by محمد محمود إبراهيم | مايو 16, 2023 12:00 م
مقدمة
شغلت مسألة العدل أذهان المفكّرين والفلاسفة، بل وكل فرد في مجال حياته اليومية على مر التاريخ الإنسانى، كنتاج لحالة القلق الاجتماعي والأيديولوجي داخل المجتمعات الإنسانية، ولما لهذه المسألة من أهمية بالغة على مستوى الفرد والمجتمع، فالعدل أساس الحياة البشرية، والضامن لاستقرار المجتمع، وهو الغاية المنشودة، والصراط المستقيم الذى يحقق السعادة للمجتمع، وبدونه يختل الميزان، وينقلب المجتمع إلى فوضى وتسوده الاضطرابات والثورات، ومن ثم كان هدف هذه المقالة، هو عرض لبعض تصورات أرسطو عن العدل، وما يرتبط به من بعض التساؤلات، ولتحقيق هذا الهدف استخدمت المنهج التحليلي الوصفي، من خلال تجميع بعض آراء أرسطو حول العدل وتحليلها، معتمدًا على المصادر الأصلية المُعرّبة إلى جانب بعض ما كتب في هذا الموضوع من خلال المراجع الحديثة وشبكة الإنترنت.
العدل هو حد الظلم بالتضاد
“الأشياء تعرف من موضوعاتها ومن الهيئة المضادة لها”، هكذا قال أرسطو في سياق إجابته عن سؤال: ما العدل؟ واستنادًا لهذه المقولة، فإن العدل في تصوره هو حد الظلم بالتضاد، وأن من هيئة الظلم هو عدم المساواة بالطبع، مفسرًا ذلك أن كل من يأخذ أكثر مما له، ومما ينبغى له، وكل من يختار ويأخذ بشكل دائم الأكثر أو الأقل من الأشياء ذات الجودة والرداءة، يُنعت بالظلم أو اللامساواة، بسبب انتهاك حد المساواة التي تشمل معنى الأخذ سواء بالأكثر أو بالأقل في الأحوال المختلفة المرتبطة بحاجات الإنسان ورغباته الحياتية، عندما يأخذ نصيبًا أكثر أو أقل مما ينبغي له. ومن ناحية أخرى رأى أرسطو أن من هيئة الظلم هو تضاد أو انتهاك القانون، أو بمعنى آخر هو اللاقانون، فكل من ينتهك القانون الذي يحمي المجتمع، ويؤكد على الفضائل الإنسانية، وينهى عن الرذائل، فهو باغ، والبغي من معانى الظلم.
العدل هو المساواة والقانون
واستنادًا لما سبق، فإن أرسطو اعتبر العدل هو المساواة والقانون، فالمساواة هي الحد الأوسط بين حدين الأكثر والأقل، أو بين قيمتين متطرفتين كالإفراط والتفريط، أما القانون فإنه من الضروري مراعاته والتمسك به وتحقيقه، وجعل أرسطو عدالة القانون مقيدة بتحقيق السعادة في المجتمع. فلا عدالة إذا لم يحقق القانون السعادة لأفراد المجتمع.
العدل فضيلة اجتماعية تامة
واعتبر أرسطو العدل أمرًا إنسانيًّا محضًا، لأن أفعال العدل وطلبه تنحصر في الكائنات الإنسانية دون غيرها؛ فالإنسان وحده هو القادر على إدراك الخير من الشر، والعدل من الظلم. معتبرًا إياه فضيلة اجتماعية تامّة، فهو أساس الفضائل، لكونه في خدمة الآخر لا الذات، وبطبيعة الحال يكون من البديهي أن العدالة وحب الذات (الأنانية) لا يجتمعان معًا. لأن العدل هو خير للأغيار وليس للذات، ولهذا السبب كان العدل ليس مجرد جزء من الفضيلة ولكنه أم الفضائل كلها، لأنه ينتمي إلى الآخر، وبالرغم من ذلك نظر إليه أرسطو باعتباره فضيلة خاصة، فمن حيث هو عادة خُلقية معينة فهو فضيلة، ومن حيث هو علاقة مع الآخر فهو عدل.
