by الشيخ محمد زراقط | أبريل 13, 2023 9:33 ص
وُلِد الشيخ محمد علي شاه آبادي (1253-1328هـ.ش.) في محلة حسين آباد جنوب مدينة أصفهان، وترعرع في أكناف أسرةٍ معروفةٍ بالعلم والتقوى، وفيها نمت شخصيّته وارتقى مدارج الكمال حتّى استحقّ أن يقول فيه تلميذه الأشهر الإمام الخمينيّ: “لشيخنا العظيم… [الشاه آبادي] حقّ كبير عليّ فإنّ حياتي الروحيّة مدينة له، ولا يمكنني أداء هذا الحقّ باليد واللسان”. وقد ظلّلت عظمة الإمام الخمينيّ والإنجازات التي أنجزها على عظمة شيخه وعلوّ مقامه، إلا أنّ التلميذ بقي وفيًّا للبئر التي اغترف منها بكلتا يدي عقله وقلبه، إلى آخر لحظات حياته. وسوف نحاول في هذه الترجمة الموجزة تسليط شيء من الضوء على الشيخ محمد علي شاه آبادي لعلّ في ذلك ما يكشف عن شيء من الحقّ الذي يشير إليه الإمام الخمينيّ في كلمته هذه. ويدعونا ذلك ولو على حساب الاختصار والإيجاز أن نبدأ بالحفر عن المحتد والجذور، وبالتالي نبدأ من الأسرة وما ترتب على العيش في أكنافها من آثار.
حياته في كنف أبيه
كانت حياة الشيخ محمد علي شاه آبادي في كنف أبيه مليئة بالكثير من الأحداث التي تصقل الشخصيّة وتنمّيها، وكان الأب أبًا بيولوجيًّا وأبًا روحيًّا وعاطفيًّا في آن معًا، ومدرسة عمليّة تلقّى فيها الابن الكثير من العلوم والمعارف التي لعبت دور التأسيس لبناء هذه الشخصيّة العظيمة، ويكفي لتحقيق هذا الأثر في ذلك الولد الذي صار شيخًا من شيوخ العرفان تشدّ إليه الرحال أنّ عضوين من أعضاء هذه الأسرة كانا من أوّل من أخذ بيد شيخنا في رحلتيه العلميّة والروحيّة، فأستاذه الأوّل هو أكبر إخوته الشيخ أحمد (1278 ـ 1357 هـ. ق)، الذي يصفه بعض من ترجم له بأنّه فقيه أجيز بالاجتهاد من عدد من أساتذته، وفي فضله يُنقل عن أبيه قوله في حقّه: “إنّ ابني أحمد قرّة عيني ومقامه عندي أعزّ من روحي التي بين جنبيّ، وقد طلب منّي بعض إخواني أن أجيزه وهو لم يبلغ الحلم، فرأيت تأجيل ذلك كي لا أُتّهم بالمحاباة والإجازة خضوعًا لمقتضيات الحبّ الأبويّ لابنه؛ ولذلك انتظرت وصبرت حتّى حاز على خمس إجازات من آخرين من العلماء وأهل الفضل، وكنت السادس بين من أجازه؛ دفعًا لأيّ سوء ظنّ أو تهمة بالمحاباة”.
وأستاذه الثاني هو أبوه الشيخ محمّد جواد الأصفهانيّ (1240 ـ 1312 هـ. ق)الذي كان من كبار علماء عصره ومن خيرة تلامذة مجموعة من العلماء المعروفين في ذلك الزمان منهم: الشيخ محمّد حسن النجفيّ (المعروف بصاحب الجواهر نسبة إلى كتابه جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام)، وكان الأصفهانيّ الأب معاصرًا لواحد ممّن تصدّوا لتأسيس معالم مدرسة أصوليّة مهمّة هو الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 ـ 1281 هـ. ق)، ومن الطبيعيّ أن يكون بينهما زمالة أو ما يتراوح بين الزمالة والتلمّذ؛ حيث ينقل أنّ الشيخ الأنصاريّ أجاز الأصفهانيّ والد المترجم له بالاجتهاد. وعلى أيّ حال في مثل هذه البيئة وُلِد شيخنا المترجَم له وترعرع، واستقى الكثير من معارفه وعلومه، وفيها صقل نفسه وهذّبها. وقد كانت حياة الأب حافلة بالنشاط العلميّ والعمليّ، الأمر الذي تجلّى في وعي الابن وشخصيّته؛ وربّما يدعونا ذلك إلى إلقاء بعض الأضواء على حياة الأب لعلّ في ذلك ما يخدم غرضنا الذي نحن بصدده.
