نشأة الباطنية وأثرها في الأديان (3)

نشأة الباطنية وأثرها في الأديان (3)

أثر الباطنية في الأديان

ذكرنا في صدر الحديث أن الحركات الباطنية، هي التي تسعى إلى تأويل النصوص المقدسة وصرفها عن ظواهرها، بدعوى عدم صلاحية هذه الظواهر للاستفادة منها، وأن حقائق الدين تكمن في ما وراء الظاهر، وأشرنا إلى تأثر الأديان السماوية الثلاثة بهذه الظاهرة، الوافدة إليها من الخارج، وهذا ما يحتاج إلى تسليط الضوء بعض الشيء على الديانات الثلاثة.

أولًا: اليهودية

لقد ابتلى بنوا اسرائيل، ومنذ زمان يعقوب (ع) بالمعاصي، والتمرّد على أوامر الله تعالى، دفعهم إلى ذلك عامل الحسد والغيرة، وذلك عندما اقترفوا خطيئة بيعهم أخاهم يوسف (ع)، وخداعهم لأبيهم بغية الحصول على محبة أبيهم بزعمهم، حيث برروا ذلك قائلين: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ[1].

وبدأت رحلتهم مع التشرد والذل والعذاب منذ ذلك الحين، فلم يقر لهم في أرض قرار، ولم تقم لهم قائمة على مدى التاريخ، ولا يزالون مشتتين في بقاع الأرض، لا يألفهم مجتمع، ولا يوحدهم كيان، وقد أقر كاتب سفر عزرا أن سبب تشردهم وذلهم هو التمرد على وصايا الله تعالى، حيث يقول: “اللهم إني أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهي وجهي نحوك لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء، منذ أيام آبائنا نحن في إثم عظيم إلى هذا اليوم. ولأجل ذنوبنا قد دفعنا نحن وملوكنا وكهنتنا ليد ملوك الأراضي للسيف والسبي والنهب وخزي الوجوه كهذا اليوم”[2].

هذا في الوقت الذي يرون فيه أن إخوتهم من أبناء إسماعيل(ع) وسائر أبناء إبراهيم (ع)، بل وأبناء عيسو ولوط (ع) قد عاشوا في أمان واستقرار وطمأنينة، وأسسوا دولًا وممالك استطاعت أن تبقى آمادًا طويلة، فضلًا عن غيرتهم من الأمم الأخرى التي كانت تحيط بهم وكانت تستعبدهم وهم يرزحون تحت نير الذل والهوان والتشرد، مع أنهم يرون أنهم أحق بكل هذه الكرامات ممن سواهم، ذلك أنهم من نسل السيدة سارة، بخلاف أولئك الذين يرونهم أبناء الجواري، بل أن نسل لوط – بحسب زعم التوراة- هم أبناء غير شرعيين لكونهم ناتجين عن مقاربته لابنتيه بعدما أسكرتاه ونامتا معه دون أن يعلم ماذا يفعل، فولدتا كلًّا من موآب وعمون[3]، ومع ذلك فقد أسس الموآبيون والعمونيون مملكتين كانتا لا تزالان قائمتين زمن الخروج، بعد ما يزيد عن أربعمائة سنة من عبودية بني إسرائيل.

أمام هذا الواقع المؤلم الذي يعيشه اليهود، وإحساسهم بالأنا الاستعلائية اتجاه الأمم الأخرى، التي يرون أن من حقهم أن يكونوا سادتها، بخلاف ما عليه الواقع، أخذوا يقتبسون الكثير من تعاليم وعقائد تلك الأمم، بل إن كثيرًا من الشواهد التوراتية تدل على أنهم اقتبسوا الكثير من هذه العقائد، بل البطولات والأمجاد التاريخية لتلك الأمم، لعلهم يعوّضون بذلك بعض ما حرمهم الواقع إياه، ونسبوها إلى أنفسهم، وقد كثرت الدراسات حول هذا الموضوع في الفترة الأخيرة.

يكفي أن نذكر في هذا المقام، كشاهد على تزوير التاريخ، وسرقة أمجاد الآخرين، ونسبتها إلى أنفسهم، ما ذكره إسرائيل شاحاك، من بيان حقيقة الديانة اليهودية، فهو وإن لم يتعرض إلى التزوير بشكل مباشر، ولكنه حرص على بيان عدم وجود البعد السماوي والتوحيدي في الديانة اليهودية القائمة فعلًا، والمستندة إلى نصوص التوراة الموجودة بين أيدي الناس، حيث يقول: “سأكتفي بالتعاطي بالتفصيل، مع أهم هذه الأوهام الباطلة الشائعة في وسط عامة الناس، ألا وهي: أن الديانة اليهودية، كانت وما زالت، ديانة تؤمن بإله واحد، والآن، وكما يعرف العديد من علماء التوراة، كما تكتشف بسهولة، القراءة الدقيقة للتوراة، فإن وجهة النظر هذه التي لا علاقة لها بالتاريخ، وجهة نظر خاطئة تمامًا…”.

ويتابع شاحاك بقوله: “إن اليهودية الكلاسيكية، خلال البضع مئات من السنوات الأخيرة، كانت في القسم الأكبر منها، أبعد ما تكون عن الديانة الموحدة الصرفة.

