قراءة في كتاب إلهيات المعرفة (القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية)

قراءة في كتاب إلهيات المعرفة (القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية)

أعترف بداية، أنني بقدر ما وجدت متعة في قراءة الكتاب موضوع البحث، وجدت صعوبة في الكلام عليه. حالي في ذلك، حال من يقرأ قصيدة، أو يسمع قطعة موسيقيّة، فتدهشه وتذهله عن مشاغل آنه، وتحلق به نحو بعيد الرؤى، وسامي المشاعر، فإذا ما أراد الكلام على تجربته هذه، وجد نفسه عاجزًا عن ذلك عجز العرفاني الذي ارتقى بسيره وسلوكه حتى رأى ما لا يُرى ولا خطر على قلب بشر، فلا يزيد على القول حرصًا على التجربة من سجون الكلام:

وكان ما كان ممّا لست أذكره         فظنّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر

في وضعي هذا، آثرت أن أُبقي تجربتي الوجدانيّة مع الجانب الفلسفي من الكتاب في مستوى المعيش دون المقول حفاظًا على وهجها وتوقدها في وجداني، وأن أردد في ذلك قول الشاعر:

وأجمل ما في الشعر أنشودة      تبقى بلا وزن ولا قافية

وأن أتناول ما يمكن أن يبنى على الجانب الفلسفي من رؤى سياسيّة وذلك من خلال:

  1. استعراض المواقف والدعوات التي ينتهي إليها كلّ واحد من مباحث الكتاب.
  2. الرؤية المؤسسة والموحدة لمباحث الكتاب على الرغم من تعددها وتنوّعها.
  3. المواقف والدعوات.

الكتاب يشكل صولة من صولات الفكر البشري في حقل الدين والفلسفة، وهو يتسم بتعدد الموضوعات، وغنى المضمون والتكثيف الشديد في العرض.

في كل من هذه الموضوعات نقرأ طرحًا لإحدى إشكاليات الفكر الفلسفي أو الديني. وعرضًا أمينًا لبعض خلاصات الفكر البشري في معالجتها، ونقدًا لهذه الخلاصات بموضوعيّة، لكنّها ليست موضوعيّة المتجرّد من أي رؤية اعتقاديّة، ولا الخليّ من أيّ همّ أو تطلّع، ولا المكتفي بتطبيق معايير العقل المتجرد في عملية ترف فكري…

إنّها موضوعية المؤمن بدين هو الإسلام، وبمذهب من مذاهبه هو التشيّع لأئمّة أهل البيت عليهم السلام، وموضوعيّة المسكون بهم الإنسان فردًا أو جماعةً ومجتمعات سياسيّة في محيطه وفي المعمورة. والمتطلع إلى تحرره من سجون المصالح والمعتقدات، وصولًا إلى تغليب سنّة التعارف على سنّة التدافع في إقامة العلاقات بين الناس، وموضوعيّة من يضيف إلى معايير العقل المجرد معايير الفطرة الإنسانيّة بقطبيها المتلازمين… ويأتي كل ذلك تأسيسًا لواحد أو أكثر من المواقف التي تستجيب لتلك الهموم والتطلّعات الملازمة لعقل المؤلف وقلبه وجماع وجدانه المشغوف حبًا لله وبه وغيره حبًّا لعباده. وغنيّ عن البيان أنّ الظروف التي يعيشها الإنسان في بلادنا وفي العالم تضاعف بما لا يقاس قيمة تلك المواقف والأسس التي قامت عليها.

وفي ما يلي عرض سريع لما ينتهي إليه كلّ مبحث أو فصل من هذه المواقف أو الدعوات التي تبتعد عن أن تكون مجرد عظات أخلاقية يسهل حفظها وتكرارها، وإن كان مرماها الأخير صلاح الإنسان فكرًا وسلوكًا.

