الأيديولوجية الصهيونية والديانة اليهودية

الأيديولوجية الصهيونية والديانة اليهودية

       بداية الصهيونية

كانت المعركة الحقيقية التي خاضتها الصهيونية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الميلادي الماضي، هي التغلب على الرفض اليهودي لها، وأن تُقنع القوى الاستعمارية بأنها تبوأت موقع القيادة ليهود العالم. وحين نجحت في ذلك أخيرًا، وتمكنت من إعلان قيام الدولة الصهيونية في مايو من العام 1948م، فقد بقيت تلك الدولة (إسرائيل) حريصة على ممارسة الوصاية على الديانة اليهودية، وعلى يهود العالم، فجعلت جنسيتها حقًّا لكل يهودي، وفتحت أبوابها للمهاجرين اليهود، وطالبت الدولة الألمانية بتعويضات عن اليهود الذين عذبهم النازيون وقتلوهم في الحرب العالمية الثانية، وذلك رغم أن الدولة الصهيونية لم تكن قد ظهرت آنذاك، ورغم أن الحركة الصهيونية كانت شريكًا للنظام النازي في تلك الجرائم[1]، ورغم أن المستوطنين اليهود في الكيان الصهيوني (إسرائيل) لم يمثلوا يومًا النسبة الأكبر من يهود العالم، ولا حتى بلغ تعدادهم نصف تعداد يهود العالم، حتى اللحظة*.

حتى لو لم تستطع الصهيونية، أن تجعل الديانة اليهودية تتطابق معها في الفكر والأهداف، وأن تحتوي يهود العالم، و”تصهينهم “، فإنها لا بدّ لها من أن تُروج ذلك وتُقنع به العالم، وإلا لفقدت مبرر وجودها، وفقدت دورها في خدمة الاستعمار، وصارت مجرد فكرة ضمن الإطار العام للأفكار والتيارات التي ظهرت بين جماعات اليهود.

وقد يكون هذا كله قد تحقق فعليًّا، ونجحت الصهيونية في اختراق الغالبية الساحقة من يهود العالم، ولكنها لم تنجح للحظة في تحويل كل يهود العالم لصهاينة، فالحقيقة التي يجب أن ندركها، ويدركها معنا مشايخنا وعلماؤنا أنه ليس كل يهود العالم صهاينة.

اليهود غير المتصهينين

 الحركة الصهيونية ظهرت في بداياتها في أوساط اليهود الأوروبيين، لم تلق ترحيبًا أو قبولًا من جماهير اليهود، حتى بعد تبلور الفكر الصهيوني، وتبني بعض المفكرين اليهود إياه، وتتويج ذلك بصدور تصريح بلفور في نوفمبر/تشرين الثاني 1917م، فقد ظل المشروع الصهيوني في الفترة الأولى من ظهوره، فكرة، أو مخططًا نظريًّا، لا يستند إلى قوة جماهيرية، لأن الغالبية العظمى من يهود العالم، أدركوا العنصرية الكامنة وراء الفكرة الصهيونية، فرفضوها. وتقوّى هذا الرفض لأسباب دينية، فقد أدرك كبار رجال الدين اليهودي منذ ظهور الحركة الصهيونية، أنها حركة قومية علمانية منفصلة عن اليهودية، عقيدة وشريعة، وكان إيمان رجال الدين أولئك هو أن بناء “مملكة إسرائيل”، لا بدّ من أن يتم على يد “المسيح المنتظر”، لذا رأوا أن مساعي الصهاينة لإنشاء دولة لليهود في فلسطين، تخالف ما تقرر في المصادر الدينية اليهودية القديمة والحديثة من وجوب انتظار “المسيح المخلص”[2]، ورأوا أن الصهاينة تحدوا الرب، وأعلنوا عزمهم على الحلول محل مسيحه المخلص، بهدف قيادة اليهود إلى الأرض المقدسة. وقد هبَّ الحاخامات المعارضون للصهيونية، لمقاومة هذه الحركة المارقة من الدين، فأنشأوا سنة 1918م “مجلس كبار علماء التوراة”، في مدينة “كاتوفتيس” ببولندا، وهو المجلس الذي عدَّ الصهيونية “هرطقة”، وأنشأ حزب “أجوداتيسرائيل” لمقاومتها سياسيًّا[3].