لمحةٌ عن والد المترجَم له
عاش الشيخ محمد جواد الأصفهانيّ في مرحلةٍ بالغة الحساسيّة من تاريخ العالم الإسلامي بعامّة، وإيران بخاصّة حيث عاصر السنوات الأخيرة من عمر الدولة القاجاريّة مع ما فيها من بداية التسلّط الأجنبيّ على إيران، بل ربما مرحلة بداية اكتمال آخر حلقات هذه السيطرة. ومن هنا، نجده في خضم الحراك السياسيّ معارضًا للسياسة الرسميّة الممالئة للأجنبيّ والمتواطئة معه.
فقد كان الشيخ الوالد، من علماء مدينة أصفهان الكبار معاصرًا لناصر الدين شاه القاجاريّ، وكان يرى من واجبه إقامة الحدود الشرعيّة وتطبيق نظام العقوبات الإسلاميّة وغيره من أحكام الإسلام حتّى في ظلّ الدولة ودون الالتفات إلى إذن الحاكم غير الشرعيّ ولا ملاحظة رضاه، الأمر الذي أثار حفيظة ناصر الدين شاه، وبعد محاولات نهيٍ ومنعٍ متكرّرة لم تجدِ نفعًا أصدر أمرًا بإبعاده عن أصفهان إلى طهران. ولكنّ الإبعاد والنفي لم يحقّقا ما كان يرمي إليه الشاه من إبعاد الشيخ محمد جواد عن ساحة أداء الواجب، فبقي الشيخ مصرًّا على سيرته في التصدّي لما يراه منكرًا حتّى لو صدر من الملك أو لمصلحته، وبالتالي لم يكن الملك في مأمنٍ من سهام نقده الحادّة عندما يرى وجوب التصدّي للمنكر ومواجهته، ومن ذلك ما يُنقل عنه في حقّ ناصر الدين: “كنت أظنّ أنّك ناصر الدين، ولكن تبيّن لي مع مرور الأيام أنّك هازم الدين وكاسره”.
وممّا ينقل عنه في مجال التصدّي للمنكر أنّه علم بوجود ملهىً ومصنع للخمر لشخص أرمني بجوار منزله، وكان هذا المصنع يهيّئ الخمر لمصلحة ناصر الدين نفسه، فما كان من الشيخ محمّد جواد، وبعد فشلِ محاولات التأثير والنهي بالتي هي أحسن، إلا أن ذهب مع أولاده وبعض المؤمنين وأراقوا ما في الدّنان من خمور في البالوعة وعادوا إلى بيوتهم. ولمّا وصل خبر الحادثة إلى ناصر الدين أمر بملاحقة الشيخ والقبض عليه في منفاه، فعزم الشيخ على العودة إلى أصفهان غير آبه بحكم النفي الصادر بحقّه، فأقنع حاكمُ أصفهانَ الشاهَ بالعودة عن قرار الملاحقة لعدم القدرة على تحمّل عواقب العودة إلى أصفهان، فجرى التفاوض معه للبقاء في منفاه وغضّ النظر عن قرار الملاحقة، فاشترط للعودة عن قراره بكسر حكم النفي الصادر بحقّه والبقاء في طهران، أن يُحوَّل مصنعُ الخمر والملهى المشار إليهما إلى مسجد، فكان له ذلك واشتُريَ البيت وحُوِّلت أرضه إلى مسجد صار يؤمّ المصلّين فيه. وهكذا شاء الله أن تبقى العائلة في طهران مركز القرار ومحور الجدل السياسيّ في ذلك الوقت في عصر المشروطة وما دار في ذلك العصر من سجالات ونقاشات حادّة حول حدود سلطة الملك وتقييدها بالدستور وغير ذلك من النقاشات المبكّرة في الفكر السياسيّ الإماميّ. الأمر الذي ترك أثره الكبير على ما بقي من مسيرة الشاه آبادي الابن في ما بقي له من شوط التحصيل العلمي والعمل الاجتماعي والسياسي. ونكتفي بهذه الإلمامة بسيرة الأب لنعود إلى الابن لسبر مسيرة تحصيله العلمي وتكوينه الفكري.
