التعددية الدينية
التعددية الدينية[1]
الشيخ مصباح اليزدي
اكتسب مصطلح البلورالية مدلولًا معاصرًا في الميدان الثقافي، وهو يعني في المجال الفكري والديني ضرورة تقبّل العقائد والمناهج المختلفة. فماذا تعني في المفهوم الديني؟ ما هي المعاني التي تحملها؟ وما الذي يوافقنا نحن المسلمين؟
معاني التعدّدية الدينية
- المعنى الأوّل:
اجتماعي، ومعناه المداراة والتعايش السلمي الهادف إلى الحيلولة من دون وقوع الحروب والخصومات. وله منحى سياسي أيضًا في السياق نفسه. وفي إطار الأديان والمذاهب، فإنّ الفرقتين الدينيتين أو المذهبيتين، في عين الوقت الذي تختلف فيه توجهاتهما الخاصة، تقومان باحترام بعضهما البعض، وتتجنّبان عمليًّا أي نوعٍ من المواجهة والتخاصم. فليس هناك، مثلًا، من تصادم، أتباع الإسلام والمسيحية واليهودية، بل أنهم يتعايشون بكل احترام وأدب في ظل حياة مسالمة، فهم يتلاقون، ويتباحثون، وهناك علاقات تجارية فيما بينهم.
- المعنى الثاني:
الاختلاف ليس قائمًا في جوهر الأديان، وإنما هو في فهم الدين. والتعدديّة الدينيّة من الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة ما هي إلّا فهم مختلف لكلّ مجموعة. هذه التعددية تعني القبول بعدة أشكالٍ للفهم، وعدة أنواعٍ للاستنتاج، وعدة أنماط أيضًا للمعرفة بحقيقةٍ واحدةٍ، حتى لو كانت متضادَّة مع بعضها البعض. وهكذا الحال داخل دائرة الدين الواحد أيضًا، فلا ترجيح لمذهب على آخر، كما لا يوجد دليلٌ على اعتبار هذا الاستنتاج مقدّمًا على ذلك أو هذا المسلك مرجّحًا على الآخر.
- المعنى الثالث:
ليس هناك من حقيقةٍ واحدةٍ بالأصل حتى بالشكل المطروح في المعنى الثاني، بل الحقائق نفسها متعدّدة وكثيرة، حتّى التناقضات كالتوحيد والشرك. إنّ التعددية من هذا النوع مستهجنة وغير مستساغة أبدًا، وهي أكثر إثارةً للتعجب، فإنها تقول بأنّ كلا القولين في الواقع صحيحين، وهذا النوع من التعددية مذمومٌ جدًا، إذ إنّه يذهب إلى أنّ العقائد المتناقضة كلّها حقيقيّة ومعتبرة حتى مع قطع النظر عن اختلاف أفهامنا.
4- المعنى الرابع أو الصيغة المعدّلة للمعنى الثالث للتعدّدية:
وهو أن الحقيقة عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأجزاء والعناصر التي يمكن العثور على واحدٍ منها في كلّ دينٍ من الأديان، ومن هنا، فالحقيقة ليست أمرًا وحدانيًّا متعلّقًا بموضوعٍ واحدٍ، وبالتالي، فليس لدينا دين جامع، وإنّما مجموعة من الأديان تشتمل على حقيقةٍ واحدةٍ، بحيث إنَّ كلَّ واحدٍ منها يشتمل على بعضٍ من هذه الحقيقة.
مناقشة المعاني
ليس لدينا أية مشكلةٍ مع المعنى الأول للتعددية، فقد قبل الإسلام التعايش السلمي مع الأديان الإلهية (دون الشرك)، بل يمكن وفي ظروفٍ معينةٍ توقيع معاهدة تعايشٍ سلميٍ بين المجتمع الإسلامي والمجتمع المشرك، من دون أن يكون الطرف الآخر متخلّفًا عن هذا التعاقد، فإنّ رعايته من طرف المسلمين تكون واجبةً، وهذه مسألةٌ مذكورةٌ في أحكام العلاقات الدولية للإسلام، كما كان الحال في ذاك التعاقد الذي كان حاصلًا بين المسلمين والمشركين في صدر الإسلام، إلاَّ أنّ المشركين قاموا بخيانته. فالتعايش السلمي مع الأديان الإلهية وحتى المشركين موجودٌ في الفقه الإسلامي، وحتى داخل الحكومة الإسلامية.