وها هي نماذج صريحة للرفض اليهودي العام للصهيونية في بداياتها[4]:

 ـ اتخذت المنظمات اليهودية الرئيسية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة موقفًا معارضًا من الحركة الصهيونية، حتى اضطر القائمون على المؤتمر الصهيوني الأول (1897م)، إلى نقل مقر انعقاده من ميونيخ الألمانية إلى بازل السويسرية، وذلك تحت ضغط من المعارضة اليهودية.

 وقد أعلنت “اللجنة التنفيذية لمجلس الحاخامات” في ألمانيا، عشية انعقاد المؤتمر، اعتراضها على الصهيونية، على أساس أن فكرة الدولة اليهودية تتعارض مع عقيدة الخلاص اليهودية.

 كما اتخذت المنظمتان اليهوديتان في إنجلترا: “مجلس مندوبي اليهود البريطانيين”، و”الهيئة اليهودية الإنجليزية”، مواقف مماثلة، وعارض حاخام مدينة فيينا النمساوية (مسقط رأس هرتزل) فكرة إنشاء دولة يهودية، لأنها فكرة معادية لليهود، وتجعل العرق والقومية هي الأساس، بدلًا من العقيدة اليهودية.

 ـ أعرب “المؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكان” عن معارضته للتفسير الصهيوني لليهودية بأنها “انتماء قومي”.

وقد تبنت “اللجنة اليهودية الأمريكية” موقفًا مناهضًا للصهيونية عام 1906م، وظلت غير صهيونية حتى أواخر سنة 1940م، وعندما صدر تصريح بلفور أعلنت اللجنة رفضه في الحال، وذلك في عريضة وجهتها للحكومة الأمريكية، وقعها 299 يهوديًّا أمريكيًّا، أعلنوا رفضهم للتصريح الذي يروج مفهوم “الولاء المزدوج”، بين الوطن الذي يعيش فيه اليهودي والدولة التي تدعو الدولة الصهيونية لإنشائها.

وفي الرابع من مارس/آذار سنة 1919م، بعث “جوليوس كان”، عضو الكونجرس الأمريكي عن كاليفورنيا، إلى الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون”، رسالة وقعها معه ثلاثون يهوديًّا أمريكيًّا بارزًا، يحتجون فيها على فكرة الدولة اليهودية، ويقولون: “إن إعلان فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، سيكون جريمة في حق الرؤى العالمية لأنبياء اليهود وقادتهم العظماء…”، مؤكدين في رسالتهم أنهم يعبرون عن رأي أغلبية اليهود الأمريكيين، وأن قيام دولة على أساس يهودي، هو رده إلى ألفي سنة مضت، وأن مفهوم الأرض الموعودة لليهود يجب أن يتسع لتكون أرضًا موعودة لكل الأجناس والعقائد.

 ومن أهم الشخصيات التي عارضت الصهيونية، السير “أودين مونتاغو”، الذي كان العضو اليهودي الوحيد في الوزارة البريطانية التي أصدرت “تصريح بلفور” عام 1917، فحين علم الرجل بنية إصدار التصريح، كتب مذكرة رسمية تبين أن التصريح ينطوي على معاداة اليهود، لأن إنشاء وطن قومي لليهود سيؤثر على حقوق اليهود كمواطنين في بريطانيا، وستصبح فلسطين “جيتو”* لكل يهود العالم، وسيصير اليهود أجانب بوصفهم من مواطني الدولة الصهيونية.

