الله والإنسان في فلسفة أبكتيتوس

الله والإنسان في فلسفة أبكتيتوس

شكّلت فلسفة أبكتيتوس Epictetus (55-130 م) أسلوب حياة، ورؤية للأشياء، وفنًا للعيش، من أجل تحقيق غاية عملية أخلاقية ترشد الناس إلى الصلاح والسعادة، وفي ممارسات أبكتيتوس الفلسفية حاول أن يقدم إجابات لتساؤلات عديدة مرتبطة بالله والوجود والإنسان، ومن هذه التساؤلات هل الله موجود؟ ما هي الأدلة على وجوده؟ ما هي العلاقة بين الله والإنسان؟ هل الإنسان حر في اختباراتة أم مجبر عليها؟

رأى أبكتيتوس على مذهب الرواقيون أن الوجود وما فيه مادة منفعلة معلولة وتابعة لفعل فاعل، وهو العقل الكامن في المادة، وهذا العقل هو المبدأ الإلهي، الذي منح الأشياء والموجودات صورها، ومن ثم أكد أبكتيتوس على وجود الله وقدرته وعنايته الفائقة بالكون، مخالفًا التصورات الأخرى حول الله، ففي كتاب (المحادثات) الذي كتبه، فلافيوس أريان، أحد تلاميذه، استعرض أبكتيتوس العديد من التصورات حول الوجود الإلهي: حيث التصورات الإلحادية التي أنكرت الوجود الإلهي، والأبيقورية التي لم تنكر وجود الله، ولكنها لم تقدره حق قدره فنسبت إليه اللامبالاة والسلبية، وهناك الربوبية الأرسطية التي أكدت على أن الله موجود، ولكنه ساكن لا يتحرك، والعناية الإلهية قاصرة فقط على الأمور المتعلقة بالسماء وليست الأمور الأرضية، وكذلك التصورات القائلة بأن الله يهتم بالأمور الأرضية والإنسانية ولكن بشكل جزئي وليس كلي.

وإزاء هذه الأفكار والتصورات المبتورة حول الله كان موقف أبكتيتوس الرافض لها مجادلًا ومفندًا ومقدّمًا أدلته ومبرراته على وجود الله وبطلان هذه الرؤى ومنها:

  • دليل الفطرة: إذا كان الله غير موجود لماذا يكون هدف الإنسان السير نحو الله وعبادته؟
  • التساؤلات البديهية أو المعبرة عن الدهشة، من قبيل: من أنت أيها الإنسان؟ ولأي غاية جئت إلى العالم؟ من الذي خلق الشمس والثمار والفصول الأربعة؟ من الذي منحك العقل؟ من الذي عقد الصلات بين البشر؟ مؤكّدًا على أن الله هو الفاعل لذلك.
  • الحجاج المنطقى: ردًّا على التصورات الأبيقورية والربوبية الأرسطية، التي أنكرت التواصل بين الله والبشر أكد أبكتيتوس لو كان الأمر كذلك، لن يكون هناك هدفًا حقيقيًّا من خلق البشر! ولا يمكن للإنسان أن يطيع من لا يستطيع فهمه أو يهتم بشؤونه، ليؤكّد على فكرة أن الله يهتم بمن في الأرض والسماء بشكل جزئي وكلي فأينما تحرك الإنسان فالله يراه أينما كان، وأن هناك سبيلًا لتواصل الله مع البشر، وهذا السبيل هو العقل الإنساني، من أجل فهم الطبيعة (النظام الإلهي) واتباعها.
  • دليل قدرة العقل البشري ذاته، على الفك والتركيب والتوليف بين الأشياء والموضوعات المدركة، وعدم اكتفاءه بالتصورات فقط، يمثل دليلًا على وجود الله، فمن الذي خلق وأبدع العقل ليقوم بهذه الأفعال؟
  • استقراء بعض أعمال الطبيعة البسيطة، للتدليل على وجود الله، من قبيل النظر إلى كوب اللبن الذي ينتج من العشب، والجبن من اللبن، والصوف من الجلد، والجلد من الحيوان…ليصل في النهاية إلى تساؤل: من الذي خلق أو أبدع هذه الأشياء؟ ليحيل إلى قدرة الله في ذلك.
  • دليل التصميم الذكى: أكد أبكتيتوس على أن النظام والترتيب والتناغم البديع الماثل في الكون والمدرك للعيان، يمثل دليل على وجود الله، فليس من الممكن أن تأتي الأشياء رائعة ومنظمة هكذا إلى حيّز الوجود عشوائيًّا وبشكل عفوي، فكل ذلك له غاية وهدف إلهي، وهو ما تقتضيه العناية الإلهية، والتي لا تقتصر فقط على النظام والترتيب والغاية، ولكنها تشمل أيضًا أفعال الإنسان التي تكون تحت رقابة الله، وكذلك أن تكون كافة الموجودات والأشياء كلها موحدة في كيان واحد يشمل الله والناس والطبيعة في وحدة كونية واحدة.

