قانون العلية | قراءة جديدة

by موسى حسين صفوان | نوفمبر 7, 2022 6:36 ص

يوم أبصرت وجودي كنت لا أزال فتًى صغيرًا، كنت أشعر بالغربة القاسية، أنظر إلى العالم الخارجي بكل تفاصيله فأدرك أنه ليس أنا، كنت أشك بوجود العالم الخارجي، ولم أستطع أن أميّز بينه وبين الحلم، ما الفرق؟ في العالم الخارجي حين اليقظة أصادف موجودات وصور وأشكال ومشاعر تتراوح بين البهجة والألم، وكذا في الحلم. غير أن الحلم لا يتكرر وعالم اليقظة يتكرر، وكلما أستيقظ أجده نفسه وكما تركته. من يدري؟ ربما كانت المشيئة التي شاءت أن أكون، وأن يكون العالم الخارجي الذي أشعر بغربتي فيه، على هذا النحو، هي التي فعلت ذلك؟ أخيرًا، سلمت بالوجود؛ لأنني جزء منه، وهو موجود على الرغم من أني أجهل حقيقته، وهذا أدركته عندما أدركت قصور مداركي، ومحدودية حواسي، فلو كانت مداركي أكثر سعة مما هي عليه، ترى كيف كنت سأرى العالم الخارجي؟ ثم سألت نفسي: هل العالم الخارجي رهن مشاعري، أم أن له وجود صرف مستغن عن مداركي، وإذا كان له وجود صرف، فما هو؟ وكيف هو؟ الحقيقة أنني لا أعرف كيف هو العالم الخارجي، ولا أعرف إن كان هناك عالم خارجي صرف أصلًا.

دعك من هذا، أنا أريد اليوم أن أسأل نفسي سؤالًا، أعتقد أنه من حقي أن أسأله: كيف أدرك ما هو حولي بحواسي الخمس: البصر، السمع، اللمس، الذوق، والشم؟ من خلال معرفتي بالعلوم الطبيعية أدركت أن جميع هذه الحواس تعمل بآلية متشابهة. تدخل الإشعارات، الصور، والأصوات، والأحاسيس، والطعوم والروائح عن طريق الحواس، وتستقبلها مستقبلات تعرّف عليها علم وظائف الأعضاء واختبرها. فالصورة مثلًا، تدخل بواسطة الأشعة المرسلة من المصدر إلى شبكية العين، فتصطدم بها، وتحولها إلى ذبذبات كهرومغنطيسية، ذات مقادير متفاوتة بالطول والتردد، ولكلِّ لون مقاديره، وتنتقل هذه الذبذبات بسرعة الإلكترونات إلى مركزها في الدماغ، فتقرعه، فيرى الصور، ما أروع هذا الوصف! أرى أنَّ علماء وظائف الأعضاء اكتفوا بهذا المقدار من المعرفة، وانتهى الأمر. أما أنا فما زلت أسأل: أولًا: كيف تحولت الموجات الكهرومغنطيسية إلى لون، وبالتالي إلى صورة؟ أي قانون من قوانين العليَّه سمح لها بذلك؟ وثانيًا: هذه الذبذبات وردت إلى مركز الدماغ كما يرد ماء النهر إلى البحر، وبالتالي أسأل: كيف تحول البعد الأول وهو الخط، إلى البعد الثاني، وهو السطح؟ وثالثًا: كيف تحول التفاوت الكمّي إلى تفاوت نوعي؟ فجميع الإشعارات عبارة عن ذبذبات كهرومغنطيسية،  فكيف صارت صوتًا، أو لونًا، أو طعمًا أو إحساسًا، أو رائحة؟ والسؤال الرابع وهو الأعجب، كيف تحولت الأحاسيس بأنواعها من العالم الخارجي إلى العالم الداخلي، بمعنى، كيف تحول ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، أو كيف تحول الـ”هو” إلى الـ”أنا”؟

قد لا يستطيع كثير من الناس طرح مثل هذه الأسئلة، لأن انتقال الأحاسيس والمشاعر، وعملية الإدراك بمجملها باتت عادية بحكم التكرار والعادة، لكنها حيَّرتني، وتلجلَجت في ذهني، ومن حقي أن أسأل.