وقد وصف مونتاغو الصهيونية بأنها: “عقيدة سياسية مضللة، لا يمكن لأي مواطن محب لوطنه في المملكة المتحدة، الدفاع عنها”، واقترح حرمان كل صهيوني من حق التصويت في المملكة المتحدة، بدلًا من سعي الصهاينة إلى حرمان اليهود البريطانيين من جنسيتهم، ودعا الرجل لتحريم أنشطة المنظمة الصهيونية، بوصفها منظمة غير شرعية تعمل ضد المصلحة القومية البريطانية.

الرفض اليهودي للصهيونية … نماذج وأدلة

وهكذا فإن الصهيونية قد واجهت الرفض اليهودي في البداية، وقد أدرك قادتها التاريخيون هذه الحقيقة، ومنهم حاييم وايزمان**، الذي اعترف بعد عشر سنوات من تصريح بلفور أنه كان تصريحًا “مبنيًّا على الهواء”!!

ورُوي أنه في العام نفسه (1917م) كان يرتعد خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مدى تأييد اليهود للحركة الصهيونية، لأن تلك الحكومة كانت تعلم ـ حسب كلمات وايزمان ـ أن: “اليهود ضدنا… كنا وحدنا نقف على جزيرة صغيرة، مجموعة صغيرة من اليهود لهم ماض أجنبي”[5].

ولكن في النهاية تم استيعاب الغالبية الساحقة من يهود العالم في المنظومة الصهيونية، وكان لذلك أسبابه، التي من أهمها التي أوردها الدكتور عبد الوهاب المسيري، في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية[6]:

  1. توجد غالبية يهود العالم في العالم الغربي، خاصة في الولايات المتحدة، وقد نجحت الصهيونية في جعل نفسها جزءًا من الاستراتيجية الغربية العامة، إذ أصبحت الدولة الصهيونية (إسرائيل) دولة عميلة، استوعبت الفائض البشري اليهودي، وجمعته في كتلة بشرية تخدم المصالح الغربية، ومن هنا لم يعد هناك أي تناقض بين أن يكون اليهودي صهيونيًّا، يدين بالولاء للدولة الصهيونية، وأمريكيًّا يدين بالولاء للولايات المتحدة، فالولاء لإحداهما يصب في الولاء للأخرى.
  2. مع الوقت نجحت الصهيونية في الوصول لصيغة مناسبة مع اليهود الذين رفضوا الصهيونية في البداية لأنها تهدد اندماجهم في مجتمعاتهم، وطرحت مفاهيم جديدة، مثل “صهيونية الشتات”؛ أي صهيونية اليهودي، الذي يؤيد الحركة الصهيونية بالدعم السياسي والمالي، دون أن يهاجر إلى فلسطين ويعيش في الدولة الصهيونية.
  3. نجحت الصهيونية في “صهينة” العقيدة اليهودية، وتفسير كثير من مفاهيمها لصالح المشروع الصهيوني، ولما كانت العقبة الرئيسية هي عقيدة العودة، التي تحرم عودة اليهود لفلسطين إلا تحت قيادة المسيح، الذي يخرج في آخر الزمان لتخليص اليهود، فقد أفتى بعض حاخامات اليهود المتصهينين أنه يجوز لليهود العودة لفلسطين، إعدادًا لمجيء ذلك المخلص.
  4. عمدت الصهيونية إلى مخاطبة كل يهودي بما يجذبه إليها، فإن كان اليهودي متدينًا، فإن الدعاية الصهيونية تحدثه عن الشعب اليهودي المقدس، المكروه من الأغيار بسبب قداسته، والذي سيتم نقله إلى فلسطين، استجابة للحلم الأزلي بالعودة، وتحقيق رسالة اليهود بتأسيس دولة يهودية تطبق تعاليم الشريعة اليهودية.

وإن كان اليهودي اشتراكيًّا ثوريًّا، فإن الصهيونية تحدثه عن توطين اليهود في فلسطين بغرض تأسيس دولة العمال والفلاحين اليهودية، التي ستحقق المثل الاشتراكية، وتثوّر الشرق العربي.

