شخصية المرأة بين التأسيس القرآني والواقع الإنساني
الخطاب القرآني تميّز بأنه خطاب لكافة الناس بكل مستوياتهم وأجناسهم، وكان أهم ما صرح به القرآن الكريم أنه كتاب هداية لجميع البشر دون تمييز في ذلك بين رجل وامرأة، بل في مواضع ساوى القرآن في خطابه بين الرجل والمرأة ومواضع أخرى خص أحدهما دون الآخر بناءً على موقعية المخاطب وتكليفه المناط به في هذه الحياة الدنيا. إلا أن نظرة القرآن العامة كانت نظرة للإنسان بغض النظر عن كون هذا الإنسان رجل أو امرأة.
“فالقرآن الكريم قد وجه خطابه ودعوته وأمره للبشرية، بشكل أساسي على ثلاثة مستويات هي:
المستوى الأول: وفيه توجه الله جل جلاله بالخطاب إلى البشرية عامة، أو إلى بني آدم كلهم على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم واعتقاداتهم، دون تمييز بين ذكرٍ أو أنثى.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[1].
المستوى الثاني: وفيه يوجه الخطاب والدعوة والأمر إلى المؤمنين، وفي كثير من آيات القرآن الكريم يخاطبهم الله سبحانه بعبارة (يا أيها الذين آمنوا)، أو (المؤمنين)، أو (المتقين)، والمقصود بهم رجالًا ونساءً على حد سواء.. قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لاَكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾[2]. ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾[3]. ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[4].
المستوى الثالث: يوجه الخطاب والدعوة والأمر للإنسان الفرد، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾[5]. ﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[6]. ﴿أَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[7]. ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[8]. ﴿أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾[9]. ﴿يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾[10].
وكثير من الآيات الأخرى التي تخاطب الإنسان فردًا، والإنسان الفرد يشمل الأنثى والذكر على حد سواء”.
وتظهر المرأة في القرآن في ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: ككائن بيولوجي واجتماعي.
الجانب الثاني: كمؤمنة.
الجانب الثالث: بكونها من شخصيات القصص القرآنية عن سير الأنبياء ومصير نسائهم”[11].
ويقول الشيخ جوادي آملي في كتابه (جمال المرأة وجلالها) بهذا الخصوص: “القرآن لم يأت فقط لهداية الرجل، بل جاء لهداية الإنسان. لذا عندما يشرح هدف الرسالة ويبين غرض نزول الوحي يقول: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس”[12].
فكلمة الناس المطروحة في القرآن بعنوان (هداية الإنسان) لا تلحظ صنفًا خاصًّا أو مجموعة خاصة، بل تشمل المرأة والرجل بشكل متساو”.
فالإسلام هو دين الاعتدال لا الإفراط والتفريط، أعطى تكاليفه وفق المصالح والمفاسد الإنسانية، لا وفق المصالح الجنسية لذكر دون أنثى، أو لأنثى دون ذكر، نعم خصَّ في بعض خطاباته المرأة بما يتناسب ونوعية الخطاب والهدف منه، وخصّ في خطابات أخرى الرجل وكذلك فيما يتناسب والخاطب وغاياته وأهدافه، وهذا اتساقًا مع الاختلاف الطبيعي الذي يؤدي حتمًا لاختلافات في الدور والوظيفة ضمن نطاق محدود، ووضع التكليف وفق المقدرة الإنسانية وقابليتها بحيث لم يفرض ما هو خارج عن طاقة البشر على البشر، حيث قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[13]. وهذه النفس واحدة عند المرأة والرجل وهو ما صرّح به أيضًا القرآن الكريم حينما قال جل شأنه: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾[14]. فالتكاليف التي أنيطت بالرجل هي وفق قابلياته وقدراته الجسدية، ووفق المصلحة والمفسدة التي تعني إنسانيته، وكذلك المرأة. وهناك فرق كبير بين المساواة والعدل، فكما جاء في موقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية: “جاء الإسلام كدين وسط بين الإفراط والتفريط، فهو يرى أن للنساء فضل وللرجال فضل، وهذا الفضل يجعل لكل واحد منهما خصوصية يحتاجها الآخر، وبذلك تتكامل أدوار الرجال والنساء. ففضل الرجل هو فضل وظيفي، وفضل النساء هو أيضًا فضل وظيفي، وما ينبغي لأحدهما أن يشعر بالدونية عند القيام بوظيفته التي شرفه الله بها، وفي المنهجية الإسلامية لا تسير قاعدة بمعزل عن السياق العام أو المنظومة الشاملة للقيم، فكما توجد قيمة المساواة توجد أيضًا قيمة العدل.
وتعلو في الإسلام قيمة العدل على المساواة كلما حصل تعارض بينهما. وتعدّ المساواة جزءًا أساسيًّا من العدل؛ والعدل في اللغة هو الحكم بالحق وهو نقيض الظلم والجور، والعدل أيضًا هو الوسطية والتوازن دون ميل أو تحيّز إلى أحد الطرفين ضد الآخر، بحيث يعطي كل منهما حقه دون بخس أو جور عليه”.