… وبحسب الكابالاه لا يحكم الكون إله واحد، بل عدة آلهة، لها شخصياتها وتأثيراتها المختلفة…”[4].

لا شك في أن هذه العقيدة طارئة على ديانة موسى (ع)، وعلى التوراة التي أنزلت عليه، انعكست على نصوص التوراة الموجودة بين أيدينا نتيجة استنساخها من قبل اليهود عبر التاريخ وتلاعبهم بمضامينها، لعل ذلك يخدم أهدافهم وطموحاتهم.

إلا أنه على الرغم من هذه التلاعبات، التي لم تشف لها غليلًا، ولم تستطع أن تحقق لهم ما يصبون إليه، لأنها لا تزال تشتمل على بعض الحقيقة، من قبيل الأمر بإقامة العدل، وعلى عموم القوانين التي تنطبق عليهم وعلى غيرهم من الناس، وألزمتهم بالتعاطي معهم تعاطيًا إنسانيًّا، خصوصًا بعد بعثة السيد المسيح (ع) وانتشار المسيحية بين الأمم الأخرى، الأمر الذي أفقدهم عنصر الاحتفاظ بهذه الخصوصية لأنفسهم، بعدما اعتنق الكثيرون منهم الديانة الجديدة أول الأمر، فلجأوا إلى تأويل نصوص التوراة وحملها على معان مخالفة لظاهرها، فكان لا بدّ من اعتماد التلمود وكتابته، إضافة إلى نظام الكابالاه (أي الصوفية اليهودية) التي انتشرت في القرون الأخيرة.

أما التلمود

لقد تشكلت البدايات الأولى للتلمود على شكل تفسير شفوي لأسفار التوراة، يقوم بها الأحبار، ويلقونها على الناس على شكل دروس، ولذلك أطلق عليها اسم “مدراش”؛ وهي مشتقة من فعل “درش” العبرية بمعنى بحث ودرس، وكانت تعتمد التوسعة والتعمق في معاني ألفاظ التوراة على نحو يغاير في دلالاته معاني كلماتها مغايرة تامة، بل يناقضها في كثير من الأحيان، وهذا ما دفع إسرائيل شاحاك إلى القول بأن الديانة اليهودية ليست مستندة إلى التوراة مطلقًا، بل هي ديانة تلمودية في العمق، وأن القول بأنها ديانة توراتية قول مضلل تمامًا[5].

بحلول العام 200 م. ظهرت أول نسخة من المشناه، وهي مجموعة التعاليم والتفاسير والأبحاث المتعلقة بالعهد القديم، على يد أحد الأحبار المسمى “يهوذا هاناسي”، واعتبرت المشناه منذ ذلك الحين الجزء الآخر المتمم لقوانين التوراة، وصارت بذلك مصادر الشريعة اليهودية عبارة عن القوانين المكتوبة، وهي التوراة، وسائر الأسفار، على اعتبار أن موسى (ع) قد استلمها مكتوبة من الله تعالى، بالإضافة إلى تعاليم الأحبار وهي القوانين الشفوية -بحسب زعمهم- حتى غدت مع مرور الزمان المصدر الرئيسي للتشريع، لا يستغني اليهودي عنها بحال من الأحوال.

وهنا لا بدّ من بيان الفرق بين المدراش والمشناه، ذلك أن الأول عبارة عن تعليق وحواش على النصوص التوراتية نفسها، وأما المشناه فتهدف إلى تقديم المضمون القانوني للشريعة دون الرجوع إلى النصوص التوراتية، فهي إذن موازية للتوراة، وليست في طولها.

وفي فترة لاحقة عمد الأحبار أو ما يسمّى بالشراح إلى وضع تفاسير للمشناه، امتدت إلى حدود سنة 500 للميلاد وهي الجمارة، كتبت في محاولة جعل المشناه مطابقة لظروف الزمان والمكان، ولهذا كان لا بدّ من تعديل وتغيير بعض قوانين المشناه، وبذلك ابتعدت اليهودية عن التوراة بالمرة، ولهذا جاء في التلمود قول الأحبار إن من درس التوراة فقد فعل فضيلة لا يستحق المكافأة عليها، ومن درس المشناه فقد فعل فضيلة استحق المكافأة عليها، ومن درس الجمارة فقد فعل أعظم فضيلة[6].

في مقابل ذلك نراهم يصرحون بأن: “من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت، ومن احتقر أقوال التوراة فلا يستحق عقابًا، ولا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط، لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى(ع)”[7].

وقد وصلت بهم الجرأة على الذات الإلهية وتعظيم الأحبار أن صرح في التلمود بأن: “تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها ولا تغييرها ولو بأمر الله، وقد وقع يومًا الاختلاف بين الله تعالى وبين علماء اليهود في مسألة، وبعد أن طال الجدال تقرر إحالة فصل الخلاف إلى حد الحاخامات الربانيين، واضطر الله أن يعترف بغلطه بعد حكم الحاخام المذكور”[8].