وإن كان اليهودي مهتمًا بـ “الهوية اليهودية”، فإن الصهيونية تخاطبه عن ضرورة نقل “الشعب اليهودي” من “المنفى”، وتجميعه في فلسطين للحفاظ على هويته اليهودية، خشية أن يندمج اليهود في مجتمعاتهم وينصهروا فيها فيفقدوا تلك الهوية.

وإن كان اليهودي ليبراليًّا ديمقراطيًّا، فإن الصهيونية تكلمه عن ضرورة نقل الشعب اليهودي لفلسطين، لأنه شعب ليبرالي ديمقراطي، يرغب في تأسيس دولة ديمقراطية علمانية، تسودها القيم الليبرالية الغربية.

 ونضيف للأسباب الأربعة السابقة سببًا آخر، دور الاضطهادات النازية لليهود في عهد هتلر، في جذب يهود أوروبا للحركة الصهيونية، وإثر التفجيرات والأعمال التخريبية التي نفذها الصهاينة في الدول العربية، من أجل إجبار اليهود العرب على الهجرة لفلسطين والانضمام للتجمع الصهيوني.

 وهكذا تم استيعاب غالبية اليهود في المنظومة الصهيونية، ولكن هل يمكن أن نقول إن كل يهود العالم اليوم صهاينة، يؤيدون الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، ويدعمون الدولة الصهيونية (إسرائيل)؟ هل اختفى الحد المميز بين اليهودية، كديانة، والصهيونية، كحركة سياسية، فأصبح كل يهود العالم صهاينة، معادين للأمة؟

 الواقع يجيب على هذا السؤال بالنفي، فلا زال بين يهود العالم من يناصب الصهيونية العداء، وهناك جماعات يهودية ترفض الصهيونية، وتعد الوجود الصهيوني في فلسطين وجودًا غير شرعي، انطلاقًا من الشريعة اليهودية، وانطلاقًا من القيم والأخلاق الإنسانية التي تحرم العدوان واحتلال أراضي الغير.

 تأتي جماعة “ناطوري كارتا” كأشهر تلك الجماعات، وهي جماعة دينية انشقت عن حزب “أجوداتيسرائيل” عام 1935م، احتجاجًا على قيام مؤسسي الحزب بإجراء مفاوضات مع منظمات صهيونية، بغرض الوصول لصيغة عمل مشتركة مع تلك المنظمات، رغم أن الحزب كما ذكرنا قد أُنشيء لمقاومة الصهيونية، ومع أن تلك المفاوضات لم تسفر في النهاية عن نتائج تذكر، فإن العناصر التي أصرت على رفض أي تعاون أو لقاء مع الحركة الصهيونية، تركت الحزب وكونت حركة جديدة، هي ما تسمّى اليوم “ناطوري كارتا”[7].

 يرفض أعضاء الجماعة المشروع الصهيوني، ويحاربونه، من منطلق فهمهم المختلف للديانة اليهودية، فرغم إيمانهم بأن اليهود هم “شعب الله المختار”، فإن ذلك لا يعني لديهم حق اليهود في الاستعلاء على البشر، أو السعي للسيطرة على العالم، وإنما يعني اصطفاء الإله لليهود ليقوموا على خدمته في الدنيا، وخدمة الجنس البشري كله انطلاقًا من خدمة الرب، وهو “الاصطفاء” الذي يفرض على اليهود واجبات أكثر مما يمنحهم من حقوق، وُيوجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس تواضعًا وإيثارًا للسلام، وبُغضًا للعدوان وسفك الدماء، وذلك الفهم هو ما يدعو أعضاء الجماعة للتأكيد على أن اليهودية تحض اليهودي على ترك المشاركة في السلطة الدنيوية، وترك أمور السياسة للدولة التي يعيش في كنفها[8].