فهناك فرق بين المساواة أمام القانون في المجتمع، وتكافؤ فرص العمل مثلًا فيه، وبين المساواة التي لا تأخذ في حسبانها الاختلافات الطبيعية ذات البعد البيولوجي الوظيفي، والنفسي السيكولوجي. وهذا لا يعني القبول بمطلق القول الذي يتبنى توزيع الوظائف في المجتمع والأسرة وفق جنس الإنسان على أساس الفروقات البيولوجية، بل يعني أن هناك اختلاف، وهذا الاختلاف بطبيعة الحال يؤدي إلى الاختلاف في بعض الوظائف المترتبة على الاختلاف البيولوجي والنفسي، كمثال الحمل الذي هو وظيفة المرأة بيولوجيًّا، والرضاعة، والأمومة وهي وظائف منوطة بالمرأة دون الرجل بسبب تركيبتها البيولوجية. وما يترتب على هذه الوظائف من حقوق وواجبات تختلف في طبيعتها عن تلك الحقوق والواجبات الخاصة بالرجل، كونه لا يستطيع في المثال الوارد الحمل والرضاعة وخلافه، من وظائف اقتضت تركيبة المرأة البيولوجية أن تقوم بها وتترتب وفقها منظومة حقوق وواجبات، ومتعلق الواجبات لا يخرج في كثير من الأحوال عن اختيار المرأة، كون أصل زواجها مرتبط باختيارها وموافقتها، بالتالي ما يترتب على هذا الاختيار والموافقة على بناء أسرة من لوازم، خاصة أن الزواج جعلته الشريعة أمرًا مستحبًا وليس واجبًا. وهذا مجرد مثال للتوضيح وليس للحصر.
وعندما نتحدث عن العدالة في التشريع، فهذا لا يعني دعوة لرفض الأحكام التشريعية التي من وجهة نظر بشري لا تحقق العدالة، لأن تحقيق العدالة يتطلب فهم كلي للأحكام كجسد واحد مترابط، وفهم لمنظومتها الاجتماعية وليس فقط الفردية، وبعد هذه القراءة نحدّد مدى تحقيقها للعدالة الاجتماعية وليس فقط الفردية. أما اجتزاء الأحكام والمطالبة بإعادة قراءتها بطرق عصرية كونها تخالف العدالة من منظور بشري إنساني اجتزائي، فهي دعوة يجانبها الصواب إلى حد كبير.
“نحن اليوم نشهد سعيًا واضحًا لأنسنة الله، وليس لتأليه الإنسان، فالله يصبح مرضيًّا كلما كان إنسانيًّا، والإنسان يمكن أن نضع له مبررات كثيرة لأخطائه مهما كان مجرمًا. فيما لا نتقبل كثيرًا وضع تبريرات لتصرفات الله سبحانه”[15].
كما أن ميزان الأفضلية في الإسلام لم يأت على أساس الجنس، بل جاء على أسس أخرى رسمها لنا القرآن الكريم حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[16]. فالتقوى هي المقياس الإلهي للتفاضل وليس جنس الإنسان. وقد جاء في الروايات الواردة عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (ع) رواية تحدد فيها مفهومه ومفهوم الإسلام عن المرأة فيقول: “المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح”؛ وهو يقصد بها أن يقرر أن الإنسانية في نظر الإسلام لها قيمة واحدة وميزان واحد للكرامة بغض النظر عن كل الصفات الطبيعية التي يتميز بها الأفراد، وهذا الميزان الوحيد في نظر الإسلام هو الصلاح والتقوى، والأفضلية عند الإسلام هي أفضلية العمل الصالح. فمهما كان الصلاح هنا متوفرًا كانت الإنسانية أفضل وأكمل. ومهما ابتعد الإنسان عنه خسر بذلك كرامته في مفهوم الإسلام كائنًا من كان. فلا الرجل بما هو رجل يفضل المرأة، ولا المرأة بما هي امرأة تفضل الرجل”[17].
فالمرأة كانت متهمة بأنها أصل الشر لأنها سبب غواية آدم (ع) وخروجه من الجنة كما ورد في الكتب المقدسة بعد تحريفها، فجاء الإسلام ليبرئ ساحة المرأة من هذا الاتهام الخطير الذي ظل يشكل عبئًا عليها في القرون التي سبقت الإسلام، بل أدّى هذا الاتهام النظري إلى تحرك عملي من قبل متبنيه ليمارسوا كل أنواع الظلم والاضطهاد متذرعين بهذه الذريعة، والتي كما ذكرنا برأها الإسلام منها حيث قال الله تعالى في هذا الصدد: “﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾[18].
وهنا الخطاب واضح أنه موجه لآدم وحواء، وأنهما أغويا كليهما من قبل الشيطان، وليس كما السابقين للإسلام أن حواء سبب غواية آدم.
هذا إضافة إلى المساواة التي تحدث عنها القرآن بين المرأة والرجل في حدود أقرها الله تعالى، تتناسب مع إنسانية كل منهما، داحضًا بذلك كل ما كان يشاع ضدها، بل ما كان يعتبر كعقيدة اعتنقها أصحاب وشعوب الديانات والحضارات السابقة.