وإذا كان الله والإنسان والأشياء تمثل وحدة كونية واحدة طبقًا لآراء أبكتيتوس، فما طبيعة العلاقة إذن بين الله والإنسان؟ يوضح لنا أبكتيتوس هذه العلاقة من خلال نظريته عن القرابة بين الله والإنسان، فـبعد تأكيده على أن الله يمتلك معرفة مطلقة سامية، بأفعال الإنسان، حدّد مجموعة من المرتكزات التي تتأسس عليها نظرية القرابة بين الله والإنسان، ومن هذه المرتكزات: الروح والعقل، فكيف تكون الروح والعقل من محددات القرابة بين الله والإنسان؟

رأى أبكتيتوس أن الإنسان يعيش في جسد من تراب، وهذا الجسد هو سجن للروح، وأن الله قد نفخ في الإنسان نفخة من روحه المقدّسة، ومن ثم فإننا مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالله ومتحدون معه، لأن روحنا تمثل جزءًا من الألوهية، فالله موجود في كل إنسان، ولهذا السبب، فإن الإنسان ليس وحيدًا، لكنه لا يدري أن الله معه، وبنى على هذه الأفكار أن الله هو آب الناس جميعًا وكل بني الإنسان أخوة. وكما أن الروح الإنساني تمثل جزء من الألوهية، ذهب أبكتيتوس إلى أن العقل الإنساني فيه قبس من الله، وهو جزء من العقل الإلهي، وأن الله ماثل في عقولنا، وأن جميع وظائف العقل البشري من شعور ورغبة وتأمل ومبادرة بالفعل هي جزء من العقل الإلهي، واعتبر أن العقل الإنساني هو وسيلة الاتصال مع الله، في حالة تركيز الذهن بشكل صحيح على دراسة الطبيعة الإنسانية وطبيعة العالم الذي نعيش فيه، لأجل فهم القوانين الإلهية المكتوبة في الطبيعة والعيش وفقًا لها.

وإذا كانت العلاقة بين الله والإنسان، هي علاقة قرابة، وفقًا لآراء أبكتيتوس، فهل استطاعت هذه القرابة أن تمنح الإنسان الحرية والإرادة؟ قبل أن نتعرف على رأى أبكتيتوس في هذه المسألة، نجد من الجدير أن نستعرض باختصار موقفه من الحياة، لأن هذا الموقف يمكن النظر إليه بوصفه أساس لموقفه من الحرية الإنسانية، فقد نظر أبكتيتوس إلى الحياة بوصفها مسرح كبير، وكل إنسان فيها ممثل له دور معين فيها، وأن الله هو الذي قسم هذه الأدوار بين الناس، وحدد طبيعة هذه الأدوار قصيرة كانت أم طويلة، فقير أم غني، قوي أم مريض، ولذا فواجب كل إنسان في هذه الحياة أن يؤدي دوره على أكمل وجه مهما كان طبيعة الدور الذي يقوم به، وتارة يصف الحياة كمهرجان، نظمه الله من أجل مصلحة الإنسان، حيث يشارك الإنسان في المهرجان الإلهي لزمن معين، كي يشاهد فيه إرادة الله، وتارة أخرى يصفها بالخدمة العسكرية، والإنسان ما هو إلا جندي فيها، وكل جندي له مهمة خاصة يسندها القائد (الله) إليه، ومن ثم يجب تنفيذها، وعدم تجاهلها، أو الشكوى منها مهما كانت صعوبتها، أو صعوبة الأوامر الصادرة، فكل جندي عليه أن يطيع القائد، ويفعل أي شيء يطلبه.