ولأن الصهيونية تدعو لغير ذلك، وتسعى لتسخير اليهودية لخدمة مشروعها السياسي الاستعماري، فقد ناصبتها الجماعة العداء، واعتبرتها حركة “ملحدة ومهرطقة”، لأنها انتهكت العهود الثلاثة التي قطعها اليهود للرب قبل خروجهم للمنفى، وهي:

  1. ألّا يسببوا الألم للأغيار الذين يقيمون بينهم.
  2. وألّا يحاولوا احتلال الأرض المقدسة بالقوة.
  3. وألّا يستعجلوا العودة وظهور المسيح.

 فكان إعلان قيام الدولة الصهيونية بالنسبة لأعضاء الجماعة نقضًا لقوانين الشريعة، لذا يرفضون الاعتراف بتلك الدولة وبقوانينها، وأعلنوا أنهم لن يهبوا للدفاع عنها إذا قوتلت[9]، لأنها ثمرة للغطرسة الآثمة، قامت على أيدي نفر من “الكافرين” الذين تمردوا على مشيئة الرب، بل إن الصهيونية من منظور الناطوري أخطر المؤامرات الشيطانية ضد اليهودية[10].

 وبجانب هذه الجماعة، فهناك جماعات وأفراد من اليهود في مختلف دول العالم، لا يؤمنون بالصهيونية، ولا يؤيدون المشروع الصهيوني، هذا إن لم يعادوا هذا المشروع من منطلق ديني وأخلاقي، وهؤلاء اليهود لا يمكن وصفهم بالصهيونية، أو اعتبارهم أعداء للمسلمين، ما داموا لم يظهروا لنا عداءً، أو يشتركوا في محاربتنا والكيد لنا.

العلمانية الصهيونية

ومن الخطأ اعتبار كل يهود العالم صهاينة، وتصور ضرورة أن يكون الصهيوني يهوديًّا، فالصهيونية حركة سياسية قامت لتحقيق غاية معينة، وليس من الغريب أن يكون لها أنصارها والعاملون على تحقيق غايتها من مختلف الأديان، وأن نجد صهاينة مسيحيين ومسلمين، يخدمون المشروع الصهيوني بالفكر والفعل، ويُسدون للدولة الصهيونية أجلَّ الخدمات.

حتى بين اليهود أنفسهم، ليس كل من يعتنق الصهيونية ويتفانى في خدمتها يفعل ذلك بدافع ديني، أو منطلق إيمان باليهودية، ورواد الحركة الصهيونية أنفسهم، أمثال هرتزل، وحاييم وايزمان، لم تكن اليهودية بالنسبة لهم ديانة يؤمنون بها، بقدر ما كانت رباطًا قوميًّا يبنون عليه مشروعهم الاستعماري، لذا لم يكن غريبًا أن يصطبغ المشروع الصهيوني منذ بدايته بالعلمانية، وكانت هذه الصبغة من الأسباب الرئيسية للمعارضة التي لقيتها الحركة الصهيونية في بدايتها، كما أسلفنا.

 تيودور هرتزل نفسه، الزعيم التاريخي للصهيونية، لم يكن يهوديًّا بالمعنى الفعلي للكلمة، بل كان رافضًا لليهودية وتقاليدها، فلم يختن أولاده حسب الشريعة اليهودية، ولم يكن يلتزم بالمحرمات اليهودية في الطعام والشراب، وكان يحتفل بعيد الميلاد المسيحي(الكريسماس)، وكانت زوجته مشكوكًا في يهوديتها، حتى إن حاخام فيينا رفض إتمام مراسم زواج هرتزل بها حينما اكتشف ذلك، أما الأبناء فقد تنصر معظمهم بعد وفاة هرتزل[11]، حيث كان الزعيم الصهيوني الأشهر، لا يعرف العبرية، وحين أراد مجاملة حاخامات مدينة بازل في فترة عقد المؤتمر الصهيوني الأول(1897م)، اضطر هرتزل لتعلم بضع كلمات عبرية لأداء الصلاة في معبد المدينة قبيل افتتاح المؤتمر، ويبدو أنها كانت المرة الأولى والأخيرة، فقد قال الرجل بعدها: إن المجهود الذي بذله في تعلم الصلوات كان أكبر من المجهود الذي بذله في إدارة جلسات المؤتمر بأسرها[12].