وهناك نسختان متوازيتان من الجمارة إحداهما البابلية والأخرى الفلسطينية، ويعتمد اليهود التلمود البابلي لأنه كتب على مدى قرن من الزمان، بخلاف التلمود الفلسطيني الذي كتب على عجل خوفًا من أن يقع في أيدي المسيحيين، مما سيؤدي إلى عواقب وخيمة عليهم.

وعلى كل حال فقد استطاع التلمود أن يزيح التوراة وتعاليمها من الواجهة، ويستأثر الأحبار من خلاله بسائر التعاليم التي أريد لليهود أن يلتزموا بها، وصدق الله العظيم حين قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[9].

وقد ورد في تفسير هذه الآية الشريفة عدد من الأخبار، تبين معنى عبادتهم لهم، من قبيل ما ورد عن الإمام  الصادق(ع): “أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حرامًا، وحرّموا عليهم حلالًا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون”[10].

وقد أطلق اسم “اليهودية الحاخامية”، أو “اليهودية التلمودية”، للدلالة على جوهر وعقائد الديانة اليهودية، التي ظلّت سائدة في المجتمعات اليهودية حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حيث جعلوا التلمود أساس رؤيتهم الدينية.

وأما الكابالاه

وهي تعني الصوفية اليهودية، فقد نشأت كردة فعل على اليهودية التلمودية، وثارت على تعاليم الأحبار ومدرستهم، وهي تشتمل على نحو من الحلول والقول بوحدة الوجود، ففيها يحاول المتصوف اليهودي من خلال قهره جسده وملكاته أن يتوحد مع الله، وبعبارة أدق يحصل فيها توحد الله مع شعبه كله، وليس مع الشخص فقط، وبهذا أضحت الصوفية مكملة لتعاليم التلمود والشريعة الشفوية لليهود على الرغم من أنها بدأت كثورة عليها.

ومن أهم مصادر الكابالاه كتاب “زوهار”؛ وهو يعني “الإشراق”، أو “الضياء” في اللغة العربية، وهو عبارة عن شروح وتعليقات على الكتاب المقدس، وخصوصًا على أسفار موسى الخمسة، وهو يعتمد طريقة التفسير الرمزي، بحيث يفرض نفسه على النص الكتابي، من خلال إشراق المعرفة المزعومة، والمستندة إلى رموز الحروف العبرية ومقابلها العددي، ولا تستند إلى دلالات الألفاظ والعبارات الواردة في الأسفار نفسها.

ومن هذا التفسير الرمزي الحلولي توصلوا إلى الحكم “بأن العالم لا يحكمه إله واحد، بل عدة آلهة، لها شخصياتها وتأثيراتها المختلفة، منبعثة من العلة الأولى النائية والمعتمة”.

وفي مقام تفصيل قضية الخلق وبيان فلسفتها حسب نظام الكابالاه، يقول شاحاك: “انبثق أو ولد من العلة الأولى إله ذكر أولًا، يدعى “الحكمة”، أو “الأب”، ثم إلهة أنثى تدعى “المعرفة”، أو “الأم”. وقد وُلد من اقتران هذين الاثنين، زوج من الآلهة الأصغر: الابن، ويطلق عليه أسماء عديدة من بينها “الوجه الصغير”، أو “المقدس والمبارك”، والابنة… وعلى هذين الإلهين أن يتحدا، ولكن مكائد الشيطان، وهو شخصية مهمة ومستقلة في هذا النظام، تمنع اتحادهم…

وواجب اليهود الأتقياء أن يعيدوا بواسطة صلواتهم وطقوسهم الدينية، الوحدة الإلهية الكاملة، بشكل اتحاد جنسي بين الإله الذكر والإلهة الأنثى”[11].

وهكذا نرى أن التأويلات والتفسيرات الباطنية، غير المعتمدة على أصول صالحة للانطباق على النصوص، قد أفرغت الديانة اليهودية من كل أصولها وجذورها الكتابية، وأبعدتها عن كل ما يتصل بشريعة موسى (ع).

وهذا ما يتطابق في النتيجة مع ما قاله إسرائيل شاحاك من أن الديانة اليهودية كانت في القسم الأكبر منها، أبعد ما تكون عن الديانة الموحدة الصرفة،…..، ولقد اندثر الإيمان بإله واحد بانتشار الصوفية اليهودية (الكابالاه) في مراكز اليهودية كافة[12].

وفي مقام إظهار هذه الحقيقة، وهي إفراغ الديانة اليهودية من مضمونها الكتابي، نتيجة ترك التوراة والاعتماد على أقوال الأحبار في تعاليم دينهم، يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[13].

ثانيًا: المسيحية

بعث السيد المسيح (ع) إلى بني إسرائيل، وهم يرزحون تحت نير الاحتلال، تتقاذفهم الآلام والآمال، وقد بلغ اليأس منهم مبلغًا لا يحسدون عليه، بحيث وصل بهم الأمر إلى أن ينكر بعضهم القيامة بعد الموت، وهم الصدوقيون، واعتقدوا أن الجنة التي يوعدون بها ليست أكثر من ملك أرضي، وسلطان زماني يسيطرون فيه على من قهرهم، ويخرجهم مما هم فيه، فأخذوا يتشرفون مجيء المخلص بفارغ الصبر.

