رأس العبادة | نماذج من الأدعية
“هذا مقام المستوحش الغرق”. فإنها تُظهر الإحساس بالغربة أمام الذات، غربة الذات هذه هي التي تستجلب الرحمة بالعودة إلى موطنها الذي هو الله لأنها بعيدًا عن الباري تغرق في ظلمات من الدنيا فوقها ظلمات من الذاتية القاتلة. ولا تنقشع العتمات إلا بإزاحة الحجب، فإذا ما تراءى للإنسان من خلال نور البصيرة نور الحياة ظهر عنده مصدر النور فنجى من استغراقه بذاته ومن غربته القاسية، صار الوجود موطنه الذي يعيه والذي يشعر به والذي يحبه، وكل هذا بفعل نور الله سبحانه الذي سطع في وعيه وإحساسه ووجده العاشق لكل ما يمت إلى الله (موطنه الأصلي) بصلة، صار الفهم رزق من الله، والناس عيال الله، والأرض كما الزمن، أرض الله وزمانه.. وهذا لا يعني أن يتوقف المرء عند هذا الحد فيسكن ويستكن، بل صار البحث عن الذات والعالم والوجود على قاعدة من الأنس والوضوح، لذا قد يزداد القلق والحيرة والحركة إلا أنها ضمن مشروع واضح المنطلقات والأهداف.. وبالعودة لما كنا عليه، فإن كلام الله في القرآن يصبح عنوان الأنس والنجاة، الذي نطلبه بفعل واقعنا المضني، واقع المضطر الوله.. وما نجده من جواب أو ما نقصده بالطلب نعبر به من القرآن إلى بيان الوجدان إلى مصدر كل بيان ووجدان سبحانه.
ولا يفوتنا مع هذه الصورة أن الاستغراق في الطلب لا يعني الاستغراق الواقعي في الآن وفي قيود الجغرافيا الأرضية التي نحن فيها، بل هو يتعدى ذلك لأن مدى الرؤية صار متعديًا بحيث إنه يقول: “هذا مقام العائذ بك من النار”.
الآن، ومن هنا، مقامي، عائذ بك، أنت الملجأ من اللحظة بما تحويه من الغربة والوحشة، وأنت الملجأ مما أتوقع وأحذر، وهي النار.. وما أخاف وأحذر ليس أمرًا خارجًا عني وعن وعيي وانفعالاتي، بل هو حاضرٌ حضورًا مكثفًا يحرك ويوجه انفعالاتي وحركاتي.. النار ليست الجغرافيا البعيدة، بل هي الخوف والحذر والدقة الموصولة الآن في شؤوني.. إنها عقاب ترك المسؤولية التي آمنت وتشرّفت بها. لذا، أنا ألوذ بك أنت، لأنك الضامن والضمان ومهدئ الروع ومبدّد الخوف. بك لا تعود النار عقدة خوف، بل مهمازٌ يحرّك فينا القوة والطاقة الخلّاقة على التجديد والإبداع المسؤول. ورغم ذلك، فإن الداعي يستحضر التواضع بكل مستوياته، فكون المصدر هو الله والمسار فيه وإليه لا يعني أننا خرقنا المحدودية والجهل والخطيئة وبتنا القابضين على الحقيقة، أو الحقيقة، بل نحن المعرَّضون دومًا للنقص، أو بدقة أبلغ نحن المحتاجون بك لجبر كسرنا وسد نقصنا الدائم مهما أوجبت علينا من حراك نحو الكمال الذي لا ينتهي، فنحن اللانهائيون في المحدودية والنقص، لذا، “اللهم اعف عن جرمي وظلمي، بحلمك وجود يا كريم”.
المقالات المرتبطة
ثقافة الشرخ ورد الاعتبار للتراث
يقدم الأستاذ طارق أبو العينين قراءةً نقديّةً للمشروع الفكري للمفكر عبد الله العروي،
مصطفى النشار: العرب وفلسفة المستقبل
منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا كان الخطاب الإلهي إلى الإنسان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
الموت كتجلٍّ للمقدّس: الموت وماهيته وعلاقته بالوجود الإنسانيّ
الموت ليس عبارة عن حادث جوهريّ، ينتهي من خلاله الإنسان، إنّما هو أمر عرضيّ، يصيب هذا الكائن، ويكون مقدّمة لولادة جديدة، إما أن توصل الإنسان إلى ذروة القداسة، أو تدفعه إلى أسفل السافلين