وعندما زار هرتزل القدس، انتهك العديد من الشعائر الدينية اليهودية، ليؤكد تميز فكرته الصهيونية ونظرته اللادينية عن العقيدة اليهودية[13].

وكان من أصدقاء هرتزل ومساعديه اليهود من يجاهرون بإلحادهم، مثل ماكس نوردو، ساعد هرتزل الأيمن، الذي كان يؤمن بأن التوراة كعمل أدبي أقل قيمة من أعمال الأديب الإغريقي “هوميروس”، ومن الأعمال الأدبية الكلاسيكية الأوروبية، بل كان يصف كتابه المقدس (التوراة) بأنها طفولية، من الناحية الفلسفية، ومقززة، من الزاوية الخلقية، ووصل كفر نوردو باليهودية وإيمانه بالصهيونية في الوقت نفسه، إلى أن يقول إنه سيأتي اليوم الذي يحتل فيه كتاب هرتزل (دولة اليهود) مكانة تساوي مكانة الكتاب المقدس نفسه، حتى لدى خصوم هرتزل من المتدينين[14].

 وبقي الموقف العلماني نفسه لدى الأجيال التالية من قادة الحركة الصهيونية، فكان حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة الصهيونية، يتلذذ في بعض الأحيان بمضايقة الحاخامات بشأن الطعام الحلال حسب الشريعة اليهودية[15].

 واعتاد ديفيد بن جوريون*، أول رئيس وزراء للدولة الصهيونية، أن يتفاخر بعلمانيته، وأن يقلل من قيمة النصوص الدينية اليهودية وأحكام الحاخامات، وقد قال بعد اعتزاله العمل السياسي: “كنت مصمّمًا على أن تكون إسرائيل دولة علمانية، تحكمها حكومات علمانية، وليست دينية، وحاولت أن أُبقي الدين بعيدًا من الحكومة والسياسة بقدر المستطاع”[16].

 وبين الجماهير الصهيونية نفسها، كانت النزعة القومية العلمانية واضحة لدى المستوطنين الصهاينة منذ بداية الاستيطان في فلسطين، ولعل هذا ما دفع كثيرًا من المستوطنين قبل ظهور الدولة الصهيونية إلى التخلي عن لقب “اليهود”، وتبني لقب “العبرانيين” بدلًا منه. أي أنهم أرادوا أن يُعرفوا بأنفسهم على أساس قومي، يحل محل الأساس الديني التقليدي، وقد اضطر الصهاينة فيما بعد لاستخدام لفظ “يهودي” لقدرته الأعلى على تعبئة اليهود، ولكنهم حتى حين يستخدمون هذا اللفظ يجردونه من أي محتوى ديني، ويستخدمونه للدلالة على المعنى القومي[17].

ويمكن فهم تلك العلمانية ذات القشرة الدينية التي تتسم بها الحركة الصهيونية، إذا نظرنا لتشكل العلاقة منذ البداية بين الصهيونية كحركة أيديولوجية، واليهودية كديانة، فقد ظهرت الصهيونية لتجميع اليهود على أساس قومي علماني، ومع انتماء جماعات اليهود العالم لقوميات متعددة، فعليًّا، بما يعني غياب القومية الواحدة التي يمكن أن تجمع اليهود، كان الرابط الوحيد الذي يمكن جمع يهود العالم حوله هو الانتماء للدين اليهودي.

وحين تولى اليهود قيادة الحركة الصهيونية، بعد تبلورها في شكلها النهائي، فإن الصهيونية لم تتحول إلى أيديولوجية يهودية خالصة، فقد ظل للصهاينة غير اليهود دورهم الكبير في المشروع الصهيوني.