وبالرجوع إلى التساؤل الأساسى: هل استطاعت صلة القرابة أن تمنح الإنسان الحرية والإرادة؟ نجد أن القيمة الأساسية لاستعارات أبكتيتوس تتمحور حول أن الإنسان له دور مرسوم ومقدر من قبل الله، ولهذا نرى أبكتيتوس يؤكد على ضرورة أن يخضع الإنسان ويستسلم لكل ما يحدث طواعية وبشكل حر إرادي واختياري، وأن يؤمن أن ما حدث تم بواسطة العقل الإلهي (الله)، وحذر من عدم طاعة الله والتمرد على أوامره، لأن في هذه الحالة سينال الحزن والأسى والحظ التعيس، هنا طرح أبكتيتوس تساؤلًا هامًّا: هل هناك تعارضًا بين الطاعة والخضوع للفعل الإلهي مع الإرادة والحرية؟ يجيب بالنفي، معتقدًا بقدرة الإنسان وإرادتة المطلقة على حرية الاختيار، معلّلًا ذلك بوجوب أن تكون حرية الإرادة الإنسانية مقرونة بطاعة الإنسان لله دون النظر في الفائدة والقيمة التي ستعود عليه من هذه الطاعة، ومن ناحية أخرى أراد من الإنسان أن يجعل حريته ورغباته في حالة ارتباط ووحدة تامة مع رغبات الله، لأن ذلك هو الضمان للحرية الحقيقية للإنسان، فلا حرية بدون الارتباط بالله، كيف؟ في أن يخضع لله، كما يخضع المواطن الصالح للقانون، وأن يجعل الإنسان رغبته متوافقة مع رغبة الله، وأن يترك كل شيء يحدث كما أراد مدبر الأمور والأشياء (الله)، فليس  هناك أفضل مما أراده الله، فطالما كان أبكتيتوس يقول: “لقد حررني الإله، سوف أربط نفسي به، إرادتي وإرادته واحدة”، ومتأسيًّا بقول سقراط: “إذا كانت هذا ما تريده الآلهة فلتكن مشيئتها”.

لقد جعل أبكتيتوس التسليم بالقدر الإلهي (الخطة الإلهية) نوعًا من الحرية، من خلال التخلي الإرادي للإنسان عن رغباته الإنسانية وعلى ألا يتملكه شيء ما، بتأكيده على أن الله وهب الإنسان سلطانًا على كل الأشياء التي تقع داخل نطاق إرادته، ومن ثم يجب عليه ألا يرغب في امتلاك الأشياء التي لا يملكها، ولا تكون تحت سيطرته، فجميع أوجاع الجنس البشري ناتجة عن الرغبة في امتلاك ما هو خارج عن سيطرتنا، وفي اجتناب أشياء قد تكون من القدر المحتوم الذي لا راد له، وهي الحالة التي تجعل الإنسان بعيدًا تمامًا عن الحرية، ومحكوم عليه بالعبودية والشقاء، فلن يحقق الإنسان حريته إلا بارتباطه بالله، وهذا الارتباط سيؤدي حتمًا إلى ما يسمّى”الإنسان الإلهي” المتحرّر من الحسد والغضب والغيرة، ومن عدم الشعور بالإخفاق وسوء الحظ، هنا يريد أبكتيتوس أن يستبدل بالإنسية صورة إلهية من خلال الاتحاد بالله.