هذه الأسئلة لم تحيرني وحدي، فالعديد من الفلاسفة استوقفتهم مسألة الإدراك، فهذا أفلاطون، يبدو أنه توقف عند انتقال الأحاسيس من العالم الخارجي إلى الذهن، زعم أن هناك عالم المثل، وأن أمثال تلك الأحاسيس موجودة سلفًا في الذهن، ويقوم الإنسان باستذكارها. وهذا ديكارت يسأل: “كيف نستطيع الوصول إلى حقيقة هذا العالم ابتداءً من الفكر الذي هو المعطى المباشر الوحيد لنا، وأخطر من هذا وذاك، فإن السؤال الأهم هو: كيف تكون المعرفة ممكنة إذا كنا لا نعرف إلا الجزئيات، بينما تطبق المعرفة على تلك الجزئيات دائمًا مفاهيم كلية وقوانين عامة؟  وقد قدَّم ديكارت نفسه حلًّا لهذه المشكلة الأخيرة بافتراض وجود أفكار فطرية، ووجود موازاة بين قوانين الفكر وقوانين الوجود، فقد أفسح له “الكوجيـتـو” (وهو مقولته الشهيرة: أنا أفكر إذًا أنا موجود) الطريق للانتقال من الفكر إلى الـواقـع، بحيث أقام بين العقل والمادة علاقة العلة والمعلول”[1][1].

أما “ديفيد هيوم” فهو يرى “أن النـفـس مـا هـي إلا حـزمـة مـن الـصـور، هـي الـتـي نسميها “أفكارًا”. هذه الأفكار هي وحـدهـا الـتـي يمـكـن أن تـعـرف مـعـرفـة مباشرة، أما القوانين العامة فهي ليست إلّا نتاجًا للقدرة على الارتباط التي تظهر بفـضـل الـعـادة، وبالتالي فليس لتلك القوانـين الـعـامـة أيـة قـيـمـة موضوعية، وهكذا فإن هيوم يرى أن محض وجود عالم حقيقي لا يقوم إلا على الاعتقاد، ولا يحمي هيوم من الشك المطلق إلا أخذه بمذهـب الإيمان”[2][2].

قد لا أتمكن من مناقشة كل من أفلاطون وديكارت وهيوم بشكل كافٍ، على الأقل لأن الكثير من شروحاتهم غير متيسرة لي، لكنني أستطيع الإشارة بالحد الأدنى إلى بعض الملاحظات التي أعتبرها كافية كمقدمة لما أود طرحه في هذا المقال.

لم أقع على أحد من الفلاسفة أجاب على أسئلتي، فأفلاطون الذي اعتبر أن هناك عالم هو عالم المثل، سواء كان هذا العالم في الذهن أم في الخارج، فإنه لم يذكر في حدود قراءتي كيف ينتقل هذا العالم إلى الذهن، لأنه لم يلتفت إلى خواص النفس البشرية التي تم اكتشافها في العصر الحديث.

أما ديكارت الذي اعتبر أن الفكر هو المعطى الوحيد المباشر، فلم يذكر آلية انتقاله من الفكر إلى الواقع، أي من الذات إلى الخارج، وإن ما افترضه من موازاة بين قوانين الفكر وقوانين الوجود، ما هو إلا افتراض، لم يقم الدليل عليه. وعلى افتراض صحته، فهناك سيل من الأسئلة حوله تحتاج إلى الإجابة عليها.

أما هيوم فإنه لم يجد تفسيرًا لحقيقة العالم الخارجي، وفضَّل التسليم به على أساس الإيمان، أي مجرد اعتقاد دون دليل. ولو بحثت في جميع آراء الفلاسفة المثاليين، والماديين، والوجوديين، وغيرهم، فلن أتمكن من العثور على إجابة، على الأقل الإجابة التي أحاول في هذه المقالة تقديمها.

