من الثورة بالقوة إلى الثورة بالفعل من أجل استراتيجيا ثورة فلسطينية
فرحانين .. فرحانين .. فرحانين
كل ثورة وإحنا دايمًا فرحانين
اللي ماتوا فى المعارك .. فرحانين
واللي حضر واللي شارك.. فرحانين
واللي ساكنين الخنادق.. فرحانين
والماسكين على المبادئ.. فرحانين
واللي شايلين شوق لفكرة.. فرحانين
واللي حاملين هَمّ بكرة.. فرحانين
اللي كلمتهم أمانة.. فرحانين
واللي معدتهم جعانة فرحانين
إحنا ملح الأرض وتراب العجين
كل صناع الورود والمبدعين فرحانين
عد موج البحر ونجوم الليالي
عد رمل الأرض واكتر من السنين
قولوا قولوا .. فرحانين
كل ثورة وإحنا دايما فرحانين
قولوا قولوا .. فرحانين”*
لستُ أدري، إن كان قادة شعْبي الفلسطيني قرؤوا في العلوم الاستراتيجية وعلم اجتماع الثورات حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم. فهذه اللحظة لم تعد لحظة “انتفاضة” ومعارك متناثرة مع العدّو الصهيوني، تفصل بين الأشهر والسنوات، بل إننا أمام فرصة ثمينة؛ إذ نحن أمام ثورة بالقوة، وما علينا إلا أن نحوّلها إلى ثورة بالفعل.
فرض شباب القدس وحي الشيخ جرّاح وغزّة واللدّ وحيفا وغيرها “التداعي الفلسطيني”: “نطلب تدخلك المسلّح يا غزّة!”، “نطلب تدخلك الشارعيّ يا قدس!”.
فلقد كان الوعي الثوري الفِطري للشباب الفلسطيني سبّاقًا على الوعي الثوري لدى القادة، رغم أننا لا ننكر مطلقًا قيمتهم التاريخية اليوم وغدًا. ما نشكره لهم هو استجابتهم للطلب الشبابي في التداعي الفلسطيني: شمالًا_ جنوبًا /جنوبًا_ شمالًا، تحركًا سلميًّا شارعيًّا/ تحركًا مسلّحًا ذكيًّا، والعكس.
- “ثورة فلسطينية” لا “انتفاضة” منذ اليوم
الثورات أنماط. وكل نمط يتحدّد عينيًّا حسب المكان والزمان والسياق التاريخي. وهنالك، يتفرّع كل نوع إلى ثورات خصوصية، فلا يمكن لهذه الثورة أن تكون نسخة طبق ثورة أخرى.
نحن أمام ثورة من نمط الثورة الشعبية طويلة الأمد، “والتي تمر بمرحلة أو مراحل مقاومة لغزو خارجي”، كما لاحظ المفكّر منير شفيق، المهمّش لدى أكثر فصائل المقاومة في شعبي الفلسطيني (تجارب ست ثورات عالمية، بيسان [الدار التي نشر فيها أنيس النقاش]، بيروت، 2014).
صحيح أنه ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ﴾[1]، ولكنّ الإلهي مشروط دائمًا بحجم الحب الإيماني المسكوب، وبحجم المراكمة السببيّة (إنسانيًّا ومادّيًّا). وذلك هو الإعداد: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم﴾[2]. ذلك هو الشرط الإلهي ليكون النصر من عنده.
– ما زالت الثورة الفلسطينية في حالة “قوّة”؛ أي لم تتحوّل إلى تحكّم في الحاضر والمستقبل بَدَائيًّا- احتماليًّا، بتجميع عقلاني للقدرات المؤدية إلى يوم الاستقلال الوطني عبر مَراحل مضبوطة، بمرونة التوقع التحكمي. فلا بدّ من ضبط لحركة الزمن الثوري المتوسط المدى أو الطويل المدى (حسب الحالات) حتى لا تكون أعمالنا مُرَادَّات reactions))، ومجرد تشنجات ضد القهر الإمبريالي- الصهيوني.
