عاشوراء: إحياء التغيير

by الدكتور طلال عتريسي | أغسطس 1, 2022 1:13 م

ربما لا يوجد حدث في التاريخ الإسلامي أدّى دورًا “مركزيًّا في تحديد هوية الشيعة مثل استشهاد الإمام الحسين (ع) ورفاقه في كربلاء. فقد التزم الشيعة ما دعاهم إليه أئمتهم: “أحيوا أمرنا”. لكن طقوس إحياء عاشوراء لم تبق خلال القرون الماضية على ما هي عليه، من مجالس التعزية إلى تشبيه واقعة عاشوراء تشبيهًا مسرحيًّا، إلى أنواع اللطم والتطبير، ومواكب العزاء العامة… لكن زيارة مرقد الإمام الحسين لم تنقطع طوال تلك القرون.

اكتسبت شعائر إحياء هذه المناسبة أشكالًا عدة عكست تنوع الثقافات والجماعات التي حملتها وقامت بممارستها. فيعتبر إسحاق النقاش في هذا المجال “أن الشعر الذي استخدم في قراءة مجالس العزاء في العراق في منتصف القرن التاسع عشر عكس القيم الأخلاقية والصفات الإثنية للجماعات الشيعية المختلفة. فكان أغلبية سكان العراق الشيعة عربًا من أصول بدوية وحديثي العهد باعتناق الإسلام الشيعي. وكانت صفات الرجولة المثالية عند العرب (المروءة)، أي الفحولة والشجاعة والعزة والشرف والفروسية، تلعب دورًا مهيمنًا في تحديد القيم الأخلاقية ونظرتهم إلى العالم. وقد تجسدت هذه الشخصية العشائرية العربية القوية للمجتمع الشيعي العراقي في صورة العباس، ابن الإمام علي وأخ الحسين غير الشقيق. فقد أتت الحكايات الشيعية الأولى عن المعركة في القرن العاشر والقرن الثالث عشر، على ذكر العباس باختصار شديد. وبخلاف ذلك فإن شخصية العباس في الروايات الشيعية العربية للمعركة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانت شخصية مطورة تطويرًا متقدمًا وتبرزه بطلًا مركزيًّا في المعركة. وكانت النصوص والأشعار العربية في مجالس التعزية تؤكد على صفات العباس الجسدية القوية وتقارنه بالأسد الهصور* * (إسحاق النقاش، شيعة العراق، دار المدى، دمشق، الطبعة الثانية 2003، ص 261-263).

كما تأثرت طريقة إحياء المسيرات نفسها بانتماءات المشاركين فيها الإثنية والسياسية. ففي العراق على سبيل المثال كانت الهويات الإثنية المختلفة للسكان الشيعة وموقفهم من الحكومة تظهر على السطح خلال المواكب العامة في العراق. فالمواكب كما كانت تقام في الكاظمين كانت تبين الاختلاف بين العرب والفرس. إذ إن المشاركين الفرس كانوا في العهد العثماني يقدمون فعاليتهم أمام القنصل العام الإيراني مؤكدين بذلك هويتهم الفارسية… أما العرب فكانوا على النقيض من ذلك يؤدون شعائرهم أمام سادن الحضرة الذي كان معينًا من قبل الحكومة. وكان الاختلاف الأساسي في موقف المشاركين العرب والفرس من مشروعية الحكم الملكي العراقي قد ظهر على السطح منذ عام 1921. ففي ذلك العام حضر الملك فيصل مواكب العاشر من محرم في الكاظمين. ويذكر في أحد التقارير أن السيد محمد الصدر أراد تغيير المناسبة وإجبار الفرق العربية والفارسية على الاستعراض أمام الملك. وفي حين أن العرب فعلوا ذلك فقد رفض الفرس الاعتراف بسلطة الملك مصرّين على الاستعراض أمام مقصورة القنصل العام الإيراني فقط. (نقاش، المرجع نفسه، ص273). كما كانت المواكب تعكس جوانب مختلفة من حياة المجتمعات الشيعية وبنيتها في مناطق مختلفة من العراق… وكانت تبين العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة وتشير إلى المركز الديني للعوائل المتعلمة والسادة وشيوخ العشائر الكبار والوجهاء والناس الاعتياديين حسب موقعهم الاقتصادي-الاجتماعي النسبي في المجتمع. إذ كانت مواكب العزاء في النجف على سبيل المثال تعرف بأنها مواكب “الأصناف” حيث كان أعضاء الحرف المختلفة وطلاب المدارس الدينية وخدام الأضرحة والسادة يسيرون في مجاميع تشكل حسب الطبقة المتفردة والانتماءات المهنية للمشاركين؛ أي أن الشيعة نقلوا إلى عاشوراء ما كانت عليه مجتمعاتهم من انتماءات عشائرية وقبلية وعرقية وسياسية واجتماعية واقتصادية. وتدخلت هذه الانتماءات المختلفة في طريقة إحياء المناسبة وفي التعبير عن دلالاتها. فغالبًا ما كانت العوائل الدينية والعشائرية الكبيرة وغيرها من العوائل النخبوية في العراق ترعى المواكب في مجتمعاتها. وكانت بهذا لا تسعى إلى اكتساب احترام المجتمع فحسب، بل وإلى صيانة مركزها وسلطتها داخل المجتمع… وكان الموكب الكبير في كربلاء يؤكد الهويات المختلفة للفئات والطبقات المحلية، ويشير إلى الأهمية النسبية للمجتمعات والمدن الشيعية في العراق. وكانت رعاية موكب من المواكب تمكن الأفراد والعوائل من إعلان مركزهم خارج مناطقهم. وكان بالإمكان حساب ثروتهم من المبلغ الذي أنفقوه على القماش والأدوات…

لم يقتصر اهتمام علماء الشيعة على تقليد الاحتفاء بعاشوراء الذي ارتبط بالمذهب، بل رفض بعض كبار علمائهم وعائلاتهم الدينية أن يتحول هذا الإحياء “كما تمارسه العامة” (التطبير والضرب بالسلاسل…) إلى تشويه المذهب والإساءة إلى صورته. كما انشغل هؤلاء العلماء بمواجهة المتغيرات السياسية التي كانت تارة تمنع الشيعة من إحياء المناسبة، وتتسامح معهم تارة أخرى. لكن أحدًا من المجتهدين لم يعترض على أهمية البكاء في تعزيز الهوية الشيعية. (في مواجهة من انتقد الإفراط في النحيب ولطم الوجوه)[1][1]. وجادل أنصار هذه الممارسات بالقول إنها جزء من الرموز الدينية للمذهب الشيعي. فكتب أحد أفراد عائلة كاشف الغطاء “إن البكاء ولطم الوجوه هما من أكثر أعمال الطائفة وأسرارها قدسية، وإنها تحيي ذكرى الحسين وتعزز التضامن الديني” (نقاش، المرجع نفسه، ص 278).

تأثر إحياء ذكرى عاشوراء وأشكالها بأحوال الشيعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلدان التي عاشوا فيها. فهي سرية وفي الخفاء وفي البيوت بعيدًا عن الأعين عندما تمنع السلطات الحاكمة الشيعة من الاحتفاء بالمناسبة. وهي علانية وأمام الملأ إذا اتسع صدر الحكام لقبول مثل هذه الطقوس. ولذا واجه علماء الشيعة مستويات عدة في التعامل مع عاشوراء. فهم من جهة  يريدون المحافظة على استمرارها في مواجهة السلطات التي كانت تمنع إحياءها بين عهد وآخر. وهم من جهة ثانية حريصون على  تشذيب النص العاشورائي مما أُدخل عليه من مبالغات أو تشويه، حتى لا يطغى طابع الخرافة على الذكرى التي يفترض بها أن تكون حافزًا للشيعة، وصورة عنهم.

يروي السيد محسن الأمين في “سيرته” أن المجالس التي كانت تقام في طفولته، أي في نحو العقد الثامن من القرن التاسع عشر، كان يقرأ فيها في أثناء الليالي العشر الأولى من كتاب ضخم مؤلفه من البحرين واسمه “المجالس” وفيه عشرة فصول طويلة كل فصل مخصص لمجلس. ويلاحظ محسن الأمين أن في هذا الكتاب تشويهًا للتاريخ، وأحاديث مكذوبة أشبه بالأساطير. ومع ذلك فإنه كان مقدرًا عند الناس في جبل عامل… ولم تكن هذه المجالس تخضع لنظام احتفالي، فقد كان المشاركون فيها يدخنون ويتحادثون كما لو كانوا في مقهى حول الراوي. ولم تكن مطردة ولا منظمة. * *(صابرينا ميرفان، حركة الإصلاح الشيعي علماء جبل عامل وأدباؤه من نهاية الدولة العثمانية إلى بداية استقلال لبنان، دار النهار، بيروت، الطبعة الأولى 2003، ص 293).

وقد ربط كثير من الباحثين ومن العلماء بين ما يقوم به الشيعة في أيام عاشوراء خصوصًا في اليوم العاشر، من سرد ومسيرات ولطم أو تطبير (جرح الرؤوس) بتخلف الشيعة. خاصة عندما يترافق هذا “الطقس” مع ضرب الجسد بالسلاسل أثناء المسيرات في اليوم العاشر من المحرم. واعتبر معظم هؤلاء أن مغادرة التخلف تبدأ من التخلي عن ما يفعله الشيعة في عاشوراء. فاعتبروا عاشوراء هي المدخل، مثل ما كانت على الدوام هي المدخل لفهم شخصية الشيعة أو لتشكيل هويتهم ليس الدينية فقط بل والاجتماعية أيضًا.

لم يكن النقاش حول ظاهرة التطبير بين مؤيد ومشجع، وبين معترض ومستنكر جديد على علماء الشيعة. ويفترض منتقدو هذه الوسائل في إحياء عاشوراء أن مواجهة التخلف تبدأ من هنا، وأن التخلي عن كل ما يمت إلى المبالغات أو إيذاء النفس هو إيذان بمغادرة الشيعة التخلف إلى الانفتاح والعقلانية والتقدم. لكن النقاش في أوساط العلماء ينطلق من معايير أخرى أيضًا تتصل بحلية التطبير وحرمته. فيذهب بعض من ينهى عنه والفتيا بمنعه أو حرمته إلى أنه ليس من أصل الشعائر، بل “لأنه قد يوهن المذهب” كما يقول السيد علي الخامنئي مرشد الثورة في إيران. ويلتقي مع هذا الاعتراض على التطبير علماء آخرون في لبنان مثل السيد محمد حسين فضل الله والسيد محسن الأمين وآخرون.

وبما أن إحياء عاشوراء هو مناسبة سنوية لا يفوتها الشيعة إطلاقًا في كل أنحاء العالم ومن بينها لبنان، فإن دعوات النقد والاعتراض تتجدد أيضًا في كل عام لجهة التغيير “والتخلص من الخرافات”… ولا يقتصر أمر هذا النقاش على لبنان وحده، بل نشهد مثيلًا له في البلدان الأخرى التي يحيي فيها الشيعة عاشوراء، مثل البحرين والكويت والعراق… وحتى في إيران نفسها قبل انتصار الثورة وبعدها. ويؤكد منتقدو (التطبير) على الصورة السلبية التي تقدمها هذه الطريقة عن “المذهب” في عيون الآخرين، بحيث تمنع عاشوراء من أن تكون فكرة مفتوحة على العالم الإسلامي كله، فلا تبقى حبيسة جدران الشيعة وعواطفهم وانفعالاتهم ومبالغاتهم (السيد فضل الله)؛ أي أن التحفظ هنا يلقي على عاتق الشيعة مسؤولية الصورة التي ينبغي تقديمها إلى “الآخرين”، بحيث تكون صورة إيجابية وغير منفرة.