تحصيله العلمي
تنقسم مسيرة التحصيل العلمي للشيخ شاه آبادي إلى مرحلتين إحداهما في وطنه وفي أكناف أسرته، وقد أشرنا إلى تولّي أبيه وأخيه تدريسَه في تلك المرحلة والأخذ بيده حتّى قطعَ شوطًا مهمًّا من دراساته الأوّليّة بينهما.
وفي حوزة النجف الأشرف التي هاجر إليها عام 1320هـ.ق. أي بعد وفاة أبيه بسنوات قليلة. حيث تُوفّي أبوه وكان له من العمر ما يقرب من عشرين عامًا، فبقي سنوات في طهران ثم عقد العزم على الهجرة إلى النجف، وبقي فيها مدّة سبع سنوات أو ثمانٍ، درس فيها على عدد من علمائها الكبار؛ ولكنّ أوثق صلاته كانت مع اثنين من علمائها، وهما الشيخ محمد كاظم الخراسانيّ، وقد لازمه إلى اللحظات الأخيرة من حياته في النجف وزاره في الليلة التي عزم فيها على الهجرة إلى قتال الروس عند احتلالهم لقسم من إيران. ومن هنا، يرى أنّ أستاذه مات مسمومًا؛ لأنّه رآه في تلك الليلة بصحّة جيدة لا تنذر بأيّ خطر على حياته. وما يدلّ على عمق الصلة بين التلميذ وأستاذه صاحب الكفاية اهتمامه بتراثه وتدوينه حاشيةً على كتابه وتعبيره عنه عند الإشارة إليه بقوله: “روحي فداه”.
والعلَمُ الثاني الذي كان لشيخنا المترجم صلة عميقة به هو الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي كان يقيم في سامرّاء، وهو صاحب الدور المعروف في الثورة على الاستعمار البريطاني للعراق في ما عُرِف لاحقًا بثورة العشرين. نعم، ترك شيخنا النّجف وانتقل إلى ملازمة أستاذه الجديد في محلّ إقامته خارج النجف وحوزتها، وحظي بثقة أستاذه الجديد، وكان واحدًا من ستّة أشخاص نالوا إجازة الاجتهاد من الميرزا الشيرازي، وما يدلّ على اهتمام الميرزا الشيرازي بتلميذه، أنّه عندما علم بعزمه على ترك العراق والعودة إلى طهران زاره في بيته وأبلغه باعتراضه على سفره، وقال له: مثلك يحرم عليه ترك الدراسة والعودة إلى بلده. ولم يأذن له بالسفر إلا بعد أن علم بالدواعي العائليّة الضاغطة عليه للسفر، وذلك تحقيقًا لرغبة والدته الملحة بعودته، فأذن له بعد ذلك. ومن بين من درس عليهم الشيخ شاه آبادي في النجف، شيخ الشريعة الأصفهاني، والميرزا حسين خليلي.
وعلى أيّ حال، فقد اتّسعت دائرة اهتمام الشيخ شاه آبادي لتسوعب علومًا عدّةً يُنسَب إليه التضلّع فيها كالفقه والأصول ويكشف عنها ارتباطه بهذين الفقيهين البارزين، إن لم نقل الأبرز من بين علماء الحوزة العلميّة في النجف. وقد أضاف إلى اهتمامه بالفقه وأصوله اهتمامًا بغيرهما من العلوم كعلمي الرياضيّات والفلك (الاسطرلاب)، حيث ينقل أنّه على اطلاع واسع عليهما، ويضاف إلى ذلك أنّه كان ممّن يُشار إليه بالبنان في حقلي العرفان والفلسفة، وآية ذلك اختيار عدد من الراغبين بهذين العلمين له ليكون لهما أستاذًا ومرشدًا في أوديتهما، وسوف نشير لاحقًا إلى علاقة الإمام الخمينيّ به في هذا الميدان. وأشير أخيرًا إلى معرفته باللغة الفرنسيّة واهتمامه بالشعر والأدب والخطابة، وهذه الأمور وإن كانت في عصرنا تبدو غير ذات أهميّة تستحقّ الإشارة إليها، إلا أنّ بعضها في تلك الفترة مؤشّر واضح الدلالة على الهمّ الاجتماعي، فالخطابة والشعر من الأدوات المساعدة في مجال التبليغ والدعوة إلى الله، واللغة الأجنبية ودراسة الفلسفة والعرفان مؤشرات على سعة الأفق العلميّ والثقافيّ.