وطائفة أخرى آمنت بالقيامة وبعث الأموات، والتزمت بالتوراة وأسفار العهد القديم كمنهج عمل وطريقة حياة، وهم الفريسيون، وقد تستروا وراء هذه العقائد لتنفيذ مآربهم والتسلط على رقاب الشعب، ولو كان ذلك بمساعدة المحتلين أنفسهم، حيث كان الرومان هم الذين ينصبون كاهنهم الأعظم ويتحكمون بمصيرهم على كافة المستويات الدينية والدنيوية.

وسط هذا الانقسام والانشقاق، بعث السيد المسيح (ع)، وأعلن التزامه بالتوراة كنهج ومستند في وعظه وكرازته، وتوجه بدعوته في الأعم الأغلب إلى الفريسيين الذين يتوافق معهم في أصل الإيمان وهو قبول العهد القديم والاعتقاد بالقيامة والبعث، ومحاولًا إرجاع الصدوقيين إلى جادة الصواب من خلال محاورتهم، وبيان خطئهم في تأويلاتهم التي تخالف مضمون الوحي والكتاب المقدس.

ولكن دعوته كانت مليئة بالعقبات والأشواك، ذلك أن الفريسيين كانوا قد تلاعبوا بمضامين التوراة بما يتناسب مع غاياتهم وأهدافهم، فأطلق عبارته المشهورة، والدالة على قداسة الشريعة والأنبياء، ومحاولًا تثبيتها في نفوس بني قومه، ومؤكدًا على أن حقيقة الإيمان تكون بالالتزام بالنصوص المقدسة، دون أي تحريف أو تلاعب، حيث يقول: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات”[14].

وكثيرة هي العبارات الواردة في الأناجيل على لسانه (ع)، والدالة على أنه أراد بهذا التخدير الفريسيين أنفسهم، وأنهم كثيرًا ما نقضوا الوصايا الإلهية، إما بتأويلها بما لا يناسب مكانتها وقداستها، وإما بالجرأة عليها والتلاعب في مضامينها وتوعدهم عليها بالويل والثبور وعظائم الأمور[15]، ولذلك كان يحاول أن يرجعهم إلى مضامين التوراة، ويبين لهم دلالاتها ومعانيها، بما يتناسب مع طبيعة الدعوة الإلهية الصحيحة، ونجح في ذلك بعض النجاح.

حركة بولس

إلا أنه بعد ارتفاعه (ع) بعدة سنوات، وبعدما يئس الكتبة والفريسيون من القضاء على دعوته، سواء عن طريق التعذيب والقتل، أو التشريد والطرد، أعلن بولس دخوله في الدين الجديد، وكان من طائفة الفريسيين[16]، ولد وترعرع في طرسوس، وتأثر فيها بالفلسفة الرواقية وعقائد اليونانيين، كما تعمق في الديانة اليهودية، يقول بولس: “وكنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي”[17].

لقد أعلن بولس منذ البداية أنه لن يبشر بدعوته بين بني إسرائيل، بل صدر له أمر من السيد المسيح (ع) نفسه أن يذهب إلى الأمم، يقول بولس: “فقال لي – أي السيد المسيح (ع)- اذهب فإني سأرسلك إلى الأمم بعيدًا”[18]، وهكذا جعل نفسه رسول المسيح (ع) إلى الأمم، غير عابئ بتصريح السيد المسيح (ع)، وفي أكثر من مناسبة “أنه لم يرسل إلّا إلى خراف بني إسرائيل الضالة”[19]، ولا بشهادة كاتب إنجيل يوحنا “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله”[20].

ولقد اعترف بولس أنه لم يتلق الإنجيل الذي بشر به من أحد، ولم يتعرف إلى أحد من الرسل سوى بطرس الذي التقاه بعد ثلاث سنوات من إعلانه الإيمان بالمسيح، ثم غاب مدة أربع عشرة سنة يبشر فيها بين الأمم[21].

إن دعوته بين الأمم ليست بالأمر السهل، خصوصًا بملاحظة العنصرية التي يشتمل عليها العهد القديم ويدعو إليها، من إبراز أعلائية العنصر الإسرائيلي على من سواه، وعدم دعوتهم أحدًا من الأمم إلى الدخول في ديانتهم، مضافًا إلى حرصهم على الختان، الذي لا يتقبله الوثنيون عادة، فلجأ إلى تأويل نصوص العهد القديم، وإبعادها عن سياقاتها ودلالاتها لتناسب الوافدين الجدد في الدين الذي يدعو إليه، وإن لم تساعد عليها قوانين اللغة والتخاطب، بل وإن كانت على طرف النقيض لها.

يبدو أن الرسول بولس قد استعان في حركته هذه ببعض الفلاسفة اليونانيين، فقد ورد أن سنيكا –وهو أحد فلاسفة الرواقيين- كان مسيحيًّا متسترًا، وكان يراسل بولس[22]، وهذا ما ساعده على اختيار عنصر التأويل في النصوص الكتابية.