وفي هذا الإطار لا يمكن إغفال اللورد بلفور*، السياسي البريطاني المسيحي، الذي ارتبط اسمه بالتصريح الشهير، والذي يعد أحد أهم الشخصيات في تاريخ الصهيونية قبل إعلان الدولة، كما لا يمكن إغفال القادة الأوروبيين والأمريكيين الذين رعوا الدولة الصهيونية، في مراحل تكونها، وبعد إعلانها، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، كما لا يمكن إغفال المسيحية الصهيونية، التي ترى في مساندة الكيان الصهيوني ودعمه فريضة دينية، وتتقرب لربها بدم الفلسطينيين المسفوك.

خلاصة القول إننا في عداء مع الصهيونية، ولم يكن المسلمون يومًا يضطهدون اليهود…

 

تعريف بالباحث محمود عبده

  • باحث وكاتب وصحفي.
  • مدير دار الدليل الثقافي للنشر والتوزيع.
  • له عدة مؤلفات أهمها:
  1. محمد الغزالي داعية النهضة، إصدار مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- بيروت.
  2. عبد الرزاق السنهوري أبو القانون، إصدار مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.
  3. حتى لا تكون صهيونية إسلامية، مركز يافا للأبحاث والدراسات ـ القاهرة.
  4. فجر الانتصار، تأليف مع آخرين، القاهرة، دار الكتاب العربي، 2006.
  5. النصر المختطف، صادر عن دار الشروق الدولية بالقاهرة.

وغيرها من الدراسات والأبحاث.

[1] انظر تفاصيل ذلك في: عبد القادر ياسين (محررًا)، ثالوث الشر..النازية ـ الصهيونية ـ معاداة السامية، القاهرة، دار سطور، الطبعة1، 2005م (انظر: محمود عبده، الصهيونية والنازية، الصفحات 106 ـ137).

*  أفاد تقرير نشرته الوكالة اليهودية في سبتمبر 2008م، أن عدد يهود العالم يبلغ 13,3 مليون نسمة، منهم 5,5 ملايين يقيمون في فلسطين المحتلة.

[2]  عبد الوهاب المسيري، البروتوكولات واليهودية والصهيونية، القاهرة، دار الشروق، الطبعة1، 2003، الصفحة 110، و: د. رشاد عبد الله الشامي، القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة، سلسلة عالم المعرفة (186)، الكويت يونيو/حزيران، 1994، الصفحة 126.

[3]  د. رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهوية في إسرائيل، سلسلة عالم المعرفة (224)، الكويت أغسطس/آب، 1997، الصفحتان 255 – 256.

[4]  د. عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد 6، القاهرة، دار الشروق، الطبعة1، 1999 م، انظر صفحات: 407، 408، 420.

* الجيتو هو: الحي المقصور على إحدى الأقليات الدينية أو القومية. ولكن التسمية أصبحت مرتبطة أساسًا بأحياء اليهود في أوروبا. وقد ساهم الجيتو في عزل اليهود عن بقية السكان في الأقطار الأوروبية، حتى أخذت هذه العزلة في الانحسار التدريجي ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، في دول مثل: هولندا وإنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال، وبدأت هذه الدول جميعًا في تخفيف حدة القوانين التي تحد من حركة اليهود، بعد أن ساهمت التحولات الاقتصادية والثقافية في زيادة تَقبُّل اليهود من قبَل مجتمع الأغلبية. وفي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر الميلادي، مع بدايات الثورة الفرنسية، وظهور المجتمع الغربي الحديث، أخذت أسوار الجيتوات في السقوط، الواحد تلو الآخر، تحت ضغط الشعوب والحكومات الأوروبية التي كانت تحاول توحيد السوق القومية. حتى باتت الجيتوات تُعدُّ من مخلفات عصر انقضى. وبدأت الجماعات اليهودية في شرق أوروبا ووسطها صفحة جديدة من تاريخها.

(التعريف من: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، للدكتور عبد الوهاب المسيري، المجلد الرابع، الباب الثاني: الجيتو).