1- المساواة في أصل الخلق
أقر الإسلام وحدة الجنس البشرى في الخلق وجعل المرأة والرجل من نفس واحدة، وخلق من النفس زوج، وهنا يعني الزوج ذكرًا وأنثى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[19].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾[20].
2-المساواة في التكاليف الشرعية
أقرّت الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، فيما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية، ومنها المساواة في التكاليف الدينية: الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[21].
وتساوى الرجل والمرأة في الجزاء ثوابًا وعقابًا ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[22].
3- المساواة في الثواب والعقاب
الرجل والمرأة سواء في الشريعة الإسلامية من حيث التكاليف الشرعية، والمسؤولية والثواب والعقاب وتقبل التوبة من كليهما. ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[23].
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[24].
4 – المساواة في الحق في الميراث
كانت المرأة قبل الإسلام لا ترث هي ولا الصغير، حيث كان سائدًا في العرف الجاهلي أنه لا يرث إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف.
فنزل قوله تعالى ليقرر حق المرأة في الميراث ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾[25].
5.المساواة في حق التعليم
جعل الإسلام طلب العلم فريضة على المسلم والمسلمة، يقول رسول الله (ص): “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”.
وأهاب بالمسلمين رجالًا ونساءً أن يصلوا إلى أعلى المستويات العلمية ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[26].
كما أوجب على أمهات المؤمنين أن يعلمن ذكورهن وإناثهن ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾[27].
السيدة نفيسة كانت تعلم الأئمة، فقد تتلمذ الإمام الشافعي على يديها.
السيدة سكينة بنت الحسين (ع) كانت تـنـقد الشعر.
6- المساواة في حق العمل
مارست المرأة المسلمة كل ما كان معروفًا من أنشطة سياسية واجتماعية وعلمية، ومدنية واقتصادية ونضالية، بموجب الأحكام الشرعية الأصلية في الإسلام، والتي أقرّت بحق المرأة في التملك والتعاقد والتكسب والتصرف فيما تتطلبه إدارة شؤونها الخاصة.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[28]. فهنا الخطاب للإنسان الذي هو مفهوم كلي تقع مصاديقه على المرأة والرجل على حد سواء”[29].
وقد نطرح السؤال التالي: كيف ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في حق العمل، مع أن هناك وظائف يقوم بها الرجل ولا تقوم بها المرأة والعكس صحيح؟
إن اختلاف التوزيع الوظيفي لا يعود إلى اختلاف إنسانية كل منهما عن الآخر، أو إلى نقص موجود في أحدهما دون الآخر، بل إن العدالة تقتضي أن توزع الوظائف وفق الإمكانات والقدرات التي يمتلكها كل على حدة، ومن الجور بمكان أن تناط بالمرأة أعمال لا تتناسب وطبيعة تركيبتها البيولوجية والنفسية، وهذا لا يعني أن الشريعة شخصت نوعية الوظائف، بل الإسلام أوكل الأمر لأجل الخبرة والاحتصال في كل زمن، شريطة أن يكون التشخيص قائم عل دراسات معمقة بالدليل والبرهان في كل زمن، لأن القابليات تتغير والقدرات تتطور والأفهام والإدراكات مع الزمن ووفق التجربة لا تبقى على حالها، بل تختلف قدرات الإنسان رجلًا وإمراة من دولة إلى دولة، بل داخل الدولة ذاتها بين القرية والمدينة. وعدم تشخيص الوظائف على أسس سليمة ووفق دراسات معمقة في كل دولة على حدة وفي كل زمن ومصر، سيؤثر على الإنتاجية العامة وعلى الإبداع الفكري والعملي، فهل نستطيع مثلًا أن تحمل نملة فيلًا؟ فتركيب النملة البيولوجي لا يسمح لها بالقيام بهذا العمل الشاق، والسبب ليس لعدم فاعلية الفاعل وإنما لعدم قابلية القابل.
تقول الشهيدة آمنة الصدر من نفس المصدر السابق: “يقوم تقسيم الوظائف في كل مجتمع ومحيط على أساس تقبل الأشخاص لتلك الوظائف، وإمكانياتهم للقيام بها على أحسن وجه. وتقسيم العمل هو ضرورة من ضرورات المجتمع في جميع النواحي والمجالات. ويؤدي إلى سهولة القيام به مهما كان صعبًا، إضافة إلى أنه يسرع الإنتاج مهما كان بطيئًا، ويساعد تقسيم العمل والوظائف المتخصصة في كل قسم منه على النبوغ في ذلك القسم والتعمق فيه، خلافًا لما لو اختلف توزيع العمل وتعاقبت الأعمال المختلفة على العامل، فإنه سوف يخسر مرونته وعبقريته التي قد يحرزها في عمل واحد. فإن لكل شخص من الأشخاص استعداده الخاص وطبيعته الخاصة به وتكوينه الفطري والنفسي، فنحن لا ينبغي لنا مثلًا أن نجعل من فنان مهندسًا ولا من مهندس فنانًا، فإن لكل منهما هوايته واستعداده الخاص”.