يرد المدافعون من خلال الروايات والأحاديث عن مشروعية اللطم والتطبير. ورفض التخلي عنه أو إدانة كل ما يمارسه الناس من وسائل في إحياء المناسبة. فهذا يعود إليهم “طالما أن ليس في الأمر نهي شرعي ولا قبح عقلي… “(1). (راجع على سبيل المثال كتاب السيد جعفر مرتضى العاملي: مراسم عاشوراء شبهات وردود، المركز الإسلامي للدراسات بيروت، الطبعة الثانية 2003). وإذا ما لحق ببعض الممارسات شوائب معينة “فلا يصح أن يكون ذلك سببًا للحكم على الشعيرة ككل… لأن تعظيم شعيرة الإحياء الحسيني أمر مطلوب بقدر الوسع الإنساني طالما أنه لم يدخل في الدين ما ليس منه، ولم يوقع صاحبه بأي مخالفة شرعية، وطالما أنه يحافظ على قيم الإسلام في سلوكياته، والعبادة…”. ولذا يجب أن تنضبط المراسم العاشورائية بجملة من الضوابط الشرعية والعقلائية… ليصدق عليها أنها علامات تشير إلى طريق الحق والعدل والهداية، لا أن تتحول إلى مثيرات للجهل واستتباع الحاكم والفتن… ** (شفيق جرادي، الشعائر الحسينية من المظلومية إلى النهوض، سلسلة أدبيات النهوض، معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، ص13 و17).

يؤكد الشيخ شفيق جرادي حول العلاقة بين تخلف الشيعة وبين طريقة إحيائهم لعاشوراء، “على ضرورة انسجام المراسم الخاصة بإحياء الشعائر الحسينية مع أمرين اثنين: أولهما، الأهداف والغايات والمقاصد التي حملتها نهضة الإمام الحسين والتي لا بد أن تنعكس في أساليب إحياء تلك الأهداف.. في كل عصر من العصور.. بحيث لا بد من المراجعة الدائمة للبحث عن وجوه العلاقة بين الأهداف والأساليب المستجدة، وابتداع أساليب أكثر تلاؤمًا ووفاقًا مع الهدف الحسيني النهضوي… وثانيهما، مدى انسجام الأساليب والمراسم مع الاستجابة الموضوعية لأبناء كل عصر…” (جرادي، المرجع نفسه، ص 35).

تستند هذه الفكرة إلى ضرورة انسجام الشعائر وأساليب التعبير عنها مع التحولات الاجتماعية أو الإعلامية أو الثقافية في كل عصر؛ بمعنى أن المهم هو استمرار إحياء الشعائر. أما الكيفية فتترك للظروف وللضرورات أو للمتغيرات التي تفرض نفسها في كل عصر. “فلو سلمنا على سبيل المثال أن الناس في وقت من الأوقات كانوا يفهمون أن المقصود من التطبير والضرب بالقامات والسلاسل، معنى رفض المظلومية.. فهل هذا المعنى ما يزال يفهمه أبناء جيلنا اليوم من هذا العمل؟ أم أنهم سيستنتجون منه مقاصد ومفادات سلبية تعني التخلف والعنف الأعمى والإحباط وغير ذلك؟

إن إحياء عاشوراء، “وفقًا للظروف والضرورات والمتغيرات التي تفرض نفسها في كل عصر”، لا يمكن أن يكون تغيرًا تلقائيًّا، بل لا بد أن يترافق أو أن يُسبق، بحسب ما نفترض، مع تغير مماثل في أحوال الشيعة السياسية والاجتماعية والثقافية… بحيث يكون هذا التغير هو المؤثر الأقوى على كيفية إحياء عاشوراء وعلى فهم مضامينها والتعبير عنها. وسنحاول التأكد من هذا المؤثر من خلال ملاحقة تغير أحوال شيعة لبنان لنتبين كيف أثر هذا التحول على إحياء مراسم عاشوراء سنة بعد أخرى. وكيف باتت عاشوراء تعكس في لياليها العشر ما يجري في المجتمع الذي يعيش فيه الشيعة والظروف السياسية وغير السياسية التي يمر بها الشيعة سواء في مواجهة الاحتلال كما في تجربة لبنان، أو في مواجهة الحاكم الظالم كما في تجربة إيران، أو في المطالبة بالعدالة ورفع الظلم كما في تجارب بلدان عربية عدة لم يحصل الشيعة فيها على حقوق متساوية مع المواطنين الآخرين… وسوف نلاحظ كيف تغير إحياء عاشوراء عند شيعة لبنان (شكلًا ومضمونًا) بالمقارنة مع الماضي عندما كانوا في حالة من التهميش السياسي والاجتماعي والمذهبي، وبعدما انتقلوا إلى حالة أخرى من الفاعلية السياسية والاجتماعية والمذهبية؛ أي أن المقصود هو مراقبة كيف تغير إحياء عاشوراء مع تغير أحوال شيعة لبنان… وكيف كانت عاشوراء على سبيل المثال طقسًا داخليًّا مغلقًا ومنعزلًا يقال فيه ما يتنافى في أحيان كثيرة مع العقل والمنطق… قبل نصف قرن،  وكيف أصبحت احتفالًا شعبيًّا واسعًا يتابع ما يجري وما يقال فيه مئات الآلاف في لبنان والعالم. فهل الذي فرض هذا التغير هو تقنيات الاتصال التي أصبحت أكثر تطورًا، أم أن وضع الشيعة هو الذي تغير وبات أكثر تطورًا؟

بعيدًا من النقاش الفقهي حول مشروعية اللطم أو التطبير، وصحة أو عدم صحة الأحاديث التي تحض على ذلك. فإن ما نود التأكيد عليه أن ما يعتبره البعض تخلفًا عند الشيعة ليس مصدره طرق إحياء عاشوراء. بل هو يتأتى من عوامل أخرى سياسية واجتماعية… بمعنى أنه كلما زاد تخلف الشيعة وتراجعت فرصهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية تراجعت طرق إحيائهم لعاشوراء باتجاه الانغلاق والمبالغات بأشكالها كافة. وكلما ابتعد الشيعة أو أبعدوا عن الحياة السياسية والاجتماعية ازدادت عاشوراء بالمقابل عزلة وازداد إحياؤها سرية وتقوقعًا، وارتفع منسوب ما يقال فيها من المبالغات والأساطير.. وينطبق هذا المبدأ على الشيعة في معظم المناطق والبلدان التي عاشوا فيها. لذا إن من يقترح التغيير في طريقة إحياء عاشوراء لتغيير واقع “التخلف” الشيعي، باتجاه الانفتاح والعقلانية… سيجد في تجربة شيعة لبنان مع عاشوراء مسارًا مختلفًا عن تلك الدعوة وعن تلك الفرضية… لأن تغير أحوال الشيعة وزيادة مستوى وعيهم وفرص مشاركتهم في الحياة السياسية… هو الذي سيؤثر على طريقة إحياء عاشوراء؛ أي أن التغيير الذي يمكن أن تتعرض له الشعائر وطريقة إحيائها سيبدأ من “خارجها”، أي من البيئة التي تحيط بالناس الذين يؤدونها. لأن مستوى الوعي هو الذي سينعكس على طريقة الإحياء وليست طريقة الإحياء هي التي سترفع الوعي أو تخفض مستواه. هذا مع الالتفات إلى استمرار بعض الشعائر أو الطقوس التي تتعارض لدى كثير من الشعوب، مع  مستوى الوعي، أو التقدم، أو التطور العلمي والصناعي الذي بلغته مجتمعاتها. مثل ما يحصل في الغرب نفسه في مناسبات مسيحية تبدو طقوسها خارج أي عقلانية غربية.

تختلف الروايات التاريخية وحتى الشيعية منها عن بداية إحياء عاشوراء، لكن الجميع يتفق على “أمر إحيائها”، استنادًا إلى حديث: “أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا”. وكانت مجالس العزاء أول ما ظهر من هذه الشعائر بعد كربلاء مباشرة. وقد استمرت سرًّا في البيوت في العهد الأموي. كما كانت تحصل بالطريقة نفسها في بيروت في مطالع القرن العشرين مع بدايات توافد الشيعة من الجنوب والبقاع إلى العاصمة بحثًا عن العمل.

وينسب الكثيرون تقاليد المواكب العاشورائية ومسيرات اللطم والتطبير إلى مراحل لاحقة. فيرى البعض أن المجالس أقيمت علنًا في العهد العباسي في القرن العاشر الميلادي في بغداد وحلب والقاهرة. وسميت الأماكن التي يجتمع فيها الناس “الحسينيات”. وهي التسمية التي لا تزال تستخدم إلى اليوم في الأماكن التي يقطنها الشيعة في بلدان العالم كافة ومنها لبنان، حيث يجتمعون لإحياء ذكرى عاشوراء. إلا أن اللافت أن هذه الحسينيات باتت تستخدم أيضًا لأغراض أخرى أكثر تنوعًا، سياسية واجتماعية، كما نلحظ ذلك عند شيعة لبنان…

كان الناس يجتمعون في هذه الحسينيات فينشدون المراثي ويقرؤون المقاتل ويبكون وينتحبون. ثم أصبحت مجالس العزاء تقام بعد ذلك طوال الأيام العشرة الأولى من شهر محرم… أما المواكب الحسينية فيعيد المؤرخ ابن الأثير تاريخها إلى سنة 963، ويقول: إن معز الدولة، أول البويهيين، قد أعلن الحداد على الحسين في يوم عاشوراء من تلك السنة، ومنذ ذلك الحين بدأ الشيعة بالطواف في شوارع بغداد*…*(ميرفان، المرجع نفسه، ص 286). أما الشعائر التي تقوم على أذى النفس (التطبير، والضرب بالسلاسل.. ) والتي كانت معروفة قديمًا في العقائد السائدة في الشرق الأوسط، “فإنها لم ترافق عاشوراء إلا في زمن متأخر. ويرى البعض أن الشيعة في شمال إيران هم أول من بدأ ممارسة التطبير عام 1640م، وقد أتتهم من القوقاز وأذربيجان. ولم تصل إلى داخل إيران والبلاد العربية إلا في القرن التاسع عشر. ويفترض إسحاق النقاش أنها أتت من زمان أبعد بكثير، إذ يعتبر أن شعائر التطبير دخلت شرق الأناضول والقوقاز أول الأمر آتية من بلاد الرومان… وأن التطبير أدخل إلى النجف وكربلاء بواسطة الزوار من الترك الآتين من القوقاز وأذربيجان…

كان الاحتفال بذكرى موقعة كربلاء ينتشر بلا عناء في عهدي الصفويين والقاجاريين. ودعمت حكومات الملوك الصفويين والقاجاريين المسرح الديني الذي انتشر في المدن والريف، ثم نظموه في المدن الكبرى واستعملوه في تثبيت حكمهم. وقد دام الأمر على هذه الحال حتى عهد ناصر الدين شاه (1846-1896) إذ انقلبت أداة الترويج هذه، أي تمثيل فاجعة كربلاء، على الحكام واستعملها المعارضون وأنصار الدستور في ترويج أفكارهم، فما كان من رضا شاه بهلوي إلا أن منع إقامتها سنة 1935م ولكنه لم يستطع محوها، إذ أصبحت تقام في الأرياف.