الفصل الأول: “الدين، والسؤال المهاجر” ينتهي إلى التحذير من استقرار الجواب الأحادي على السؤال الوجودي، وما يؤدي إليه في الفلسفة من هجر أو قطع مع ما قيل أو يمكن أن يقال حول الموضوع والاكتفاء بما توصلت إليه الذات حتى ليكاد يقول: أنا الحق. وما يفضي إليه في الدين من شطح يقود إلى ادّعاء صاحب الجواب أو المؤمن به. إنّه الصراط وقسيم الحق والباطل والجنّة والنار، الأمر الذي لا ينسجم مطلقًا مع طبيعة المعرفة الفلسفيّة والدينيّة، وتأسيسًا على ما تقدّم يدعو إلى السماح لكلّ متأمّل متدبّر أن ينطلق من القاعدة التي يشاء، شرط أن لا يتوقف عند نقطة الانطلاق فينغلق على الذات، ويستدرج كل آخر كعنوان هامشي في سلطة وجوده، كما أنّ عليه النظر إلى كلّ منطلق وقاعدة كنقطة متّصلة بغيرها في حكم الدائرة المعرفيّة الفلسفيّة والدينيّة، فيكون بذلك مدخلًا إلى التعارف والتآلف وتسييد القيم في إقامة الصلة بين الإنسان والإنسان، التي تظل أرفع من أن تختصر بفلسفة دون غيرها أو دين دون غيره.

هذا ما ينقض أو يهفت كلّ دغمائيّة دينيّة أو فلسفيّة من دون الذهاب إلى ريبية هادمة لكلّ معرفة، بل إلى رسم كيفيّة للتعاطي معها بمرونة وانفتاح بحيث تشكّل مدخلًا للتعارف والتآلف وتسييد القيم الإنسانيّة المغروسة في فطرة كلّ إنسان، بدل أن تكون مدخلًا للتقوقع والانغلاق والصراع بين أصحاب الملل والنحل والمذاهب الدينيّة والفلسفيّة.

الفصل الثاني: “نظرية الجعل الفطري” ينتهي بالدعوة إلى أمرين:

الأمر الأول: الأخذ بما يترتب على فطرة الدين القيّم التي هي غرس إلهيّ في طبيعة كلّ شخص من ضرورة إقامة العلاقات الاجتماعيّة على التوفيق بين الوعي والإرادة الإنسانيّة من جهة، والحضور الإلهي من جهة ثانية، الأمر الذي يحصل فقط بالانفتاح على نور المحبة الكليّة لكلّ وجود وكلّ معتقد، وعلى الحضور الإلهي في الذات العامّة وفي ذلك كما لا يخفى.

الأمر الثاني: الأخذ بما يترتب على جعل الله سبحانه آدم خليفة في الأرض، وحاملًا لأمانة الحرية والمسؤولية من إقامة سنّة التدبير والحكم تستوحي في اهتمامها بقضايا الناس روح الرحمة الإلهيّة اتجاه المخلوقات، وفي ذلك معيار أمثل لمحاكمة النظريات والممارسات السياسيّة.

الفصل الثالث: “الزمن وعودة الأبديّة”، ينتهي بالدعوة إلى ربط زمن الذات بمستقبلها، أي بعلاقة زمنها الخاص بما بعده في هذه الدنيا وبعد هذه الدنيا… ما يفرض على الذات العمل لنوعين من الخلاص:

1- خلاص دنيوي مرتبط بخلاص عالمي ينجزه موعود حاضر في كل عصر وبناء الحضارة الإسلاميّة أفرادها وجماعتها بمقتضى هذا الموعود…

2- العمل على خلاص جزائي أخروي، بوصفه فصلًا جديدًا من ولادة حياة جديدة.

الفصل الرابع: “حكمة المعاد ومنافذ المصير”، ينتهي بالدعوة إلى قراءة الآيات القرآنية الدافعة نحو قيم الآخرة، لا بوصفها دعوة إلى التخلي عن قيم الدنيا، بل إلى ممارستها وفقًا لقيم الآخرة، لأن أي خلل في ربط شؤون المعاد بالدنيا هو خلل مفسد للحياة وللسنّة التي استنّها المولى سبحانه، لتعاطي الإنسان مع مساره الوجوديّ والمعرفيّ والمسلكيّ. ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾. (سورة القصص، الآية 77).

الفصل الخامس: “ابن الطين وغسق الذات المجهولة”، حيث ينتهي بعد عرض نقدي لمواقف فلسفيّة ودينيّة انتهت إلى احتقار الجسد ودنياه كمقوّم من مقوّمات الذات، وإمّا إلى اعتباره تمام الذات ومعيار القيمة، ينتهي إلى الدعوة:

  1. لرؤية متوازنة تعطي لكلّ من مكوّنات الإنسان دوره الواقعي في تشكيل هويّته، والتعاطي معها من خلال رؤية جامعة لمعنى الوجود والموجودية من خلال نظرية الجعل الإلهي للوجود والإنسان، وذلك بهدف إعطاء الحقائق الإنسانيّة معناها المرتبط بالله بما هو إله السماوات والأرض.
  2. الابتعاد عن التجزيء في النظر إلى الذات والهوية، لأنّه يشكّل عائقًا معرفيًّا عن التقدم في معارف الكدح الإنساني إلى الله والاستهداء بأنوار رحمته، والالتزام بسويّ معارفه.