من سوء الحظ، ما زالت لغة القادة لغة “قبَلية”. فما زال النّحنُ هو “غزة”، وما زال النحنُ هو “فَصيلنا” و”حزبنا”، و “تنظيمنا العالمي”. فالثورات لا تنجح بدون “جبهة تحرير وطني”، وتجاوز للانتماء “القبلي”.
وما زال إعلام المقاومة (صحف إلكترونية وورقية، قنوات تلفزيونية، فيس- بوك) يتحدث عن “جهة فلسطينية”، وعن “فصيل فلسطيني”، وعن “انتفاضة” لا عن “ثورة”. ولقد شعرت بهول غياب أنيس النقاش، وأحسستُ أنه ربما لا وجود لشبكة الأمان للبحوث والدراسات الاستراتيجية فعلًا، فلم يستطع أنيس النقاش تحويل نجاحه في التفكير الاستراتيجي العملي إلى نجاح مؤسَّسي. وكانت وسائل إعلام محور المقاومة لا علاقة لها أثناء معركة “سيف القدس” بمنير شفيق… فقط، كنتُ أنتظر بلهفة تدخل عبد الباري عطوان وناصر قنديل، ولكن لم يكن بإمكانهما تعويض أنيس النقاش رغم حجميهما. والمحلل العسكري بحتًا لا يمكن أن يعوض القارئ الاستراتيجي، النادر أو المنعدم راهنًا.
– العاجل حتى لا تُخْسر هذه اللحظة الثورية، هو بناء “جبهة التحرير الوطني” الآن الآن، دون تأخير. وليس بطريقة اصطناعية- تركيبية، محاصصية، بل بما أفرزته “سيف القدس”. وأن تكون الجبهة جامعةً لأقاليم فلسطين دون تمييز بسبب الاحتلال الحِمَوي أو عدمه أو رمادّيته؛ وأن تكون جامعة للشارعي- المَدَني والمسلّح دون تمييز أو تفويق؛ وجامعة للاقتصادي والسياسي والعسكري، والتعبوي- الديني، والتعبوي- الفني والأجيالي، دون تمييز. و”الجبهة”، ليست مجرد تنظيم، بل هي توليفة القوى الثورية ذات الاستراتيجيا التفصيلية والسردية الكفاحية الخصوصية.
– لا بدّ للحراك المدني والانتظام الجمعوي أن يصبح هو المهيمن على التحرك الشبابي والشارعي والإنترنتي. ولا يعني ذلك ضبطًا للإبداعية، بل يعني أن يصبح التحرك الشبابي والمدني تحركًا استراتيجيًّا، وتشبيكيًّا، وتوحيديًّا للحراك الفلسطيني على كامل الحِمى (Territory) الفلسطيني في تناغم مع السياسي والعسكري، أي ضمن الحراك الجبهوي- الثوري. فالعفوية المفرطة لا يمكن أن تراكم حبّات المِسْبحة الثورية حتى لحظة الاستقلال الوطني. والعفوية المفرطة، هي عائق أمام الإبداعية الثورية. فأن نتحرك معًا يعني أن نفكر معًا، وأن نطوّر عملنا الثوري بتفاصيله، وأن نُبدع احتيالات تجاوز التضييقات والحصار والصعوبات، بالتعاون مع الباحث الاقتصادي والباحث التّقاني…
- مصادر الشحن الثوري
– كان الصوم الرمضاني، في ذروة الجيشان العِرْفاني بالأسبوع الأخير من الشهر، أعظم تعبئة ثورية. ولقد كان غاندي، وعز الدين القسّام، وروح الله الموسوي، وعمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وشي غيفارا، وكاسترو، وشافيز، قادة صوَّامين. وكان “يوم القدس العالمي”، يوم الجمعة الأخير من رمضان، قوّة تعبئة ثورية؛ إذ أحس الشعب الفلسطيني منذ سنة 1980، أن هذا اليوم المقدّس، المترافق مع ليالي القدر المقدسة، هو بحر جيشانيّ عالميّ ليصبح كل العالم فلسطينيًّا، ببطون فارغة لا تعترف بالإفقار الإمبريالي- الرأسمالي ولا بالحصار الصهيوني- المتوحش: “وإلى معدتهم جعانة فرحانين!”.