لم تعرف عاشوراء على مستوى ما يقال فيها، أو في طريقة إحيائها أو حتى في توظيفها سياسيًّا واجتماعيًّا، مسارًا واحدًا من دون تعرج أو من دون مد وجزر. فقد ارتبط ذلك الإحياء بما تعرض له الشيعة من ضغوط في داخل المجتمعات التي عاشوا فيها. فاستخدمت عاشوراء لتثبيت حكومات في العهود الصفوية والقاجارية، ولإكسابها شرعية شعبية من خلال تشجيع المراسم والمشاركة فيها. ثم تحولت هذه  المراسم نفسها إلى التمرد على رضا شاه بهلوي، الذي منعها ولم يستطع القضاء عليها. وكانت عاشوراء التي يأتي الناس إلى المشاركة فيها بدوافع حب الحسين ومظلومية آل البيت، أسيرة ما يرويه القراء الذين لم يخضعوا في ما كانوا يقولونه إلى أي رقابه. فكانت المبالغات من جانبهم تستهدف تظهير حجم الفاجعة وحجم المظلومية بروايات أسطورية في بعض الأحيان تتنافى مع أهداف عاشوراء نفسها ومع دوافع الإمام الحسين وبما يتنافى مع أي عقل أو منطق. وقد كان مقياس النجاح بالنسبة إليهم هو في مدى حض الناس على البكاء أو اللطم. وقد تناول الشهيد مطهري هذه الظاهرة التي كانت لا تزال مستمرة في إيران بالنقد، قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران في كتابه “الملحمة الحسينية”*(الملحمة الحسينية، الدار الإسلامية، بيروت، 1990). “وكان هؤلاء القراء يشكلون جماعة منظمة مستقلة أو خفية، في ثلاثينيات القرن العشرين، ولئن كان رجال الدين يحتقرونهم، فإن الناس كانوا يجلونهم لقربهم منهم”. (ميرفان، المرجع نفسه، ص 289).

تراوح إحياء عاشوراء بين السماح والمنع. وفي كل مرة كان الشيعة يستجيبون بالمحافظة على إحياء المراسم بما يتناسب مع الأوضاع التي يمرون بها من تسامح أو ظلم. فإما أن تقام المراسم علانية ويسمع الجميع ما يقال فيها ويشارك الحكام أو الولاة، أو يعود الإحياء مجددًا إلى الخفاء والسرية. لكن الشيعة لم ينقطعوا يومًا عن إحياء المراسم. لقد اختلفت الطريقة فقط ومعها بعض مضامين ما يروى في السيرة من مبالغات. وكان من الطبيعي أن يرتفع منسوب هذه المبالغات كلما كان الإحياء سرًّا ليس فقط لأنه بعيد عن الأعين، بل لأن الإحياء سرًّا يتم في حالة من المظلومية المباشرة التي يتماثل فيها الشيعة بسهولة ومن دون عناء أو جهد مع مظلومية أهل البيت ومظلومية الإمام الحسين(ع). فعندما منعت السلطات العثمانية إقامة مجالس العزاء بعدما سمح بها الوالي علي رضا في بغداد عام 1831 “عادت إلى البيوت وإلى الدهاليز حيث كانت تقام في الخفاء”* *(إبراهيم الحيدري، “تراجيديا كربلاء سوسيولوجيا الخطاب الشيعي”، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الأولى 2002، ص64. وكذلك ميرفان، المرجع السابق، ص 290). ومع تراجع السيطرة العثمانية وضعف السلطنة العام في نهايات القرن التاسع عشر، ومع سياساتها المتناقضة اتجاه الشيعة (تحسن وضع الشيعة في اسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني) تعاظمت في العراق منذ 1890 ظاهرة إقامة الشعائر في عاشوراء. وترافق ذلك مع تشيع القبائل وتعاظم أثر المجتهدين على الناس. إلا أن السلطة لم تكن تستطيع، أو لم تكن تريد إيقاف ذلك. فقد كانت سياساتها المتناقضة قد أوصلتها إلى ترك الناس في العتبات المقدسة يقومون بهذه الشعائر التي كانت دلائل واضحة على انتصار التشيع في العراق. (ميرفان، ص 291). ولم يختلف الأمر كثيرًا في جبل عامل إذ تتفق معظم الروايات المتناقلة أن العامليين كانوا يقيمون هذه المجالس في بيوتهم لكي يختفوا عن أنظار العثمانيين الذين منعوا إقامتها في العلن. فقد كان الجنود يقومون بدوريات لرصد ما قد يقوم به الشيعة من احتفالات دينية، وكان الناس يوقفون أولادًا في الأزقة يراقبون مرورهم فينذرون المجتمعين، فإذا دخل الجنود عليهم وجدوهم يشربون الشاي أو يقرؤون القرآن…

تأثر إحياء عاشوراء بالتطورات الاجتماعية والسياسية التي سيشهدها الشيعة في تغير أحوالهم السياسية والاجتماعية. كذلك سيشهد قراء العزاء بدورهم تغيرات ملحوظة ليس في السيرة التي يقرؤونها فقط، بل وحتى في طرق إعدادهم وتدريبهم. وربما سيكون ذلك لأول مرة في تاريخ الشيعة التي يحصل فيها مثل هذا التنظيم والإعداد لقراء العزاء ولمحاولة ضبط وتشذيب ما يروى في السيرة الحسينية، كما حصل في التجربة اللبنانية التي شهدت مع حزب الله تحولًا لافتًا في طريقة تنظيم وإحياء مجالس العزاء العاشورائية.

بدأت محاولات “إصلاح مجالس العزاء” في جبل عامل في النصف الثاني من القرن الماضي. فجمع موسى شرارة العائد من العراق( 1880 )الكتب المستعملة في المجالس واستبدلها بآخر أتى به من العراق (مقتل ابن طاووس) اتباعًا لما كان سائدًا في إيران والعراق. واتبعه الناس في ذلك – كما يقول السيد محسن الأمين- ولم يكتف موسى شرارة بذلك، بل أسس لمجالس عاشوراء على مدار السنة. فأقام مجالس أسبوعية في بيته يلقي فيها المواعظ، ويدرس الطلاب… كما أنه وسّع نطاق الشعائر المتصلة بالاحتفال باستشهاد الإمام الحسين وذلك بإقامة مجالس التعزية عن أرواح الموتى، بالإضافة إلى المجالس الأسبوعية. وكان كل ذلك يساهم في دفع الناس إلى التدين، وفي توجيههم نحو ثقافة علمية إلا أنها في متناول الجميع، وفي الحفاظ على روح الاحتفال بعاشوراء على مدار السنة. أضف إلى ذلك أن توزيع الطعام باطراد أضاف شكلًا من أشكال التعاضد الاجتماعي على هذه الاحتفالات. ولم يكن بالإمكان اعتبار هذا الإصلاح القائم على إدخال عناصر خارجية جديدة من باب البدع القبيحة، بل من باب البدع الحسنة، ولا سيما أن من أدخلها مجتهد مشهود له بالعلم والاستقامة. (ميرفان، ص295).

إلا أن هذا الإصلاح للمجالس لم يمنع أمرين اثنين:

 الأمر الأول: هو عودة إحياء الشعائر الذي ترافق مع “أذى النفس” –بعدما أدخل إيرانيون كانوا قد استقروا في جبل عامل – هذه الشعائر إلى النبطية. فقلدهم العامليون في إقامتها. ثم تعاظم عددها، فانتشرت المواكب واستقطبت الجماهير من القرى المجاورة…

الأمر الثاني: هو أن هذا الإصلاح لم يؤد لاحقًا إلى التغيير في واقع الشيعة الثقافي أو الاجتماعي، بل عاد الشيعة بسهولة وبعد بضع سنوات فقط إلى الاحتفال بعاشوراء وهم يضربون أنفسهم بالمدى والسيوف ويمثلون واقعة كربلاء، على الرغم من إعلان علماء ووجهاء من النبطية أن هذه البدعة خارجة عن الشرع”. (ميرفان، ص 297).

حاول السيد محسن الأمين بدوره “إصلاح مجالس العزاء”. فدرّب جيلًا جديدًا من القراء يتقنون العربية الفصحى… وكان همه الأول إنشاء مدارس لقراء التعزية… وتلقينهم الروايات والأحاديث الصحيحة غيبًا، بالإضافة إلى القصائد الجميلة وإبعاد كل رواية كاذبة عنهم. وقد طبق نهجه هذا على المقربين منه من تلامذته… واختار شبابًا مثقفين يعرفون إحدى اللغات الأجنبية فشكلوا جيلًا جديدًا من القراء ليحلوا محل الجيل القديم… (ميرفان، ص 302).

إن أهم ما يستحق التأمل في محاولات الإصلاح التي يتحدث عنها السيد محسن الأمين أنها حصلت من خارج سياق تحولات الشيعة الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولذا كانت هذه المحاولات هشة ومعزولة على الرغم من أهميتها؛ إذ سرعان ما يعود الناس عنها إلى شعائر الإحياء القديمة التي تستعاد فيها عمليات التطبير والضرب بالسلاسل. وما يؤكد هامشية حركة إصلاح الشعائر العاشورائية ما يرويه السيد محسن الأمين نفسه، عندما اضطر إلى الاستعانة بالشرطة في دمشق في حرم السيدة زينب لمنع الشعائر المتعلقة بأذى النفس ولإجبار من يقوم بها على احترام أوامره. فاستطاع بذلك أن يبطل الشعائر العنيفة لفترة… لأنها استعيدت بعد موته بزمن. (ميرفان، ص 304). ولم تتوقف تلك الشعائر على الرغم من فتاوى علماء كثر بتحريمها.

ما يمكن ملاحظته على مستوى آخر في تعامل علماء الشيعة والمجتهدين مع عاشوراء أنهم كانوا جميعًا متفقين على ضرورة إحياء مراسمها والتأكيد على المعاني المختلفة لاستشهاد الإمام الحسين(ع).. إلا أن هؤلاء العلماء اختلفوا في مسألتين: طريقة الإحياء، (التطبير والاعتراض عليه…)، ووظيفة عاشوراء، (السياسية المباشرة أو الدينية والتعليمية)، وذلك تبعًا لمدى انخراط هؤلاء العلماء في القضايا السياسية ولمدى فهمهم للعلاقة بين الديني والسياسي. هكذا سنجد على مر العصور من علماء الشيعة من يشدد على طريقة إحياء عاشوراء وعلى تنقيتها من “الشوائب والمبالغات”، في حين سيشدد آخرون إما على أبعادها الإنسانية أو المأساوية من خلال ما تعرض له الإمام الحسين وصحبه في كربلاء، أو على مظلومية الإمام الحسين كامتداد لمظلومية الشيعة الذين منعوا حقهم منذ وفاة النبي الأكرم (ص). في حين سيستلهم آخرون من عاشوراء ضرورة التصدي للحاكم الظالم في كل عصر بغض النظر عن دين هذا الحاكم ومذهبه. بحيث تحولت عاشوراء لدى هذا النوع من العلماء إلى مناسبة سنوية – بالإضافة إلى مجالس العزاء الأخرى المتواصلة على مدار السنة، يعملوا من خلالها على رفع مستوى وعي الشيعة السياسي، ودفعهم إلى مواجهة الظالم أو المحتل. وأصبح يزيد الذي أمر بقتل الحسين رمزًا للطغاة ونهجًا سياسيًّا يمكن ملاحظته ومواجهته في كل عصر، وليس مجرد شخص عاش في قرون مضت…

بعد الثورة الإسلامية في إيران التي قادها الإمام الخميني عام 1979 وأطاح من خلالها بالشاه، طغى البعد السياسي على إحياء عاشوراء، باعتبارها حافزًا لمواجهة الحاكم الظالم والفاسد. فقد تتالت حركة التظاهرات في المواجهة مع الشاه على وقع مجالس العزاء التي بدأت في أيام عاشوراء وتواصلت مع تشييع الشهداء الذين سقطوا برصاص جنود الشاه. كان الإمام الخميني يؤكد: “إن كل ما عندنا هو من عاشوراء”؛ وهو يقصد بذلك القول إن كل وعينا الديني والسياسي والقدرة على التضحية والمواجهة هي من ثمار مدرسة عاشوراء التي تربى عليها الشيعة… والتي تقول بواجب النهوض لمواجهة الظلم والانحراف، بغض النظر عن النتائج المتوقعة من حركة النهوض.