اللاعدل الكلّي والجزئي
واعتبر أرسطو أن اللاعدل أو الظلم يمثّل الرذيلة أو جزءًا منها، وتنطوي وجهة النظر هذه من خلال تقسيمه للظلم أو اللاعدل إلى ظلم كلّي وجزئي، فالظلم الكلّي هو الذي يخالف ويضاد القانون، بينما الظلم الجزئي هو أن يفعل الفرد ظلمًا أو رذيلة دون أن يخالف القانون، ومثاله الجندي الذي يترك سلاحه ويفر خوفًا من الحرب، أو الذي امتنع عن مساعدة صديقه بخلًا، فكلاهما ارتكب أحد أعمال الرذيلة ولكنهما لم يخالفا القانون.
العدل بالمعنى العام والخاص
وفي سياق ما سبق اعتبر أرسطو أن العدل له مفهومان:
المفهوم الأول: العدل بالمعنى العام، ويعني الضمير الأخلاقي، وإطاعة القانون وهو ما يرادف الفضيلة.
المفهوم الثانى: العدل بالمعنى الخاص، ويعني المساواة والإنصاف، وفي هذا المعنى الخاص ميّز أرسطو بين نوعين من العدل، هما:
النوع الأول: العدل التوزيعي: عنى به توزيع الموارد والممتلكات والثروات والمناصب والأعباء بين أفراد المجتمع بحسب طاقتهم وقوتهم، وهذا النوع ينطبق على المعاملات بين الأشخاص والمؤسسات، وربط العدل التوزيعي بالاستحقاق والجدارة، وبما يتناسب مع قدراته، مشترطًا أن يكون ذلك للأحرار والأكفّاء، ومؤكّدًا على أن تحقيق هذا النوع من العدل يحمي المجتمع من اندلاع الثورات المستمرة، لأن الناس دائمًا يثورون طلبًا للمساواة.
النوع الثاني: العدل التصحيحي: وعنى به إعادة الحقوق المنتهكة والمسلوبة إلى أصحابها، وتنظيم المعاملات بين أفراد المجتمع وفقًا للقانون والعرف السائد، بشكل يحقّق التوازن العادل في العلاقات بين أفراد المجتمع في حالة فقدها، ففي حالة حصول أحد الأفراد على بعض الامتيازات الاجتماعية بشكل غير عادل، وحصل الآخر على أقل مما يستحق، هنا تكون المطالبة بالعدالة التصحيحية التي تضمن المساواة والإنصاف النسبي بين الفرد الذي حصل على أكثر مما يستحق، والآخر الذي أخذ الأقل من أجل تأمين وحماية حقوق الجميع بطريقة عادلة، ليخلص أرسطو بعد ذلك إلى أن غاية العدل هو تحقيق الفضيلة، معتبرًا العدل هو أساس الفضائل. فهذا النوع من العدل يمثّل إنصافًا لكل الأفراد المنتهكة حقوقها، ولكن هل من علاقة بين الإنصاف والعدل؟
الإنصاف والعدل
رأى أرسطو أن هناك علاقة تطابق بين الإنصاف والعدل، ولكن الأفضلية تكون للأول باعتباره يصحّح خطأ الثاني، حيث تكمن طبيعة الإنصاف في تصحيح القانون، بل وتجاوزه والعمل على تكيفه لإيجاد حلول للمشكلات في الحالات الخاصة، بعدما اعترف بقصور القانون واستحالة وجود تشريع لكل الحالات، ومن ثم كان تجاوزه ضروريًّا لتحقيق العدالة، ومن ثم فإن الإنصاف يمثّل شكلًا معينًا من العدل، ذلك أن المنصف يذهب إلى فعل الأفعال المنصفة.