فتقسيم الوظائف والعمل بين الرجل والمرأة لم يأت على أساس تسخير أحدهما للآخر، وإنما على أساس توزيع وتقسيم الوظائف لتتكامل الأدوار، وبالتالي يتكامل المجتمع كما أراد الله تعالى.
وفي كتاب دور المرأة في بناء المجتمع جاء: “من القضايا العلمية المسلّم بها لدى علماء النفس والطب أنّ لكل من الرّجل والمرأة تكوينه العضويّ، وأنّه من الطبيعي أن تختلف تبعًا لذلك الوظيفة الاجتماعية للمرأة عن وظيفة الرّجل؛ لذا فإنّ استقامة الحياة الاجتماعية تحتاج إلى أن يحافظ كل من الرّجل والمرأة على انتمائه الجنسي، فتحافظ المرأة على أنوثتها، ويحافظ الرّجل على رجولته، وتشير الدراسات العلمية إلى أنّ الهرمونات التي تفرزها الغدد الصمّـاء تساهم في تكوين الفروق النفسية والسلوكية بين الرّجل والمرأة كما يساهم الجهاز العصبي.
ولقد وضّح القرآن الحكيم الفارق التكويني بين الجنسين الذي تبنى عليه الفوارق الوظيفية كما بيّن المشتركات التكوينية بين الجنسين أيضًا.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾[30].
وأكّدت السنّة المطهّرة أنّ مظاهر التكامل في شخصيّة كل من الرّجل والمرأة، ترتبط بتركّز الخصائص النوعية لدى كل منهما ومحافظته عليها واعتزازه بها؛ لذلك نهت السنّة عن أن يتشبّه أفراد الجنس الأنثوي بالرِّجال، كما نهت الرّجل عن ذلك.
وتفيد الدراسات النفسية والتجارب التي أجريت على بعض حالات الانحراف النفسي عند الجنسين، أنّ ميل بعض الذّكور إلى التشبّه بالإناث، وميل بعض الإناث إلى التشبّه بالذّكور، هو حالة انحرافيّة، وأنّ هذه الحالة يمكن السيطرة عليها، ومعالجتها بالتربية والإجراءات الاجتماعيّة، وإعادة تنظيم الشخصيّة.
وقد جاء في الحديث الشريف النهي والزّجر العنيف واللّعن لهذا الصنف من الناس.
أورد المحدِّث والفقيه الكبير الحرّ العامليّ (رحمه الله) عدّة أحاديث تحت عنوان: “عدم جواز تشبّه النساء بالرِّجال والرِّجال بالنِّساء”. فقد روي عن الإمام الصادق (ع) وأبي الحسن الرضا (ع): “إنِّي لأكره أن يتشبّه الرِّجال بالنِّساء”[31]. ومعنى الكراهة هنا هو الحرمة وعدم الجواز، كما جاء في عنوان الموضوع أعلاه.
وروي عن الإمام الصادق (ع) قوله: “كان رسول الله يزجر الرّجل أن يتشبّه بالنِّسـاء، وينهى المرأة أن تتشبّه بالرِّجال في لباسها”[32].
وعن ابن عبّاس قال: “لعن رسول الله (ص) المتشبِّهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبِّهات من النِّساء بالرِّجال”[33].
وإنّ تشخيص تلك الفوارق يترتّب عليه التسليم العلمي بالفارق الوظيفي في بعض المجالات والتكاليف الحيوية التي كلّف بها كل من الرّجل والمرأة. وتأسيسًا على ذلك تتحدّد الفوارق والمشتركات في الوظيفة الاجتماعية”[34].
فالأصل في العمل وتوزيع الأدوار هو القابلية والكفاءة، ويتم ذلك على أساس مبدأ العدالة وليس المساواة المطلقة.
ولكن ما هو دور المرأة في المجتمع الإنساني كما يراه الإسلام؟
3.3.1 دور المرأة في بناء المجتمع على ضوء الشريعة الإسلامية
وقبل تسليط الضوء على دورها علينا أن نسلط الضوء على تعريف المجتمع، سواء بمفهومه العام أو مفهومه الخاص بالإسلام.
جاء في كتاب دور المرأة في بناء المجتمع بهذا الصدد: “المجتمع: هو تلك الهيئة الإنسانية المكوّنة من أفراد تربط بينهم روابط عقيديّة ومصالح حيويّة محدّدة. وإذا كان هذا هو تعريف المجتمع بصورة عامّة، فإنّ المجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي تبنى فيه الروابط والعلاقات وتنظّم المصالح فيه على أساس الإسلام. ويمكننا أن نعرِّف المجتمع الإسلامي بأنّه: “كل جماعة سياسية مستقرّة في بقعة من الأرض تؤمن بالإسلام، وتقيم علاقاتها ونظام حياتها على أساس الإسلام”. فالمجتمع الإسلامي مجتمع عقائدي له خصائصه وصفاته المميّزة له عن غيره من المجتمعات، فهو مجتمع يتميّز بأفكاره وقيمه وأخلاقه وقوانينه ونظم حياته وسلوكه وأعرافه.
