by روبير بنيدكتي | مايو 3, 2023 9:19 ص
يخوض البحث الراهن في استطلاع التجربة الاجتماعية الثقافية التي عاشها مجتمع محلّي قروي أثناء حقبة الحرب اللبنانية وما عقبها من عودة المهجرين إلى ديارهم.
يقع المجتمع المحلّي الصغير موضع البحث في منطقة جبل لبنان الجنوبي التي كانت ولا تزال مضمارًا للتفاعل [السلمي تارة، والصراعي طورًا] بين البيئتين الاجتماعيتين – الثقافيتين المسيحية والإسلامية – الدرزية، الأمر الذي ساعد على رصد بعض أوجه ظاهرة التعايش بين الجماعات المذهبية في لبنان.
الأفق النظري
كان استطلاع هذه التجربة الاجتماعية – الثقافية يجري من خلال حالتين صراعيتين: أولاهما الصدام العنيف بين مجتمعنا المحلي الصغير وجيرانه أثناء “وقت التهجير” – حسب العبارة المتداولة بين أعضائه – والثانية: نزاع داخلي بين الكتلتين العائليتين – السياسيتين اللتين تتقاسمان الهيمنة على حيّز الشأن العام في البلدة.
ثلاثة محاور موضوعاتية
في ضوء هذا التعريف لمشروع البحث تبرز ثلاثة محاور موضوعاتية تستقطب اهتمام الباحث: الخبرة المعرفية، الروحية المعاشة، وحياة الجماعة المذهبية. المجتمع المحلي في داخليته وفي مجالات علاقاته بمحيطه الاجتماعي الثقافي هي:
الخبرة المعرفية – الروحية
إنما تتصف بأهمية خاصة، حيث إنها تتحكم في عملية تشكل علاقات أعضاء المجتمع المحلي الصغير بالجماعة على كل مستويات بنيانها المؤسساتي، من جهة، وبالمحيط الاجتماعي – الثقافي – وهو بدوره محيط مذهبي – وهذا أمر طبيعي نظرًا لكون تلك الخبرة العنصر الفعّال في إنشاء العلاقات التأويلية، سواء أكان مذهبيًّا أم مدنيًّا.
التوجه الفاهم: يتحرك مشروع بحثنا في الأفق المعرفي الخاص بالتوجه الفاهم في علم الاجتماع. الحق أن الخبرة تتمثل بالعلاقة التي ينشئها الفاعل من الفاعلين والأشياء المحيطة به في مواقف التفاعل. إن هذه الخبرة معرفية – روحية إذ توجه الفاعل إلى موقف التفاعل من منظور فكري أو اعتقادي، وهو يضفي عليه معنًى ذاتيًّا. وهكذا تتمثل الخبرة المعرفية – الروحية بعلاقة تأويلية للعلاقات الاجتماعية – الثقافية المحيطة.
يبرز ماكس فيبر والتوجه الفاهم في علوم الاجتماع والإنسان. لقد أسس ماكس فيبر باراديغما جديدة في علوم الاجتماع والإنسان، وهو ينطلق في دراسة المجتمع من التفاعل الفردي… فقد سعى لإرساء نظرية سوسيولوجية قادرة على فهم الفاعل الاجتماعي وتفسير فعله.
إذ لا يمكن فهم الفعل الاجتماعي بمنأى عن المعنى … الذي يضفيه الفاعل على فعله في ضوء ما يتوقعه من صدور فعل أو ردة فعل عن الفاعل الآخر جوابًا عن فعله هو. بهذا المعنى يعتبر فيبر الفعل الاجتماعي تفاعلًا بين فاعلين…. في وقت معين. فلا يمكن فهم هذا النشاط المتبادل في كل أبعاده إلا من خلال المعنى المتبادل الذاتية. وعليه يشكل هذا المعنى المتبادل الذاتية وذلك التفاعل بؤرة للاهتمام في علوم الإنسان والاجتماع.