إن من أهم الوثائق المسيحية التي تكشف عن النزعة التأويلية في الدين الجديد، هي رسالة بولس إلى أهل غلاطية، والتي أوردها كرد على الرسل الذين “يدعون إلى التمسك بتعاليم التوراة على اعتبار أن المسيحية امتداد لليهودية، وأن الطقوس الموسوية هي أساس المسيحية ويجب عدم التخلي عنها، كما أنهم طعنوا على شخص بولس نفسه، وقالوا إنه دخيل على الإيمان، وأن معرفته للإنجيل جاءت غير مباشرة، وليس من مصدرها الأصلي”[23].

يقول بولس في رسالته هذه بعد بيانه ومقاومته لدعوة بطرس ومخالفته لآرائه: “لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل قلت لبطرس قدام الجميع إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًّا فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا، نحن بالطبيعة يهود ولسنا من الأمم خطأة، إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنبترر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما”[24].

وهذا في الحقيقة افتراء على بطرس، ومن ورائه على السيد المسيح (ع) نفسه، كيف لا وبطرس هو سيد الحواريين، وكبيرهم بنص المسيح، والمسيح لم يأت لينقض الناموس والأنبياء حسب تعبيره، إلا أن هذه النقطة لا تهمنا الآن، وما يهمنا فعلًا أنها تشكل بداية التحايل على قوانين الشريعة الموسوية، التي قررت خلاف ما يدعيه بولس، وعمل على طبقها الحواريون، وعلى رأسهم بطرس كما ورد في اعتراف بولس نفسه، وكما تدل عليه رسالة يعقوب التي أكدت وبإصرار شديد على التزام أحكام الناموس والالتزام بتعاليمه، امتثالًا لأمر السيد المسيح (ع) وانسجامًا مع دعوته.

إلا أن النزعة التأويلية عند بولس أخذت طابع الرمزية في ما يتعلق بشخص السيد المسيح (ع)، في الوقت الذي يصر فيه على التزام نصوص التوراة في الموارد التي تشكل إدانة للسيد المسيح (ع)، كما يشهد له قوله: “المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة”[25].

وهو يشير في كلامه هذا إلى ما ورد في سفر التثنية، وهو قوله: “وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت وعلقته على خشبة، فلا تبت جثتة على الخشبة بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله، فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا”[26].

وقد انعكست نزعة التأويل والرمزية البولسية على الأناجيل نفسها، وخصوصًا إنجيل يوحنا الذي يغلب عليه طابع الرمزية، حتى اشتهر عنه أنه إنجيل الرمزية المسيحية[27]، ونود هنا أن نورد شاهدين فقط للدلالة على النزعة الرمزية هذه:

الأول: يقول الكاتب: “فأجاب اليهود وقالوا أية آية ترينا حتى تفعل هذا، أجاب يسوع وقال لهم: انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه، فقال اليهود في ست وأربعين سنة أقيم هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه، وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده”[28].

ونلاحظ أن الفقرة التفسيرية الأخيرة، التي أوردها الكاتب لا تناسب طبيعة الحوار الذي جرى بين المسيح واليهود، لا من حيث بنية الكلام ودلالته، ولا من طبيعة وظيفة السيد المسيح (ع)، التي كانت تعتمد في مختلف مفاصلها على الوضوح في التعبير، والبساطة في المعاملة، ذلك أن دعوة الناس إلى أية حركة، إصلاحية كانت أو تغييرية ولا يمكن أن تدخل في قلوبهم وتلامس مشاعرهم، وهي مليئة بالمعميات والألغاز، وإلا انقلبت إلى ضدها، وأدت إلى نقض الغاية والغرض الذي سيقت لأجله.

الثاني: هو قول الكاتب: “وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”[29].

وهو يشير بهذه الكلمات إلى ما ورد في سفر العدد، وهو قوله: “وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية، لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف، فأرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة، فلدغت الشعب فمات قوم كثيرون من إسرائيل، فأتى الشعب إلى موسى وقالوا قد أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك، فصل إلى الرب ليرفع عنا الحيات، فصلى موسى لأجل الشعب، فقال الرب لموسى اصنع لك حية محرقة وضعها على راية، فكل من لدغ ونظر إليها يحيا، فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حية النحاس يحيا”[30].

ونلاحظ أن تطبيق كلام سفر العدد على كلام يوحنا يدل دلالة أكيدة على إدانة السيد المسيح (ع) من قبل الكاتب إن حملت على معناها الظاهر منها، ولهذا وقع الآباء وعلماء اللاهوت المسيحي في حيرة شديدة في كيفية التعامل مع هذه القصة، ولم يستطيعوا أن يبينوا لها معنى معقولًا، قال الأب متى المسكين: “لقد راجعنا الآباء في ما قالوه عن الحية النحاسية، غير أننا لم نعثر على كبد الحقيقة”[31]، ونقل المسكين في شرحه للإنجيل كلام عدد من الآباء حول الحية النحاسية تظهر الرمزية فيها بوضوح من قبيل كلام القديس أبيفانوس: “أن الحية كانت تمثل المسيح”، وقول القديس أوغسطين: “أن رفع الحية هو موت المسيح”[32].