فقد كان يوم القدس “العالمي” (وليس الخاص بالأمّة الإسلامية، بل بكل العالَم المضادّ للإمبريالية) دافعًا ضخمًا، تراكم منذ 4 عقود في اللاوعي الفلسطيني، ليدفعه إلى هذه اللحظة الثورية العظيمة.
– لقد تراجع الشحن السردي والمخيالي للثورة الفلسطينية. أين زخم غسّان كنفاني وفرقة العاشقين، ومحمود درويش، وسميح القاسم، ومرسال خليفة، وناجي العلّي، الذي بلغ حدّ معانقة العالمية والإنسانية العامة؟! أين استثمار مسرحية “المدينة المصلوبة” للأب إلياس زحلاوي؟! كان التدين غير الثوري والأقرب إلى التسلّف والتقوقع التنظيمي- “العالمي”، مسؤولًا جزئيًّا عن هذا التراجع. وهذا شامل للإسلام فلسطينيًّا وللمسيحية الفلسطينية، بل لمجمل الإسلام سوريًّا (أو “شاميًّا”، فالطبري استعمل إسمَيْ العلم) والمسيحية السورية، طيلة هذه المرحلة التاريخية.
– لا نجد في المسيحية السورية الراهنة (عمومًا) لاهُوت ثورة، يعيد نقد العهد القديم، الذي تسبب (مع أسباب أخرى) في ظهور الصهيونية “المسيحية”، ويستخرج من الأناجيل المسيحَ الثوري المنخرط في الثورة السورية الزيلوتية ضد المحتل الروماني… بل نجد الكنيسة الفلسطينية تابعة للكنائس الأجنبية: في لغتها أحيانًا، وفي رموزها أحيانًا أخرى، وفي ممتلكاتها أحيانًا كثيرة…
حين ظهر ما يشبه الصليب (أداة إعدام الثوار عند الرومان) في سماء القدس عام 371 م، كان ذلك يعني أن كل الكون أصبح مصلوبًا؛ لأن القدس وبلاد الشام تصْلبانهما الإمبريالية الرومانية: أرضًا محتلة ودينًا مرومنًا قسرًا. ولكن من سوء الحظ أن ذلك فُهم أنه دعوة من السماء لتقديس آلة قتل الثورة الزيلوتية ورمزها العظيم. وكانت نتيجة ذلك امتصاص الروح الثورية التي أرادها أعظم حكيم سوري في التاريخ: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْض [الأرض التي احتلتها الإمبريالية الرومانية]، إنمَا جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا [لأدشن ثورة على الاحتلال الروماني]”. (إنجيل متى، 10: 34). تلك الانتكاسة في فهم إشارة السماء، بقيت عائقًا إبستيميًّا نحو لاهوت تحرر فلسطيني.
كما لا نجد في الإسلام فلسطينيًّا، تمثلًا للنبي الفلسطيني- السوري، رغم أن المدوّنة المحمّدية المُجْمع عليها تؤكد ضرورة المسيح “على أسوار دمشق”، من أجل استئصال “كل الظلم” من الشام ومن العالَم في الآن نفسه: “لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا. فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق”.
إن الثورة الفلسطينية غير ممكنة دون جعل المسيح أيقونتها، مثلما أن سيمون بوليفار أيقونة الثورة الفينزويلية.
– من سوء الحظ لم يترك “حارس القدس”، المطران الثوري العظيم كبّوجي ذو الشخصية الكارزمية، أثرًا واقعيًّا، مؤسّسيًّا. ليس لأنه من إقليم دمشق (ما سُمّي بالمقصّ الإمبريالي: “سوريا”)، بل لأن الكنيسة الفلسطينية (والسورية عمومًا) لم تُرد أن تكون مستقلة عن كنائس العالم، بل لم تُرد أن تكون قائدة لها (رغم أنها الأولى في التاريخ العالمي)، ولم تُرد أن تنشئ لاهوت التحرّر الفلسطيني، رغم الجهد الإبداعي العظيم للأب إلياس زحلاوي. وكذلك لأن اللاوعي الإسلامي – السلفي رفضه، لا لأن المطران الثوري “مسيحي”، بل لأنه جعل المسيح ثورةً على الإمبريالية، بينما الأوزاعي (المؤسس لذلك اللاوعي الشامي المضاد للثورة وللشعب) كان يريد دينًا مهادنًا للقهرية الأموية، ولكل قهرية.