ومن الملاحظ أنّ الفصول الثالث والرابع والخامس تدعو إلى الموازنة بين العمل للخلاص الدنيوي والخلاص الأخروي، وقراءة الآيات القرآنية الدافعة نحو قيم الآخرة لا بوصفها دعوة إلى التخلي عن قيم الدنيا، بل إلى ممارستها وفقًا لقيم الآخرة، وإلى عدم احتقار الجسد ودنياه كمقوّم من مقوّمات الذات، وإلى إعطائه دوره الواقعي في تشكيل هوية الإنسان.

والموازنة المطلوبة كما هو واضح لا يعني المساواة بين طرفي المعادلة، وإنّما يعني الحفاظ على الدور المرسوم لكلّ منهما في تحقيق الغاية من خلق الإنسان على هذه الصورة.

الفصل السادس: “يقظة الموت”، ينتهي بالدعوة إلى أمرين، أحدهما مضمر، وهو التأمّل فيما إذا كان نهاية لوجود، أم بداية لوجود آخر، ومعنى، وهو الدعوة لدراسة الموت في الفكر الإسلامي بصورة أوسع وأكثر تفصيلًا ممّا تضمّنه البحث.

الفصل السابع: “الوحي وإلهيّات المعرفة”، ينتهي بالدعوة إلى بذل الجهود اللازمة لدراسة الوحي في علاقته بالإنسان، والنص في علاقته، والذات في علاقتها بمحيطها. وهذه الدراسة هي ما يسمّيها المؤلف “إلهيات المعرفة”، وترمي إلى بناء محور الفهم المنظومي للتوحيد الإسلامي والإيماني الذي يستوعب ويوحّد علوم الكلام والفقه والتفسير.

في ختام هذا العرض أشير إلى:

  1. إنني آثرت نقل المواقف والدعوات الواردة بصورة شبه حرفيّة عن نصوص الكتاب. وذلك نظرًا لدقّتها، وحذرًا من تشويهها.
  2. على الرغم من أهمية هذه المواقف والدعوات، فإنّها بالتأكيد تظل أقل أهمية من الأبحاث التي أسستها وأفضت إليها.

الرؤية الناظمة

هذه الرؤية، في ما يمكن استخلاصه من قراءة الكتاب موضوع البحث، هي النظرة إلى الإنسان في فطرته التكوينيّة، وما ترتب عليها من خصائص سلوكيّة ومعرفيّة ميّزته عن سائر المخلوقات التي يدركها بنفسه أو أخبر عنها وحيًا بتوسط أنبياء ورسل.

هذه الفطرة التكوينيّة تختلف عن فطرة الدين القيّم التي تناولها الكاتب في مبحث الجعل الفطري، اختلاف الأصل عن الفرع، لأنّ فطرة الدين القيّم هي إحدى لوازم أو مقتضيات الفطرة التكوينيّة، وليست الفطرة التكوينيّة ذاتها.

نظرة الكاتب إلى هذه الفطرة، هي نفسها النظرة القرآنية في تكاملها من جهة – وانفتاحها على سائر النظرات الدينيّة والفلسفيّة من جهة أخرى. يعبّر القرآن الكريم عن هذه الفطرة بالقول: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾. (سورة ص، الآيتان 71و 72).

الإنسان، بهذا التعبير القرآني الرمزي قبضة من طين الأرض سوّيت من قبل العزيز الحكيم، وتلقت نفخة من روحه استحق بها سجود الملائكة له، وحُمّل بالمقابل تبعاتها في حمل أمانة الدين القيّم وخلافة الله في الأرض، والمسؤولية عن كيفية تعاطيه مع هاتين الأمانتين.

الطين في هذه الكينونة رمز لعالم الشهادة بما يعنيه من مادة محسوسة وخاضعة لسنن لا تتبدّل ولا تتغيّر، وقابلة للإدراك بالحواس وبما يكمل الحواس من أدوات وآلات. وأمّا نفخة الروح فهي رمز لعالم الغيب بما يعني من تجرد عن المادة وعدم خضوعه لسننها، وبالتالي استحالة إدراكه لا بالحواس ولا بما يكملها من أدوات وآلات.