من خلال ما سبق يمكن القول إن أبكتيتوس، أولى أهمية بالغة للعقل الإنساني، وفي ارتباطه بالعقل الإلهي في عملية اكتساب الوعي، ومعرفة الإنسان بذاته وبخالقه وبقدرته، وممارسته الحياة وفق القوانين الطبيعية (السنن الإلهية)، ومؤكّدًا على وحدة الوجود بين الإنسان والله والطبيعة، فالعقل الذي هو علة وجود المادة ليس خارج عنها أو مستقل بذاته ولكنه كامن فيها، وكذا تداخل الأشياء في مثال كوب اللبن والعشب والجبن، إذ نلحظ الوحدة بين هذه الأشياء رغم تنوعها، وكذلك مؤكّدًا على صلة القرابة بين الله والبشر، وهذه القرابة ليست القرابة التي تقوم على القرابة العشائرية أو الطوطمية، وإنما هي قرابة تقوم على صلة الروح والعقل الإنساني بالله، والأبوة الإلهية الذي قال بها أبكتيتوس، يجب أن نفهمها بشكل رمزي أو استعاري وليس بمفهوم الأبوة المتعارف عليه، واعتقد أبكتيتوس بحرية الإنسان وإرادته المطلقة في الاختيار كدائرة صغرى ترتبط وتتداخل مع دائرة كبرى هي دائرة القدر الإلهي، جاعلًا منها أساسًا للحرية، ويمكن رصد بعض التمثلات الاستعارية التي قد يكون أبكتيتوس غير موفق فيها، في تصويره للحياة: هل قصد أبكتيتوس الأثر السلبي والعبثي لتمثله الحياة بمهرجان ومسرح؟ هل الحياة مسرح؟ هل الحياة سيرك؟ والإنسان مهرج؟ هل يمكن وصف الله بالجنرال؟ أليس لهذه الحياة التي يعيشها الإنسان هدف وغاية ينبغي للإنسان أن يحققها؟ أليس من الأولى  أن يؤكد أبكتيتوس على هدفية وغاية الحياة الإنسانية؟ انطلاقًا من مقولته عن أن الكون له غاية وهدف وانطلاقًا من نظرية وحدة الوجود الذي يقول بها. وعمل أبكتيتوس على ربط الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية، بحيث تصبح الإرادة الإنسانية والإلهية واحدة، ولكن هل يمكن أن يصل الإنسان لهذه المكانة وفق مجاهدات معينة؟ هل إرادة الله والإنسان واحدة أم مختلفة؟ هل المشيئة الإلهية مرتبطة بالمشيئة الإنسانية أم العكس؟ ماذا لو تعارضت الإرادة الإلهية مع الإرادة الإنسانية؟ هل قصد أبكتيتوس ارتباط الرغبة الإنسانية بالله، الذوبان في الرغبة الإلهية بحيث تكون واحدة؟

 

 

 

المصادر:

  1. أبكتيتوس، المختصر، ترجمة عادل مصطفى، مؤسسة هنداوي سي آى سي، المملكة المتحدة 2017.
  2. طارق عبد المحسن، الفلسفة العملية عند أبكتيتوس الرواقي، مراجعة وتقديم مصطفى النشار، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2014.
  3. برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية: الكتاب الأول، الفلسفة القديمة، ترجمة زكي نجيب محمود، مراجعة أحمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة2010.
  4. سفيان البطل، القيم الإنسانية في الفلسفة الرواقية- نموذج أبكتيتوس، مركز أفكار للفلسفة والأبحاث 2020. متاح على:                                      https://afkaar.center/2020/07/08
  5. Keith H. Seddon, Epictetus, in Internet Encyclopedia of Philosophy available on: https://iep.utm.edu/Epictetus
  6. Chris Fisher, The Religious Sentiment Of Epictetus,17/11/2021, available on : https://traditionalstoicism.com/the-religious-sentim


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الله والإنسانفلسفة أبكتيتوس

المقالات المرتبطة

الحركـة الجوهريـة والدِّيـن

تتَقَاطعُ الفلسفة عمومًا مع الدّين في المسائل العامة التي تكون موضع بحث مشترك فيما بين الاثنين، ويتمايزان من بعضهما بأن لكلٍ طريقته في الوصول والإيصال

النبي محمد (ص) قِيَم الأمة وقيمتها الكبرى

تقوم الثقافة الحضارية في عالم اليوم، على إعادة إحياء مبحث القيم، كرافعة إنسانية لكل معالم الوفرة العلمية، والسياسية، والتقنية، والفكرية،

قراءة في المدرسة الإيكوية ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده للدكتور علي زيتون

ارتبط اسم إمبرتو إيكو بروايته الفريدة “اسم الوردة”. وهي رواية متفرّدة تنفتح سياقاتها الرّوائيّة المشوّقة، والفكريّة المحفّزة على تساؤلات وإشكالات

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<