“حول أطروحة الميتافيزيقا البعدية” المثنّى أم علاقة التناقض؟!

“حول أطروحة الميتافيزيقا البعدية”  المثنّى أم علاقة التناقض؟!

كتبنا سابقًا عن دعوة المفكّر الدكتور محمود حيدر- في محاضراته وكتاباته – إلى التأسيس لمشروع حضاري وثقافي بديل للمشروع الثقافي الغربي، الذي أفضى إلى ترسيخ سطوة النزعة الدنيوية على مجمل حداثة الغرب. ويمثّل هذا المشروع خلاصًا معرفيًّا يتمثل بميتافيزيقا جديدة جوهرها إعادة الربط بين الغيب والواقع بعد أن أقامت الحداثة الغربية جدرانًا سميكة بينهما باعتمادها العقل والتجريب فقط، ونبذ ما هو غيبي عن العالم؛ إذ يرى أن النسق الميتافيزيقي الغربي إنما هو نسق فيزيقي أعلن الانفصال عن الغيب والماوراء والجوهر، وأعرض عنه، وبرر ذلك باستحالة معرفته، ويذهب إلى أن هذا النسق الفلسفي قد امتد من عهد اليونان إلى مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة. وقد أخذنا نحن ما تبنته الحضارة الغربية من موقف فلسفي على نحو اليقين، وحولناه إلى أصنام تُعبد ولم يُراجع أو يُنتقد، واقتصر دورنا على الترديد والتكرار. وهذا ما حفّز الدكتور محمود حيدر للدعوة إلى الاجتهاد بوضع ميتافيزيقا جديدة متعالية تعيد الربط الوثيق بين الغيب والشهادة، بين المبدأ الجوهري والعالم المادي، وذلك عن طريق خطوات ثلاث تتمثل باستيعاب الفكر الفلسفي الغربي، ثم انتقاده ثم مواجهته بما يُنجز انطلاقًا من هذا المشروع الفكري (1)

 واستكمالًا لدعوته هذه، يقدم فكرة تحدّد بعض مفردات هذه الثقافة البديلة والميتافيزيقا الجديدة بالدعوة إلى التنظير لـ (علم المبدأ)، الذي يجده ضروريًّا، ويشكّل التنظير لهذا العلم المرتجى الطريق التي تؤسس لعلم ما يزال في طور التشكل. ويبيّن أن هذه الدعوة محاولة لاستعادة ما هو منسي في عالم الفلسفة وفتح الباب لتفكير جديد في الميدان الفلسفي، وتأسيس منفسح من النقاش حول (علم المبدأ) لتكتمل مبانيه وليكونَ هذا عاملًا لضخ ما هو جديد في التقليد الفلسفي، الذي عصفت به النمطية، فمنذ التأسيس للميتافيزيقا ساكنت الفلسفة السؤالَ الفلسفي، أما الجواب فكان مستبعدًا لا ينتظر له حضور، وكان العقل مترددًا غيرَ مقتحِم. وعندما قسم التنظير الفلسفي العالم إلى نومين وفينومين كان هناك نسيان للنومين وهو الوجود بذاته. ولم يتحدث الفلاسفة الأوائل عن سر المبدأ الأول، الذي صدرت عنه الموجودات إلا من حاول الجمع بين الوحي والفلسفة على طريقته. وكحال الفلاسفة الأوائل كان حال الفلاسفة في العصر الحديث الذين أرادوا اتخاذ مسار مفارق للفلسفة الكلاسيكية وفي مسعى لإخراج الفلسفة من معضلتها، ولكنهم أكّدوا مثل سابقيهم أن النومين سر مستغلق، ومن المستحيل معرفة سره فلا بدّ من الاهتمام بالظواهر لأنها تشي بما وراءها، وفي الإمكان التعرف إلى الشيء بذاته من خلال ظاهره، ولكنهم لم يستطعوا تجاوز المعضلة الكبرى. وهكذا استغرقت الفلسفة الحديثة في التأمل في العقل الأدنى (الفينومين). ومن هنا تأتي الدعوة إلى التنظير لـ (علم المبدأ). ويجد الدكتور محمود حيدر أن من الفلاسفة من استشعر هذا المفهوم، وقد أعطاه كل فيلسوف منهم تسمية حسب استشعاراتهم له، فقالوا عنه إنه الموجود الأول، الذي أوجده المُبدىء لكي يكون نقطة انطلاق لكل الموجودات لذلك سُمي بالعقل الأول، أو الخلق الأول، أو الحق المخلوق به، أو الكلمة كما يعبر اللاهوت المسيحي، أو هو الكلمة التي عبّرت عنها الآية الكريمة: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (سورة يس، الآية 82)، فهو يأتي من موجِد هو الله واجد الوجود، وأنه كنز موجود في علم الله وليس من عدم، إنه ظهور بالقول والأمر وهو أطاع الأمر وظهر، فهو مخلوق مطيع لخالقه ولكنه خالقٌ في الوقت نفسه، موجودٌ به كل الموجودات، وكلُ عناصر الكون المادية صدرت عنه، هو حاو لكل العقول، وإن الكون تمدد لهذا الموجود الأول، الذي هو الكون كله، إنه نقطةٌ بدأ منها الكون ثم تمددت إلى هذه السعة، وهو الوسيط بين الله والعالم، هو توسطية لفهم الصلة بين التنزيه والتشبيه، فهمِ فعلِ الله في العالم. والتوسط أمر ضروري لعملية الخلق، لتوحيد الله والعالم فهو يشكل وحدةَ وجودٍ محصورة بهذا الكائن الأول، ومعنى هذا أن كل حركة في دنيا الإنسان حركة معتنى بها، وليس كما قالت الفلسفة: إن الإنسان يدبر نفسه.