ما يعبر عنه القرآن الكريم رمزًا يدركه الإنسان حدسًا وتجريبًا:

  • فهو إذ يجد نفسه أسير قبضة زمان راهن ومكان راهن، يجد أنّه في الوقت عينه قادر على الإفلات من قبضتهما بفضل ما أوتي من نعمة التذكر والتخيّل.
  • وهو إذ يجد نفسه أسير سير عالم الشهادة، يجد أنّه في الوقت عينه قادر على معرفتها، وتحويلها إلى أدوات وآلات يتحرر بها منها وذلك بفضل ما أوتي من نعمة القوى الإدراكية ونعمة المقدرة على استعمال يديه.

وهو إذ يتأمل بحواسه وبما يكملها من أدوات وآلات ما في عالم الشهادة من آيات الآفاق والأنفس، ويكتشف ما فيهما من إحكام وحكمة لا يتمكن من الامتناع عن التساؤل والبحث عن علة هذه الحكمة وذلك الإحكام في ما يتجاوز الآيات نفسها.

وهكذا يتوصل الإنسان عبر مثل هذه الحدوس والتجارب إلى أنّ كينونته لا تقتصر على هذا “الطين” الذي يشكّل جسده، وإنّما هي هذا الطين وشيء آخر لا يمكن أن ينسب إلى الطين بذاته، وذلك بصرف النظر عن تسميته (نفس، روح، قوى إدراكيّة…).

وخلاصة الكلام، نحن بالتعبير القرآني وبالحدس والتجريب الإنساني أمام كينونة بقطبين متناقضين، كلّ منهما يشدّ الإنسان باتّجاهه ولكن من دون أن يحقق انتصارًا نهائيًّا لمصالحه.

بكلام آخر، نحن أمام كينونة قطباها المتناقضان يشكّلان وحدتها الجدليّة، ويصفانها في البرزخ الواصل بين عالمي الشهادة والغيب بين آثار الطين وآثار نفخة الروح الإلهي، أو بصورة ملموسة أكثر، بين حاجات الطين وقيم الروح، بين حتمية السنن وحرية الإرادة، بين آنية الزمن الراهن ولا نهائيّة الأزل والأبد، بين المكان المحدود الحيّز والمكان اللامتناهي الأبعاد… بين حياة معاشة وأخرى متخيّلة…

لهذه الجدلية تأثيرها العميق على السلوك وعلى المعرفة. سلوكيًّا تفتح هذه الجدلية الباب أمام الإنسان لأن يكون أفضل من الملائكة أو أحط من البهائم، وله حرية الخيار وعليه تحمل المسؤولية. ومدخل الاحتمالين هو الموازنة أو عدم الموازنة بين قطبي الكينونة في نزعاتهما المتناقضة ولكن القابلة للتوحد في فعل إرادي خلّاق.

هذا سلوكيًّا. أمّا معرفيًّا، فعن تعاطي هذه الجدليّة بقطبيها مع عالم الشهادة نشأت العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، وعن تعاطيها مع عالم الغيب نشأت الأديان على اختلافها والفلسفات على تنوّعها.

في العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة يمكن للإنسان أن يتحقق من صحة الفرضيات التي يطرحها لتفسير بعض الظواهر الطبيعيّة والأنشطة الإنسانيّة…

الحفاظ على الدور المرسوم لكلّ منهما في تحقيق الغاية من خلق الإنسان على هذه الصورة…

إلى عالم الشهادة نفسه مشاهدة وتجريبًا، وبعد التحقق منها تتحوّل إلى حقائق، وإن مؤقتة، وقد تتحول بحيل عملياتيّة إلى أدوات وآلات تشكل فاعليتها في مضاعفة قدرات الإنسان دليلًا يقينيًّا على صحتها.

أمّا في الفلسفة والدين، فإنّ الأمر يختلف جذريًّا، لأنّ موضوعهما الجوهري وحقل تفكرهما الأساسي هو الغيب (الميتافيزيقا، ما وراء الطبيعة) الذي لا يمكن العودة إليه للتحقق من التصورات التي تطرح عنه، ولا من الفرضيات التي تطرح لفهمه، ما يجعل هذه التصورات والفرضيات عبارة عن حدوس، مجرد حدوس (intuitions) يمكن ترجيحها بمعطيات عقليّة أو بإسقاطات من عالم الشهادة كما يمكن الأخذ بها إيمانًا وتسليمًا…، ولكن لا يمكن الاستدلال عليها والتيقن منها بصورة تقطع الطريق على أية تصورات أو فرضيات جديدة، لأنّه لا يمكن العودة إلى موضوعها في عالم الغيب لا بالمشاهدة ولا بالتجريب.