ويبدو أنّ قاعدة: “إنّ الطيور على أشكالها تقع” تنطبق على شيخنا شاه آبادي وأكثرِ من عاشرَهم وارتبط بهم فقد شابه أباه في الهمّ الاجتماعيّ والنشاط السياسيّ كما شارك أساتذته حراكَهم الذي كان من بعض الجهات استثناءً من القاعدة في تلك الفترة التي كانت الأحداث تداهم المعايش لها، فلا يدري في كثير من الأحيان ماذا يجب عليه اتجاهها.
الشيخ السياسي
يحار المرء في وصف حال الشيخ شاه آبادي، وهل أنّه اختار أستاذَيْه تبعًا لوعيه الاجتماعيّ والسياسيّ، الذي اكتمل إلى حدود كبيرة في أكناف أسرته، أم أنّ معاشرته لأستاذَيْه هي التي تركت فيه هذا الوعي، أم أنّ القولين كلاهما يصحّان فيه؟
وعلى أيّ حال، فقد ترك الشيخ شاه آبادي العراق وعاد إلى إيران ليقيم في طهران وأقام فيها على مرحلتين فصلت بينهما هجرة مؤقّتة إلى قم، ففي المرة الأولى أقام مدّة سبع عشرة سنة ما بين عامي 1330 و1347هـ.ق. وبعد هذه الفترة ترك طهران إلى قم ثمّ عاد مجددًا عام 1354 وبقي فيها إلى عام 1369هـ. ق. وهو عام وفاته.
وقد اقترنت عودته إلى طهران في المرّة الأولى مع نهاية عهد الدولة القاجاريّة وبداية التأسيس للدولة البهلويّة بزعامة رضا خان الذي كان قائدًا عسكريًّا في زمن القاجاريّين. وقد بدأ رضا شاه نشاطه السياسيّ المباشر بإظهار الاهتمام بالدين والمشاركة في مجالس العزاء والمسيرات الحسينيّة رياءً وطلبًا للتمكّن؛ ولكن لم تنطل هذه المحاولات على شيخنا الذي كان يرى في هذا الرجل مصدر خطر على الإسلام إن تولّى السلطة؛ ولذلك ينقل عنه قوله للسيّد حسن مدرّس، وهو من أهل السياسة وروّاد ميادينها الأوائل، وقد كان يقدّر أنّ مصالح العلاقة مع رضا خان تغلب مفاسدَها؛ ولكنّ شيخنا كان يقول له: “هذا “الرجيل” يتظاهر بالتديّن ويقبّل أيدي العلماء ويظهر لهم الودّ والطاعة، ويتظاهر بمحبّة أهل البيت؛ ولكنّه عندما يصل إلى السلطة ويستقرّ فيها سوف يدير ظهره للجميع وستكون أوّل من يتعرّض لرفسه”.
وهكذا صدقت فراسة الشيخ في رضا خان الذي عرف في ما بعد بـ “رضا شاه”، فبعد أن استقرّ هذا الأخير على أريكة السلطة بدأ بالكشف عن ما يكنّه من أفكار ويضمره من نوايا، لم تكن بالتأكيد منسجمة مع ما يريد العلماء وعلى رأسهم شيخنا المترجَم له، فبدأت المواجهة بين الطرفين بعد أقلّ من سنة على وصول رضا خان إلى السلطة وعزمه على استئصال عدد من مظاهر الإسلام من إيران سعيًا وراء تغريبها على طريقة أتاتورك في تركيا، فأصدر قرار منع الحجاب للنساء، فبدأت المواجهة واعتصم الشيخ محمد علي في حرم عبد العظيم الحسنيّ ذلك المكان الذي له رمزيّته الخاصّة في المواجهات السياسيّة (فقد كان هذا المكان محلّ اعتصام الشيخ فضل الله النوري في أحداث الحركة الدستورية/المشروطة)، ولم تكن هذه الحركة من الشيخ مدعومة من العلماء، ولكنّها مع ذلك تركت أثرها في نفس رضا خان وأشعرته بالقلق على مشروعه، وقد حاول الشاه استرضاء الشيخ شاه آبادي وأعلن عن استعداده للاجتماع به والاستماع إلى مطالبه ولكنّ الشيخ لم يقبل، وكان موقفه واضحًا باعتقاده حرمة أيّ شكل من أشكال التعاون مع الملك، حيث كان يرى أنّ قرار منع الحجاب هو الخطوة الأولى لاستئصال كلّ مظاهر الإسلام من إيران. وقد بقي معتصمًا، إلى أن كثُر الضغط عليه من قبل بعض العلماء وعلى رأسهم السيّد حسن مدرّس لمصالح رأوها في ذلك، فغادر مكان اعتصامه إلى قم. وبقي فيها مدة سبع سنوات يتابع نشاطه العلميّ في مجال التدريس والتربية، ونشاطه السياسيّ في الخطابة والمواقف السياسيّة المعارضة للملك.