يتحرك مشروع البحث الراهن في أفق التوجه الفاهم، يترتب على ذلك، على المستوى النظري، أن البحث يرمي إلى استطلاع الواقع الذهني المتمثل بالخبرة المعرفية – الروحية التي عاشها أعضاء مجتمع محلي لبناني في سياق حالتين صراعيتين… فقد جرى استطلاع هذه الخبرة المعرفية – الروحية من خلال رصد أفعال هؤلاء الأعضاء في المجتمع المحلي، والإصغاء إلى خطابهم المتمثل بالتعليقات التي أدلوا بها في مواقف التفاعل، وهم يضفون معانيًا ذاتية على تلك الأفعال، وعلى هذا التفاعل ركزت اهتمامي على مراقبة الكلام، لأن الكلام الصادر، الذي يعلق على ما يُقعد ويعيشه، يضفي معنى على ما يعيشه ويفعله ويدور حوله. يمثل خطابهم المستوى الأول من التعامل التأويلي مع “العالم الاجتماعي” اللبناني في مرحلة عصيبة من تاريخه. أما القراءة التحليلية لمداولة الأفعال ذات المعنى الذاتي فتسعى لاكتشاف البنى.. المتوارية خلف ظاهر الخطاب. تلك البنية التي تحكم أفعال الفاعلين وعملية إنتاج المعنى الذاتي. وذلك هو المستوى الثاني من التعامل التأويلي مع “العالم الاجتماعي اللبناني؛ بعبارة أخرى، إنه تعامل الباحث التأويلي مع ما رصده من أفعال ذات معنًى صدرت عن الفاعلين وما أصغى إليه من خطاب أدلى به الناطقون معبرين عن خبرتهم المعرفية – الروحية.
في النطاق المنهجي يترتب على اختيار التوجه الفاهم – الظاهراتي أن مشروع البحث يركّز اهتمامه ويصب جهده على جمع الكلام الصادر عن الفاعلين في حلقات الحالتين الصراعيتين، وذلك من المنطلق النظري القائل إن الكلام هو أداة الفاعلين للتعبير عن خبرتهم المعرفية – الروحية. بهذا المعنى تتعامل القراءة التحليلية لمدوّنة الخطاب مع محتويات ذلك الخطاب باعتبارها وقائع معرفية.
حالة الصراع وخلفياتها البنائية
تشير الحالتان الصراعيتان موضع الدراسة في مشروع البحث الراهن، إلى ظاهرة اجتماعية تلازم المجتمع اللبناني منذ زهاء ثلاثة عقود: هي ظاهرة النزاعات ذات الطابع المذهبي.
لقد حظي هذا الموضوع بكم هائل من الأدبيات من زاوية العلوم السياسية والتاريخية. أما البحث الراهن فيتطرق إلى استطلاعه من منطلق الأنثروبولوجيا الميدانية ساعيًا لاكتشاف خلفياته البنائية من خلال القراءة التحليلية الفاحصة للبنيان المؤسساتي الخاص بمجتمع محلي لبناني سبق أن خاض تجربة الصراع الطائفي من جهة، ولخبرة أعضائه – الفاعلين في تلك التجربة- من جهة أخرى.
… يظهر أن هذا الإطار النظري يوفر للباحث، من جهة، العدة التصورية الملائمة لاستطلاع هذا النمط من الاجتماع المتمثل بمجتمع وخلايا، وهو مجتمع محلي لبناني مسيحي، وبأمثاله من المجتمعات المحلية الدرزية المجاورة. في ضوء التجربة اللبنانية واستنادًا إلى دراسة المجتمعات الشرق – الأوسطية عمومًا يمكن اعتبار مجتمعنا المحلي الصغير تشكيلة مجتمعية تُدمج المجتمع الأهلي والجماعة المذهبية في بنيان مؤسساتي متماسك: الزمرة المرجعية الطائفية. إن هذه العدة التصورية عسى أن تساعد في القراءة التحليلية للمعلومات الميدانية مشيرة إلى معالم البُنى الدالة التي تتوارى خلف مظاهر “معرفة الرأي العام”.
إن هذا الإطار النظري عسى أن يشير، من جهة أخرى، إلى الأداة المنهجية الملائمة لاستطلاع نمط الزمرة المرجعية الطائفية حيث يرشد الاستقصاء الميداني، ويساعد في جمع المعلومات الملائمة لإشكالية البحث.
يجري تنفيذ مشروع البحث على مرحتلين: فينصب جل جهد الاستقصاء الميداني على جمع مدونة من المعلومات تسمح باستطلاع البنى ذات المعنى في حياة المجتمع المحلي. أما القراءة التحليلية فتهدف إلى بلورة تلك البنى الدالة.