ولقد لخّص القرآن الكريم تلك الصفات والميّزات بقوله: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾[35].
وعرف أيضًا على أنه “هو مجموعة من الأفراد والجماعات تعيش في موقع جغرافي واحد وتربط بينها علاقات اجتماعية وثقافية ودينية. ومن ذلك نجد أن العناصر التي تكّون المجتمع تتمثل في:
- إدراك أفراد المجتمع وشعورهم بأنهم يكوّنون وحدة واحدة.
- نطاق جغرافي يجمع أفراد المجتمع وجماعاته.
- وجود نظام يسمح لأعضاء المجتمع بالتعبير عن آرائهم.
- تمكّن المجتمع من إشباع الاحتياجات الأساسية لأفراده إلى حد ما.
- وجود سلوكيات اجتماعية داخله مثل التعاون، التكافل والصراع.
- بناء اجتماعي خاص به”[36].
وتعريف المجتمع من المنظور القرآني بأنه هو التجمع التلقائي للأفراد في الحيز الجغرافي ضمن السياق التاريخي المحكوم بالنظام واللغة والدين والشعور الجمعي المشترك الآني والمستقبلي”[37].
إذًا الفرد يعتبر من أهم مكونات هذا المجتمع، بغض النظر عن كونه أنثى أو ذكر. سواء في المجتمع الإسلامي أو أي مجتمع آخر. ودور الفرد في بناء المجتمع دور محوري ورئيسي لأنه يمثل اللبنة الأساسية في هذا البناء. وتختلف الوظائف في المجتمع باختلاف الأفراد وقدراتهم وقابلياتهم، لذلك نجد أن الإسلام أولى أهمية كبيرة للعلم واعتبره من المقومات الأولى في بناء أي مجتمع بناءً إيجابيًّا وقويًّا. فأول آية نزلت من القرآن هي اقرأ.
فعناصر بناء المجتمع هي:
“إنّ العلاقة بين الأفراد في الحياة الاجتماعية كالعلاقة بين حروف اللّغة، فما لم تجتمع تلك الحروف، وتنتظم العلاقة بينها، لا تحصل البنية اللّغوية العامّة التي تحمل الفكر الإنساني، وتُصوِّر المشاعر والحياة الإنسانية بأجمعها. وهكذا الأفراد الأحاديون لا يتحوّلون إلى صيغة إنسانية وتشكيل نسمِّيه مجتمعًا، له وجوده وكيانه المتميِّز عن وجود وكيان الأفراد، وله هويّته ومشخّصاته إلّا إذا ترابط أفراده بروابط، وانتظموا بعلاقات تنظم نشاطهم وسلوكهم، وهذه الروابط والعلاقات هي التي أسميناها عناصر بناء المجتمع وهي:
1ـ العقيدة: تعتبر رابطة العقيدة من أقوى الروابط الإنسانية التي تربط أفراد المجتمع، وتحوِّلهم إلى وحدة متماسكة كالجسد الواحد، كما عبّر عنها الحديث النبوي الشريف بنصّه: “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى”[38].
فللعقيدة آثارها وانعكاساتها النفسية والعاطفية والسلوكية العملية في العلاقات الإنسانية جميعها، تمتد آثارها من البناء إلى الإصلاح والحفاظ على البنية الاجتماعية؛ لذا نجد القرآن الكريم يوضِّح هذه الرابطة بقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[39]. فتلك الآية المباركة تثبت مبدأ الولاء بين المؤمنين والمؤمنات بالله سبحانه ورسالته، وتثبت قاعدة فكرية ونفسية من أقوى قواعد البناء الاجتماعي، وفي هذه الرابطة تدخل المرأة عنصرًا أساسًا مشخّصًّا في نصّ الآية الكريمة.. تدخل في دائرة الولاء، وتتحمّل مسؤولية البناء والتغيير والإصلاح الاجتماعي، كما يتحمّل الرّجل بشكل متعادل، ويظهر ذلك جليًّا واضحًا في النص القرآني الآنف الذكر. وبذا تحتل المرأة الموقع ذاته في هيكليّة البنية الاجتماعية وتحمّل المسؤولية من خلال رابطة الولاء للأفراد والمجتمع بجنسيه الذكري والأنثوي.
2ـ القوانين والأنظمة: يُعَرَّف القانون بأنّه: “مجموعة القواعد المنظِّمة لسلوك الأفراد في المجتمع، والتي تحملهم السّلطة العامّة فيه على احترامها، ولو بالقوّة عند الضرورة”[40].