العودة إلى طهران
وبعد إقامته في قم مدّة سبع سنوات عاد الشيخ شاه آبادي إلى ميدانه الأول طهران، مجددًا نشاطه فيها في المعارضة للشاه وتحدّي قراراته بكلّ ما أوتي من أشكال التحدّي والمعارضة. ومن ذلك أنّ الدولة كانت قد منعت في تلك الفترة كلّ التجمعات حتّى لإقامة مجالس العزاء في عاشوراء أو غيرها. وكانت كثير من المجالس تُعقَد سرًّا بعيدًا عن أعين السلطة، فعزم الشيخ بعد عودته على كسر هذا المنع وتحدّي هذا القرار الذي كان يراه جائرًا لا يتناسب مع أقلّ منسوب من الحريّة يحتاجه أي مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة، فدعا إلى إقامة مجلس الخطابة والعزاء في أحد المساجد الجامعة في طهران، وكان ذلك بحضور قائد الشرطة الذي لم يجرؤ على الممانعة وحاول ثني الشيخ عن ما عزم عليه فكان جواب الشيخ: “إذا كنتم تخافون من اعتقالي بمرأى من الناس فأنا أدلّكم على الوقت المناسب، فأنا أخرج إلى صلاة الفجر في المسجد وحيدًا، إنّه الوقت الأنسب لاعتقالي دون أن تشعروا بكم أحدًا”. وبعد إصراره على تحدّي السلطة وإقامة مجلس الخطابة، عمدت السلطة إلى مصادرة المنبر الذي كان يرتقيه للخطابة، فخطب واقفًا دون منبر، وقال متهكّمًا: “أريد أن أثبت لهم أنّني أنا من يتكلّم وليس المنبر الذي صادروه”. وقد حاولتِ السلطة اعتقاله أكثر من مرّة، وفي إحدى المرّات قصدوه لاعتقاله في المسجد، فصرخ بالفرقة التي أتت لاعتقاله صوتًا أرعبهم، ففرّوا وكمنوا له خارج المسجد، وعند خروجه من المسجد تقدّم قائد الفرقة بهدوء نحوه وطلب منه أن يذهب معه إلى مقرّ الشرطة، فأجابه الشيخ بهدوء اذهب وقل لرئيسك ليأتِ هو إليّ إن كان له عندي حاجة.
فكره السياسي في أطره العامة
على الرغم من عدم تبلور صيغة واضحة للمشروع السياسيّ الإسلاميّ على مستوى التطبيق والسعي لاستلام السلطة في تلك المرحلة من تاريخ العالم الإسلامي، إلا أنّ حراك الشيخ شاه آبادي ومواقفه السياسيّة كانت تستند إلى رؤية واضحة المعالم، على الأقلّ، في أطرها العامّة التي يمكن الإشارة إلى أبرز مكوّناتها في ما يأتي:
ينطلق الشيخ شاه آبادي في مواقفه وحركته الاجتماعيّة من نظرة إلى الإسلام مؤدّاها أنّ الإسلام ليس دينًا فرديًّا حتّى في الأبعاد التي ربّما يرى فيها بعض الناس درجةً عاليةً من الفرديّة والخصوصيّة كالعبادة والعلاقة بين المسلم وبين ربّه. وأمّا الشيخ شاه آبادي، فقد كان يرى أنّ الدين والسياسة صنوان لا ينبغي أن يفترقا: “فالسياسة ليست خداعًا واحتيالًا على الناس، وإنّما هي تدبير المصالح الفرديّة والنوعيّة وإدارتها وإبعاد الفساد عنها وإبعادها عن الفساد”. ومن هنا، فإنّ الأحكام الإسلاميّة برأيه شُرّعت لحفظ المصالح النوعيّة لبني البشر. وينطبق هذا الحكم حتّى على الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي أقرّها الإسلام، “فالقرآن المجيد لا ينسجم مع الإسلام الفردي؛ وذلك لأنّ القرآن لا يقول للمؤمن صلِّ وحدك ولا شأن لك بغيرك من الناس، ولا يقول اجتنب الزنا وحدك ودع الناس وشأنهم، بل أضاف الإسلام إلى دعوته إلى الصلاة ونهيه عن الزنا فريضة الأمر بالصلاة والمنع من الزنا بتشريع الحدود والعقوبات”. وبكلمة عامّة: “يمكن القول إنّ الإسلام هو دين سياسي”. ويمكن تلمّس رأيه في هذا المجال وغيره من المجالات ذات الصلة في كتابه شذرات المعارف.