منهج البحث
يحتاج تنفيذ مشروع البحث إلى أداة منهجية تلائم من جهة، الحيّز الاجتماعي – الثقافي المزمع على استطلاعه، وتفي، من جهة أخرى، بمقتضيات التوجه الفاهم – الظاهراتي في البحث السوسيو – أنثروبولوجي. في ضوء هذين الاعتبارين استقر الرأي على اختيار المنحى النوعي في منهجية الاستقصاء الميداني.
الحق أن المنهج النوعي يتميز بالطابع غير المتفنن، مما يساعد الباحث في بلورة إشكالية البحث بكل تفاصيلها وحذافيرها وتطويرها أثناء استكشاف الحيّز الاجتماعي – الثقافي المجهول، عوضًا عن سحب مفاهيم غريبة على البيئة الثقافية المدروسة. وعليه فإن المنهج النوعي يتسم بالقدرة على استطلاع البنى ذات المعنى المتوارية خلف مظاهر الأفعال وظاهر الأبنية الكلامية، حيث إنها لا تظهر ولا تبرز إلا من خلال المشاركة والتواصل الكلامي وغير الكلامي، هذا من جهة. من جهة أخرى، يسمح المنحى النوعي في الاستقصاء بالتعرف إلى الحيّز الاجتماعي – الثقافي المدروس من الداخل inside view، ومن الخارج outside view في آن معًا. إن وجهتي النظر الداخلية والخارجية تتكاملان في منهجية الاستقصاء الميداني فكلتاهما ضرورية لإنجاح الاستقصاء الأنثروبولوجي.
يرتكز الاهتمام العلمي في الأنثروبولوجيا ذات التوجه الفاهم – الظاهراتي على استطلاع الفاعل الاجتماعي من ناحيتي الأفعال المرصودة والمعاني التي يضفيها على الأفعال، فيجري في إطار الاستقصاء الميداني تنسيق منهجين في مسار بحث متكامل. يسفر هذان المنهجان عن مجموعتين من المعلومات: من ناحية أفعال وتصرفات وممارسات خارجية تصدر عن الفاعلين تقبل الرؤية والتفرج فيمكن إذن الاطلاع عليها بالملاحظة الخارجية عن طريق الحضور إلى موقف التفاعل لحظة حدوثه؛ من ناحية أخرى، الأقوال الصادرة عن الفاعلين في سياق الموقف التفاعلي، حيث إنهم يبدون آراءهم فيما يجري ويعبرون عن مشاعرهم معلقين على ما يجري: إن هذه التعليقات الآنية والمباشرة تعبر عن المعاني الذاتية التي يضفيها الفاعلون على موقف التفاعل.
يجري تنسيق المنهجين في إطار الرصد بالمشاركة: إنه طريقة بحث مركبة ومتكاملة تسمح بالتعامل مع مواقف تفاعل معقدة. وبغياب التنسيق بين هذين المنهجين يستعصي استطلاع مضمون الفعل الدلالي.
اختيار الميدان عملية اقتطاع وحدة اجتماعية أو إنسانية متماسكة من الواقع الاجتماعي الأشمل، حيث إن الوحدة المقتطعة تكون حيّزًا محدودًا تضم مجموعة متماسكة من التفاعلات الاجتماعية. إنها عملية تقطيع الواقع الاجتماعي.
اختيار الميدان في ضوء اعتبارين. مجتمع يتصف بالملاءمة النظرية، حيث إنه زمرة واقعية صغيرة حجة مما يتيح استطلاع الفاعلين – أعضاء الزمرة – وتفاعلاتهم ذات المعنى في الحالتين الصراعيتين. ثانيًا أن هذا المجتمع المحلي يتصف بالملاءمة الإجرائية إذ إنه – كونه زمرة واقعية صغيرة حجم – يلائم خبرة الفرد – الباحث والأعضاء على السواء – مما يتيح رصد الأفعال والتفاعلات واستطلاع معانيها الذاتية.