ساهم الواقع الإيراني السياسي والديني في إتاحة الفرصة لتوسع إحياء مراسم عاشوراء مقارنة مع العراق على سبيل المثال “فقد اعترى حرارة شعائر محرم وفاعليتها كأداة سياسية ضعف شديد مع تأسيس الدولة الحديثة في العراق”. وكان الإجراء الحاسم الذي اتخذه حكام العراق ضد شعائر محرم جزءًا من محاولتهم الحفاظ على هيمنة السنة في الدولة… كانت الشعائر خلال الحكم الملكي تقام تحت رقابة صارمة. في حين كان الإسلام الشيعي دين الدولة الرسمي في إيران… وكان آل بهلوي يسعون إلى كسب الشرعية بين الشيعة وتعزيز موقعهم في إيران من خلال إحاطة هذه الشعائر برعايتهم. وهكذا كان محمد رضا شاه حتى عام 1955 يوزع الهبات السنوية على مجموعات لاطمي الصدور في قم، بحيث كان التعبير عن الحزن الجماعي على موت الإمام الحسين في إيران، أكثر بكثير منه في العراق، ويتجاوز الحدود الزمنية لشعائر محرم.. ويلاحظ المؤرخ الإيراني كسروي: “أنه بحلول الفترة القاجارية أصبح الإيرانيون منهمكين في شعائر ومراسم مختلفة لمناسبة موت الحسين، مكرسين نصف حياتهم لهذه الغاية…”، وأن الاندماج بين الدين والدولة في إيران مكّن  قراء العزاء (الروزخون) من تناول قضايا تتجاوز واقعة كربلاء. إذ كان باستطاعة القارئ أن يستخدم مناسبة عاشوراء للتأكيد على تظلمات السكان الاقتصادية– الاجتماعية، وتعبئة الناس للعمل السياسي. وأن خصوصية المجتمع الإيراني جعلت من الأسهل على (الروزخون) أن يحول مشكلة المعاناة الدينية إلى مشكلة الشر السياسي والحاكم الظالم، وأن يستخدم تعازي محرم لإثارة الاحتجاج السياسي. وكان المجتهدون الكبار في أحيان كثيرة يلقون خطب التعازي في إيران مستخدمين المناسبة للتطرق لقضايا سياسية راهنة. وأثبتت “خطب الروزة” في إيران فاعليتها في تعبئة الناس للعمل السياسي حتى الستينيات والسبعينيات. وفي عام 1963 ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالحركة الاحتجاجية الكبيرة ضد الحكومة. وفي عام 1978 قامت خطب التعازي بدور مهم في إطلاق التظاهرات الجماهيرية التي أدت في النهاية إلى رحيل الشاه عن إيران. (نقاش، ص 280-284). وفي العراق أيضًا “أخذت مراسم العزاء الحسيني منذ عام 1921 تسلط الأضواء على تظلمات الشيعة، وتحول هذه المناسبة الدينية إلى تظاهرة اجتماعية ضد السلطة أحيانًا، وفي الوقت ذاته، كانت الحكومات المتعاقبة تسعى بدورها إلى السيطرة على مواكب العزاء والضغط عليها، أو تحديد مساراتها وحتى منع البعض منها في بعض السنين، واتخاذ إجراءات حازمة ضد بعض خطباء المجالس الحسينية الذين أخذوا يرفعون أصواتهم للتنديد بسياسة الحكومة والتحريض عليهاوكان الخطيب السيد صالح الحلّي (المتوفى عام 1940) من أشد خطباء المجالس الحسينية تحريضًا ضد السياسة التي كان ينتهجها الإنكليز في العراق خلال العشرينيات من القرن العشرين، وقد نفي السيد صالح بسبب ذلك مرتين إلى خارج العراق. وخلال إقامته في مدينة العمارة كانت السلطات الحكومية تراقب تحركاته وخطبه مراقبة شديدة لمنعه من استخدام العزاء الحسيني للتحريض ضد قوات الاحتلال البريطاني والحكومة العراقية. *(إبراهيم الحيدري، المرجع نفسه، ص 70، وص 72).

سيبدأ بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عهد جديد في إحياء المراسم العاشورائية خاصة في لبنان وفي دول إسلامية أخرى. إذ سيصبح الاهتمام بالجانب السياسي أكثر غزارة ووضوحًا عند منظمي المجالس العاشورائية والخطباء الذين يتحدثون إلى الناس في تلك المجالس، بحيث سيكون مألوفًا في كل ليلة من ليالي عاشوراء أن يتحدث الخطيب في القضايا المحلية فينتقد الدولة والحكومة وأن يعرض مطالب الناس… وأن يستعرض القضايا الأخرى الإقليمية والدولية وقضايا المسلمين في العالم…

كان حزب الله في لبنان أبرز من تأثر من الشيعة بالثورة الإسلامية في إيران على “المستوى العاشورائي”. لكن، وعلى مستوى آخر، قدمت تجربة حزب الله عاشوراء، بشكل متميز تنظيمًا وإعدادًا، أكثر من أي تجربة من تجارب الهيئات أو المنظمات الشيعية الأخرى… وبلغ هذا التنظيم حد تأسيس مدرسة لإعداد قراء العزاء، وعقد المؤتمرات لبحث عاشوراء من جوانبها كافة، خاصة لجهة النص والتأثير الديني وطبيعة من تتوجه إليهم، وأعمارهم…، ووظائف عاشوراء السياسية والدينية والاجتماعية وسواها.

لقد بدأ حزب الله حركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكان عمله سريًّا. وكانت عاشوراء بالنسبة إليه في تلك المرحلة من عمله حافزًا للاستشهاد تأسيًا بسيرة الإمام الحسين، ومرجعية لمواجهة الظالم والفاسد والمحتل. فتحولت إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة في أدبيات حزب الله العاشورائية إلى “يزيد العصر”، الذي ينبغي قتاله ومواجهته وعدم السماح له بالطغيان أو بالهيمنة والسيطرة. ولذا فالمقاومة هي امتداد لحركة الإمام الحسين في خط المواجهة مع الانحراف والظلم والفساد والاحتلال. وهذا ما تعبر عنه وصايا شهداء المقاومة بوضوح والتزام صارمين “بالنهج الحسيني الكربلائي”.

إن ما يمكن ملاحظته في هذا المجال أن حزب الله استطاع لاحقًا ومنذ نشأته في لبنان أن ينجح في تنظيم مجالس ومواكب عاشوراء بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ شيعة لبنان، ولم يعرف عن مسيراته الضخمة في اليوم العاشر أي سلوك متعلق بأذى النفس مثل التطبير أو الضرب بالسلاسل. على الرغم من عدم صدور أي فتوى من الإمام الخميني تحرم التطبير أو تمنع اللجوء إليه. ولم يعرف عن الإمام الصدر أنه حرّم التطبير، بل كرس إحياء مجالس عاشوراء في إطار اهتمامه بتنظيم واقع الشيعة كله. ولعل سرية الحزب كحركة مقاومة سمحت له بتجاوز النقاش حول التطبير. وخلافًا لحركة أمل التي حافظ بعض مؤيديها خصوصًا في مدينة النبطية على تقليد مسيرات التطبير فإن حزب الله لم يفعل ذلك. وربما يعود الأمر إلى تشجيع الشيخ عبد الحسين صادق إمام المدينة للتطبير وتأييده له ودفاعه عنه في وجه مخالفيه من العلماء الذي وقفوا ضد التطبير وسلبياته على الفرد وعلى المذهب نفسه. وتختلف الروايات حول بداية إحياء عاشوراء في النبطية وجوارها وحول مسيرات التطبير التي كانت تحصل في اليوم العاشر. فيشير البعض إلى أن “العادة كانت قبل الستينيات، وحتى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، أن تنطلق مسيرات “عاشوراء” في اليوم التاسع تحت اسم “تاسوعاء” التي تمثل انتقال الإمام الحسين وآل بيته وصحبه من المدينة المنوّرة في السعودية إلى كربلاء في العراق. هكذا كان أهالي كفررمان وحبوش، جارتي النبطية، يلتحقون بمسيرة النبطية، ويتجهون جميعًا نحو “النبطية الفوقا”، حيث يلتقون بمسيرات من “الفوقا” وكفرتبنيت والزوطرين الشرقية والغربية تعود جميعها إلى نحو حسينية النبطية حيث تنتهي. وبسبب ما تعرضت له المنطقة من اعتداءات إسرائيلية… اقتصرت المسيرات على تلك المنطلقة من حسينية النبطية نحو النبطية الفوقا وتؤوب مع فرق ملتحقة من الفوقا وكفرتبنيت وأخرى من الزوطرين متجمعة في النبطية الفوقا.

في اليوم التالي، وبعد تلاوة مطولة للسيرة الحسينية وفصولها، بما يتقاطع مع كثير من مشاهد الأداء المسرحي، يبدأ تشخيص موقعة كربلاء الذي شهد تغييرات كثيرة على مرّ السنين.

في مطلع القرن العشرين قدمت إلى النبطية وجبشيت عائلات إيرانية كان عدد منها يتعاطى عمليات الوساطة التجارية بين مرفأي صيدا وحيفا والعمق العربي والفارسي. وكان هؤلاء الإيرانيون يحتفلون بذكرى عاشوراء على طريقتهم الخاصة، حيث كانوا يقدّمون تمثيلية يؤديها شخصان باللغة الفارسية تروي واقعة كربلاء.

وبادر أحدهم، ويدعى إبراهيم الميرزا، الطبيب الإيراني الذي حضر إلى النبطية عام 1917 واستقر فيها مزاولًا للمهنة بعدما تأهل من إحدى بناتها، إلى استصدار ترخيص من الخارجية العثمانية في اسطنبول بواسطة القنصل الإيراني في بيروت، سمح للإيرانيين فقط بإحياء مراسم عاشوراء في النبطية. ودرجت العادة، أن تقوم المجموعات الإيرانية المقيمة في جبشيت بشعائرها تحت إشراف الشيخ عبد الكريم الزين؛ ثم تنظم في اليوم التاسع من عاشوراء مسيرة باتجاه النبطية، ليلتقوا مع إخوانهم، ثم يتوجه الجميع نحو النبطية الفوقا، مقرّ السادة من آل نور الدين. في هذا الوقت كان أبناء النبطية يقيمون مراسمهم السرية في الجامع القديم، بعيدًا عن أعين السلطات، وخصوصًا العثمانية التي كانت تمنع بشدة إقامة تلك الشعائر.

