الصدقة

الصدقة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾[1]، و﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[2].

تدخل عمليّة الإنفاق والتقديمات الاجتماعيّة، في صلب الهيكليّة الاقتصاديّة العامّة لأيّ مجتمع من المجتمعات، ذلك أنّها تحقّق نوعًا من التوازن المعيشي، والتكافل الاجتماعي، وتثبّت دعائم السلم الأهليّ بين الأفراد. وكلّما زاد هذا الإنفاق، وتحسّنت نوعيّته كلّما تقلّص حجم التفاوت الاجتماعي، وانخفض مستوى الجريمة والفساد، وبالتالي ارتفع مستوى الأمن الاجتماعي في تلك الدولة، لذا تمّ ربطه بالنظام الضريبيّ العام الذي يتمّ تعديله وفق الحاجة.

هذا وقد اهتمّ الإسلام بمسألة الإنفاق اهتمامًا بالغًا، حيث ربط مفاعيله بالنظام العقائديّ، فجعله من الفرائض التي إذا ما امتنع عن تـأدية بعض أقسامها كالزكاة مثلًا، كان شركًا بالله وكفرًا بالآخرة، لأنّه يترك أثرًا سلبيًّا بالغًا على المجتمع كونه مرتبطًا بحقوق الناس[3].

وردت في القرآن الكريم مشتقّات مفردتَي الإنفاق والصدقة للدلالة على ما يُخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة؛ فالإنفاق “قد يكون في المال وفي غيره وقد يكون واجبًا وتطوّعًا”[4]، والصدقة “في الأصل تُقال للمتطوَّع به والزكاة للواجب، وقد يُسمّى الواجب صدقة إذا تحرّى صاحبها الصدق في فعله[5]، لذا وبحسب العلّامة الطباطبائي فإنّ “الصدقة هي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعمّ من الواجب والمندوب”[6].

والإنفاق -بحسب الشريعة الإسلاميّة- يُتوسّل إليه بالوجوب والندب وذلك “من طريق الزكاة والخمس والكفارات الماليّة وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمري والوصايا والهبة وغير ذلك”[7].

من هنا نجد أنّ الطرق التي تتوفّر من خلالها الصدقات كثيرة ومتشعّبة، تنقسم بحسب موضوعها وكيفيّتها إلى الواجبة والمندوبة، العلنيّة والسريّة، الماديّة والمعنويّة. وعلى الرغم من تفاوتها فيما بينها بالأفضليّة، إلّا أنّها جميعًا تتطلّب شروطًا دقيقة لصحّتها. فإخلاص النيّة وقصد القربة لله أمر يأتي في قائمة هذه الشروط؛ فكلّ عمل لا يكون خالصًا لله يكون فاسدًا من أصله، لأنّ الأعمال بالنيّات. ومن شروطها عدم اتْباعها بالمن والأذى، لأنّهما أمران ينقضان العمل وإن صحّ وقوعه ابتداء، فيجعلاه هباء منثورًا. ومن شروطها علم الإنسان بأنّه ينفق ممّا استخلفه الله عليه. ثمّ إنّ الإنفاق إضافة إلى وجوب كونه عن طيب نفس، عليه أن يكون من أحبّ ما يملكه الإنسان، فالأمر الإلهيّ متعلّق بالإنفاق ممّا تحبّون، وليس بممّا لا تحتاجون.

تلعب المفاضلة دورًا مهمًّا في حركة الإنفاق عند الإنسان؛ فالتصدّق بالمباشرة أفضل من التصدّق بالنيابة[8]، والإنفاق عند الصعوبات أقرب إلى الإخلاص، والتصدّق في بعض الأزمنة أو الأمكنة أفضل من عامّته، حيث يصبح للتصدّق بتمرة في ليالي شهر رمضان قيمة خاصّة. وإذا كان الإنسان بطبعه مفطورًا على الانجذاب نحو الأفضل، فإنّ وتيرة حركته تكون أشدَّ وأفعل في تلك المواقيت طمعًا بما عند الله.

وقد ذخُر التراث الدينيّ بالروايات التي تتحدّث عن الكيفيّة التي كان يتصدّق بها المعصومون عليهم السلام، وهي كيفيّة تأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعيّة لكلّ عمل؛ فالدعوة العمليّة إلى المعروف يُمكن أن تكون أكثر نتاجًا في بعض الأحوال، إلّا أنّ صدقة السرّ أخلص طهارة. وبالإجمال فإنّ مقولة الإمام الصادق عليه السلام: “كلّما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكلّما كان تطوّعًا فإسراره أفضل من إعلانه”[9]، تعطي صورة عامّة عن الطريقة التي يُمكن أن يسلكها الإنسان في هذه الموارد، دون إغفال أنّه الأقدر على التشخيص الموضوعيّ لكل حالة يواجهها، وقد أفاض علماء الأخلاق في تفصيلها لدقّتها خاصّة في باب الرياء.