.. فالقانون الاجتماعي هو الأداة والوسيلة التي تنظِّم حركة المجتمع، وتربط أفراده، وتوجِّه اتجاههم ونشاطهم. كما ينظِّم القانون الطبيعي حركة الذرّة والكواكب… إلخ، وبدون القانون لا يمكن أن تبنى الهيئة الاجتماعية أو تتطوّر. والقانون الإسلامي هو القانون المستنبط من القرآن الكريم والسنّة المطهّرة لتنظيم المجتمع الإسلامي وفق الرؤية والمقاصد الإسلامية، لتكون معالجته قائمة على أسس علمية؛ لذا راعى الطبيعة النفسية والعضوية لكل من الرّجل والمرأة. وتأسيسًا على هذا المبدأ العلمي فإنّ القانون الإسلامي يقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
أ. قوانين وأحكام تخص المرأة
ب. قوانين وأحكام تخص الرجل
ج. قوانين وأحكام عامة تنطبق على الرجل والمرأة جميعًا، وهي المساحة الواسعة من القانون والأحكام الإسلامية. وهذا النمط من التنظيم المراعي للجنس، يفرض على المرأة كما يفرض على الرّجل أن يتحرّك وينشط في مساحتين من الحركة والنشاط؛ الأولى خاصّة بجنسه ووضعه الجنسي، والثانية تشمل المجتمع بكامل بنيته وتكوينه.
3 ـ الأعراف والتقاليد الإسلاميّة: وللمجتمع الإسلامي أعرافه وتقاليده التي تشكِّل عنصرًا أساسًا من عناصر بنائه المميّزة له، والتي يجب الحرص عليها وتركيزها للحفاظ على معالمه.
- الحاجة إلى الخدمات وتبادل المنافع (الإنتاج): لقد وضح لدينا من خلال الآية الكريمة: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[41]، أنّ الحاجة إلى الآخرين هي الدافع الأساس لدخول الفرد في تجمّع الأفراد وتكوين البنية الاجتماعية، ليدخلوا عملية تبادل المنافع، كما تتبادل الأحياء والطبيعة المنافع في بيئتها الطبيعية الخاصّة، فيوفِّر الفرد من خلال ذلك حاجته الفردية، وليساهم في تكامل الحياة البشرية. ونتيجة لتطوّر متطلّبات الفرد والجماعة، واختلاف الأفراد من الرّجال والنساء، في القدرات والميول والإمكانات العقليّة والجسدية والنفسية والإرادية، فقد نشأ التخصّص الوظيفيّ في المجتمع بشكل عفوي تارة، وباختيار الفرد وظيفته الاجتماعية، أي نوع العمل الذي يؤديه في المجتمع، كالزراعة أو الطب أو التجارة أو التعليم تارة أخرى… إلخ، أو مخطّطًا تخطيطًا مركزيًّا من قِبَل الدولة الإسلامية تارة ثالثة المسؤولة عن تنظيم المجتمع، وتوجيه طاقاته، لإشباع حاجات الأفراد، وحلّ المشاكل الناجمة عن الحاجة بشتّى ألوانها[42].
المرأة بين النظرية القرآنية والواقع الإسلامي
إن شخصية المرأة في النظرية القرآنية تعد نموذجًا عالميًّا يتناسب من جهة والفطرة، ومن جهة أخرى مع الزمان والمكان، حيث أسس القواعد الكلية، وترك تشخيصاتها المصداقية للعقلاء وسيرة العقلاء، فلو تم تطبيقه سيحقق كثير من المنافع الإنسانية، إلا أن الواقع الإسلامي لا يعكس أبدًا هذا النموذج رغم قرآنيته، بل على العكس تمامًا ترزح المرأة تحت وطأة التمييز والتنمر في كثير من الدول العربية والإسلامية، بل والاضطهاد وأغلبه اضطهاد ديني يتكئ على أحكام فردية غابت عنها الرؤية القرآنية وتلبست في كثير منها المسبقات البيئية والأعراف والتقاليد الاجتماعية، التي تم توارثها عبر مجموعة أحاديث إما لم يتم التحقق من سندها، أو هي معارضة في متنها مع الطرح القرآني رغم متانة السند. وضمن هذا الواقع، وبعد العولمة ظهرت كثير من الأفكار والحركات التي تدافع عن المرأة وحقوقها، ومنها الحركات النسوية، التي تنشط بشكل فعّال جدًّا في الغرب، وفي الدول العربية والإسلامية.
إن الحركات النسوية لها فاعلية كبيرة في المنظمات العالمية الرسمية وغير الرسمية، وخاصة في العالم الثالث، وهو ما قد ينعكس بسلبياته وإيجابياته على واقع المرأة في العالم الثالث، ولكن لو قارنا ووازنا بين الإيجابيات والسلبيات لخرجنا بنتيجة واضحة، أن سلبيات هذا الحراك النسوي مقارنة مع إيجابياته تعتبر أكبر وأخطر على هوية المرأة، إذ يراد لهويتها الاستلاب لتحل بذلك قيم بديلة وثقافة دخيلة خالية من أي بعد معنوي إنساني، وقائمة على أسس مادية للرؤية الكونية للإنسان والطبيعة والكون. وهو ما يدعونا للوقوف والتأمل مليًّا في أن نمعن النظر في واقع حال المرأة المسلمة، وأن نعلي الصوت كمسلمات أمام كل الجهات المسؤولة والعلماء والمراجع في إعادة صياغة فقه المرأة وفق أسس تعتمد على القراءة التاريخية التكاملية، التي تستوعب ظروف الزمان والمكان ويكون للعقل مكانته الواضحة فيها، بل نطالب بإعادة صياغة موضوع المرأة في الإسلام والبحث عن كل متعلقاته في التاريخ لنخرج برؤية إسلامية كلية شاملة، قادرة على طرح مشروع نسوي بديل وقادر على مواجهة هذه المشاريع النسوية التي تريد أن تلغي الدين من حياة المرأة، وتجعل قبلتها الجسد وترفع عنه كل القيود القيمية والأخلاقية، لتصبح الرذيلة عنوان حراكها في المجتمع، وعندما تفسد المرأة يفسد معها المجتمع ككل.