يصدق هذا على الفلسفة عندما تهتم بالميتافيزيقا، ويصدق عليها أيضًا عندما تهتم بالعلم، أو بالأخلاق أو بالدين أو بالسياسة… إلخ. لأنّه حتى في هذه الحالة لا تستطيع الفلسفة بناء نفسها إلا عبر رؤية عامة مشتقة من الميتافيزيقا وتسعى أن تلامسها في تجردها وإمكان تعميمها واحتمال تجاوزها.

ما يقال عن الفلسفات، يقال عن الأديان عمومًا والدين الإسلامي بصورة خاصة والرسل من مفردات الهداية للإنسان، مؤسسة على نظرة إلى عالم الغيب تقوم على الإيمان بوجود إله حكيم عليم خالق لكل شيء ومالك لكل شيء، ومدبر لكل شيء واحد أحد متفرد بالألوهية والربوبيّة.

باختصار أُسِّس الدين الإسلامي:

 أولًا: على نظرة إلى الوجود بغيبه وشهوده تقوم على التوحيد بالمفاهيم التي عرفتها الأديان السماوية، بوصفها أرقى الأديان التي عرفها الإنسان.

 ثانيًا: لأنّ كل ما أُعلم به الإنسان عن هذا العالم (الساعة، البعث، الحساب، الجنة، النار، الملائكة…) إنّما عبر عنه، وهو المفارق، بألفاظ وصور ومصطلحات محايثة لعالم الشهادة ولأوضاع متلقي الرسالة لا سيّما من الناحية الثقافيّة، ما يجعل الإدراكات التي يبثّها ذهن المتلقي لا تطابق المدركات كما هي في عالم الغيب، نفهم قول ابن عباس في ما يروى عنه: “والله ما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء”…

ثالثًا: لأنّ الله جلّ وعلا، إذ أخبر عن ذاته وصفاته وأفعاله بأسلوب مشابه في محايثته لعالم الشهادة، ولكي لا ينزلق المتلقون إلى توهم مطابقة المفارق للمحايث فإنّه، جلّ وعلا، أضاف: ﴿ليس كمثله شيء﴾، عندما يتعلق الأمر بالذات والصفات ﴿وإنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون﴾. عندما يتعلق الأمر بالأفعال وإلى ذلك، ولكي لا يقع المتلقون في الريبة المطلقة فقد أرشد إلى قاعدة للتعاطي مع ما أخبر به عن عالم الغيب وعن ذاته وصفاته وأفعاله تقوم على الامتناع عن تأويل هذه الآيات، أي البحث عن إخراجها من معناها المجازي إلى معناها الحقيقي لأنّ مثل هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، ولأنّه قد يشكّل مدخلًا إلى الفتنة، بمعنى زعزعة الإيمان أو الفتنة بمعنى الإفساد في الأرض، يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. (سورة آل عمران، الآية 7).

وهذا ما يجعل من التصورات الإنسانيّة المقابلة لما أوحي به عن عالم الغيب، حتى في إطار الإيمان بالدين لا تزيد، كما في الفلسفة، عن حدوس يمكن ترجيحها بمعطيات عقليّة أو وحيانيّة أو عرفانيّة، ولكن لا يمكن إثباتها بصورة تقطع الطريق على أيّة حدوس جديدة في الموضوع نفسه. ولهذا كان الغيب موضوع إيمان يتضافر العقل والقلب على إحداث التصديق به بخلاف موضوع الشهادة التي تكفي القوى الإدراكية لإحداثه.

هذا المعطى المعرفي المؤسس على معطى وجودي (الكينونة الإنسانيّة) يبقي الباب مفتوحًا أمام الأسئلة الجديدة التي تبعتها تأملات مستبصرة في أي منظومة فلسفيّة أو دينيّة، أو أي من آيات الآفاق والأنفس، وتستولد حدوسًا جديدة قد تشكّل منطلقات لتعديل أو إنشاء فلسفة عامّة أو فلسفة دينيّة أو فهم ديني… فإذا حدث ذلك تحول الماهو لذاته بتعبير سارتر، أي الوجود على مستوى الوعي والإدراك الذاتي إلى ما هو بذاته أي وجود على مستوى الواقع المحسوس والمقابل للإدراك من قبل الآخرين، أو تحوّل السؤال الوجودي المهاجر بتعبير المؤلف إلى نظم فلسفي واعتقادي يخرجه من الوجود المفارق إلى الوجود المحايث للواقع والقابل للإدراك.

