by الأستاذ علي الشاب | ديسمبر 29, 2022 11:49 ص
حرب هجينة ومثقفون مهجنون
لم يعد سرًّا أو مستغربًا، أو اعتباره من أحاديث نظرية المؤامرة (المظلومة)، القول بأن الحصار الاقتصادي وأنظمة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والغرب عمومًا بما تملك من سلطة على المؤسسات الدولية بهدف الضغط الأقصى على البلدان المستهدفة لتفعيل حركة احتجاجية داخلية مدروسة ومدعومة ومنسقة، ثم إرفاق ذلك بأعمال أمنية في الداخل مثل الاغتيالات، وعلى الحدود تحرشات عسكرية وتحويل ذلك كله إلى أفلام هوليودية مضخمة ومكررة بأشكال مختلفة، فتأخذ مثلًا حادثًا وقع في سوريا وتقول إنه في العراق، أو مشهدًا من فيلم سينمائي قديم يتم اقتباسه من دون إشارة لعرضه على أنه تم تصويره في حلب أو في مهرباد (لا يهم فالناس في بلادنا متشابهون)، ويتم نشره في القنوات التي تدّعي العظمة والمهنية، ومنها إلى وسائل التواصل والإعلام الجماهيري، وهذا كله ما صار يعرف بالـ”حروب الهجينة”، باعتبارها شكلًا جديدًا للحروب لم تكن مستعملة قبل نهايات القرن العشرين بشكلها المتكامل والمنسق والشبيه بالحروب الكلاسيكية المشتركة؛ أي التي يشترك فيها قوات من أسلحة مختلفة كالمشاة والمدرعات والمدفعية والطيران والاستخبارات، وترتبط جميعها بغرف عمليات تعمل على ترتيب جهدها بحيث يؤدي كل دوره بشكل دقيق، وفي الوقت المطلوب كأن تقوم المدفعية بقصف تمهيدي يسبق حركة المشاة على سبيل المثال، أو يقوم الطابور الخامس بنشر إشاعات تهدف لإحباط الروح القتالية للجنود أثناء المعركة.
ولم يعد سرًّا أو مستغربًا أن هذا النهج قد غدا نهجًا معتمدًا ومتبعًا وله منظّروه ونظرياته وكتبه وأدواته المعروفة وأساليب عمله ومراكزه الخاصة على مستوى العالم لإعداد الكوادر والقيادات، وتغدق عليه الإمكانيات من كل حدب وصوب، لكن المستغرب حقيقة أن مثقّفين من ذوي الخبرة والاطلاع الحسن يدبجون الأبحاث والدراسات حول “الحركات الثورية” في إيران دون أن ينبسوا ببنت قلم عن هذا الأمر، ويقولون لك: “ابحث عن جذور المشاكل في الداخل”، ويطلبون منك “عدم التهرب من تحمّل المسؤولية بحجة التدخل الخارجي”، ويعظونك بأن الحل يكمن في إجراء “تصحيح ذاتي للنظام السياسي لجهة تركيبته أو لجهة تصرفه”، ويحدثونك عن ضرورة الإقرار بـ”الحقوق الأساسية للشعب”، ويلفتون إلى التحديات “الإثنية والمذهبية والقومية”، وإلى معرفتهم بمفهوم “القلب والأطراف”، ويستندون إلى علماء الأنتروبولوجيا لإبهار قرائهم رغم معرفتهم المسبقة بما تم توجيهه من نقد لهذه الدراسات الأنتروبولوجية التي استخدمها الغرب الرأسمالي أولًا كأداة معرفية في قمع الحركات الداخلية المعارضة، واستخدمها الغرب الإمبريالي ثانيًا كأداة من أدوات تفكيك الشعوب والسيطرة عليها، ثم يحدثونك عن صراع الأجيال وكأن صراع الأجيال ظاهرة إيرانية خاصة، ثم يحدد للشعب الإيراني سياقًا أنتروبولوجيًّا يبني عليه نظرته المتخيلة لمشاريع الأجيال المقبلة والثورات المقبلة، وعلاقتها بالثورات والأجيال المنصرمة، وكأن الأجيال التي صنعت الثورة وبنت الدولة وحولت إيران إلى دولة إقليمية عظمى تهشم وجه الاستكبار العالمي، وترسم مسارًا مختلفًا للإقليم، وترسم خطًّا مميزًا ووازنًا في السياسات والتوازنات الدولية والتحالفات مع القوى الناهضة في الشرق من خلال استنهاض قوى محلية وإقليمية ذات أوزان فاعلة، تخوض غمار معركتها لطرد الاحتلال والهيمنة الأمريكية- الإسرائيلية من المنطقة، وخاضت في سبيل ذلك معارك عالمية عنيفة وقدمت فيها مساهمتها الجبارة في صمود الإقليم أمام الهجوم الأمريكي الشامل، الذي نزل بكل جبروته المسلح محاولًا الإجهاز على كل مواقع المقاومة المجتمعية والعسكرية النظامية والشعبية، لكنه فشل وتقهقر في سوريا والعراق وأفغانستان واليمن وفلسطين وفي لبنان وفي الاحتكاك المباشر مع الجمهورية الإسلامية، وخرجت إيران عزيزة مهابة متجهة نحو البناء والتقدم في كل المجالات.