يعدّ الحفاظ على الوحدة والأخوة الإسلاميّة، من العناصر البارزة في التصور السياسي للشيخ شاه آبادي، ويرى أنّ أهمّ أمراض المجتمع الإسلاميّ هي انتشار التفرقة بين المسلمين وتحوّلهم إلى جماعات متناحرة بفعل مؤامرات الأجانب وأعداء الإسلام والمسلمين. ويخصّ وحدةَ النخبة العلمائيّة بمزيد من العناية؛ لأنّه إذا كان الخلاف بين عامّة الناس داءً، فهو بين العلماء داءً وبيلًا. وقد يكون تراجعه عن الاعتصام واستجابته لدعوة بعض العلماء إلى ذلك مؤشّرًا على هذه العناية، بحفظ وحدة الكلمة وعدم الانفراد بالمواجهة كي لا تتحوّل حركته أو حركة غيره من الناشطين في الشأن العام، إلى لقمة سائغة بيد السلطة السياسيّة المستبدّة.
ومن العناصر التي تجدر الإشارة إليها في الفكر السياسيّ عند شيخنا الشاه آبادي موقفه من التنظيم وتشكيل الأحزاب والجمعيّات، فلم يكن يرى في التكتّل الحزبيّ وسيلة غير مشروعة إذا كان الهدف منها تنظيم الجهود وتصويبها في اتجاه خدمة الأهداف العالية التي يدعو إليها الإسلام. وكان يرى: “أن العدد مهما بلغ لن يجدي نفعًا إذا لم يكن خيط الأخوة هو النظام الجامع لأفراده. وهذا المعنى يمكن أن يستوحيه الإنسان من حركة النبيّ عندما آخى بين المسلمين بعد استقراره في المدينة بعد الهجرة. ولذلك نجد أنه قد شرع في العمل على تأسيس جماعة قد يصحّ إطلاق الحزب عليها ولو بشيء من العناية، وأهم العناوين التي طرحها لبرنامج عملها، ما يأتي:
أ. التكتّل الحزبي في الإسلام ليس تكتّلًا سياسيًّا فحسب، بل هو تجمّع لعدد من الطاقات التي تسعى للوصول إلى أهداف الإسلام العظيم. ومن أهمّ الوسائل التي تساعد على تحقيق هذه الغاية وتخليق الناس بأخلاق الإسلام، التعليم والتربية التي يجب أن تبدأ من تعليم الأطفال في المدارس والمؤسّسات التعليميّة.
ب. على كلّ عضو في هذا التكتّل أن يعطي ليلةً من وقته للحضور في مجالس الجمعيّة بهدف التشاور والتباحث في الشؤون العامّة.
ج. على كلّ عضو من الأعضاء أن يعمل على هداية واحدٍ من الناس إلى أهداف الجمعيّة وغاياتها.
د. يجب أن يتوفّر للجمعيّة هيئة رئاسيّة تكون هي المرجع في أيّ خلاف يدبّ بين الأعضاء.
هـ. تأسيس مجلة ناطقة باسم الجمعية من أهم الأهداف التي ينبغي على الجميع السعي في سبيلها.
و. على الجمعيّة أن تهتمّ بالشأن الاقتصاديّ والمعيشيّ لأعضائها لتحسين أوضاعهم من خلال الإقراض غير الربويّ (قرض الحسنة)، وتنظيم الأنشطة الاقتصاديّة على أنواعها ما يؤدّي إلى دعم الاقتصاد الوطنيّ وترويج البضائع المحليّة.