تساؤلات حول العدل
وفي سياق الحديث عن العدل طرح أرسطو عدة تساؤلات منها: هل فعل العدل وفعل الظلم إرادي أم غير إرادي؟ هل كل من عانى الظلم كان بإرادته أم كان مجبورًا عليه؟ هل يمكن فعل الظلم اتجاه الذات؟
رأى أرسطو أن فعل العدل قد يكون بشكل إرادي أو غير إرادي، ففي بعض الأحيان يكون فعل العدل بشكل قصدي متعمّد من قبل الأفراد أو المؤسسات ذات الصلة في المجتمع، وذلك من خلال تطبيق القوانين والقواعد التي تضمن حقوق الجميع وتحميهم من الظلم والاضطهاد، وقد يكون فعل العدل بشكل عفوي غير إرادي عندما يتم تحقيقها بشكل طبيعي نتيجة لتوازن العلاقات بين أفراد المجتمع والمؤسسات المختلفة، أما فعل الظلم فهو أيضًا فعل إرادي وناتج عن اختيار حر. ففي الحالتين لا يكون الفرد ظالمًا أو عادلًا إلّا إذا كان مريدًا لذلك، ولكن العدل هو دائمًا إرادي.
وأكّد أرسطو على أن الفرد لا يمكن أن يعاني الظلم بإرادته، ولا أن يرضى بأن يعامل معاملة ظالمة، لأن ذلك يعتبر انتهاكًا لحقوقه، ويسبّب له الكثير من الأذى والشرور، ويعدّ مخالفًا للعدالة، إلا أنه بوسعه احتمال الأفعال الظالمة، ويمكن للفرد أن يرتكب ظلمًا ضد ذاته إراديًّا في حالة الانتحار لأنه في هذه الحالة يُعدّ مخالفًا للقانون المدني الذي يحرم هذا الفعل، ومن ثم يكون ظالمًا ليس ضد ذاته فقط، وإنما ضد المجتمع أيضًا، الذي يحرم هذا الفعل الشائن، وارتكاب الظلم ضد الذات أو الآخر يمثل رذيلة، أما معاناته فهو شر.
خاتمة
هكذا نجد أرسطو نظر إلى العدل بوصفه فضيلة أخلاقية وضرورة قانونية لا غنى عنها لأي مجتمع، ولكن يُشكل على تصور أرسطو للعدل أنه جعل القانون مساوٍ للعدل، فهل العدل هو القانون؟ وهل يضمن القانون تحقيق العدل في المجتمع؟ إن واضعي القانون هم بشر وليسوا معصومين من الخطأ ولا من المصلحة، فماذا لو كان القانون ظالمًا؟ إن العدل الذي قال به أرسطو كان قاصرًا على طبقة الأحرار والنبلاء، فهل تضمن العدل التوزيعي والتصحيحي طبقة العبيد في المجتمع اليوناني؟ لقد اعتبر أرسطو العبيد مجرد أشياء وأدوات للمعاش أو وسائل من وسائل الإنتاج، أليس العبد إنسانًا من روح ودم؟ وبتبريرات واهية يقرر أرسطو أن الطبيعة لم تمكن العبيد من تحصيل أصول الفضيلة، ونظر إلى العبيد بوصفهم عبيدًا بالطبع، ولم يقف على السبب الاجتماعي الذي جعلهم عبيدًا، لذلك لم تُعامل طبقة العبيد بالعدل كما يُعامل الأحرار، فهل الفضيلة قاصرة فقط على طبقة النبلاء دون العبيد؟ وهل كل طبقة النبلاء يتحلون بالفضيلة؟ إن الفضيلة لا تعرف طبقة معينة كما الرذيلة، وهل من العدل تسلط السيد على العبد يستغله ويمتهنه باعتبار أنه قنية، ويتحكّم في جسده وأسرته؟ فأي فضيلة لمن يقوم بمثل هذه الأعمال؟
بقي في النهاية أن نؤكد على أن مفهوم العدل هو مفهوم اجتماعي وسياسي وأخلاقي من الأساس، وأن مسؤولية تحقيقه تقع على عاتق الإنسان أينما كان.
المصادر والمراجع:
http://sophia.over-blog.com/article-17001785.htm[1]
https://www.yourarticlelibrary.com/paragraphs/aristotles-theory-of-justice/40130[2]
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15809/mafhoumaladel/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.