إن التنظير في علم المبدأ مسعى إلى علم جديد يمنح الإنسان ماهيته المتسامية المتعالية، ويسترجع ما هو مفقود في الميتافيزيقا، ويستكشف المنسي والمغفول عنه من الوجود، وهو محاولة لبث روح جديدة في القول الفلسفي. وهنا يتساءل الدكتور محمود حيدر: هل يمكن للعقل الأداتي أن يتعرف إلى هذا المجهول؟ ويذهب في الإجابة عن هذا السؤال إلى ضرورة التحرر من هذا العقل، الذي نحمله لكي ننظر إلى الوجود من خلال العودة إلى الفطرة وإلى الأمية بمعنى إفراغ القلب من المعلومات المكتسبة التي تشكل حجابًا بينه وبين المعرفة لكي يتعلم العلم الوحياني أو علم المبدأ، فعلم المبدأ هو العودة إلى علم الفطرة المكنون في داخل الإنسان؛ أي العودة إلى أصل العلم، الذي يُفهم منه الوجود حق الفهم، والذي يتمدّد حتى يصل إلى المعرفة التامة، وهي معرفة فائقة وغير نمطية لم تعرفها الفلسفة القبلية منذ نشأت وإلى عصر ما بعد الحداثة، فلم تلتفت هذه الفلسفة إلى أن الأذهان لم تطأ أرض الحقيقة بالاستدلال، وقيدت نفسها بالسؤال، فهي تسأل دائمًا في سلسلة متصلة لا متناهية من الأسئلة التي لا تلبي الحاجة، ولا تروي الظمأ الوجودي لأن وعيها ارتبط بالمادة، فلا جدوى من وجودها وهي لا تفضي إلى سعادة الإنسان. إن علم المبدأ – كما ينظِّر الدكتور محمود حيدر – يسعى إلى مجاوزة صرامة العقل الأدنى في فهم الوجود، وإن الميتافيزيقا البعدية المرجوة مجاوِزة للميتافيزيقا القبلية وهي الحكمة؛ الحكمة التي تقدم الجواب لأنها تفارق حصرية السؤال، وهي تعتمد الحدس والكشف والإلهام والإشراق والعلم الحضوري أو العرفان، وبه يحصل التعرّف على ما هو فائق ومتسامٍ وخارج نطاق الأغراض الفانية وهو المبدأ، الذي نتعرف منه على المُبدىء. العقل الحضاري لم يتخلص من الانسداد الفكري للحضارة العلمانية الفينومينولوجية؛ إذ لم يمتد ولم يصل إلى إمكانات العقل القدسي، الذي ينبغي لنا أن نجري مصالحة بينه وبين عقلنا الأداتي لكي نؤسس لميتافيزيقا كونية جديدة تستطيع أن تجيبنا عن الموجود الأول فتحل لنا مشكلة علاقة الله بالعالم وهي مشكلة كبرى أخذت كثيرًا من اهتمام الفلسفة ولم تحسم. الميتافيزيقا الجديدة لا تقطع صلتها بالميتافيزيقات القديمة، كذلك لا تتخلى عن العقل الأداتي الطبيعي، فهو مركز الدائرة لكن يجب عدم الاكتفاء بهذا العقل، الذي حددته الفلسفة بالمقولات وبالحواس الخمس، فالعقل في أصل خلقته غير محدود وله امتدادات، ولكن الفلاسفة ركّزوا على هندسة للعقل فيها قهر لطبيعة هذا العقل، الذي له امتدادات تتجاوز تحديداتهم (2).