في عام 1919، ومع انتهاء الحكم العثماني، بدأ إحياء هذه المراسم مشتركة وعلانية بين الإيرانيين وأهالي النبطية، ثم أخذ العدد يتضاعف ليشمل كل الشيعة في جبل عامل، وظلت النبطية نقطة التقاء الجميع، وخصوصًا يومي التاسع والعاشر من محرم. وكانت “الندبيات” تردد باللغة الإيرانية على غرار مثيلتها المستخدمة في إيران. أما مسيرات “اللطيمة” فكانت تجوب شوارع البلدة الضيقة خلال الليالي التسع الأولى من محرم، حيث تتردد جمل البكاء على موت الإمام الحسين وآل بيته. ثم يبدأ بعدها تشخيص مصرع الحسين باللغة الإيرانية ثم باللغة العربية، وكان ذلك في عام 1926.

صارت النبطية مقصد الكثيرين الذين كانوا يتوافدون إلى البلدة ليلة العاشر من المحرم، على ظهور الجمال والبغال والدواب، من أجل المشاركة بمراسم اليوم التالي. كانوا يبيتون ليلتهم على بيدر البلدة أو في بيوتها الفاتحة أبوابها للزوار، أو في خاناتها التي كانت منتشرة بكثرة في حينه.

شكل بيدر النبطية مكانًا سنويًّا لإحياء مراسم العاشر من محرّم… من تمثيلها واستخدام الخيل على بيدر النبطية، إلى تمثيلها على مسرح أُعدّ خصيصًا لهذا العمل.

في أواخر أيام العثمانيين، قدم إلى النبطية المجتهد العلامة الشيخ عبد الحسين صادق من النجف الأشرف في العراق، وأسهم في إخراج الشعائر إلى العلن، وخصوصًا بعدما بنى في عام 1909 أول ناد “حسيني” في لبنان وبلاد الشام. ثم راح يشجع على إقامة مسرح عاشوراء وكتابة النصوص المتعلقة بذلك. ومع انسحاب الحكم العثماني من لبنان، “نسّق” الطبيب الإيراني إبراهيم الميرزا أول حوار بالعربية لتمثيلية عاشوراء. وكان هذا الحوار يدور أثناء مبارزة الحسين مع الشمر، وهو الذي أعطى تمثيلية عاشوراء النسق المسرحي الذي عرفت به في ما بعد.

وتذكر بعض المراجع أن النصوص لم تكن موجودة أصلًا، وكانت مقاطع إيمائية صامتة تؤدى على شكل مبارزة بين فرقتين، واحدة تؤدي دور الشمر وأخرى دور الحسين؛ ربما لأن النصوص التمثيلية الأصلية المتعارف عليها آنذاك كانت تؤدى باللغة الفارسية غير المتقنة في جبل عامل.

وقد عدَّل نص المسرحية الراحل الشيخ محمد تقي صادق، نجل الشيخ عبد الحسين صادق، ولا يزال هذا النص معتمدًا في تشخيص موقعة عاشوراء إلى تاريخ اليوم في النبطية التي تستقطب الآلاف من المشاركين في يومي التاسع والعاشر الذين يتوافدون إليها من مختلف المناطق اللبنانية، حيث تقدّم المسرحية وسط حشود قد تصل إلى نحو خمسين ألف مشارك ومتفرج من مختلف الملل والطوائف. (كامل جابر، جريدة الأخبار ١٥ /12/ ٢٠٠٨).

قبل عام 1982 لم تكن عاشوراء تحظى بالاهتمام الواسع الذي عرفته بعد ذلك التاريخ. كان إحياء المجالس في الأيام العشرة بما فيها اليوم العاشر نفسه يجري في البيوت وفي حسينيات القرى، وفي ديوانيات بعض الزعماء الذين حافظ بعضهم على هذا “التقليد الشيعي”. وكانت مدينة النبطية كما أسلفنا تشهد مسيرات محدودة يأتي لمشاهدتها مهتمون وإعلاميون من لبنان والخارج وغالبًا بدافع الحشرية لرؤية وتصوير “الضرّيبة” الذين يقومون بجرح رؤوسهم في أثناء المسيرة وهم يهتفون للحسين تارة، ولعلي “حيدر” تارة أخرى.

كان عام 1982 نقطة تحول في تاريخ شيعة لبنان، وسيكون نقطة تحول أيضًا في تعاملهم مع عاشوراء. في هذا العام اجتاحت إسرائيل لبنان، واحتلت جنوبه ووصلت إلى عاصمته بيروت. لم يمض وقت طويل حتى بدأت حركة مقاومة ضد هذا الاحتلال.

سمح هذا الاحتلال بإخراج عاشوراء من بعدها التقليدي، أي الحزن والتحسر، إلى البعد السياسي الجهادي مباشرة من دون مراحل وسيطة أو متدرجة، بحيث باتت المناسبة في وقت واحد حزنًا على الإمام الحسين وجهادًا ضد الاحتلال؛ أي أن الحزن تحول من الرغبة في الانكفاء إلى التحفيز على النهوض وصد الاعتداء.

سبق أن قدمت إيران النموذج لدور عاشوراء في إسقاط نظام الشاه وفي حشد التظاهرات الشعبية الهائلة في المواجهات الدامية مع هذا النظام. وقد استعاد شيعة لبنان الذين تأثروا بالتجربة الإيرانية وبما جرى فيها، أدبيات هذه الثورة مثل تأييد المستضعفين في العالم، والحكومة الإسلامية، ودعم المقاومة الفلسطينية…، لكن الفرصة لم تكن متاحة لاختبار معاني عاشوراء “الجديدة” و”تطبيقاتها العملية”، وهذه هي الفرصة التي سيتيحها الاحتلال الإسرائيلي عام 1982. وللمفارقة ستكون النبطية نفسها وفي أيام إحياء عاشوراء مشهد المواجهة الأول مع قوات الاحتلال، عندما تهاجم الجموع الغاضبة التي تشارك في المسيرة الحسينية الدبابات الإسرائيلية التي دخلت المدينة، فترغمها على التراجع والانسحاب بعد أن تحرق بعض تلك الدبابات.

لم يكن حزب الله أول من استخرج من عاشوراء مضامينها السياسية. ولم يكن الإمام الخميني أيضًا هو أول من أدرك تلك المضامين في ما قام به الإمام الحسين(ع). فعلماء الشيعة قديمًا وحديثًا أطلقوا على هذه الواقعة نعوتًا عدة حملت في طياتها مضامين سياسية مباشرة مثل ثورة الحسين، وثورة عاشوراء، والنهضة الحسينية… ولكن خصوصية ما فعله الإمام الخميني أنه قام بالربط المباشر و”العملي” بين المواجهة مع الشاه في إيران، وبين مواجهة الإمام الحسين ليزيد “الفاسق والفاجر”.

ويمكن أن نلاحظ أيضًا أن علماء الشيعة في لبنان مثل باقي علماء الشيعة في البلدان الأخرى تحدثوا كثيرًا عن الأهداف والمضامين السياسية لعاشوراء. لكن التحولات الاجتماعية والسياسية والجهادية التي عرفها شيعة لبنان هي التي ستغير طريقة إحياء عاشوراء، كما ستشهد على ذلك تجربة حزب الله. بمعنى أن التغيير في تنظيم المراسم والمسيرات وضبط النص الذي يلقى في الليالي العشر…، وجعل عاشوراء احتفالًا جماهيريًّا واسعًا ومفتوحًا على وسائل الإعلام كافة إنما حصل من خارج عاشوراء؛ أي من تغير واقع الشيعة. وهذا الواقع الذي تغير هو الذي أفضى إلى التغيير الذي لحق بطريقة إحياء عاشوراء وبانفتاحها على غير الشيعة، وفي تحويل وجهة التلميح المذهبي فيها من السنة إلى مستكبري العصر: الولايات المتحدة وإسرائيل… وهذا ما يمكن أن نلحظه كما أشرنا في تجربة حزب الله التي تميزت على مستوى التنظيم والمضمون، عن سائر احتفالات الشيعة بعاشوراء.

الإمام الصدر ومنذ وصوله إلى لبنان وفي المناسبات كلها التي تحدث فيها عن عاشوراء أكد على أبعادها الاجتماعية والسياسية ولم تفته الدعوة إلى الاستفادة من هذه الأبعاد في واقعنا المعاصر؛ لأن عاشوراء بالنسبة إليه هي ثورة متجددة، وليست حدثًا تاريخيًّا انقضى بانقضاء الزمان الذي حصل فيه هذا الحدث. فها هو يقول عام 1974: “البكاء لا يكفي، الاحتفال لا يكفي، الحسين لا يحتاج إلى ذلك، الحسين شهيد الإصلاح”. ويقول أيضًا: “إننا نحتاج إلى أن نغترف من البحر الحسيني كمية كبيرة من القوة والإرادة حتى نواجه الظلم في بيوتنا وأوطاننا وفي منطقتنا وعالمنا * *(الكلمات القصار للإمام السيد موسى الصدر، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت 2007). وفي موقف أكثر وضوحًا يقول الإمام الصدر: “واجب كل مواطن _أقولها بلسان الحسين عليه السلام_  أن يكون مقاومة لبنانية قبل أن نتشرد من أراضينا”. ويربط الإمام الصدر بين “الالتزام الحسيني”، وبين مواجهة الطغيان الإسرائيلي في جنوب لبنان: “إذا أردنا أن نعيش مع الحسين (ع) فإن كل من يموت في مواجهة الطغيان على أرض الجنوب فهو مع الحسين (ع)، ويصدق في حقه قول: “اللهم إني لا أعلم أصحابًا خيرًا من أصحابي”. (المصدر نفسه، ص77). ولذا يرى الإمام أن الحسين (ع) “قضى باستشهاده على المنكر والبغي والفساد، وجعل نفسه ضحية للإسلام” (المصدر نفسه، ص 77). “لقد وقف الحسين (ع) ومعه سبعون شخصًا في وجه الأعداء الكثيرين آنذاك، أما اليوم فنحن أكثر من سبعين وعدونا أقل من ربع العالم”. (المصدر نفسه، ص77). ويلتفت الإمام الصدر إلى الجانب المذهبي الذي يثيره بعض الشيعة في مناسبة عاشوراء فيحوله إلى مواجهة الطغيان: “وقف الحسين وهز عرش بني أمية لا لأنهم بنو أمية، بل لأنهم طغاة ولأنهم ظالمون”.(المصدر نفسه، ص 78).

ويلخص الإمام الصدر بوضوح تام كل ما يريده من عاشوراء وخلاصة ما يراه فيها: “احتفالات عاشوراء كانت منذ أن كانت، احتفالات دينية ترمي إلى هدف سياسي، وهو محاربة الظلم والطغيان عبر العصور…”. (المصدر نفسه، ص81).