المرأة ووهم الحقوق
فقد يعتري الكثيرات منا الأمل حينما يتداعى إلى مسامعنا عن حراكات نسوية حقوقية تطالب بإنصاف المرأة ومساواتها بالرجال، أملًا مقترنًا بعقدة النقص والنزوع نحو الخوف، أكثر منه نحو الثقة وهو ما أدّى إلى حالة انكماش ملحوظة للمرأة عن الواقع الاجتماعي والسياسي، كرد فعل طبيعي لتلك الحراكات المطالبية.
لست ضد الحراكات الحقوقية للإنسان بما هو إنسان، ولكنني ضد الحراكات الحقوقية التي تميز بين جنس وآخر دون أساس مبدئي واضح، أو مرجعية فكرية ثابتة ومعتبرة لهذا التمييز، دون أيضًا أن تأخذ في حسبانها قولبة مطالباتها ضمن منظومة متكاملة شاملة، حتى لا نقع فريسة الإعاقة الشكلية لهذه المطالبات، فتكون مخرجاتها غير متوازنة وردود الفعل عليها حادة فنخسر بذلك من جهة المشروع برمته، لخروجه عن الأطر السليمة للنهج المطالبي الحقوقي، ومن جهة أخرى تكون هذه المطالبات غير المتوازنة على حساب كينوتها الإنسانية أولًا، والأنثوية ثانيًا، والأسرية ثالثًا، وأخيرًا الاجتماعية والسياسية.
فترسم لنا هذه المطالبات امرأة من عالم المريخ، لا يمكنها أن تعيش بيننا على الأرض وتحلق بعيدًا لتجد نفسها فجأة مجردة حتى من جوهرها الإنساني، ومبرمجة وفق خطة ومنهج وصورة فقدت فيها بريقها حتى الأنثوي.
إذًا ما هو المطلوب…؟
أعتقد أن أي حراك حقوقي يجب أن يكون منظورًا ضمن منظومة شاملة، تنظر من كافة الزوايا بعين الإنصاف والموضوعية، ولا تغفل عن دور لحساب دور آخر، ولا عن حق لحساب حق آخر، وتكون فيها المرأة جزءًا من كل، بحيث لا تنفك هذه المنظومة عنها ولا تكتمل إلا بها. والمنظومة الحقوقية للمرأة يجب أن ننظر لها من عدة زوايا متصلة وليست منفصلة:
أولًا: حقوقها ضمن عائلتها كابنة وأخت، وفي الأسرة كزوجة وأم، وفي المجتمع كشريكة للرجل وجزء فاعل ومكافئ له في هذه الفاعلية بكافة مصاديقها.
فلا نطالب بالحقوق السياسية والاجتماعية ونهمل حقوقها الأسرية أو العائلية، ولا نطالب بحقوقها بمعزل عن واجباتها من جهة وعن حقوق وواجبات الرجل من جهة أخرى، لأن ذلك سيخرج لنا تصورًا حقوقيًّا مشوّهًا ومخلًّا بالتوازن الاجتماعي السياسي والأسري والعائلي.
إن إلهاء المرأة وما تمثّله كنصف المجتمع وعصبه الحي بمطالبات حقوقية مجتزأة، وغير متوازنة بعيدة عن الواقع وعن مشروع منظومي متكامل، هي معركة إيهامية يراد منها إشغال وإيهام المرأة عن حقيقة دورها المراد منها، وبالتالي تعطيل حقيقي للمجتمع وإفساد واقعي وعملي للأجيال ثم هيمنة كلية واستغفالٍ لحاضرنا ومستقبلنا.
فالمرأة اليوم بين واقع يفرض عليها باسم الدين قيودًا روحية وعقلية وجسدية، وواقع آخر يفرض عليها باسم الحرية والمساواة والحقوق عبودية تفسد بها ذاتها ومجتمعها.
والمطلوب هو أن تمارس المرأة كل أدوارها باتزان وبتكامل مع الرجل، وأن تمتلك القدرة على التشخيص في: متى وأين وكيف، فيما يتعلق بأدوارها وأبعاد شخصيتها.
وهذا واقعًا كي يتحقق يحتاج لعدة عوامل أهمها:
- نضال المرأة بعفتها لأجل تحقيق العدالة فيما يتعلق بدورها.
- التمييز بين الدين والعادات والتقاليد، وتطبيق إرادة الخالق لا إرادة المخلوق، وهو ما يتطلب تعميق لمفهوم التوحيد العملي، كون ركون النفس لضغط العادات والتقاليد وما يريده المجتمع، هو نوع من أنواع الشرك الخفي العملي، فالحق أحق أن يتبع.
