وحتى الأحكام العملية رموز وأسرار كذلك، ولا يصل إلى هذه الأسرار سوى العلماء وأهل الباطن، وأما سائر الناس فهم من أهل الظاهر، الذين لا يحاولون الوصول إلى الحقائق وكشفها[2]، فمن الطبيعي والحال هذه أن تتفاوت التأويلات وتتباين، تبعًا لاختلاف المؤولين وغاياتهم، وأهوائهم، وكذلك مدركاتهم العقلية، ومستوياتهم المعرفية والثقافية، بل ربما يؤدي ذلك إلى احتقار الحقيقة، واختصاصها بأناس معينين، يبثون ما يريدون من معارف يزعمون أنها حقائق دون سواها.
وقيل: إن الباطنية: “هم الذين تأولوا الدين على الشرك، فقالوا بإلهين اثنين على طريقة المجوس الثنوية: المبدع الأول أبدع النفس، والاثنان مدبران للعالم بتدبير الكواكب والطبائع”[3].
وقيل غير ذلك، وهو لا يهمنا الآن، إلا بمقدار ما يلقي ضوءًا على مضمون الحركة الباطنية، كما هو شأن التعريف، مع غض النظر عما في هذه التعاريف من نقض وإبرام وتخطئة وتصويب.
إن من الظاهر البين أن الصفات التي اتصفت بها الحركات الباطنية في الإسلام، يمكن أن تنطبق على الديانتين اليهودية والمسيحية انطباقًا تامًّا، ذلك أن كلًّا من الديانتين المذكورتين قد عملتا على تأويل النصوص الواردة في كتبهما المقدسة، تأويلًا يتلاءم مع مذاهبها العقائدية كما سنرى، ولكن لا بدّ أولًا من محاولة التعرف على جذور الحركة الباطنية في التاريخ، وما إذا كانت جزءًا من الديانات السماوية، أم أنها وردت إليها من أصول غريبة فرضت نفسها عليها.
بدايات التفكير الباطني
إن من الصعوبة بمكان تحديد بداية التفكير الباطني على وجه الدقة، ذلك أن عوامل مختلفة واجهت الإنسان في مختلف مراحله التاريخية، منها ما هو ذاتي نابع من الذهنية التي ينطلق من خلالها لمواجهة الحياة، من قبيل إحساسه بالعجز أمام بعض الظواهر التي يواجهها دون أن يجد لها حلًّا يشبع نهمه، أو نشوة ترضي غروره، فربما لجأ إلى السحر والشعوذة وأشباههما من التخرصات التي تسكن بعض قلقه من المصير حسب زعمه، وربما لجأ إلى تسلية نفسه، من خلال استعراض الأساطير التي تحاك حول أبطال أو رجال كبار أذهلوا عقله وسلبوا عنه لبه، فنظر إليهم نظرة إعجاب وإكبار، ربما وصلت إلى مستوى عبادتهم، في كثير من الأحيان، لما يراه في نفسه من عجز أمام قدرتهم وإنجازاتهم الكبرى، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن تكون الأسطورة نابعة من مخيلة الإنسان المحضة، إذ من المحتمل جدًّا أن يكون لها أصول وأحداث واقعية نشأت عنها، إلّا أن المخيلة قد أضافت إليها، وحسنتها وحملت فيها ما يمكن أن يصل بها إلى مستوى العبادة والتقديس.
ومن العوامل ما هو موضوعي وواقعي فرض نفسه على هذا الإنسان، فانعكس على شخصيته ضعفًا وإحساسًا بالصغار والعجز، من قبيل الأحداث والكوارث الطبيعية من قبيل الزلازل والبراكين والخسوف والكسوف، وأشباهها، مما لم يجد له تفسيرًا يتسم بالواقعية والصدقية في حياته، ولعل من أهم العوامل الموضوعية المؤدية إلى الانكفاء على الذات، واللجوء إلى التأويلات والبواطن، هو التطورات السياسية واضطهاد السلاطين لمخالفيهم، وسعيهم إلى إبادتهم والقضاء عليهم، فلا يجد هؤلاء مناصًّا من كتمان عقائدهم، خوفًا على أنفسهم أو أموالهم وأهليهم من بطش السلاطين، يدفعهم إلى ذلك في الغالب حسن الظن، والنظرة التقديسية لرموزهم ونصوصهم المقدسة، مما يبدو بظاهره متخالفًا مع ما يواجهونه في حياتهم اليومية، إذ ما من دين إلّا ويعد أتباعه بالسلام والأمن والطمأنينة والسعادة والاستقرار في مستقبل الأيام، إن لم يمكن في حاضرها.
وما دام القلق على المصير، والخوف من المجهول، ملازمًا لهذا الإنسان منذ بداياته، وما دامت النزاعات السياسية بمختلف وجوهها مواكبة له منذ تشكلت المجتمعات، وظهرت الفرق والديانات، فإن من الطبيعي القول بأن اللجوء إلى الباطن، والهروب من الواقع المعاش قد رافق المستضعفين من أفرادهم، والمنبوذين من طوائفهم وفرقهم منذ البدايات كذلك.