إذا لم يغب البعد السياسي لعاشوراء، كما في أقوال الإمام الصدر الذي وضع لبنات التغيير الأولى في واقع شيعة لبنان. لكن إحياء عاشوراء بقي مع ذلك متواضعًا، ولم يشهد ذلك التنظيم أو تلك المشهدية التي عرفها لاحقًا مع حزب الله؛ لأن ما نفترضه هو أن التغير في أحوال الشيعة انعكس على أحوال عاشوراء، وليس العكس هو الذي حصل. فقد وقف كثير من علماء الشيعة منذ بدايات القرن الماضي ضد ما اعتبروه مبالغات أو تشويه للمذهب في عاشوراء، لكن ذلك لم يغير أي شيء في واقع الشيعة التعليمي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والانفتاحي على الآخرين… من دون التقليل من شأن هذا الاهتمام بالتخلص من المبالغات التي كانت تقال أو تفعل في عاشوراء…

إننا أمام معادلة تتداخل فيها تأثيرات عاشوراء كأصل ثابت مع ما يجري على الشيعة من متغيرات اجتماعية وسياسية؛ بمعنى أن عاشوراء هي الحافز إلى الثورة وإلى التضحية وإلى القيام بوجه الظالم والمحتل… “إن السلاح الذي نملكه نحن ولا يملكه العدو ولا يمكن أن يملكه، هو هذا الحب للشهادة النابع من التتلمذ في مدرسة سيد الشهداء عليه السلام…”* (خطاب عاشوراء، المرجع السابق، ص 43). لكن هذا الدور، المُلهم، الذي يتفق عليه علماء الشيعة لعاشوراء لن يحقق للشيعة أي تغيير إذا لم يقوموا أو ينهضوا فعلًا، من أجل الثورة أو المقاومة. هذا ما فعله الإمام الخميني عندما اعتبر أن الثورة التي يقوم بها ضد الشاه هي من “بركات عاشوراء”. وهذا ما سيفعله حزب الله، الذي سيؤكد عمليًّا، “إن السلاح الذي أسقطنا به المؤامرات، وواجهنا به التحديات، والذي ما زال يمنع هذا العدو العنصري المتصهين من ابتلاع خيراتنا وأرضنا وإذلال أهلنا هو سلاح الشهادة، لأن في مسيرتنا شهداء، وفي قادتنا شهداء نستطيع أن نستمر بفيضهم، وبوصاياهم وبأرواحهم المعطاءة… “. بحيث يستطيع حزب الله في تجربته الجهادية المباشرة أن يتجاوز (البعد النظري) لعاشوراء، _الذي تتكرر الإشارة إليه عند علماء الشيعة كافة_ ليربط مباشرة بين (البعد العملي)، “هذه المواجهة”، (أي القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي)، وبين التجربة العاشورائية ومدلولاتها المختلفة. فيقول السيد نصر الله واصفًا ما يقوم به المجاهدون: “هؤلاء هم رجالنا ومجاهدونا، هم قوم لا يفرون، ولا يفكر أحدهم بالحياة والعودة إلى هذه الدنيا…، وأن هذا الساتر أو الكمين أو هذه العبوة هي الفاصل بينه وبين أن يحتضنه أبو عبد الله الحسين عليه السلام. هذه هي روحية وشجاعة وحماسة ورجولة كربلاء”. (خطاب عاشوراء، المرجع السابق، ص 43-49). بمعنى أن الحافز الذي شكلته عاشوراء للشيعة من أجل الثورة أو المقاومة(*) سيتحول إلى فعل مباشر في إيران ولبنان، وهذا البعد المباشر “المواجهة” هو الذي سيتيح لاحقًا العودة مجددًا إلى عاشوراء لنفهم كيف أصبحت أكثر تنظيمًا وأكثر قوة وحضورًا وأكثر دلالة على المستوى السياسي. بحيث يمكن القول إن عاشوراء سمحت ابتداءً بفهم – تقليدي- للشيعة. وهذا ما فعله كثير من الباحثين الذين ذهبوا إلى عاشوراء فدرسوا ما يجري فيها وطريقة إحيائها، ليتعرفوا من خلال ذلك كله على الشيعة على المستويات الاعتقادية أو النفسية أو الاجتماعية… ولكن الشيعة، ومن خلال التحولات التي مروا بها، وخاصة في البعد الجهادي المباشر الذي تجسد في تجربة القتال ضد إسرائيل في لبنان، هو الذي سيسمح مجددًا بفهم عاشوراء، وبإدراك التحولات التي حصلت في طريقة إحيائها كانعكاس للتحولات التي يعيشها الشيعة أنفسهم. والتي تختلف في التجربة اللبنانية عن تجارب الشيعة  في بلدان أخرى، لكن تجربة الشيعة في لبنان سوف يكون لها أيضًا التأثير على الشيعة الآخرين الذين سيتعاملون بدورهم مع عاشوراء من خلال بعدها السياسي المباشر بعدما كانوا ينأون بأنفسهم عن هذا البعد بحسب الظروف السياسية التي يعيشونها في بلدانهم. وهكذا سنلاحظ كيف ستنشأ في البحرين على سبيل المثال “حملة الإمام الحسين لدعم الانتفاضة الفلسطينية”، *(كتاب عاشوراء، كتاب توثيقي حول عاشوراء البحرين 1424هـ -2003م، منشورات مجمع البحرين الثقافي للدراسات والبحوث، البحرين الطبعة الأولى 2003، ص 463). وسيدعو الشيخ عيسى أحمد قاسم (14/3/2003) السنة والشيعة وكل المسلمين في العالم… إلى مواجهة أميركا بوعي الحسين… في حين سيسأل أحد أئمة الجمعة عن مطالب الشيعة المشروعة “في ضوء اقتدائنا بالرسول والأئمة والحسين… قائلًا هل نعجز عن تحقيق هذه المطالب… هل نحن عاجزون؟ التجربة أثبتت أننا قادرون على تحقيق هذه المطالب…” (كتاب عاشوراء، المرجع نفسه، ص 51).

ما يعني أن عاشوراء التي كانت طوال عقود طويلة كهف الشيعة الذين يبثون فيه الآمهم وتظلمهم سرًا وخيفة، هذه الـ”عاشوراء” نفسها التي لم يتغير سرد القصة والمصرع فيها كثيرًا، ستتحول إلى مناسبة لا ينقطع إحياؤها، ويصرح فيها علماء الشيعة أمام شاشات الفضائيات بضرورة التصدي للاحتلال في لبنان وفلسطين والعراق، وبضرورة القيام من أجل الحقوق المشروعة للطائفة في هذا البلد أو ذاك…

* * * * *

(*) يقول السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله: “أيها الناس الذين تدرسون المقاومة الإسلامية في لبنان، ونحن نعرف أن هناك الكثير من مراكز الدراسات في العالم التي تحلل هذه الظاهرة، أنتم الذين تبحثون من خلال دراساتكم عن هذه المقاومة، عن عناصر القوة فيها وعن عناصر الضعف، أنا أقول لكم وعلى مرأى ومسمع من الناس-ولن تفقهوا ما أقول- قوة هذه المقاومة، جوهرها، هويتها، ماهيتها، روحها، أنفاس مجاهديها، عشق استشهادييها، غاية آمال شهدائها يكمن في سر وروح وعقل ودماء وآهات أبي عبد الله الحسين بن علي، ابن الزهراء؛ فإذا كنتم قادرين على اكتشاف هذا السر وهذه الهوية فستفهمون المقاومة الإسلامية في لبنان… “. خطاب عاشوراء، السيد حسن نصر الله، دار الصفوة، بيروت، الطبعة الأولى 2000، ص 11.

ربما لأول مرة في تاريخ شيعة لبنان يحاول حزب الله أن يجعل من إحياء عاشوراء مؤسسة تهتم بإعداد الدعاة، وتحدد مضمون السيرة التي سيلقيها هؤلاء على من سيستمع إليهم. وقد اهتم الحزب اهتمامًا لافتًا بهذه القضية. فأنشأ بعد عام 2000 ما أطلق عليه “معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني”. وقام المعهد بإصدار سلسلة من الكتب والنشرات التي تعنى بشكل عملي وتفصيلي بما ينبغي أن يكون عليه “الخطيب الحسيني”، وبما يفترض أن يرويه. لأن أهمية هذه المسألة وخطورتها لا يمكن أن تترك للخطيب وحده ليقرر بشأنها. لذا تتوجه بعض إصدارات “المعهد” بشكل مباشر إلى الخطيب الحسيني فتحدد له ما عليه القيام به، والأهداف والمطالب التي ينبغي أن يحققها إحياء عاشوراء. “فلا يجب أن تكون مجالس العزاء مجرد منبر لخطابات غير هادفة لأن هناك في هذه المجالس أناسًا يتميزون بالتفكر والتعقل والتأمل وما أكثرهم في مجتمعنا من الشباب والشيوخ والنساء والرجال… ويجب أن تكرس مجالس العزاء المعرفة الدينية والإيمان الديني بشكل يعزز إيمان المستمع ومعرفته بالله سبحانه وتعالى… ويجب ألا يكون الأمر بأن يرتقي الخطيب المنبر ويتحدث بدون رؤية وبكلام غير هادف أو يتطرق في النعي إلى مواضيع هشة من حيث الفحوى… ما قد ينعكس سلبًا على المهمة التي يقوم بها. لذا لا بد أن يتحلى الخطيب الحسيني بالمواصفات والمؤهلات، التي تجعل منه خطيبًا يمتلك لياقة النجاح والتأثير. وهذه المؤهلات تكون في امتلاكه لمهارات فنية تتعلق بفنون الخطابة وحسن الصوت وطيب السمعة. وعلى الخطيب من جهة أخرى الاهتمام بالمادة العلمية التي يلقيها على أسماع المشاركين في المجالس العاشورائية. وعليه أن يحذر ويتنبه لما يعرضه على مسامع جمهوره… ففي الوقت الذي يكون مطلوبًا منه الحديث عن الشخصيات العظيمة في كربلاء فإنه لا يمتلك هو ولا غيره النصوص والأحداث الكافية التي تغني المجلس وتسد الحاجة… فيلجأ الخطيب الحسيني مضطرًا إلى روايات ضعيفة وأخبار غريبة، بل ربما إلى الرؤى والمنامات وأمور أخرى”*(مجالس السيرة الحسينية 1، إعداد ونشر معهد سيد الشهداء (ع) للمنبر الحسيني، بيروت الطبعة الأولى 2007، ص5-6). ولذا عمد “معهد سيد الشهداء” إلى إصدار كراسات خاصة تروي ما ينبغي أن يقال في عاشوراء وفي “يوم المقتل”. وقام المعهد كما ذكر في مقدمة كراس “المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء” بإعادة صياغة المقتل مجددًا بعد تجميع مختلف الملاحظات الواردة من العلماء والخطباء الحسينيين…، وقد حرص المعهد في عملية الإعداد الجديدة على تحري الدقة في النقل والاعتماد على مصادر معتبرة من المقاتل القديمة… إلى تجنب ذكر بعض العبارات والمعلومات المثيرة للجدل، أو التي لم يصل التحقيق التاريخي إلى نتيجة نهائية حولها… “لإعادة صياغة المقتل الحسيني على قواعد وأسس علمية وتاريخية أكثر دقة وشمولية… “.*(المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء، إعداد ونشر معهد سيد الشهداء (ع)للمنبر الحسيني، بيروت، الطبعة السادسة، 2007، ص 6).