لكن يقر هؤلاء الباحثون أن كل هذه التحركات التي يسمونها ثورية ليس لها هدف محدد وواضح، وأن الشعوب في هذه التحركات “تعرف ما لا تريد ولا تعرف ما تريد”، دون ملاحظة أن هذه السمة هي من أهم السمات المميزة للحركات “التشرينية” التي مرّ مثلها أمامنا على مرأى العين ومدى السمع، وفي مجال التحليل والإدراك في لبنان والعراق وفنزويلا وأوكرانيا وجورجيا وبوركينا فاسو وجمهورية غينيا وغيرها العديد من البلدان، فالشعب المفترض هنا حقيقة لا يعرف ما يريد لكن مشغليه يعرفون جيدًا ما يريدون أن ينجز من حراكه، وهو لا يملك قيادة ميدانية موحدة ومعلنة؛ لأن قيادته موجودة في مكان آخر. أيضًا تقود وتوجه وتنسق وتقدم ما يلزم في سبيل تنفيذ ما هو مطلوب، وينتقلون بعد ذلك إلى استشفاف صراع مبطن بين “العسكريتاريا” المتخيلة للحرس الثوري ورجال الدين على أساس أن النماذج التي قدمتها الثورة الإسلامية والحرس الثوري ومحور المقاومة بشكل أعم أمثال الشهيد سليماني أو المهندس وسلسلة طويلة من الأسماء التي يمكن إدراجها وطريقة عملهم وحياتهم ثم مماتهم، والإرث المادي أو المعنوي الذي خلفوه وراءهم تسمح بالكلام عن نفوذ هذه العسكريتاريا المتخيلة التي يأتون بها من خيالهم ومن دراسات تم إعدادها لثورات ومناهج قد تكون نافعة لأماكن أخرى في العالم، ويفرغونها في الوعي المزيف عن طبيعة إيران وثورتها الإسلامية وآليات الحكم والسيطرة فيها .
تناقضات مجتمع ناهض
من السذاجة التفكير أن المجتمع الإيراني يشكل كتلة موحدة بكل أطيافها، ملتزمة بخط القيادة الرشيدة، أو بالأحرى من السذاجة الافتراض أنه يمكن لأي مجتمع ناهض وحي يضج بالأفكار والطموحات كالمجتمع الإيراني، أو يجب أن يكون موحدًا خارج إطار القضايا والأحداث الكبرى ذات الطابع الوجودي، ومن السذاجة اعتبار أن إدارة الشأن العام وصياغة وتطبيق السياسات الداخلية تتم بشكل خال من الاعوجاج خاصة وأن هذا النموذج الجديد لا زال جزء منه كبير طور الخلق والإبداع، ولعل الروح الجديدة التي نفثتها أفكار الثورة الإسلامية في جسد الأمة جعلها تعيد اكتشاف ذاتها وتتعلم تلمّس طريق صناعة مستقبلها، تكتشف قوانين حركة المجتمع على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتكتشف طبيعة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وعلاقة المثقفين التقليديين بالمثقفين الحديثين، وعلاقة العقائديين بغير العقائديين، والمحافظين بغير المحافظين، وأهل المدن بأهل الأرياف، وبين المنتجين والريعيين، وبين المتصلين بوسائل الاتصال الحديثة وغير المتصلين، وبين الأجيال المتعاقبة، وبين النساء والرجال، وبالتالي تفحص نقاط الضعف ومكامن الخواصر الرخوة. كذلك طبيعة العلاقة بين الشعوب والقوميات والقبائل التي تتشكل منها البلاد، وعلاقة وموقع كل منها من السلطة ونظام المنافع المترتب على هذه العلاقة، ورؤية كيف تضررت مصالح بعض الفئات اتجاه السياسات الحمائية التي اتخذتها الدولة لمصلحة المستضعفين، وكذلك تضرر بعض الفئات نتيجة الحد من قدرتها على الاستمرار بالفساد والإفساد. إن هذه التناقضات وغيرها هي أمر طبيعي، وهي من عوارض المجتمعات الناهضة المنفتحة على مستقبل واعد ولا يمكن معالجته بخطبة أو موعظة أو بجرة قلم .