- حاجة الفقهاء لإعادة النظر في منهج فهم النص ومنهج الاستنباط، بجعل القرآن المرجعية المعرفية للحديث.
- الحاجة إلى التعاون بين الرجل والمرأة، للنهوض بدور المرأة والارتقاء بوعي وفهم المجتمع لأهمية دورها ومحوريته.
- تقديم النموذج الصالح كما أراده الخالق لا المخلوق، من خلال كشف كامل للشخصية النموذج في كافة الأدوار، سواء من خلال استقراء الشخصيات النموذجية التاريخية، ومن خلال قراءة الشخصيات النموذجية في القرآن وفهم مداراتها ومعالمها، وعدم الاكتفاء بتحويلهما مقدّسًا لا يمس ولا يطاول كما فعل المسيحيون مع مريم (ع).
- حاجتنا لقراءة التاريخ ونصوصه قراءة سيوسيولوجية، تأخذ في الحسبان الزمان والمكان.
- الارتقاء بدور المرأة من عقل منفذ إلى عقل مخطط ومقرر، أي شريك في القرار والتخطيط والتنفيذ، وهو ما يتطلب تأهيلًا لها وتقديرًا للطاقات المؤهلة والقادرة.
المرأة مكمّلة لدور الرجل وشريكة له، فهي ليست ندًّا ولا في قباله، وقيمومة الرجل عليها في نطاقها المفروض في الأسرة فقط، وضمن ضوابط أخلاقية وقيمية لا تنفك أبدًا عن الضوابط السماوية والشرعية، والتي تنبني أسسها ليس فقط على القيمومة والحق والواجب، بل يضاف لها كركن مكمل أساسي المودة والحب والسكن، فكلمة طيبة مثلها كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. أما في المجتمع، فلا قيمومة لأحد على أحد، والكفاءة والعلم المعيار في التقدم والشراكة.
[1] سورة الحجرات، الآية 13.
[2] سورة آل عمران، الآية 195.
[3] سورة النساء، الآية 124.
[4] سورة النحل، الآية 97.
[5] سورة الانفطار، الآيتان 6 و 7.
[6] سورة القيامة، الآية 14.
[7] سورة النجم، الآية 28.
[8] سورة الأحزاب، الآية 72.
[9] سورة الانشقاق، الآية ٦
[10] سورة القيامة، الآية 10.
[11] Brgel، Johann Christof، Allmacht und Mchtigkeit، S. 286، Mnchen “1991
[12] سورة البقرة، الآية 185.
[13] سورة البقرة، الآية 286.
[14] سورة الزمر، الآية 6.
[15] الشيخ حيدر حب الله، المدارات الفكرية ـ دورها في المعرفة وضرورة الوعي الفلسفي بها http://hobbollah.com/articles/المدارات-الفكرية/
[16] سورة الحجرات، الآية 13.
[17] آمنة الصدر(بنت الهدى)، المرأة مع النبي.
[18] سورة البقرة، الآية 36.
[19] سورة النساء، الآية1.
[20] سورة الأعراف، الآية 189.
[21] سورة التوبة، الآية 71.
[22] سورة النحل، الآية 97.
[23] سورة المائدة، الآيتان 38و 39.
[24] سورة النور، الآيتان 2و 3.
[25] سورة النساء، الآية 7.
[26] سورة طه، الآية 114.
[27] سورة الأحزاب، الآية 4.
[28] سورة العصر، الآيات 1-3.
[29] صبحي الصالح، نهج البلاغة، 57، الخطبة 15.
[30] سورة النساء، الآية 32.
[31] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الصّلاة، أبواب أحكام اللّباس، الباب 13.
[32] المصدر نفسه، الباب 13
[33] البخاري، صحيح البخاري، الجزء 7، الصفحة 55.
[34]محمد مطر سالم الكعبي، دور المرأة في بناء المجتمع، (دمشق، دار القلم للنشر والتوزيع).
[35] سورة البقرة، الآية 138.
[36] دليل الممارس التنموي في تكوين وإدارة المنظمات الطوعية.
[37] مجلة الوعي الإسلامي بقلم الكاتب: الدكتور/ أحمد عيساوي – الجزائر.
[38] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب 27.
[39] سورة التوبة، الآية 71.
[40]الدكتور أنور سلطان، المبادئ القانونية العامّة، الصفحة 16.
[41] سورة الزخرف، الآية 32.
[42]دور المرأة في بناء المجتمع، مصدر سابق.
المقالات المرتبطة
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾
قال الله تعالى في كتابه الكريم في سورة البقرة: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
الحسين.. صرخة الحق على مرّ العصور
لا يمكن للناظر والمتأمل إلا أن يرى ويسمع اسم الحسين حفيد رسول رب العالمين، الذي قضى شهيدًا ثائرًا على الظلم، رافضًا بيعة طاغية عصره يزيد المتجاهر بالفسق الشارب للخمر
النفس عند أرسطو (2)
نقل أرسطو مبحث النفس إلى مستوى آخر، يختلف عن أفلاطون بشكل جذري، حيث عمل على إخضاعه لرؤيته المنهجية، التي تنطلق من العالم الحسيّ باتجاه التجريد