وهكذا أسس بولس لمدرسة التأويل والرمزية في الديانة المسيحية، فوضع أول إسفين في نعشها، وفي جثمانها الطري الحديث، وشرع الباب على مصراعيه للمدارس المتصارعة في فهم الدين الجديد، وشكلت الخطوة الأولى في نشأة الحركة الغنوصية واتساع رقعتها في فهم المسيحية، والتي تطورت في ما بعد في الكنيسة الرسمية إلى ما يسمّى بالأسرار الإلهية والكنسية.

الغنوصية المسيحية

كلمة الغنوصية مأخوذة من الإغريقية، وتعني العرفان أو المعرفة الباطنية، وهي فلسفة صوفية بمعارف غيبية، لها تأويلاتها وطقوسها، واسم علم على المذاهب الباطنية، غايتها معرفة الله بالحدس لا بالعقل، وبالوجد لا بالاستدلال[33].

لم يتفق الباحثون على تفسير واحد للغنوصية، وظلت معرفتنا بها قليلة، لا تتجاوز اسمها إلا بقليل مما ذكره آباء الكنيسة في معرض نقاشهم لها، وبعد سنة 1945م. اكتشفت مخطوطات غنوصية في نجع حمادي في مصر، وصار بالإمكان التعرف على بعض خصائصها[34].

على الرغم من صعوبة تحديد زمان ظهورها بالدقة، ومعرفة جذورها الأولى، إلا أنه يمكن رصد عناصر فارسية ومصرية وأفلاطونية تشتمل عليها هذه الفلسفة[35]، وتأثرت بها بعض الفرق اليهودية كالأسينيين[36]، وكذلك المسيحية كما سنرى.

إن الغنوصية وإن بدأت كفلسفة تبغي تفسير نشأة الكون وترابطه، إلا أنها مع الوقت تحولت إلى مذهب ديني فلسفي، بل إلى مذاهب دينية فلسفية، وهي تشتمل على طقوس عبادية معينة مما يدخلها في مفهوم كلمة الدين.

والظاهر أن الغنوصية دخلت إلى الديانة المسيحية من خلال بولس الرسول، إذ يوجد شبه كثير بين تعاليمه وبين تعاليم الغنوصيين، بل أن إنكارهم للعهد القديم يستند على حوار بولس ضد الناموس، حسب لوريمر[37]، ولكن الظاهر أن العكس هو الصحيح، لأن الحركة الغنوصية قد نشأت قبل المسيحية كما أشرنا، وأخذت طابعها المعرفي الذوقي في فترة سابقة على المسيحية كذلك فالتفسير المنطقي للأحداث يقتضي تأثر بولس بالغنوصية دون العكس، ومن المعروف إنجيل يوحنا قد تأثر بالعقائد الغنوصية التي كانت سائدة، الأمر الذي انعكس على العقائد المسيحية عمومًا.

قال الأب متى المسكين: “وفلسفة الغنوصية تقوم، مثل جميع ديانات الفراعنة والشرق القديم، على فكرة أن الله سيخلص العالم بواسطة عملية موت وقيامة حية، وأن الداخلين في هذه الديانات عليهم أن يمارسوا طقوسًا وأسرارًا معينة تختلف باختلاف الديانة والعصر لكي يصيروا معدودين لهذا الإله، وأنهم سيقومون بعد الموت بقوى كوكبية تحفظهم من الموت”[38].

وهذا خير دليل على أن العقيدة المسيحية قائمة في أسسها على ركائز غنوصية غير كتابية، وأما ما اشتهر على ألسنة الباحثين من أن المسيحية حاربت الغنوصية، واعتبرتها من جملة الهرطقات، فهو غير دقيق في محصلته النهائية، ذلك أن الاختلاف بينهما في تفاصيل هذه الاعتقادات وفروعها، من قبيل القول بالثنائية في العالم أي ثنائية الخير والشر، مبررين ذلك بأن “العالم المادي شر ولا يمكن أن يكون الله هو خالقه بل خلقته كائنات أقل مركزًا تسمى ديمارج، أما الله فهو يحيا ينفصل انفصالًا تامًّا عن العالم المادي الشرير ويسكن في عالم الروح النوراني، وأما خلاص الإنسان فهو بهروبه من العالم المادي إلى عالم الروح بواسطة المعرفة التي لا يمكن أن ينالها الإنسان إلا عن طريق معجزي”[39].

الأسرار الإلهية والكنسية

لقد تطورت نزعة الباطنية في الديانة المسيحية، فتبنّت الاعتقاد بالأسرار الإلهية في أواخر القرن الثاني للميلاد، على يد ترتليان، والذي يعتبر أبا الفكر اللاهوتي الغربي، لأنه المفكر الرئيسي الذي صاغ المصطلحات والتعبيرات التي سادت في الكنيسة الغربية، ومن أهمها مصطلح “سر”، و”الثالوث”، و”الجوهر” وغيرها[40]، وجعل منه القس حنا الخضري الشخصية الأولى في المسيحية الغربية بعد أوغسطين[41].

وظلت هذه العقائد بين أخذ ورد حتى تبناها مجمع نيقيا عام 352م، حيث أقرت عقائد المسيحية، وعلى رأسها عقيدة التثليث، بل بحسب الموسوعة الكاثوليكية الجديدة أن مبدأ التثليث كان مجهولًا عند المسيحيين القدامى، وأنه وضع في الربع الأخير من القرن الرابع[42].