إلا أن من الممكن رصد بعض الإرهاصات الفعلية للحركة الباطنية، من خلال الوثائق المدونة، والتي ظهرت في مناطق مختلفة عن ديانات الأسرار والمذاهب الغامضة، سواء في اعتقاداتها أو في طقوسها، وبعضها يرجع إلى حدود القرن السابع عشر قبل الميلاد، وقد انتشرت هذه المذاهب في القرون القليلة السابقة على ميلاد السيد المسيح، حين تداعت الإمبراطوريات اليونانية، وحلت محلها الإمبراطورية الرومانية في كافة مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط[4].
وقد كان لكل من هذه الديانات السرية أسطورة تتعلق بحياة أو بحادثة معينة في حياة إله هذه الديانة، تعطي من يعبده فكرة عن مغزى وجوهر هذه الديانة، بما تحويه هذه الأسطورة من إشارات ورموز مقدسة[5]، وكانت طقوس وعبادات هذه الديانات عبارة عن احتفال يقام في أماكن سرية لا يتعبد بها إلا المطلعون على أسرارها، وكانت هذه الطقوس تمثل عادة عذاب إله من الآلهة وموته وبعثه، أو تحيي ذكرى هذا العذاب والموت والبعث بطريقة شبه مسرحية[6].
إن من أبرز ديانات الأسرار القديمة في بلاد اليونان الديانة الإليوسية، نسبة إلى مدينة إلوسيس، التي انتشرت منها إلى كافة بلاد اليونان، واستنادًا إلى الأدلة الأثرية يتضح أنها تعود في ظهورها إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد واستمرت حتى القرن الرابع الميلادي، أي أنها استمرت حوالي ألفي سنة.
ويذهب الباحثون إلى أن جذور هذه الديانة تعود إلى الديانات الإيجية القديمة[7].
ومن ديانات الأسرار اليونانية التي كان لها أثر مباشر على الديانة المسيحية في ما يبدو، الديانة الأورفية، واسمها نسبة إلى شخص اسمه أورفيوس التراقي(الثراكي)، وهو يقدّم تارة على أنه موسيقي بارع، لم يكن يدانيه أحد في الثقافة والشعر والموسيقى، وأخرى على أنه كاهن زاهد من كهنة ديونيسيوس، إلا أن جميع ما وصل عنه من قصص وأحداث أدخلت في الأساطير، مما ألقى بظلال من الشك على حقيقة وجوده وعدمها[8].
لقد كانت الديانة الأورفية تعارض سفك الدماء وتدعو إلى السلام، ودعا الأورفيون إلى الطهارة والامتناع عن أكل اللحم حتى يعيش الإنسان والحيوان في سلام، كما آمنوا بفكرة تقمص الأرواح، وأن الأرواح تحبس داخل الأجساد، وبالثواب والعقاب، في حياة أخرى[9].
تقول الأسطورة: إن عابدات ديونيسيوس مزقن جسد أورفيوس وهن في حالة من الجنون المقدس، الذي ينتابهن أثناء أدائهن لطقوس ديانة ديونيسيوس السرية، ثم قطعن رأسه ورمينه في الماء، فطفا على سطحه حتى وصل إلى جزيرة لسبوس، وهناك وضع على مذبح، وظل الرأس يغني وينظم الأشعار، ويتنبأ بالمستقبل لمن يستشيره[10].
ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذا هو السبب في الموقف العدائي الذي أخذته الديانة الأورفية من النساء، حيث رفض كهنة أورفيوس انضمام النساء إلى ديانتهم، بل إن أورفيوس نفسه كان قد شجع الرجال على هجر نسائهم[11].
هذا كله في الحضارة الغربية القديمة، والتي تشكل الديانات اليونانية الحجر الأساس والأهم من بينها، وتأتي بعدها في الدرجة الديانات الرومانية، وأما في بلاد الشرق القديم، فعلى الرغم من أنها على العموم ذات طابع توحيدي، وأنها تؤمن بإله واحد، خالق للسماء والأرض وكل شيء، ولم يأخذ إنسان الشرق القديم مسألة تعدد الآلهة على محمل الجد، بحيث لم تكن الآلهة متعددة بالنسبة إليه إلا وجوهًا متكثرة للقدرة الإلهية الواحدة[12]، مما أدى إلى تداخلها الوثيق مع الفكر الديني السامي في بلاد الشرق على العموم[13]، إلا أنها لم تتحرر من الاعتقادات السرية بالمرة، كما نجده في بعض عقائد الكلدانيين السرية[14]، وما نجده في الاعتقادات الهندية القديمة[15].