تشبه هذه المحاولة العملية لإعداد قراء العزاء، ما سبق أن قام به علماء مصلحون مثل الشيخ محمد رضا المظفر في العراق الذي أنشأ عام 1935 “جمعية منتدى النشر الدينية” التي كان من أهدافها إصلاح الحوزة العلمية من جهة، وإصلاح الشعائر الدينية ومراسم العزاء الحسيني التي تقام سنويًّا في عاشوراء باعتبارها وسيلة فعالة في توجيه الرأي العام وتوعيته وتنويره بالأفكار والمفاهيم الإسلامية الصحيحة… وقد بدأت هذه الجمعية أول أعمالها الإصلاحية عام 1946 بتأسيس مدرسة لتعليم الوعظ والإرشاد. وكان هدفها تدريس وتدريب خطباء المنبر الحسيني وتزويدهم بالمعارف العلمية والتاريخية الضرورية لكل خطيب، من أدب وشعر وتاريخ وفقه وخطابة وغيرها من الدروس الضرورية لتنقية المنبر الحسيني مما دخل إليه من شوائب وغرائب. غير أن المشروع الإصلاحي لقي معارضة شديدة من خطباء وقراء المجالس الحسينية أنفسهم، مثلما لقي معارضة بعض العلماء المتزمتين، الذين وجدوا في هذا المشروع الإصلاحي تهديدًا لبعض مصالحهم الشخصية فقاموا بتأليب الرأي العام وكذلك عامة الناس ضد هذا المشروع… *(إبراهيم الحيدري، المرجع السابق، ص 447)

تبدو فكرة تقديم “المقتل الحسيني” على قواعد وأسس علمية وتاريخية.. كما يريدها “معهد سيد الشهداء”، غريبة عن تقاليد المشهد العاشورائي الذي يتوسل العاطفة والانفعال لإيصال الرسالة. وهي كذلك غريبة عن تقاليد كل الانتقادات التي وجهت إلى طريقة إحياء عاشوراء من جانب بعض العلماء، فقد انتقد هؤلاء اللطم والتطبير حينًا والمبالغات في رواية السيرة حينًا آخر. لكن لم يتحدث أحد منهم عن أسس علمية لإعادة “صياغة المقتل”. ولعل هذا المطلب كان بعيدًا من التصور، مع حالة التردي العامة التي عاشها الشيعة. ولذا يمكن أن نلاحظ الإشارة المهمة التي وردت في مقدمة الجزء الأول من “مجالس السيرة الحسينية” التي تربط بين وعي الشيعة العام، وارتفاع مستواهم الثقافي، (هناك في المجالس أناس يتميزون بالتفكر والتعقل والتأمل، وما أكثرهم في مجتمعنا.. )، وبين التغيير المطلوب في إعداد الخطيب الحسيني، _امتلاك المؤهلات المناسبة من حسن الصوت وطيب السمعة والمهارات وفنون الخطابة…_،  وفي ما يفترض أن يرويه وفي ما يجب عليه الابتعاد عنه، (تحضير المادة العلمية والتثبت مما يلقيه على أسماع المشاركين). أي أن التغيير الذي حصل في واقع الشيعة العلمي والثقافي والجهادي هو الذي فرض التغيير المناسب في طريقة تقديم عاشوراء. إذ لم يعد من الممكن تقديم عاشوراء بأي مضمون وبأي طريقة لأن الجمهور المقابل (الشيعي) تغير ولم يعد يقبل أو يرضى بكل ما يقال أو يقدم. ولم يقتصر الأمر على هذا الجانب فقط من شروط إعداد الخطيب الحسيني، بل تجاوزه إلى ما هو أكثر انتباهًا وأهمية على المستويات التربوية والنفسية. فقد طرح معهد سيد الشهداء على نفسه مهمة تقديم عاشوراء إلى الناشئة بما يتناسب مع خصوصيات هذه المرحلة العمرية. فعقد المعهد مؤتمره الأول حول هذه القضية عام 2003. ثم أصدر كتابًا خاصًا بمجالس الناشئة، وأدخل تعديلات جذرية على مضمونه “بعد التقييم المتراكم من المناطق والخطباء وذوي الاختصاص التربوي…”. وقد روعيت في عملية إعداد الكتاب– كما جاء في مقدمته- الأمور التالية:

لا ينفصل اهتمام حزب الله بتنظيم مجالس عاشوراء حتى للناشئة عما بلغه هو نفسه من تنظيم في المجالات كافة. ولا عن رغبته في مزيد من ضبط وتوجيه الأنشطة التي يقوم بها أفراد الحزب في مؤسساتهم المختلفة. وهو لهذا لا يريد من عاشوراء أن تكون مجرد “طقس” تقليدي انتقل إليه إحياؤها كما فعل من سبقه أو عاصره من تنظيمات أو شخصيات شيعية لم تغير اليسير في التعامل مع عاشوراء. فحركة أمل على سبيل المثال تعقد لقاء لخطباء المنبر الحسيني عندما تحل مناسبة عاشوراء لتوجيههم إلى أهم ما ينبغي الالتفات إليه. من دون أن يكون هناك أي أدبيات أو منشورات مطبوعة في هذا الشأن. وبما أن حزب الله يدرك تمامًا حجم التغيير الذي قام به هو نفسه في وضع الشيعة بعد مسيرته “الجهادية” فقد رأى أن منطق هذا التغيير يمكن أن ينسحب على المجالات الأخرى، خاصة عاشوراء التي يعتبرها مصدر التأثير الأول والأهم على مسيرته الفكرية والجهادية… فأراد أن يجعل التعامل مع عاشوراء من خلال مؤسسة منظمة. وأراد أن يجعل من عاشوراء مدرسة تمتد إلى المراحل المبكرة من العمر، أو أن تبدأ وفق أسس علمية وتربوية مع هذه المراحل. يقول نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم في افتتاحية مؤتمر عاشوراء للناشئة: “… فرق كبير أن يحضر الأطفال في المجالس العاشورائية العامة ليتأثروا بأجوائها ويلتقطوا بعض مضامينها… وبين أن يحضروا في مجالس خاصة بهم، حيث لا يمكن نقل مجالس الكبار بحذافيرها إلى الصغار، فلا بد من مراعاة مدى استيعابهم، وطبيعة المشاهد المؤثرة فيهم، والأفكار التي تتناسب مع بنائهم الثقافي والمعرفي… لكن هذا لا يعني أن تقتصر مجالس عاشوراء على البكاء، بل يجب أن تحضر بكل مفرداتها، فهي المأساة والموقف والجهاد والعزة والإخلاص والصبر والشجاعة… فالبناء العاشورائي بناء متكامل وهذا ينطبق على الأطفال والناشئة أيضًا… والعبرة في كيفية العرض والشرح ولا إشكال في معطيات السيرة”.

ولا يقتصر أمر هذا البناء بالنسبة للناشئة على الجانب النظري فقط، بل يدعو الشيخ قاسم إلى إجراءات عملية بما “يشعر الأطفال والناشئة بالمشاركة في مناسبة عاشوراء ويعزز حضورها في نفوسهم مثل: عقد مجالس عاشورائية خاصة بهم في المدارس والبيوت والأحياء، وإشراكهم في تنظيمها وإلقاء كلمة الافتتاح وقراءة القرآن من قبلهم. والتأكيد على لبس السواد خلال الأيام العشرة. وتشجيعهم على إبراز مظاهر الحزن المختلفة مثل عدم المشاركة في الأفراح والحفلات وسواها… وإجراء مسابقات في معلومات محددة، واصطحابهم في بعض الأيام أو الليالي لحضور المجالس المركزية المعدة لإحياء عاشوراء، واختيار القراء المناسبين لهذه الأعمار والذين يتمكنون من تقديم القصة والموعظة بطريقة تستدر دموعهم…

وحتى لا تتجرد الصورة وتبقى في التاريخ، من الضروري ربط أحداث كربلاء وظروفها بالواقع المعاش الذي يفهمه الولد ويدركه. وبهذا يكون الربط بين التاريخ والواقع مساعدًا في تقريب الفكرة، فتجربة المقاومة الإسلامية في مواجهة ظلم الاحتلال تستحضر صورة أصحاب الإمام الحسين (ع) الذين يضحون ويستشهدون في مواجهة يزيد وأعوانه الظلمة… وهكذا يصبح الواقع جزءًا من التسلسل التاريخي الطبيعي، يتبلور في عقول وعواطف الأولاد كحلقة واحدة لا تتجزأ، ما يساعدهم على التفعيل الدائم والمستمر لحضور عاشوراء في الواقع…”.. *(مجالس الأطفال والناشئة، المؤتمر العاشورائي التخصصي، إعداد ونشر معهد سيد الشهداء (ع) للتبليغ والمنبر الحسيني، بيروت، الطبعة الأولى 2003، ص9-17).

اللافت أن حزب الله في إعداده لخطباء “عصريين” يعرفون أصول الخطابة وينتبهون إلى طبيعة المستمع من خلال معهد خاص هو “معهد سيد الشهداء” استطاع أن يتجاوز “عقدة” الخلاف حول كيفية إحياء عاشوراء التي انقسم علماء الشيعة حولها بين مدافع عن التطبير وبين مؤيد له. بين من يعتبر التطبير توهين للمذهب وتنفير للناس من الدين، وبين من يراه تعبيرًا ضروريًّا عن الارتباط النفسي والمعنوي بمظلومية الإمام الحسين… فقد تجاهلت أدبيات المعهد مسألة التطبير فلم تهاجمها ولم تدافع عنها. ولكن في الوقت نفسه ميزت هذه الأدبيات بين التطبير وبين اللطم كتعبير طبيعي وضروري وله مضمون ثقافي، عن الارتباط بعاشوراء. هكذا سيدرج معهد سيد الشهداء في إطار أنشطته التثقيفية “للخطباء الحسينيين” مؤتمرًا عن اللطم. في إطار سلسلة المؤتمرات العاشورائية التخصصية، كما أصدر المعهد  مجموعة متنوعة من الكتب حول عاشوراء من جوانبها كافة. * *(مثل: رحلة السبي، المجالس الحسينية وآفاق الدور المنشود وقائع المؤتمر الثقافي العاشورائي الأول، المصيبة الراتبة في مقتل سيد الشهداء، دروس في بناء المجلس الحسيني، المؤتمر العاشورائي التخصصي: مجالس الأطفال والناشئة، رحلة الشهادة، عبر وملاحظات للمحاضر والخطيب الحسيني، معين القراء في أطوار مجالس العزاء، مجالس عاشوراء للناشئة… ).

بعدما أصبح من الضروري والملح تناول هذه الظاهرة بالبحث والتحليل العلمي الناقد والفاحص وصولًا إلى رسم أطر واضحة وضابطة لها، تحفظ قيمتها وموقعها في التراث الإمامي وتعمل على ترسيخها وترشيدها وفي الوقت نفسه تضع ركائز المعالجة الموضوعية والبناءة لكل السلبيات التي تعاني منهًا*. (“مؤتمر اللطم في مضمونه الثقافي”، إعداد ونشر معهد سيد الشهداء(ع) للمنبر الحسيني، بيروت، الطبعة الأولى 2005، ص 5) أما لماذا الاهتمام باللطم؟

فلأن الأمر يتعدى المساهمة في رسم الخطوط الثقافية العامة للأمة إلى التكوين الثقافي للشخصية الإسلامية الرسالية… بعدما احتل اللطم مكانة بارزة في المجالس الحسينية وأصبح عرفًا قائمًا.. وتنوعت أساليبه وسجل حضورًا مهمًا وتعددت فرق اللطيمة مستفيدة من التقنيات الحديثة ووسائل الإعلام… فخرجت هذه الممارسة من الإطار الخاص حتى أصبحت معروفة عند كل المسلمين إن لم نقل كل العالم” (ص12).