نحن مع ما يقوله الدكتور محمود حيدر من أن العقل الحضاري لازم حالة الانسداد الفكري، وأن الحضارة العلمانية الفينومينولوجية قد استنفدت أغراضها بتكريس علم الظواهر وبناء أسس المعرفة الفلسفية بوساطة العلم، واستبدال التعريفات المجردة بالملاحظة التجريبية حتى كأنها غادرت الفلسفة وأخلت الساح إلى الفيزياء لتتحول الفلسفة إلى علم. ونؤيد ما يذهب إليه من وجوب السعي إلى تجاوز ما يسميه حالة الركود الفلسفي والضلال المعرفي وسطوة النزعة الدنيوية على مجمل حداثة الغرب التي أخلدت إلى المرئي وقطعت صلتها على نحو جائر بالماوراء. إن إخراج الفلسفة من معضلتها الحالية والقبلية – حسب معالجة الدكتور محمود حيدر – يكون بتجاوز الميتافيزيقا القبلية التي أخفقت في الإجابة عن أسئلتها ولم تجاوز مسلماتها الصلبة، وغفلت عن كنه الوجود، وحصرت معرفتها بالموجود في ظهوره العياني، ولم تكترث بما هو عليه في خفائه وكمونه، ولم تصل إلى معرفة حقيقية بالوجود ومبدئه الأول، وما أدلت به من أفكار بهذا الشأن بقي مجرد تخمينات لا يمكن إثباتها أو نفيها. إن تجاوز هذه الحال يكون بمحاولة التأسيس لهذه (الميتافيزيقا البعدية) التي تريد القيام بمهمة إحيائية لعلم الوجود والتمهيد لأفق معرفي جديد يستجلي المخبوء في الوجود وتقديم نظرية للمعرفة تنظر إلى النومين أو إلى الشيء بذاته بوصفه ظهورًا واقعيًّا قابلًا للفهم، وتتطلع إلى إمكان التعرف إلى الشيء بذاته لا من خلال ظاهره وما يلوح به هذا الظاهر فقط، وذلك باستغلال إمكانات العقل، الذي له امتدادات بعيدة. الميتافيزيقا البعدية علم يستفسر عما يمكث وراء الطبيعة لكي نتعرف على المبدأ أو الأصل لا من خلال معياريات العقل الفيزيائي ومقولاته، فالدكتور محمود حيدر يأخذ على الفلسفة الغربية الحديثة أنها حصرت المعرفة بالعقل القياسي فتعذّر عليها إدراك حقيقة الوجود ومبدأ تجليه ومكمن ظهوره، وهذا ما كان عليه حال الميتافيزيقا القبلية التي يجدها قد انشغلت بظاهر الوجود، أما (الميتافيزيقا البعدية) التي يدعو إليها فهي الطامحة إلى العلم بالوجود بذاته، والعلم بإيجاد الموجِد للوجود عن طريق (علم المبدأ)، الذي عليه الإجابة عن أسئلة الميتافيزيقا القبلية عن الحقيقة الغائبة التي لم تأتِ عليها ببيان. وهذا الجواب هو مهمة الميتافيزيقا البعدية التي هي التعرف على الماوراء والمبدأ المؤسس للوجود، والسؤال والجواب عما يحتجب وراء الظهورات والمبدأ، الذي صدرت عنه، والمُبدىء القائم على كل ما يوجد والمعتني به في الآن نفسه. ويبيّن أن الميتافيزيقا البعدية مقترح أملاه اعتلال أنطولوجي بلغ ذروته في تاريخ الإنسان الحديث. وما المسعى إلى الميتافيزيقا البعدية إلا استجابة لنداء خافت يقض عالم التفلسف باستفهامات كبرى تغشاها النسيان. إن التأسيس لهذه الميتافيزيقا يمنح العقل تمدّدًا يجاوز قيوده المحكومة بفيزياء المفاهيم، يجاوز العقل المستغرق في عالمه الطبيعي بالعقل الممتد إلى ما بعد ذاته وإلى ما بعد الكون المرئي حيث الحقيقة المتعالية.