وحذرًا من تجاوز الحدود المرسومة لهذه الوجيزة نكتفي مضافًا إلى ما ذكر أعلاه، بالإشارة إلى أنّ مواجهة الاستعمار، بكلا نوعيه السياسيّ والثقافيّ، كانت من بين الأطر الناظمة لحركة الشيخ شاه آبادي السياسيّة. على أن يكون العمل خالصًا لوجه الله حتّى لو كان ذا طابع دنيويّ بعد أن انطلق من قاعدة عدم فصل ساحة الدين عن ساحة الدنيا. ويقول في هذا المجال لابن أستاذه صاحب الكفاية: “إنّ هذه الأمانة الإلهيّة (الإسلام) تتعرّض في هذه الأيام للخطر من حكومة هذا الجبّار، ويجب علينا أن ندافع عنها بكلّ ما أوتينا من حول وقوّة، لنحفظ حدودها ونصون تعاليمها”. وفي آخر كلمة له قبل إنهاء اعتصامه المشار إليه أعلاه، قال: “إنّ هدف رضا خان هو إعدام القرآن والإسلام، والمواجهة بيني وبينه ليس سببها أنّني عالم دين، بل لأنّني أدعو إلى الإسلام والقرآن، ومن هنا فإنّي أعلن للدنيا كلّها، إننا إذا لم نتحرّك ولم نستعدّ للمواجهة، فإنّ هذا الخبيث سوف يعمل على استئصال الإسلام”.
وهذه المواجهة التي يتحدّث عنها الشيخ مفتوحة على أقصى الاحتمالات وهي الاستعداد لبذل الأرواح والمهج في سبيل الله، ودفاعًا عن الدين: “إنّنا نرث دينًا، قدّم منذ انطلاقته مع رسول الله (ص) إلى يومنا هذا آلافَ الشهداء من العلماء وقد سبقهم إلى ذلك الأئمة (ع) والأصحاب. ولم يصلنا هذا الدين إلا مقرونًا بهذه التضحيات، وقد أتى دورنا لحفظ هذه الثمرة المباركة؛ ولذلك فإنّ واجبنا يقضي بالسعي في السبيل نفسه، وليست دماؤنا أكثر حمرة من دماء من سبقنا حتى نحفظها ونضنّ بها على الإسلام”.
نمطه الفقهي والاجتهادي
قد يصعب عليّ في هذه المقدمة الإلمام بجميع أبعاد فكر الشيخ شاه آبادي، بالنظر إلى ضيق المجال، وعدم توفّر المصادر الكافية التي تسمح بالتفصيل، ولكن لا بدّ لي من الإشارة إلى موقف من قضيتين يكشف عن نمط تفكيره. وحاصل الأمر أن النقاش في ذلك الوقت قد بدأ يدور حول الراديو ومكبّر الصوت وجواز الاستفادة منهما، وفي هذين الأمرين كان موقفه واضحًا ومرتكزًا على جواز الاستفادة من مثل هذه الوسائل لأنها وسائل محايدة سواء أتت من الشرق أم من الغرب. وفي الراديو يقول: “إنّ الراديو كاللسان يمكن أن يُستخدَم في بيان العلم والثقافة وخدمتهما، ويمكن أن يُستخدم في غير الحقّ والصواب؛ ولذلك لا أرى في شراء الراديو والاستفادة منه في ما يجوز من البرامج أيّ مانع شرعي”.
وفي مكبّر الصوت يقول، عندما سُئل عن شراء جهاز لاستخدامه في المسجد: “ما هذا السؤال؟! بالتأكيد اشتروا واحدًا، لأكون حجّة على الناس في استخدامه، فكلّ هذه الوسائل لا مشكلة في الاستفادة منها. وليس فقط لا مانع من الاستفادة منها، بل إنّ الاستفادة منها قد تكون واجبة”.