والظاهر أن اختلاط التوحيد بالشرك في بلاد الشرق القديم ناشئ من أحد عاملين أو منهما معًا، وهما:
العامل الأول: اختلاطهم بالشعوب الغربية، نتيجة الحروب والاحتلال التي كانت تتعرض له بلادهم، ومن المهاجرين الذين وفدوا إليهم من هؤلاء الغربيين، أو ما كانوا يقومون به من غزو للغربيين ذوي الاعتقادات السرية، التي تقدمت الإشارة إلى بعضها.
والعامل الثاني: دخول القصص الشعبية وتبديلات أتباع هذه الديانات مع مرور الزمن، كما نراه في تعاليم بوذا في الهند، وزرادشت في بلاد فارس.
ومن النصوص أو التراتيل الدالة على عنصر التوحيد في مصر القديمة قولهم: “واحد ولا ثاني له واحد خالق كل شيء، قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شيء، والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود، أبو البدايات، أزلي أبدي دائم قائم، خفي لا يعرف له شكل، وليس له شبيه، سر لا تدركه المخلوقات، خفي على الناس والآلهة، سر اسمه، ولا يدري الإنسان كيف يعرفه إلخ…”.
إن هذه الترتيلة الموغلة في القدم دفعت السير واليس بدج، إلى القول بأن المصريين كانوا يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خفي، أبدي وأزلي، كلي القدرة والمعرفة، لا تدركه الأفهام والعقول، خالق للسماء والأرض وكل ما عليها[16].
وكذلك الحال في غير مصر، من أمم الشرق القديم كالسومريين والبابليين[17]، بل نجد مبادئ التوحيد في ديانة زرادشت في بلاد فارس، رغم ما أدخل عليها جمهور المؤمنيين بها ما ليس منها، فلقد وصفها بعضهم بأنها “في غاية النقاوة، وأن جوهرها التوحيد بأنقى مظاهره، فهي لا تقر إلا بإله واحد هو أورموزد، لا قياس لعظمته وقدرته وروحانيته”[18].
نستخلص مما تقدم، أن منشأ الحركات الباطنية ومصدرها هي الديانات السرية التي راجت في بلاد الغرب منذ فجر التاريخ، والتي دخلت في عادات وتقاليد الشعوب السامية، والشرقية على العموم، ثم شيئًا فشيئًا أدخلت في أديانها بشكل رسمي، فتأسست بذلك مذاهب وفرق في هذه الأديان، والسماوية منها على وجه الخصوص.
[1] الشهرستاني، الملل والنحل، الجزء1، الصفحة 192.
[2] عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، الصفحة 751.
[3] عبد المنعم الحفني، موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب والحركات الإسلامية، الصفحة 132.
[4] د. حسين الشيخ، ديانات الأسرار والعبادات الغامضة في التاريخ، الصفحة 54.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 56.
[6] وول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء6، الصفحة 341.
[7] ديانات الأسرار والمذاهب الغامضة، مصدر سابق، الصفحة 64، وقصة الحضارة، الجزء 6، الصفحة 341.
[8] قصة الحضارة، الجزء 6، الصفحة 344. وديانات الأسرار، الصفحة 90.
[9] ديانات الأسرار، مصدر سابق، الصفحة 90، وقصة الحضارة، مصدر سابق، الجزء6، الصفحة 345.
[10] ديانات الأسرار، الصفحة91، وقصة الحضارة، الجزء6، الصفحة 344.
[11] ديانات الأسرار، الصفحة91.
[12] فراس السواح، الأسطورة والمعنى، الصفحة 208.
[13] ديانات الأسرار، مصدر سابق، الصفحة 29.
[14] هارفي بورتر، موسوعة مختصر التاريخ الهندي القديم، الصفحة 81.
[15] أندريه إيمار، جانبين أوبوايه، تاريخ الحضارات العام، الجزء1، الصفحة 568.
[16] فراس السواح، الأسطورة والمعنى، مصدر سابق، الصفحتان 189-190.
[17] المصدر نفسه، الصفحة 196.
[18] تاريخ الحضارات العام، مصدر سابق، الجزء1، الصفحتان 224-225.
المقالات المرتبطة
آراء في تفسير الوجوب العقلي والأخلاقي
الحَسَن ما ينبغي فعله عند العقلاء؛ أي أنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه ينبغي فعله، والقبيح ما ينبغي تركه عندهم؛ أي أنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه لا ينبغي فعله أو ينبغي تركه.
المشروع الفكري عند طه حسين
لم يكن طه حسين مجرد أديب له أسلوبه الخاص..ولكن كان له مشروع مصري عربي ثقافي تنويري يمكن البناء عليه. وهنا تحدّث عن شقين من هذا المشروع.
إحياء التوحيد في وصية الشهيد الحاج “قاسم سليماني”
“إلهي أشكرك أن نقلتني من صلب إلى صلب وسمحت لي بالظهور ومنحتني الوجود حتى أتمكن من إدراك أحد أبرز أوليائك.. فإن لم أحظ بتوفيق صحبة رسولك الأعظم .. فقد جعلتني في نفس المسار”.