ولأهميّة موقع الصدقة في المنظومة الإسلاميّة، استعمل الشارع المقدّس أسلوبي الترغيب والترهيب من أجل حثّ النّاس على القيام بفعل الإنفاق، إضافة إلى عدم حصره لها بالموارد الماليّة كيّ يتسنّى للجميع البذل والعطاء؛ فجعل تبسّم المؤمن في وجه أخيه المؤمن صدقة، ورفع الأذى عن الطريق صدقة، وإنفاق الرجل على أهله صدقة، وإنفاق العلم صدقة وهكذا حتّى يقتل المرء في سبيل الله فيكون برًّا ليس فوقه برّ؛ ولأهميّتها أيضًا، أُدخلت في جملة الأعمال التي يُنتفع بها بعد الموت؛  فعمل الإنسان ينقطع بعد الموت إلّا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له.

لقد أعطى الدين الإسلاميّ الصدقة مكانة عمليّة، تظهر آثارها عاجلًا أم آجلًا، من جهة ربْطها بالحياة الدنيا حيث تترتّب عليها آثارها الوضعيّة، ومن جهة ربْطها بالآخرة حيث يحكمها مبدأ تجسّم الأعمال؛ فمن اللوازم التي تترتّب على الصدقة في الدنيا، أنّها تزيد في الرزق وتبعد الفقر والإملاق؛ عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة، فإنّ الله يعطف الرزق عليكم بالصدقة فكأنّكم عاملتم الله بالتجارة”[10]؛ ومنها أيضًا زيادة العمر، ودفع المرض، وميتة السوء والجنون إلى سبعين بابًا من أبواب الشرّ[11]. ومن لوازمها في الآخرة أنّها ظلّ لصاحبها يوم القيامة[12]، وأنّها مطفئة لغضب الجبّار، وأنّها نعم القرين، وهي ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[13].

عندما يدخل الإنسان ليفتّش بين الآيات القرآنيّة والسنّة الشريفة عن موضوع الصدقة، تراه يغوص في عالم لا قعر له؛ فهو يبدأ بقراءة الآيات مع ما تحويه من معارف لا يُمكن إدراكها بسهولة، ثمّ ينتقل إلى تفاسيرها، لينفذ إلى الأحاديث التي تحكي بلسان المعصومين عليهم السلام معايناتهم لتلك الحقائق الكامنة وراء المفردات، ليحلّق في النهاية في عالم المعنى حينما يقرأ سيرتهم ويعلم أنّهم المصداق الأكمل لتلك الآيات الشريفة، بل إنّهم سببًا لنزول بعضًا منها كآيات الإطعام، والتصدّق وغيرها. فهم تخلّقوا بأخلاق الله، وتاجروا معه بأموالهم وأولادهم وأنفسهم. ونحن بدورنا علينا أن نغتنم هذه الفرصة، فالآية الكريمة ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[14]، بيّنة وواضحة في تحديد المستفيد الأوّل من القيام بعمليّة الإنفاق، وفقنا الله جميعًا للتخلّق بأخلاقه والتقرّب منه زلفا.

[1]  سورة البقرة، الآية 267.

[2]  سورة البقرة، الآية 271.

[3]  ﴿ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون﴾، سورة فصّلت، الآية7.

[4]  الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، (بيروت، لبنان: دار الأميرة، الطبعة 1، 2010م)، الصفحة 691.

[5] المصدر نفسه، الصفحة 385.

[6]  محمّد حسين الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن، (بيروت، لبنان: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة3، 1973م)، الجزء2، الصفحة 397.

[7] محمّد حسين الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج2، الصفحة 383

[8] قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: “والذي نفسي بيده لو تصدّق هذا الرجل بيده تمرة واحدة لكان خيرًا له ممّا تصدّقته عنه”؛ لآلىء الأخبار، الصفحة 276؛ يا ابن آدم كن وصيّ نفسك في مالك، واعمل فيه ما تؤثر أن يُعمل فيه من بعدك”، نهج البلاغة، شرح محمّد عبده، (لبنان: الدار الإسلاميّة، الطبعة1، 1992م)، الصفحة 567.

[9] محمّد مهدي النراقي، جامع السعادات، (لبنان: دار الأضواء، الطبعة1، 2009م)، الجزء 2، الصفحة 343.

[10]  نهج البلاغة، مصدر سابق، الصفحة 567.

[11]  عن الإمام الباقر عليه السلام: “البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء”؛ جامع السعادات، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 353.

[12] عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله: “أرض القيامة نار، ما خلا ظلّ المؤمن، فإنّ صدقته تظلّه”؛ نفس المصدر، الصفحة 352.

[13] سورة البقرة، الآية 261

[14] سورة البقرة، الآية 272.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الصدقةالتقديمات الاجتماعيةالتوازن المعيشي

المقالات المرتبطة

الأخلاق في معزلها

في الغرب حيث الشغفُ الأقصى بمحاسبة الذات، لا يلبث السؤال إلا قليلًا حتى يذوي في كهف الغيبة؛ أما استرجاعه إلى حقل التداول فهو أدنى إلى سلوى ميتافيزيقية لا طائل منها.

مصطلحات عرفانية | الجزء 17

تشبيه – تنزيه – التمثيل والتشبيه: وذلك أن من شاهد الوجود كله وجودًا واحدًا، وما عرف كيفية كليته وكيفية معيته

اختيار المنهج بداية الطريق

لا يمكن النجاح في مواجهة هوى النفس ورغباتها بطريقة عشواء، ولا تسع حياتنا القصيرة إجراء التجارب البشريّة عليها لاختيار الأصلح،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<