أمّا التعدّدية من النوع الثاني تعني أنّ الاختلافات الحاصلة في المعرفة الدينية ليست قابلةً أصلًا ومطلقًا للمحاكمة، وهذا باطلٌ حتمًا، أي أنّه لا معنى للقول بأنّ الحقيقة غير ممكنة التناول بالنسبة إلى البشر إلى الدرجة التي لا يمكننا القول فيها بأن التوحيد حقٌ أو الشرك؟ لا نقبل التعدّدية إلاَّ في إطار المسائل الظنيَّة التي لا يوجد طريقٌ للقطع بها، ولا تتوفَّر غير الأدلة الظنيَّة لها لا مطلقًا، أمّا التعددية التي تعني الشكَّاكية فإنّ البحث حولها يتطلَّب تحليلًا آخر.
والتعدّدية بالمعنى الثالث باطلةٌ مطلقًا وغير مقبولة، فنحن نحكم بمقتضى العقل بالنسبة إلى أيّة قضيةٍ من القضايا فنقول بأنّ وجهها الإيجابي هو الصحيح أو وجهها السلبي، أما القول بأنّ إيجابها صحيحٌ وكذلك سلبها فإنَّ هذا غير معقول ويعبّر عن تناقض، وبالتالي، فهو بديهي البطلان.
كما أنّ التعدّدية بالمعنى الثالث والرابع غير مقبولة، ومن وجهة نظرنا فإنّ الإسلام هو الدين الواجد للحقائق الدينية كافة. نعم، من الممكن أن تكون بقية الأديان محتويةً على قسم من الحقيقة، ففي اليهودية هناك حقيقةً معينةً، وكذلك الحال في المسيحية، إلاَّ أن ذلك مخصوصٌ بما لا يكون فيه تعارضٌ مع الإسلام.
إنّ التكثّر واختلاف وجهات النظر يمكن قبولهما في إطار بعض المطالب الدينية التي لا دليل يقينيًّا عليها، لأنه على الرغم من وجود الدليل الشرعي في موردٍ ما فإنّ هناك قابلية للتفاسير المتضادّة والأفهام والاستنتاجات المختلفة. وبناءً عليه، فالسبل مرتبطةٌ بالمسائل الفرعية، أمّا الصراط المستقيم فهو واحدٌ، ولا يتقبّل التناقض والتعدّد.
[1] تجد البحث كاملًا منشورًا في العدد صفر من مجلة المحجة، أو على الرابط التالي:
http://al-mahajja.org/wp-content/uploads/2020/06/5-Al-Taddaea.pdf
المقالات المرتبطة
صعوبات تحديد الدين
اصطدم المؤلفون، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، عندما بدأت المحاولات الأولى لدراسة الدين دراسة علمية، بمشكلة تحديده، وهي مشكلة ستتعقد بقدر ترسّخ المذهب الإنسي الفلسفي
في المديح النبوي
قصيدة نـهج البردة واحدة من عشرات القصائد التي نُظمت على غرار القصيدة المعروفة بالبردة للإمام البوصيري، فأخذت نفس البحر (البسيط)، ولها نفس القافية (الميم المكسورة)
حضور صدر الدين الشيرازي في الدراسات الفلسفية العربية (المرحلة الثالثة -2)
وتابعت الدراسات الصدرائية طريقها، فناقش “رياض سحيب روضان” رسالة ماجستير في جامعة المستنصرية، وحملت عنوان: “علم الكلام عند صدر الدين الشيرازي: دراسة في الإلهيات”