وعند قراءتي لقوانين العلة والمعلول، وجدت أن أرسطو “عدّ قانون العليَّة من المقدّمات الأولية، واعتبر مبدأ العليَّة على أنه قانون عقلي منطقي، تستند عليه أبحاث المنطق جميعًا، وقد ارتبطت دراسته لها في المنطق بنظريته في القياس والاستقراء، وفي الاستدلال نستدل على نتيجة من المقدمات، ومن الضروري أن تكون هذه المقدمات علَّة لتلك النتيجة إذا ما كان الاستدلال – سواء في القياس أو الاستقراء – صحيحًا”[3][3]. وذكر أرسطو أربع علل هي:

  1. العلَّة المادية: وهي المادة التي يتكون منها الشيء، مثل العناصر المكونة للنبات، والخشب المكون للأثاث.
  2. العلَّة المحركة: أي القوة التي عملت على تغيير الشيء، أو العامل المؤثر الذي به يوجد الشيء، كالنجار الذي يجعل من الخشب سريرًا، وأيضًا تغير ورق الشجر من الأخضر إلى الأصفر بسبب العلل الطبيعية المعروفة.
  3. العلَّة الصورية: وهي عبارة عن الصورة التي توجد في المادة، وتصبح منشأً لظهور آثار جديدة فيها، مثل الصورة النباتية.
  4. العلَّة الغائية: هي الغرض أو الغاية أو المقصد الذي تتجه الحركة لإخراجه، فهي الدافع في الفاعل لإنجاز العمل، مثل الهدف الذي يأخذه الإنسان بعين النظر لأفعاله الاختيارية.

ويعتبر أرسطو أن نظرية العلل الأربعة هي التعبير الأمثل لتصور العالم، وأخذ هذا التقسيم الأرسطي للعلل فلاسفة المسلمين وفلاسفة القرون الوسطى، وأضافوا وطوروا لكنهم لم يخرجوا عن إطارها العام الذي قرَّره أرسطو.

وفي قراءة متأنية للعلل الأربعة، والنظر في إمكانية صلاحيتها للإجابة على الأسئلة التي تقدمت بها، نجد أن تحول الموجات الكهرومغنطيسية إلى لون، مع القطع أنها علَّة إبصار اللون، إلّا أنها لا يمكن أن تندرج تحت عنوان العلة المادية، ففي العلَّة المادية يكون المعلول من سنخ العلة،  فإذا كانت العلَّة هي الخشب، والمعلول هو الأثاث، فإن الخشب مستمر في كونه مادة الأثاث. أما في حالة العلاقة بين الإبصار والأشعة الكهرومغنطيسية، فلا سنخية بينها، بل هي انتقال من مادة إلى مادة أخرى، إذا جاز اعتبار اللون، الذي هو إحساس يرد إلى الذهن على شكل صورة، مادة.

ولا يمكن فهم العلاقة بين الموجات واللون على أساس العلة المحركة؛ لأن العلة المحركة التي تغير الخشب إلى سرير، لا تستطيع تحويل الشعاع إلى لون أو صوت أو غير ذلك، لأن العلة المحركة تقوم بتغير المادة نفسها، وفي مثالنا المادة نفسها تلاشت وما نتج عنها مغاير لها مادة وصورة. وكذا الحال بالنسبة للعلة الصورية، فالصورة في الحقيقة ليست علة للصورة النباتية، فهي تحتاج إلى العلة المحركة، التي تغير المادة، وهكذا يتبين أن العلَّة المحركة لا تستطيع أن تكون علَّة حقيقية من دون العلَّة المادية، والعلَّة الصورية أيضًا لا تستغني عن العلَّة المادية، أما العلة الغائية، فهي علَّة متعلقة بإرادة الفاعل العاقل، الذي يسخّر العلَّة المادية والعلَّة المحركة والعلَّة الصورية لهدف يرسمه ويحققه.

باختصار، لا يمكن أن نرجع ما يجري في مسألة الإدراك لأي من العلل الأربع، خاصة إذا أضفنا للسؤال الأول السؤال الثاني، فهناك في عملية الإدراك تحول من البعد الأول إلى البعد الثاني، وأحيانًا البعد الثالث، على الأقل بالنسبة للبصر، وهنا موضوع آخر قد نعود إليه في مناسبة أخرى. أما السؤال الثالث، فهو التفاوت بين العلة والمعلول بالقفز من الكم إلى النوع، فالذبذبات التي تتفاوت بالطول والتردد، ينتج عنها تفاوت في اللون والشكل والصوت وغير ذلك. ولا يمكن فهم كيف تم هذا التحول. والأعجب هو السؤال الرابع، فكيف تسربت العلَّة من عالم الخارج إلى المعلول في عالم الأنا؟ وبعبارة أخرى كيف تم الانتقال من الهو إلى الأنا، مع أن الأنا يدرك بما هو “أنا” باستحالة العبور إلى الهو بما هو هو، فالأنا أنا، والهو هو؟

قدمت هذا الشرح المختصر، الذي أرجو أن أكون قد أوصلت الفكرة التي أريد، لكي أعيد طرح الموضوع على الصورة التي أعتقد أنها تحظى بمقدار من الصواب.