- كيف تنبجس القيادة الثورية؟
– لا بدّ لكل ثورة من انبثاق لقيادة طبيعية – توحيدية. فقيادة الثورة (قيادة أيّ ثورة) ينبغي أن تكون الموجّه الرمزي والحاضن العاطفي والاستراتيجي، والجامع (لا التفريقيّ)، القادر على تفهم قوى جبهة التحرير الوطني والتوليف بين أفعالها، والتقاط حُدوسها المستقبلية التي تقرّب لحظة الانتصار، لحظة يوم الاستقلال الوطني. ولا يمكن لهذه القيادة الطبيعية- التوحيدية إلا كارزمية. والكارِزما بما هي شخصية طبيعية، بسيطة، لا مصطنعة، وإن كانت مركّبة الذكاء، لا يمكن أن تكون نتيجة بناء تربوي فحسب، بل هي أساسًا نتيجة انجذاب شعبي اتجاه كُتلة مُرَاكمة للتضحيات المجازفة بالحياة والراحة والحب والاستقرار. وهي تكون في أكثر الأحيان شخصية دينية، وإن ادعت الإلحاد، فالإلحاد أحيانًا هو تديّن مضادّ للتدين القائم.
كما أن هذه الشخصية الكارزمية ينبغي أن تكون منغرسة في ثقافة الشعب وتدينيّته وأيقونيته، وقادرة على أن تفرز من أفعالها تماهياتها دون قصدية. ومن العجيب أن يكون المسيح عيسى بن مريم أعظم حكيم فلسطيني (أهم حكيم سوريّ عمومًا)، وأهم كتلة رمزية في تاريخ فلسطين، وكامل البلاد السورية، ولكننا لا نجد الجامعات الفلسطينية مهتمة به، ليصبح “مصدر طاقة ثورية”، بلغة علم اجتماع الثورات.
لا يمكن للكارزما القيادية الثورية أن تنبثق من قيادة انعزالية بتنظيم أو طائفة، أو قيادة مراهنة على كمبرادورية عربية مطبّعة.
فلا يمكن أن نراكم الكارِزما والجاذبية الرمزية، مِمّن خرج من غزّة بينما كان أهلها جميعًا مهدّدون بالفناء آنئذ ليلتحق بواحةٍ جزيرية هانئة، مهما كانت المبرّرات الشرعية لوجوده هناك، ليكون خطاب الانتصار مرتّبًا نتيجة المعركة بترتيبِ هُوامي لصانعيها: “مِصْر، فقطر، فالأمم المتحدة”، ليتقزم الصانع الفلسطيني إلى صانع غزاوي فحسب، بل إلى صانع فصيليّ فحسب، بل يتقزم أمام حجم “مصر السيسية” التي “لُعِنت” من التنظيم العالمي طويلًا، وحجم “قطر قاعدةِ السّيلية والسفارةِ الصهيونية”، وحجم “الأمم المتحدة المنشئة القانونية للكيان الصهيوني”، بل يتقزّم حزام محور المقاومة إلى “إيران” فحسب، بل يتقزم الدور الإيراني في “الانتصار” إلى مجرّد “دعم مادّي” لا إلى “شريك” في الصراع مع الحلف الصهيوني- الإمبريالي. ولا يمكن أن تكون الكارزمية ممن شكر تغطية قناة واحدة للمعركة، ناسيًا الميادين والعالم والمنار وتلي سور الفينزويلية…
– ما زالت هذه القياديّة غير طبيعية، أي تركيبية، محاصصية، اصطناعية، نتيجة تسويات تنظيمية ومقصودة. وما زالت منقسمة إلى قيادتين: سياسية وعسكرية، بينما يجب أن تكون موحدة، إذا أردنا الانتقال إلى مرحلة الثورة. وما زال خطابها “قَبَليًّا” (تغطيةً لحزب، لفصيل، لتنظيم عالمي انعزالي، لجهة..). ففي غالب الأحيان لا يؤكد انتماء إلى وطن شامي كبير، ولا إلى وطن عربي كبير، ولا إلى محور مقاومة إلّا هامشيًّا وديكوريًّا وثانويًّا، وتقية…