علاقته بالإمام الخميني
ربّما لا نبالغ إذا قلنا إنّ في علاقة الإمام الخمينيّ بهذه الشخصيّة الفذة من العلامات الفارقة في حياة الرجلين على حدٍّ سواء، فإذا كان الشيخ شاه آبادي قد غادر طهران بعد الأحداث التي رافقت إقامته فيها، فإنّ من الآثار الطيّبة التي ترتّبت على انتقاله إلى الحوزة العلميّة في قم هي اللقاء الذي حصل بين الرجلين؛ حتّى صار يتداعى كلّ منهما إلى الذهن عند ذكر صاحبه. ونشأت العلاقة بين الرجلين بعد أن التقيا في المدرسة الفيضيّة، فطرح الإمام الخمينيّ على الشيخ سؤالًا في قضيّة ذات صلة بالعرفان، فوجد من جوابه أنّه من أهل الاختصاص في هذا الميدان، فكان هذا السؤال نقطة انطلاق لرحلة علميّة تحوّلت إلى مودّة استمرّت حتّى بعد عودة الشيخ إلى طهران، فكان يغتنم الإمام الخمينيّ أيام التعطيل للقاء بأستاذه والتزوّد من معينه. وخلال إقامته في قم قرأ على يديه أهمّ النصوص العرفانيّة المعتمَدة في الدراسة في هذا الحقل. مثل: شرح الفصوص للقيصريّ، ومصباح الأنس لابن حمزة الفناري، ومفتاح الغيب لصدر الدين القونوي، وشرح منازل السالكين للكاشاني. وفي تقييم إجماليّ من الإمام لشيخه يقول: إنّه لو اشتغل بالتدريس سبعين عامًا لأتى في كلّ يوم بشيء جديد. هذا عن نظرته إلى علومه، وأمّا حول معنويّاته، فإنّه يقول عنه: “لم أعرف في حياتي روحًا أرقّ ولا ألطف من روح المرحوم شاه آبادي”. وبعد هذا، ودون أي انتقاص من عظمة الإمام الخميني وعبقريّته الفذّة، ألا يمكن تلمّس أثر الشيخ في تلميذه على المستويات الروحيّة والمعنويّة والسياسيّة؟
آثاره وتراثه العلميّ
يضاف إلى تراث الشيخ محمد علي شاه آبادي، العملي وانصرافه إلى تربية العلماء والعمل الاجتماعي، أنه ترك عددًا من الكتب والمؤلفات نذكر منها في هذه المقدمة ما يأتي:
وفاته ومدفنه
بعد عمر ناهز السابعة والسبعين، قضاها، رحمه الله، يقرن العلم بالعمل، وتحصيل العلم ببذله لأهله، توفِّي شيخنا لثلاث خلون من صفر لعام 1369هـ.ق. وشيّعه الآلاف من محبيه ومريديه إلى مثواه الأخير في مدينة شهر ري قرب طهران، بجوار ضريح السيد عبد العظيم الحسني، في مقبرة المفسّر الكبير أبو الفتوح الرازي.
شهادات في حقّه
الشهيد مرتضى مطهري
يقول الشهيد مرتضى مطهري واصفًا الشيخ محمد علي شاه آبادي: “لقد جمع شيخنا المرحوم بين المعقول والمنقول، وقد بلغ خلال إقامته في طهران مقام المرجعيّة والإفتاء، وهاجر إلى قم إبّان إقامة الشيخ عبد الكريم الحائري فيها وزعامته الحوزة العلمية، وترتّبت على إقامته في الحوزة العلميّة في تلك الفترة آثار وبركات، وخاصة أنّه كان في الفلسفة والعرفان ممن لا يشقّ له غبار. ومن أبرز تلامذته ومريديه في تلك الفترة أستاذنا الكبير الإمام الخميني. وقد قرأ عليه عددًا من كتب العرفان والفلسفة، وهذا ما يفسر ثناءه عليه كما لم يثنِ على أحد من أساتذته”. ويقول مطهري في محل آخر: “إنّ ما سمعناه من أساتذتنا حول الشيخ شاه آبادي، يدلّ على تقدير خاص ونظرة مميّزة لم يبلغها بعض العظماء من أمثال الشيخ عبد الكريم الحائري نفسه”.
الميرزا هاشم الآملي
يعدّ الميرزا هاشم الآملي، وهو أحد كبار العلماء في الحوزة العلميّة في قم، واحدًا من أبرز تلامذة الشيخ شاه آبادي، ويقول فيه واصفًا مستواه العلمي والروحي: “لم ينحصر تميّز الشيخ الشاه آبادي، بالفلسفة والعرفان، فقد غاص شيخنا في بحار الفقه والأصول حتى أوغل؛ ولكنّ شهرته في العرفان والفلسفة غطّت على فقهه وأصوله وحجبت تبحره في غيرهما”.
ملاحظة ختامية
حفظًا لحقوق أصحاب الحقوق، أودّ الإشارة في ختام هذه الكلمة الموجزة التي أقدّم بها لكتاب “رشحات البحار“، إلى أنّ ما تتضمّنه هو مُستقىً من مقالاتٍ عدة حول الشيخ أهمّها:
وهما منشورتان على شبكة الإنترنت.
أهمّ المصادر:
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15766/mohammad-abadi/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.