وفي مسألة السر ذكر “غروت” في كتاب التعليم الكاثوليكي: الثالوث المقدس هو سر في أدق معنى للكلمة، لأن العقل بمفرده لا يقدر على برهنة وجود تثليث لله، فالوحي يعلمه، وحتى بعد أن أفشي بوجود السر إلينا، ظل من المستحيل للعقل الإنساني أن يفهم كيف تسبب الثلاثة أقانيم طبيعة إلهية واحدة فقط”[43].

ونظرًا لمناقضة هذا الاعتقاد (أي اعتقاد الثالوث والتجسد) لحكم العقل القاضي باستحالته يقول ترتليان، في ما اشتهر عنه: “أؤمن به لأنه مستحيل”[44].

ولا بدّ هنا من بيان معنى السر في المفهوم المسيحي، إذ من حيث اللغة يعني الأمر المكتوم في الصدر، الذي ننتظر الوقت للإفصاح عنه، وأما في المعتقد المسيحي فهو بمعنى “حقيقة روحية عميقة لا يقدر إنسان أن يدركها بعقله الطبيعي ولا بفكره الجسدي، كما أنه لا يقدر أن يفهمها فهمًا صحيحًا في هذا العالم لأنها تفوق الإدراك الطبيعي”[45].

ومن الظاهر أن كل هذه العقائد طارئة على المسيحية، وافدة عليها من الديانات الوثنية السابقة عليها، فلم يرد لها أي ذكر في أسفار العهد القديم، كما لم ترد أية عبارة عن السيد المسيح (ع) تدل على أنه تبنّى مثل هذه العقائد أو دعا إليها، فقد كانت تعاليمه تتسم بالوضوح والبساطة، لتوجهها أولًا وبالذات إلى عامة الناس من بني إسرائيل، والمحافظة على سياق العقائد التي تحدث عنها العهد القديم، كما يفهم من الأناجيل الأربعة.

إلا أن كل ذلك لا يعني عدم وجود إرهاصات لوجود الأسرار والعقائد الخفية قبل ترتليان، فقد ورد في رسائل بولس ما يدل على اعتقاده بها، ولكنه كان بصورة أولية، لم تدخل بصفة رسمية في قانون الإيمان، فهو يقول مثلًا عن مسألة التجسد: “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله الذي ظهر في الجسد تبرر في الروح تراءى لملائكة”[46]، بل جعل من الإنجيل نفسه سرًّا، وطلب من الناس أن يدعو له كي يعطى قدرة على تعليمه، فيقول: “وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله، مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين، ولأجلي لكي يعطى لي كلام عند افتتاح فمي لأعلم جهارًا بسر الإنجيل”[47].

وظلت عقيدة الأسرار، وعدم إمكان فهم الكتاب المقدس إلا لفئة قليلة من الكهنة، الذين كانوا يحرمون على المسيحي أن يتعرض لتفسيره، بل لقراءته في كثير من الأحيان بدون توجيه الكهنة، حتى أوائل القرن السادس عشر الميلادي، عندما بدأت حركة الإصلاح الكنسي على يد مارتن لوثر، الذي ترجم الكتاب المقدس وأباحه للناس، وهاجم عقيدة الأسرار، واعتبرها سبيًا بابليًّا جديدًا مركزه روما، بحيث جرّدت الكنيسة الأفراد المسيحيين من حريتهم في الاتصال بالله شخصيًّا ومباشر بالإيمان[48].

إلا أن كل ذلك لا يعني أنه حرّر نفسه من كل الاعتقادات التي نشأ عليها في ظل الكهنوت المسيحي، فرغم إنكاره لعقيدة الأسرار، إلا أنه ظلّ ملتزمًا بسرّ المعمودية وسر عشاء الرب، وأبقى سر التوبة تحت مجهر الإمكان، وأنه يمكن أن يكون من الأسرار المقدّسة، إلا أن الكنيسة قد انتهكته وشوّهت معانيه[49].

وخلاصة الكلام، أن الكنيسة المسيحية على العموم تشكّل أبرز ديانة معاصرة احتفظت بقانون الأسرار الدينية، وخرجت عن المألوف والمتعارف في تخاطب الناس وتحاورهم، وأخرجت مضامين النصوص المقدسة عن معانيها الظاهرة منها والمفهومة لدى المخاطبين، والتزمت بمبدأ التأويل والترميز في جميع النصوص التي تخالف معتقدها الرسمي.

ولكن قد يقال هنا إن تعريف الباطنية لا ينطبق على الديانة المسيحية، لأنها تفترض إظهار خلاف ما يبطنه المرء، بينما المسيحية لا تخفي عقائدها، وإنما هي تظهرها وتجاهر بها، بل غاية ما فيها أنها تقف موقف العجز عن تفسيره على أساس العقل، ومن هنا فهي تبريرية من هذه الجهة.

إلا أن هذا التبرير يجافي الحقيقة، وذلك لأن ما ذكر يشكّل أثرًا من آثار العقائد الباطنية، وليس نفس الاعتقاد، كما ظهر من التعريف في صدر البحث، وليس ضروريًّا أن يظهر الأثر في جميع الموارد، هذا أولًا.