لا نرى في خطابها مقولة “الإمبريالية”، بل لا نرى فيه سوى مقولة غير متبلورة لـ “الصهيونية”. فليس فيه تمثل إمبريالي – تاريخي متراكم ومنظّم، باستمرار. فلا تمكن موضوعيًّا مقاومة هذا العدوّ المتعوْلِم منذ مؤتمر بازل عام 1897، بل منذ ما قَبْلهُ، دون حلف عالمي مضادّ، هو الحلف المضادّ للإمبريالية التي خلقت الصهيونية والكيان الصهيوني… بل نجد فيه رهانًا على رديفةِ قاعدة السيلية والوساطة التطبيعية – العربية مع العدوّ الصهيوني، لتنتهي المعركة دون إلزامات للعدو بالتخلي عن بعض استراتيجية إفناء حي الشيخ جراح وتهويد القدس، وعن بعض استراتيجية حصار غزة.
هذا لا يقلّل من قيمة الانتصار، فقد كان الانتصار منذ بداية “سيف القدس”. ولكن النهاية السياسية للملحمة، لم تكن حسنة الصياغة، لأن القيادة سلّمت جل الصياغة لدول عربية تطبيعية -كمبرادورية للإمبريالية الأمريكية، فلم تنسقها مع محور المقاومة. فهي شديدة التنسيق معه عسكريًّا، مرتعشة العلاقة به سياسيًّا. فلن يتزحزح الوضع الكولونيالي للشعب الفلسطيني تدريجيًّا، إلا بتمثل هذا الشعب بما هو أحد شعوب سوريا الممزّقة منذ سايكس-بيكو، ومنذ سقوط الوحدة الإسلامية العثمانية، وبالتخلي عن الضيق الفادح للأفق الاستراتيجي- العالمي في وعي هذه القيادة.
وبذلك كان تعاملها مع إيران على أنها قدرة “شيعية”، وليس على أنها قدرة ثورية مضادّة للإمبريالية (وهذا خطأ تكويني فادح في هذه القيادة)؛ ومع “سوريا” على أنها “بعث” أو “تحالف قوى يسارية وعلمانية وقومية ضد الإخوان المسلمين”، لا على أنها قدرةٌ ممانعة للكولونيالية الصهيونية وسياقها الإمبريالي- التاريخي (فالتعصبية لا تصنع القيادة الثورية)، وعلى أن كوبا وفينزويلا وبوليفيا والأورغواي والإكوادور “كتل كافرة” لا قدرات مناهضة للإمبريالية الغربية (الأمريكية) التي صنعت “إسرائيل”.
- ثورة فلسطينية مسنودة بمحور المقاومة للإمبريالية العالمية
بذلك تكون علاقة القيادة بـ “إيران”، و”سوريا” مجرد “براغماتية” و”اقتناص”، لن يستمر، و”تقيّة” مع “عدو” “كافر” (“شيعي”، أو “علماني”) تنتهي بمجرد تحقيق “الاقتناص” من أجل معركة محدودة في الحاضر لن تمتد إلى يوم الاستقلال الوطني. وقد كان ردّ جلال العربي ردًّا على مقال الصحافي القدير كمال خلف “الأبواب المفتوحة بين دمشق وحماس”، في “رأي اليوم” معبّرًا عن ذلك؛ إذ قال بتشخيص قبَلي: “بشار الأسد يحتاج لحماس، وحماس ليست في حاجة إلى سوريا”، فلقد “قضت حماس حاجتها من سوريا، ولم تعد في حاجة إليها”.