** حاييم وايزمان (حاييم فايتسمان ): وُلد في روسيا في نوفمبر 1874م، وانخرط منذ شبابه في الحركة الصهيونية، كان له دور كبير في استصدار تصريح بلفور سنة 1917م، وظل رئيسًا للمنظمة الصهيونية العالمية منذ عام 1920م وحتى عام 1946م، ثم انتخب كأول رئيس للدولة الصهيونية في فبراير 1949م، وظل في المنصب حتى وفاته في نوفمبر 1952م.

[5]  المسيري، البروتوكولات…، مصدر سبق ذكره، الصفحة 112.

[6] المصدر نفسه، الصفحات 114 ـ 116.

[7] الشامي، القوى…، مصدر سبق ذكره، الصفحتان 315 – 316.

[8] المسيري، موسوعة…، مصدر سبق ذكره، الصفحتان 415-  416.

[9] الشامي، القوى…، مصدر سبق ذكره، الصفحة 317.

[10] المسيري، موسوعة…، مصدر سبق ذكره، الصفحتان 415 -416.

[11] المسيري، البروتوكولات…، مصدر سبق ذكره، الصفحة 68.

[12] المسيري، موسوعة…، مصدر سبق كره، الصفحة 228.

[13] الشامي، القوى…، مصدر سبق كره، الصفحة 20.

[14] المصدر نفسه، الصفحتان 20 -21.

[15] المسيري، البروتوكولات…، مصدر سبق ذكره، الصفحة 130.

*  ولد في بولندا عام 1886م، وهاجر إلى فلسطين في العام 1906م، ونشط في خدمة الحركة الصهيونية، حتى صار من زعمائها، وفي مايو 1948م أعلن قيام الدولة الصهيونية، وترأس مجلس وزرائها منذ ذلك الحين حتى استقال عام 1963م، باستثناء 19 شهرًا بين عامي 1954م و1955 م، وظل محتفظًا بمقعده في الكنيست بعد استقالته حتى اعتزاله العمل السياسي عام 1970م.

[16] الشامي، إشكالية…، مصدر سبق ذكره، الصفحة 280.

[17] المسيري، البروتوكولات…، مصدر سبق ذكره، الصفحة 131.

* آرثر جيمس بلفور، من الشخصيات التاريخية التي تحظى بامتنان الصهيونية لما قدمه لها من مساندة ودعم، رغم أنه كان معروفًا بكراهيته لليهود. ولد في اسكتلندا في يوليو 1848 م، وشق طريقه في الحياة السياسية البريطانية، متدرّجًا في المناصب السياسية حتى تولى رياسة الوزراء البريطانية 1902 -1905م، وتولى وزارة الخارجية البريطانية 1916 -1919 م، وهي الفترة التي أصدر فيها تصريحه الشهير، الذي عبّر فيه عن دعم بريطانيا لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وساهم حتى وفاته في سنة 1930 م في دعم المشروع الصهيوني.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عقيدةشريعةالحاخاماتاليهودالصهيونية

المقالات المرتبطة

تاريخ علم الكلام | الدرس الثامن | كلام أهل السنّة من القرن الرابع حتّى القرن التاسع: تاريخ الماتريديّة وعقائدها

سنتعرّف في هذا الدرس على مدرسة أخرى من المدارس الكلاميّة عند أهل السنّة، وهي مدرسة الماتريديّة، التي ظهرت في الفترة الزمانيّة نفسها لظهور مدرسة الأشاعرة، وحملت الأهداف نفسها.

التجليات الأخلاقية في المشهد العاشورائي

التجلي في اللغة هو الوضوح والكشف والظهور، كما جاء في سورة الأعراف، الآية 143 ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾

الشيعة في العقل الاستراتيجيّ الأمريكيّ

الإدارة الأمريكية ترى أنّ هناك ضرورة لتعديل سلوكيات الشيعة، ودفعهم إلى مغادرة دعم القضايا الوطنية والقومية والإسلامية، وتعتمد في ذلك سياسة الضغط القصوى التي تؤدي في نهاية الأمر إلى إعادة إنتاج تشيع جديد، يكون جزءًا من مخططها للمنطقة.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<