وثانيًا: أن الالتزام بوجود أسرار لا يدرك معناها سوى رجال الكهنوت، وما يترتب عليه من منع تفسير نصوص الكتاب المقدّس أو تأويله، إلا من قبل فئة خاصة من الناس، واعتماد الرمزية في ما يتصل بالعقائد الراجعة إلى شخص السيد المسيح (ع)، سيبقي احتمال إخفاء بعضها واردًا وبقوة، إن لم نقل أنه أثر لازم لها أيضًا.

هذا كلّه بالإضافة إلى أن أساس الفكر الباطني هو الغلو والخروج عن الحد في موضوع المعتقد، وقد صرّح القرآن الكريم بهذه الحقيقة التي ابتلى بها أهل الكتاب، فقال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً[50].

 

[1] سورة يوسف، الآيات 8-9.

[2] سفر عزرا: 9/6-7.

[3] سفر التكوين: 19/30-36.

[4] إسرائيل شاحاك، الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، الصفحتان 65-66.

[5] الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، مصدر سابق،  الصفحة 70.

[6]محمد عبد الله الشرقاوي، الكنز المرصود في فضائح التلمود، الصفحة 168.

[7] المصدر نفسه، الصفحة 168.

[8] المصدر نفسه، الصفحة 172.

[9] سورة التوبة، الآية 31.

[10] السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، الجزء3، الصفحة 405 وما بعدها.

[11] الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، مصدر سابق، الصفحتان 66-67.

[12] الديانة اليهودية وتاريخ اليهود، مصدر سابق، الصفحة 66.

[13] سورة المائدة، الآية 68.

[14] إنجيل متى: 5/17-19.

[15] يلاحظ مثلًا: إنجيل متى: 23.

[16] أعمال الرسل: 23/6.

[17] رسالة غلاطية: 1/14.

[18] أعمال الرسل: 22/21.

[19] إنجيل متى: 15/24.

[20] إنجيل يوحنا: 1/11.

[21] لاحظ: رسالة غلاطية:1و2.

[22] الموسوعة الفلسفية المختصرة، الصفحة 224.

[23] قاموس الكتاب المقدس، الصفحة 661.

[24] رسالة غلاطية: 2/15-16.

[25] رسالة غلاطية: 3/13.

[26] سفر التثنية: 21/22-23.

[27] لاحظ صوفية الإنجيل بحسب يوحنا، الصفحة 385.

[28] إنجيل يوحنا: 2/18-21.

[29] إنجيل يوحنا: 3/14-15.

[30] سفر العدد: 21/5-9.

[31] شرح إنجيل يوحنا، الجزء1، الصفحة  228.

[32] يراجع للتوسع: صلب المسيح في الإنجيل، الصفحات 55-71.

[33] موسوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء2، الصفحة 934.

[34] جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، الجزء1، الصفحة 103.

[35] المصدر نفسه، الصفحة 103.

[36] الموسوعة العربية الميسرة، الجزء3، الصفحة 1698، جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 105.

[37] تاريخ الكنيسة، الجزء1، الصفحة 106.

[38] المدخل لشرح إنجيل يوحنا، الصفحة 383.

[39] موسوعة الأديان الميسرة، مصدر سابق، الصفحة 382.

[40] جون لوريمر تاريخ الكنيسة، مصدر سابق، الجزء1، الصفحتان 31-32، والقس حنا الخضري، تاريخ الفكر المسيحي، الجزء1، الصفحة 528.

[41] تاريخ الفكر المسيحي، الجزء1، الصفحة 517.

[42] ألفات عزيز، محمد والمسيح، الصفحة 74 وما بعدها.

[43] محمد والمسيح، مصدر سابق، الصفحة 73.

[44] راجع مثلًا: الموسوعة العربية الميسرة، الجزء2، الصفحة691، وعبد المنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء1، الصفحة 388.

[45] قاموس الكتاب المقدس، الصفحة 464.

[46] رسالته الأولى إلى تيموثاوس: 3/16.

[47] رسالته إلى أهل أفسس: 6/17-19.

[48] جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، مصدر سابق، الجزء 4، الصفحة 124.

[49] المصدر نفسه، الصفحتان 124-125.

[50] سورة النساء، الآية 171.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الباطنيةأثر الباطنية في الأديان

المقالات المرتبطة

الموت كتجلٍّ للمقدّس: في تحديد ماهية المقدَّس في الإسلام

على هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك وعند ذلك تميّز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلّوا فيها، وهو الخضوع العبوديّ والامتثال كما حكاه الله عنهم.

القيم فى الفلسفة الفينومينولوجية

اعتمدت الفلسفة الفينومينولوجية على مفاهيم أساسية مثل الماهية والتجربة الظاهرية، والخيال الظاهري، والتأمل الظاهري، والرد الظاهري، وقصديّة الوعي، واستعانت بهذه المفاهيم فى تفسيرها لظاهرة القيم فى المجتمع الإنسانى،

مجالات البحث الديني

لا بد أن يتحدد أي مشروع بحثي، بنطاق علمي خاص. وفي ضوء ذلك فإن دراسة مناهج البحث التي تتطلب اكتشاف ماهية البحث ذاته،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<