وإذا كان الجزء الأول صحيحًا (دون تشخيص إفرادي وقبَلي): “بشار الأسد يحتاج لحماس”، فالدولة السورية تحتاج لجبهة التحرير الوطني الفلسطيني، ولكنّ الجزء الثاني خاطئ تمامًا، إذ “المؤمن بأخيه”. فيوم الاستقلال الفلسطيني سيعني تأسيس الكنفيدرالية السورية، (أو “الشَاميّة”، فالطبري استعمل إسميْ العَلم)، القوّة الإقليمية.
ولا يمكن لتحرير وطنيّ فلسطيني أن يكون إلا ضمن وضع الوطن الفلسطيني داخل الوطن السوري الكبير. وقد نظّر أنيس النقاش للكنفيدرالية السورية. ولا يمكن للتحرير الوطنيّ الفلسطيني أن يكون إلا ضمن الحلف العالمي المضاد للإمبريالية، محور المقاومة المضادة للإمبريالية من كركاس إلى طهران.
فالثورة الفلسطينية لن تكون إذا لم تفكر قيادتها بطريقة واقعية؛ مستندة إلى قراءة علمية في تاريخ الثورات… لقد عرض لهم منير شفيق 6 ثورات ولم يقرؤوا كتابه!! وهم متكبرون على تاريخ الثورة الإيرانية التي بدأت سنة 1907 وما زالت مستمرة!!…
أين المثقف الثوري فيهم؟! أين المفكّر الاستراتيجي فيهم؟! أين الفنان والشاعر الثوري فيهم بحجم الألم الفلسطيني وبحجم الصليب الفلسطيني، الذي صُنع في لندن وواشنطن وعواصم التطبيع؟! سَرْديتهم محدودة، ليس فيها شاعرية ولا مسيحانية ولا بِشارة بعالَم بشري موحَّد جديد!!! ليست لهم ثقافة موسيقية وتشكيلية ومسرحية وسينمائية بحجم الدمار الفلسطيني.
- إيران تُريدُ رِبْعيّة المقاومة الفلسطينية
– “شهيد القدس! شهيد القدس! شهيد القدس!”، لم يكن موجودًا في خطاب “الانتصار” ذاك! هل كان “شهيدًا” للقدس آنئذٍ، ولم يَعُدْ كذلك الآن؟! أم كل ما في الأمر تقيّة مِشعَلية متكررة بألوان جديدة!؟ ألم يكن يستحق أن يكون أحد المُهدى إليهم هذا الانتصار؟!!
– لا تريد الجمهورية الإيرانية من جبهة التحرير الوطني الفلسطينية أن تكون “متذللة”، “تابعة لها”، “فقيرة لها”، بل يريدها ذات “رِبْعة” (بمصطلحية صحيفة المدينة: Autonomy). يقول الشيخ اللبناني (السّنّي) ماهر حمود على حدود فلسطين يوم 19/5/2021: “أتدرون لماذا قبّل المرشد الشهيدَ سليماني من رأسه، كما تشاهدونه كثيرًا على القنوات؟! لقد طلب منه مضاعفة تسليح المقاومة، فأجابه أن دون ذلك كيلومترات طويلة وموانع ضخمة، هائلة. فقال له: (فلنساعدها على بناء مَعامل السلاح وتصاميم التّقانة العسكرية). فلما قال له: (“سأفعل”)، قام وقبّله من رأسه!”. فمن الواضح أن الجمهورية الإيرانية لا تريد “تبعية” فلسطينية، بل تريد شريكًا فلسطينيًّا، ذكيًّا، رِبْعيًّا، مُبْدعًا، بل يجب على كل شركاء محور مقاومة الإمبريالية والصهيونية أن يكونوا كذلك. لم تعد إيران تحتاج إلى دليل آخر على أنها تريد فلسطينًا رِبْعيّة، لا فلسطينًا تابعة لألاعيب السياسة العربية وغير العربية؛ فضلًا عن أن أسلحتها أصبحت تسمّى “غزة”، و”القدس”.
وكما أكّد محمد حسنين هيكل وأنيس النقاش، المفكّران الاستراتيجيان، فإن الثورة الإيرانية وجمهوريتها فرصة ثمينة للثورة الفلسطينية، بل للمضادة العربية للإمبريالية والصهيونية.