وعليه، فإن الباحث لا يمثل عنصرًا غريبًا، خارجيًّا، عن الحيّز الاجتماعي – الثقافي المرصود، فلا يظل حضوره على حياد، مما يترتب عليه أن حضوره عنصر مؤثر في مواقف التفاعل. يشكّل الباحث جزءًا من عملية الاستقصاء الميداني ويتفاعل مع عملية تولد المعلومات. نظرًا لطبيعة الاستقصاء الميداني هذه، فإن مسألة اختيار طريقة انخراط الباحث تتصف بأهمية مؤكدة. ولأن المجتمع المحلي المدروس زمرة مرجعية داخلية ينظر أعضاؤها إلى من يأتي من الخارج نظرة الريبة والحذر، رأينا أن نختار طريقة الانخراط الوظيفية. وتتصف هذه الطريقة بالصفات التالية:
سير الاستقصاء الميداني: الرصد المباشر
نستهدف باستقصائنا الميداني استطلاع الأفعال ذات المعنى التي تصدر عن أعضاء مجتمعنا المحلي الصغير في المواقف التفاعلية المتنوعة، مما يترتب عليه أن عمليات الرصد المباشر، بل والمشارك تجري في تلك المواقف. وعليه يتصف الرصد المباشر بقدر ضئيل من التقنين، حيث إن عمليات جمع المعلومات تتفرق في الزمان، وتتشتت في المكان. تترتب على ذلك نتيجتان:
نظرًا لذلك كله، يبدو من الضروري إدخال بعض الضوابط التي تساعد في تنظيم عمليات جمع المعلومات وتنسيقها، من جهة، وتسمح باستشراف المواقف التفاعلية المنمّطة والمشاهد الاجتماعية الثقافية المحتملة الحدوث، من جهة أخرى، تمثل هذه الضوابط أدوات عمل أو عدة منهجية للرصد الميداني، أهمها التالية:
تؤدي هذه الضوابط وظيفتين: من جهة إنها مذكرة مساعدة من حيث إنها ترشد الاستقصاء وتجنب الباحث الراصد أن ينسى مجالات معينة من حياة البيئة الاجتماعية – الثقافية المدروسة؛ من ناحية أخرى، إنها توجه الباحث الراصد نحو مجالات جديدة وتساعده في استشراف مواقف تفاعلية جديدة قد تتلاءم ومشروعه.
يوفر الخطاب الصادر عن الفاعلين معلومات لا غنى عنها حول مضمون الأفعال والمعنى الذاتي الذي يضفيه عليها الفاعلون. وعليه إن الخطاب يمثل الأداة المنهجية التي تساعد الباحث في استطلاع الخبرة المعرفية والوجدانية المعاشة في مواقف التفاعل.
التعليق الصادر عن الفاعل في موقف التفاعل عبارة عن خطاب أو حديث عارض غير قابل للبرمجة ولا يمكن استشرافه؛ وعليه يجب على الباحث أن يظل منتبهًا وهو في الميدان كي يتيقظ للمواقف التفاعلية والتعليقات الصادرة فيها. إن التعليقات تنبعث من خبرة الفاعلين/الناطقين مما يصبغها بصبغة العفوية ويجعلها تعبر عن خبرتهم الحميمة. بهذا المعنى يمثل التعليق محادثة غير مقننة غير مبرمجة.
هذا ويتميز أسلوبا المحادثة والتعليق بطابعهما غير التوجيهي وغير السلطوي، وذلك بفضل العلاقات المتناظرة والمتوازنة بين الباحث والفاعل/ الناطق. أما الفرق بينهما فيكمن في إمكانية برمجة الأولى وصعوبة استشراف الثاني.
لقد أسفر الاستقصاء الميداني عن تكوين مدونة من زهاء ألف محادثة حرة غير مبرمجة متفاوتة الطول تم تسجيلها في محاضر يتضمن كل منها العناصر التالية:
أضف إلى محاضر المحادثات بيانات الرصد الميداني المختلفة ويوميات الباحث التي تسمح بوصف ظروف إنتاج المدونة الكلامية. إن هذه المدونة تتضمن قطاعًا من الخبرة المعرفية – الروحية التي عاشها أعضاء المجتمع في تعاملهم التأويلي مع أحداث فترة عصيبة من تاريخ بلدتهم. لقد أخضعت المدونة لقراءة تحليلية مدققة سعيًا لاستنباط المحتوى الضمني من ظاهر الكلام.