وما يزيد من أهمية اللطم ومن الحاجة إلى “مؤتمر خاص” للبحث في تاريخه ودوره في استنهاض الأمة وفي قيمه الثقافية وفي التأصيل الفكري والشرعي له، “أن اللطم شهد تطورًا نوعيًّا وبارزًا في لبنان مع بداية الصحوة الإسلامية التي أكدت على أهمية الحضور الكربلائي وتأثيره على المنحى الثقافي والجهادي والاستشهادي للشيعة الذين انخرطوا بقوة في فعل المقاومة… وقد دخل هذا العمل (اللطم) إلى حياتنا اليومية بفضل المقاومة والشهداء، وأصبح أحد أهم أبواب الاستقطاب إلى الالتزام الديني ومنه إلى خط المقاومة… ويكفي أن نعرف أن عدد الذين ينخرطون في سلك التدين والالتزام من الشبان الشيعة من خلال موكب أبي الفضل العباس (ع) للطم في كل عام يعد بالآلاف…”، لكن ذلك لا يمنع أيضًا التأكيد أن من أهداف المؤتمر الأساسية “البحث في الشوائب التي رافقت ظاهرة اللطم “حتى لا ينعكس الخطأ هنا على الفكرة والقضية المقصودة”. (ص 13-14)

إن ما قام به حزب الله على مستوى تنظيم الاحتفال بعاشوراء من الشكل إلى مضمون ما يقال وما يروى في السيرة الحسينية إلى إعداد الخطباء… والالتفات إلى المخاطب والاهتمام بالأسس العلمية والمنطقية وسوى ذلك مما حرصت عليه منشورات وأدبيات وأنشطة معهد سيد الشهداء… هو حركة إصلاحية فعلية تشبه ما حاول علماء أفراد القيام به أو الدعوة إليه قبل عشرات السنين. لكن حزب الله لم يواجه أي معارضة لحركته الإصلاحية كما حصل على سبيل المثال مع السيد محسن الأمين، أو مع الشيخ محمد رضا المظفر في أربعينيات القرن الماضي. والسبب يعود برأينا إلى العوامل التالية:

– العامل الأول: هو التغير الذي طرأ على أحوال الشيعة عمومًا في لبنان، فباتوا أكثر وعيًا وأكثر تعليمًا. بعدما انتقلوا ابتداء “من نصف القرن الماضي من أسفل السلم الاجتماعي إلى مستويات عليا في المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، وبعدما سمحت لهم المقاومة التي قادوها طوال ربع قرن ضد الاحتلال الإسرائيلي، بتغيير صورة الضعف والانكفاء والتهميش التي لازمت وعيهم في لبنان. ومع هذا التغيير بات الشيعة عمومًا أكثر استعدادًا وحتى أكثر إلحاحًا لرفض المبالغات “التقليدية” في السيرة الحسينية. خاصة وأن إحياء الشيعة عاشوراء انتقل من الغرف المغلقة إلى المسيرات الحاشدة في شوارع العاصمة وإلى الفضائيات التي يشاهدها الملايين، بحيث يمكن القول إن إحياء عاشوراء على مستوى السيرة والتنظيم والعلانية والإعداد والحشود المشاركة بات يتناسب مع واقع الشيعة إثر التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية… التي عرفوها في لبنان منذ نصف قرن إلى اليوم. أي أن عاشوراء باتت اليوم مدخلًا ممكنًا لفهم الواقع الشيعي بتحولاته المتفاوتة وبنقاط قوته ونقاط ضعفه المختلفة.

– العامل الثاني: إن حزب الله نفسه لم يبدأ مشروع إصلاح عاشوراء بالهجوم على “التطبير” أو على المضمون المتخلف لما يقوله بعض القراء…. بل ترك الأمر على ما هو عليه. فلم يثر حفيظة مؤيدي التطبير من العلماء أو من العامة. لكنه في الوقت نفسه قدم نموذجًا مختلفًا للاحتفال باليوم العاشر من محرم، من خلال المسيرات المنظمة (حتى في النبطية حيث تقليد التطبير لا يزال مستمرًا)، ومن خلال الشعارات السياسية التي رفعها في تلك المسيرة إلى جانب الشعارات العاشورائية المعروفة. بمعنى أن حزب الله لم يدخل في جدال نظري حول علاقة التطبير بـ “التخلف”، أو”التقدم” أو حول علاقته بصورة الشيعة في نظر الآخرين وسوى ذلك مما حرص عليه بعض العلماء ودافعوا عنه، ولكنه لم يؤد عمليًّا إلى تغيير فعلي ومهم في طريقة إحياء عاشوراء. أي أن الحزب لم يتحدث عن الكيفية المناسبة أو “الحضارية” لإحياء عاشوراء، بل انتقل عمليًّا إلى إحيائها بطريقة مختلفة. ولعل هذا المسلك ينسجم مع استراتيجية الحزب في التركيز على أولوية القتال ضد العدو الصهيوني والتسامح في داخل المجتمع بحيث ترك للناس حرية السلوك واللباس والاعتقاد من دون أن يتدخل أو أن يفرض “الأسلمة”، حيث يقيم وحيث يعتبر نفسه “مهيمنًا”. ولعل هذا الأمر أدى إلى تأييد حزب الله كحركة مقاومة، ويفسر مشاركة الآلاف في المجالس العاشورائية، ومئات الآلاف في مسيرة اليوم العاشر، من دون أن يكون كل المشاركين أو المشاركات من الملتزمين دينيًّا، أو حزبيًّا. بحيث باتت عاشوراء جزءًا من هوية الشيعة في لبنان. يحيونها في المناطق كافة بدعوات من حركة أمل وحزب الله، ويلبسون السواد في مختلف الأعمار. ويعرفون من خلال هذا اللون بهذا الانتماء*.

* “بإحياء مجالس العزاء يحصل الترابط بين حركة الجماهير ووحدتها لتنظيم هذه الحركة ولبناء هوية المجتمع السياسية”. من حديث للإمام الخميني مع علماء ووعاظ قم وطهران 21/6/1986.

وقد حرص حزب الله في الوقت نفسه على التمسك بأصل إحياء عاشوراء كمرجعية فكرية وجهادية وكحافز للاستشهاد كما تكشف لنا كل وصايا الشهداء (شهداء أمل وحزب الله) الذين لم ينس أي واحد منهم الإشارة إلى الإمام “الحسين سيد الشهداء” في تلك الوصايا ولا إلى السيدة زينب عندما يتوجه بالحديث إلى إخوته أو إلى والدته…

لكن من المهم القول إن هذا الإحياء نفسه لم يكن ممكنًا ولا مؤثرًا لو لم يكن حزب الله نفسه نموذجًا مؤثرًا وفاعلًا على مستوى تجربته الجهادية والسياسية. بحيث استطاع الحزب، ومن دون مواجهة مباشرة، نظرية أو عملية، مع هذه الظاهرة ومع مؤيديها وممارسيها، أن يقلص ظاهرة التطبير التي تراجعت المشاركة فيها كثيرًا عما كانت عليه قبل ربع قرن. وقد فعل حزب ذلك من دون أن يشن أي حملة على التطبير أو على مؤيديه. بل من خلال عمليات المقاومة التي كان يقوم بها على امتداد سنوات. ونجح من خلالها في إنزال الخسائر بالعدو وفي تقديم الشهداء في الوقت نفسه.

لقد استطاع حزب الله أن يبدل في طريقة إحياء عاشوراء، وأن يتصدى لإصلاح ما تراكم من تشويه على السيرة الحسينية لأنه دمج القول بالفعل. ولذا لم يكن بمقدور أحد من مؤيدي التطبير الاعتراض على مسيرات حزب الله في اليوم العاشر. لأن صور شهداء المقاومة في مسيرات اليوم العاشر إلى جانب الشعارات الحسينية كانت الدرع الواقي الذي سيحمي “مشروع الإصلاح” العاشورائي الذي سينفذه حزب الله لاحقًا بتدرج وهدوء… أي أن الحزب جعل من عاشوراء ممارسة فعلية وانتصارات تتحقق بحيث يختلط اللطم والحزن على  شهداء “معركة الطف” مع شهداء المقاومة في مختلف المواقع التي قاتلوا فيها وحققوا الانتصارات…

وهكذا تم في الضاحية الجنوبية، لأول مرة في تاريخ الشيعة في لبنان، بناء مجمع ضخم يتسع للآلاف من النساء والرجال باسم “مجمع سيد الشهداء”، تقام فيه احتفالات عاشوراء سنويًّا وإليه تتوجه أنظار العالم ووسائل الإعلام العالمية لمعرفة ما هو الموقف وماذا سيقول قادة حزب الله الذين يشاركون يوميًّا في إحياء الليالي العشر، بحيث ينتهي اليوم العاشر بتظاهرة باتت في السنوات الأخيرة تضم مئات آلاف الشيعة – معظمهم من الشبان- من الذين يشعرون بأن مثل هذه المشاركة تعكس في بلد مثل لبنان هويتهم وانتماءهم الديني والمذهبي، وتعبر من ناحية ثانية عن قوة هذا الانتماء الذي يتجلى في تلك المسيرات الضخمة والمنظمة الموحدة الشعارات والهتافات والتي لا يضاهيها أي مسيرات أخرى. وهي مسيرات تشهد مثلها كل المناطق التي يتواجد فيها الشيعة في لبنان. من العاصمة إلى البقاع والجنوب والشمال، بحيث بات مشهد عاشوراء ومسيراتها جزءًا من المشهد اللبناني ومن ثوابته.

لقد تحولت عاشوراء مع حركة المقاومة ضد الاحتلال ظاهرة شبابية بعدما كانت قبل ذلك  تقتصر على المسنين الذين يستمعون إلى المقرئ  _ وليس الخطيب_ سرًّا في بيوتهم حفاظًا على تقليد توارثوه من دون أن يكون لهذا الإحياء أي دلالات سياسية يمكن استخراجها من واقعة عاشوراء كما أصبح الأمر لاحقًا.

لقد تغير مشهد إحياء عاشوراء في لبنان. لم يعد سرًّا كما كان قبل عقود. ولم يعد تعبيرًا عن مظلومية الشيعة، فقد بات هؤلاء أكثر اقتدارًا وأكثر حضورًا في المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في لبنان.

 

  مراجع

 

 

 

 

[1][2] يؤكد السيد محسن الأمين أن المجتهد الأكبر محمد حسن الشيرازي. توفي عام 1895- حرم الضرب بالسياط… وفي حوالي 1926 أصدر السيد أبو الحسن الأصفهاني في النجف والسيد محمد مهدي القزويني في البصرة فتويين ضد التسوط وغيره من طقوس محرم. واتخذ محسن الأمين شيخ الطائفة الشيعية في دمشق موقفًا مماثلًا. وكانت للجدال الذي نشب بعد ردود المجتهدين المنافسين أصداء قوية في عموم العالم الشيعي… (نقاش، المرجع نفسه، ص276- 277).

 

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [1]: #_ftnref1

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15174/ashuraa-3/