عدو البيت
كذلك من السذاجة الظن أن المعركة مع الهيمنة الاستعمارية طريقها سالك ومريح، وبالرغم من التأييد اللفظي الذي نسمعه من كثير من الفئات فإن طريق القطع مع الغرب دونه عقبات كبيرة، وقد رأينا خلال التجربة منذ عام 1979 عام استلام السلطة نماذجًا من المشاركين في بعض مراحل العمل الثوري الذين زاغت أبصارهم من شدة الصعوبات وحجم الأحمال الثقيلة وعزم القرارات الصعبة، وكان بعضهم يعول عليه الغرب في إجراء مساومات وتغيير اتجاهات، غير أن البصيرة الواضحة للقيادة الرشيدة أفقدت الغرب صبره فانهارت رهاناته الواحدة تلو الأخرى، ثم فإن هذا الغرب قد ترك بين ظهرانينا وفي بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا جيوشًا يبني منذ مدة طويلة قوامها وعقيدتها القتالية ومناهجها التعليمية منذ ذهب أوائل المسلمين للتعلم في الغرب، وعادوا ليقولوا رأينا إسلامًا، ولم نر مسلمين، إن هذه الجيوش التي عادت منبهرة بما أنتجه الغرب عمرانًا وعلومًا وثقافة وإدارة وسياسة وطرائق حكم وحياة، وأنظمة قيم ومناهج ورفاهية، هذه الفئات العزيزة من أبناء مجتمعاتنا تواجه عمليًّا كل ما هو مختلف وجديد، ويحتاج معه المرء إلى إعادة برمجة على كل المستويات، وبالتالي يكون مطلوبًا بذل جهود جبارة ودائمة لإنجاز مهمة إعادة توحيد الشعب في جبهة ثقافية يساعد عليها ضحالة الفكر في الغرب اليوم مقارنة بمراحل الصعود وتراجع الأداء أمام التحديات المختلفة، والفشل في إنتاج القيادات التاريخية، مما أدّى إلى تراجع هيبته وتدنّي سمعته لا سيّما نتيجة إخفاق سياسات التصدي للوباء الملتبس، وبروز وهن الديمقراطية الأميركية على أعتاب تغيير الإدارة بعد انتهاء ولاية الرئيس “ترامب”، ثم ما بدأت تفرزه الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا، وضحالة أساليب المواجهة الأوروبية من قبل الأحزاب التي في السلطة وأحزاب المعارضة أيضًا، وثم فشل القدرة على تمويه وإخفاء نقاط الضعف، وقد برز على السطح وبشكل مفضوح كل ما حاولت الدعاية الغربية إبعاده عن الأنظار خلال القرون الثلاثة لسيادة نموذجها على العالم، لذلك فإن خوض معركة الوعي والبصيرة بشكل ناجح كفيل باسترجاع كثير من الفئات الشبابية المعلقة قلوبها بفتنة الغرب .
المقاومة طريق صعب مستصعب
أخيرًا، من السذاجة الظن أن خط مواجهة نظام الهيمنة العالمي وتحمّل تبعات وأكلاف ذلك أمر يجتمع عليه كل الناس، فهناك من هو غير مقتنع أصلًا بضرورة هذه الحرب الطويلة الأمد والممتدة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية حتى الآن، وهناك من تعب ويريد أن يرتاح، وهناك من ساهم وحقق بعض المكاسب ويريد أن يحتفظ ويتنّعم بمكاسبه، وهناك من يقول تعالوا نأخذ ما نستطيع أخذه اليوم قبل الغد فلعل ما حصلنا عليه اليوم لن نستطيع تحصيله غدًا، وهناك من يقول القطب العالمي الذي تعرفه أفضل من الذي ستتعرف عليه، وهناك من لم يقتنع فعليًّا بأن أكلاف طريق المقاومة أقل بكثير من أكلاف طريق الاستسلام .
لقد استطاعت إيران الثورة الإسلامية أن تحل تناقضاتها بشكل ناجح وفي كل مرة خرجت أقوى وأقدر، ولعل في النظر إلى وجه القائد وتلمّس درجة الاطمئنان العميق توحي بأن إيران أكبر بكثير من القلق والخوف.
إن إيران اليوم هي قلعة المقاومة الصلبة وشعلة التحرر الوطني والاستقلال في غرب آسيا، والقلب النابض لكل أحرار العالم تشرئب إليها أعناق المستضعفين المجاهدين في سبيل الحرية، وتحلم بلقائها نسائم بيت المقدس وهي ستكتشف حتمًا الطريق السليم لإدارة تناقضاتها الداخلية وحل معضلاتها، وستخوض معاركها إلى النفس الأخير ومن نصر إلى نصر.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15575/islamicrevolution-3/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.