كانت القراءة التحليلية تجري من خلال ثلاث مراحل. أثناء المرحلة الأولى جرى تفكيك ظاهر الكلام الفج إلى مكوناته الموضوعاتية بواسطة متوالية من المقولات الموضوعاتية. نتيجة لهذه العملية تم تحويل ظاهر الكلام إلى مجموعة من المنطوقات المقننة: هذا هو النص الواصف “metatext”، وهو يمثل الأداة لقراءة الموضوعات قراءة تحليلية. أما أثناء المرحلة الثانية فقد تم تحليل الموضوعات بالاعتماد على النص الواصف. إن عملية استنباط المحتوى الضمني وتحويله إلى محتوى واضح صريح جرت عن طريق ترتيب المنطوقات المقننة وتنضيدها في متواليات موضوعاتية متماسكة. نتيجة لهذه العملية تم إنشاء مجموعات خطابية فرعية تنضّد كل منها المنطوقات المبعثرة عبر نص المدونة في خطاب لاهوتي أو مذهبي أو مدني متماسك.
من طريق تقنين الكلام استطعت أن أظهر ثلاث أنواع من الخطابات، مما سمح لي بأن أحلل الأحاديث دون أن أفرض أفكاري الخاصة.
إن هذه المجموعة الخطابية تمثل وحدات سياقية أو تناصّية “intertext” تساعد في قراءة الخبرة المعرفية – الروحية والممارسة الاجتماعية – الثقافية في أحد مجالات حياة أعضاء مجتمع وخلايا وأنشطتهم. زيادة على ذلك تساعد هذه الوحدات التناصية في استثمار المعلومات الورقية، مما سمح بإدخال بعض عناصر التكميم في مادة كلامية جرى جمعها اعتمادًا على منهج ميداني فرعي. وأخيرًا، أثناء المرحلة الثالثة، تصدت القراءة التحليلية للبحث عن الحالات النفسية التي صبغت خبرة الفاعلين في المواقف التفاعلية مؤثرة في المواقف التي تعبر عنها تعليقاتهم الكلامية. واعتمد هذا البحث على المعلومات المتعلقة بالعلامات اللغوية المصاحبة وغير اللغوية.
هذا والجدير بالذكر أن هذه المراحل الثلاث لم تكن تجري متتابعة أثناء مسار القراءة التحليلية، ولكنها كانت تتوازى وتتداخل في عملية مركبة ومتكاملة. (راجع عن التفاصيل: Benedicty: 1995, 56- 66)
نتيجة لهذه القراءة التحليلية، جرت بلورة الأفكار النظرية لعلها تساعد في فهم أعمق لبعض أوجه الخبرة المعرفية الروحية التي عاشها أعضاء هذا المجتمع المحلي الصغير أثناء فترة عصيبة من تاريخه.
عينة الناطقين
يترتب على ضآلة تقنين المنهج النوعي أن تكوين عينة الناطقين يجري تدريجيًّا – على مر عمليات الاستقصاء – في مواقف التفاعل التي يتسنى للباحث رصدها والإصغاء إلى ما يقال فيها. وهكذا تتصف عيّنة الناطقين الذين يسهمون في إنتاج المدونة الخطابية بأنها عينة اتفاقية (accidental sample). فقد اعتبر ناطقًا كل فاعل أدلى – على الأقل – بتعليق واحد في أحد المواقف التفاعلية. هذا وقد ظهر في إطار الاستقصاء أن بعض الفاعلين يتسمون – بحكم نشاطهم أو منصبهم أو مدى اطلاعهم على شؤون البلدة – بأهمية أكبر من غيرهم، الأمر الذي أفضى إلى اعتبارهم ناطقين إخباريين. وعليه فإن طريقة اختيار الناطقين لم تلبث أن تحولت – بقدر تقدم الاستقصاء – وتطورت من الطابع الاتفاقي نحو الاختيار الهادف، الأمر الذي يسوغ استناد الباحث إلى إفادات بعض الناطقين بقدر أكبر من بعضهم الآخر.
خاتمة
إن المادة الميدانية المدونة في البيانات ومحاضر التعليقات الكلامية تساعد الباحث في قراءة التجربة الاجتماعية – الثقافية والخبرة المعرفية – الروحية من ثلاثة منظورات متكاملة ومتلاصقة:
إن المنظورات الثلاثة المتكاملة المتلاصقة هذه تنتظم وتتمفصل في مشروع البحث. فعلى الرغم من أن دراسة الوقائع الحياتية والمواقف الموضوعية تشكل جزءًا لا يتجزأ منه، إلا أن جل جهد الباحث العلمي ينصب على استطلاع المعاني الذاتية التي يضفيها أعضاء المجتمع المحلي على المواقف الموضوعية التي تجري فيها أفعالهم وتفاعلاتهم.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15790/ofek-nazari/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.