أهم المستخلصات:
لست من المختصين في العلوم الاستراتيجية، ولكنني اشتغلت في علم اجتماع الثورات، ومن الواجب الإدلاء بهذه التشخيصات الناحية نحو العلمية.
- هذه اللحظة لم تعد لحظة “انتفاضة”، فنحن أمام ثورة بالقوة، وما علينا إلا أن نحوّلها إلى ثورة بالفعل.
- نحن أمام ثورة من نمط الثورة الشعبية طويلة الأمد، بإمكانها أن تتحوّل إلى تحكم في الحاضر والمستقبل بَدَائيًّا-احتماليًّا، بتجميع عقلاني للقدرات المؤدية إلى يوم الاستقلال الوطني عبر مَراحل مضبوطة، بمرونة التوقع التحكمي. فالثورة تأبى الارتجال ومرادّات الفعل وعدم البصيرة طويلة المدى.
- لا تنجح الثورات بدون “جبهة تحرير وطني”، ودون تجاوز للانتماء “القبَلي”. ولا يمكن بناء هذه الجبهة بطريقة اصطناعية- تركيبية، محاصصية، بل بما أفرزته “سيف القدس”. وهي ليست مجرد تنظيم، بل هي توليفة القوى الثورية ذات الاستراتيجيا التفصيلية، والسردية الكفاحية الخصوصية، مدنيًّا وعسكريًّا، وسياسيًّا واقتصاديًّا، وثقافيًّا وإعلاميًّا…
- كان يوم القدس “العالمي” (وليس الخاص بالأمّة الإسلامية، بل بكل العالَم المضادّ للإمبريالية) دافعًا ضخمًا، تراكم منذ 4 عقود في اللاوعي الفلسطيني، ليدفعه إلى هذه اللحظة الثورية العظيمة، فلقد أصبح أكثر إقدامًا ثوريًّا بالعولمة التقدمية للمظلمة الفلسطينية.
- لا يمكن موضوعيًّا مقاومة هذا العدوّ المتعوْلِم، دون وضع الوطن الفلسطيني ضمن أوطان الوطن الشامي الكبير، ودون حلف عالمي مضادّ، هو الحلف المضادّ للإمبريالية.
- إن الثورة الفلسطينية غير ممكنة دون جعل المسيح أيقونتها.
- لا بدّ لكل ثورة من انبثاق لقيادة طبيعية – توحيدية، ذات شخصية كارزمية ينبغي أن تكون منغرسة في ثقافة الشعب وتدينيّته وأيقونيته.
أرجو ردودًا حوارية هادئة، بالمجادلة بما هي أحسن، لا ردودًا تشنجية. فالمهم أن نبلور معًا استراتيجية ثورتنا…﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚأُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾…
المجد للثورة! المجد للثورة!
المجد للإنسان يعطي أرضه عمره
للبندقية في اليد الحرة
للشعب يصنع بالدما فجره
المجد! المجد!
إن لم نضحِّ أنا وأنت فمن يضحي
إني فتحت لموطني شباك جرحي
لتمر منه العاصفة .. عاصفة!
المجد! المجد!
أوصيك فلتكمل طريقي
واحمل سلاحي يا رفيقي
أوصيك بالثورة!
المجد! المجد!
* أحمد فؤاد نجم، وإمام عيسى.
[1] سورة آل عمران، الآية 126.
[2] سورة الأنفال، الآية 60.
المقالات المرتبطة
جدل الدين والحداثة بين العالمين الغربي والعربي
من الكتب المهمّة في فلسفة الأديان والمذاهب الفكرية المعاصرة والحداثة كتاب صلاح سالم “جدل الدين والحداثة”.
العودة إلى المِتافيزيقا
تتعاطى المِتافيزيقا مع المبادىء التأسيسيّة منطلقةً من الوجود كمسلّمة
الفكر العربي الحديث والمعاصر | المنهج ومميزاته عند محمد أركون
منهج محمد أركون تعدد المصادر المعرفية والمؤثرات الفكرية، طبعت المنهج الأركوني بطابعها الخاص، ولعلّ هذا ما يجعله يعتمد التعددية