جدل الماهو لذاته والماهو بذاته، بتعبير سارتر وجدل السؤال الوجودي المهاجر، والنظم الفلسفي والاعتقادي بتعبير المؤلف، هو بمعنى من المعاني، أحد الأشكال الملموسة لجدل نفخة الروح الإلهي والطين في الكينونة الإنسانيّة.

ولأنّ الجدل في الكينونة معطى وجودي غير قابل للتوقف أو الانقطاع، فإنّ ما يترتب عليه من معطيات معرفيّة هو أيضًا غير قابل للتوقف والانقطاع أيضًا.

هذه، في ما أقدّر وأرجو أن لا أكون مخطئًا، بعض معالم الخلفيّة الناظمة لأبحاث الكتاب، والموحّدة لها، على الرغم من تعددها وتنوّعها واستقلال كلّ منها بموضوع خاص.

ونترك للقارئ تقدير أهمية هذا التأسيس البعيد الغور لدعوات التسامح بين أصحاب الملل والنحل والمذاهب الذين يغلفون صراع المصالح بينهم بغلاف المعتقدات ليخدعوا الناس ويجيّشوهم في خدمة تلك المصالح. وإذا كان هذا التأسيس هامًّا لكل عصر أو مصر، فإنّه بالنسبة لبلادنا وما تعانيه من التكفير وما يسخره من إرهاب لا يوصف تكتسب أهمية مضاعفة بما لا يقاس.

 

 

الأستاذ علي يوسف

الأستاذ علي يوسف

الاسم: الأستاذ علي يوسف من قرية حانين جنوب لبنان، مواليد عام 1939م. - قرأ القرآن وتعلّم الكتابة وألمّ بمبادئ الحساب في كتّاب القرية. - حائز على إجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع من الجامعة اللبنانية عام 1964. - مدرّس مادة تاريخ الفلسفة العربية والأدب العربي في الثانويات الرسمية اللبنانية. - مدرّس مادة تاريخ العلوم والفلسفة العامة باللغة الفرنسية في ثانويات لبنانية عدة رسميّة وخاصة. - مارس العمل السياسيّ والاجتماعيّ بين عامي 1957 و1970. - مارس مهنة التعليم مدة 33 عامًا. - عمل مديرًا للقسم الثقافيّ ومديرًا لتحرير مجلّة البلاد الأسبوعيّة. - عمل محرّرًا في مجلّة الوحدة الإسلاميّة (1987 – 1993). - كتب العديد من المقالات الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة. - عيّن مديرًا للتخطيط والإشراف في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم 1994-2003. - باحث في معهد المعارف الحكميّة منذ أواسط العام 2009. - شارك في العديد من المؤتمرات والندوات. - من مؤلفاته: 1. الشورى ونظم الأمر. 2. المسلمون بين المواطنة الدينية والمواطنة السياسية. 3. الإسلام وتهمة الإرهاب.



المقالات المرتبطة

شارات المُلك في قصور الحمراء

حدّثنا العلامة ابن خلدون في مقدّمته عن الشارات الخاصة بالملك والسلطان فقال: “أعلم أن للسلطان شارات وأحوالًا تقتضيها الأبهة والبذخ

قراءة في كتاب (شورا در فتوا)

حاز كتاب (شورا در فتوا) على جائزة أفضل تحقيق علمي سنة 1383. وهو حاصل بحث وتحقيق لمدة 3 سنوات (من سنة 1372 إلى سنة 1374). وقد بحث فيه عن إمكانية تشكيل هيئة جماعية للفتوى والاستفتاء تعتمد على الشورى والمشاورة[2]، بحيث تقل على إثرها نسبة الآراء المختلفة والمتعارضة.

مطالعة في كتاب الجمهورية، الأديان، الرجاء.

يؤمن ساركوزي بعلمانية إيجابية لا تعادي الأديان، بل تؤمّن لها إمكان الوجود وعيش إيمانها، والفصل بين الكنيسة والدولة شرط ضروري وحاسم من أجل السلام الديني.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<