بداية لا بدّ من فهم طبيعة النفس البشرية، وهذا البحث طويل ليس هنا مكانه، غير أني أرجو أن أتمكن من الولوج إلى حقيقة النفس البشرية والوقوف على أعتابها، عسى أن نتمكن يومًا من فهم المزيد مما انطوت عليه.

بالنسبة للسؤال الأول، وبالعودة إلى تسلسل آلية الإبصار، يمكن القول: إن الموجات الضوئية، التي اصطدمت بشبكية العين، وتحولت إلى موجات كهرومغنطيسية بمقادير محددة من التردد والطول، حددتها طبيعة الصورة التي عكستها أشعة الضوء. وهذه الموجات ارتطمت في مكان من الدماغ مخصص لهذه المهمة، وهنا انتهى دورها، وأخذت بالتلاشي باعتبارها إلكترونات وفوتونات تندمج بالمواد التي ترتطم بها، وهنا يبدأ دور الأنا، وهي النفس البشرية التي قرع بابها قارع، ففتح له باب بمقدار حجم القارع، وكشف للنفس ما فتح عليها، فأبصرت، وسمعت وأحست بمقدار ما انتقل إليها من ذبذبات العالم الخارجي. تمامًا كما يخرج الصوت من الآلة الموسيقية بسبب العزف، حيث لا سنخية بين حركة اليد أو الأنامل، وبين الصوت الصادر عن الآلة، فهو من شأنها، ومستكن فيها، وموجود بالقوة، والعزف يخرجه من القوة إلى الفعل.

وبعبارة أخرى عملت الإشعارات المختلفة عمل المفاتيح التي فتحت مغالق النفس، فما هو في الأنا موجود فيها، ومستكن فيها، ولم يدخل عليه شيء من العالم الخارجي، لكنه محجوب عنها، ومطوي في مغالق لا تكشف على النفس إلا بمفاتح جعلها مُنشِئ هذه النفس علَّة مفتاحية تخرجها من القوة إلى الفعل.

والآن، هل يمكننا أن نضيف إلى العلل الأربع علَّة خامسة هي العلة المفتاحية؟

إن العلَّة المفتاحية، أو مفاتح الغيب كما يسميها الله سبحانه هي السر الذي قدَّره الله بينه وبين خلقه، وهذا باب كبير يحتاج إلى كثير من الشرح، قال أمير المؤمنين علي (ع) كما يروى عنه: “وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.

ولا يسعني إلا الإشارة إلى أن العبادات ومقاديرها التي ورد كثيرًا عن دقة وصفها، والتأكيد على صورتها المحدَّدة، ما هي إلا مفاتح للخيرات جعلها الله جعلًا، وأرشد إليها أولياؤه. فالصلوات، والصيام والأدعية الواردة في المناسبات، والتسبيحات وخاصة تسبيحة الزهراء، كلها مفاتح جعلها الله سبحانه عللًا للخيرات.

وأختم بقوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾[4][4].

 

[1][5] إ.م.بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة: د.عزت قرني، عالم المعرفة، رقم :165، سلسلة كتب شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، صدرت السلسلة في يناير 1978 بإشراف أحمد مشاري العدواني 1923 ــ 1990، الصفحة 24، بتصرف.

[2][6] المصدر نفسه، الصفحتان 25 و 26، بتصرف.

[3][7]  موقع الباحثون السوريون، قانون العلية: لكل نتيجة سبب، الجزء الأول، تاريخ الزيارة: 27/10/ 10:22.

https://www.syr-res.com/article/16291.html[8]

[4][9]  سورة الأنعام، الآية 59.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [1]: #_ftnref1
  6. [2]: #_ftnref2
  7. [3]: #_ftnref3
  8. https://www.syr-res.com/article/16291.html: https://www.syr-res.com/article/16291.html
  9. [4]: #_ftnref4

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/15447/causality/