ينشد الدكتور محمود حيدر الميتافيزيقا البعدية في حقلها الحدسي والعرفاني، حيث يكون العقل منفعلًا يتخذ معنى المكان؛ أي مكان قبول المعارف الآتية إليه إما من الله، أو من الفكر أو من القلب، وهذه الصورة تقابل الصورة الفاعلة للعقل التي يكون فيها مرادفًا للفكر؛ أي للقياس والممارسات الاستدلالية والحدية، وهي الصورة التي لا يريد اعتمادها في الميتافيزيقا الجديدة التي يُنظّر لها ويبيّن أن محيي الدين بن عربي كان قد انتقدها ورصد اقتران العقل فيها بثلاثة عيوب هي:

 1 . عيب تقليده لما سبقه من عقول؛ فالعقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وإنما مما يكتسبه من علوم.

 2 . عيب الحصر والتقييد بالحد والبرهان.

 3 . ادعاؤه الوصول إلى معرفة موضوعية ومحايدة.

العقل المابعدي في صورته الأولى – التي ينحاز إليها الدكتور محمود حيدر – يفتح للفاهم – كما يقول – باب التعرف على مجهولات الوجود وحكمة الإيجاد. العقل في امتداده الخلّاق عقل محفوظ بالتوحيد، وحين يتولى التوحيد حفظه من رجعة القهقرى يتوجّه نحو الأحدية المنزّهة من كل شراكة ويعيها بالإنصات المتدبر، وبفضل هذا الوعي يفارق العقل تناهيه ومحدوديته ليدخل دورة الانتماء الأصيل إلى المبدأ الأعلى. إن الوظيفة الأساسية للعقل الممتد هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تنزلها عليه من عالم القدس، ولعملية القبول دور بالغ الأهمية في المعرفة العقلية، وهو ينسجم مع دقة العقل ووظيفته الوجودية والتي هي التقييد والضبط من وجهة نظر العارف.

تُحيل الميتافيزيقا البعدية كل باب من أبواب المعرفة إلى مصدرها الوحياني، وهي تقوم على مسلّمة أن الميول الوحيانية لدى الإنسان هي ميول فطرية، وعليه لا يمكن معرفة المبدأ ولا التعرف على المُبدىء بما يتخالف والفطرة الإنسانية في شيء. وليس من ريب أن ما يسمّى البديهيات – أي الأوليات والمشاهدات والتجريبيات والحدسيات والمتواترات كلها تُبنى على القياس في حين أن الفطريات هي قضايا قياساتها معها.

تُبلّوِر الميتافيزيقا البعدية نظريةً للمعرفة تتوخى إثبات كونها علمًا وتفترض إمكان الاستفادة من الشهود في مشتغلات الفلسفة؛ لأن المشاهدات والمحسوسات داخلة في أنواع البديهيات، وهذه بدورها تشمل المحسوس بالحس الظاهر والحس الباطن، أو ما يعرف بالعلم الوجداني كعلم الإنسان بنفسه وبأحواله الباطنية. ومن أجل ذلك يمضي علماء الإلهيات إلى أن الشهود لا ينحصر بالحسي، بل يشتمل على الشهود العقلي وفوقه الشهود القلبي، ثلاثةُ أنواعٍ من الشهود: الحسي والعقلي والقلبي، وبقبول هذه الثلاثية ينفتح الباب أمام دخول الشهود إلى عالم الفلسفة ببيان حجيته وقيمته المعرفية. فالشهود هو العلم الحضوري ذاته، وفي العلم الحضوري يكون المعلوم حاضرًا عند العالِم. ومعيار الشهود والعلم الحضوري هو الارتباط المباشر؛ فلإثبات وجود النفس والذات مثلًا ليس ثمة حاجة إلى دليل آخر، كلُّ شخص حاضر لنفسه ويشهد لنفسه. وعلى هذا فبيان حجية الشهود يتم على أساس الارتباط الحضوري والمباشر، وما ذاك إلا لأن الموجود العاقل المدرك إذا حصل له ارتباط حضوري مع شيء ما وفي أي مجال كان سيدرك ذلك الشيء، الذي حصل له معه الارتباط ويعتمد إدراكه لذلك الشيء حضوريًّا على مقدار قوة ذلك الارتباط، فالمفهوم والاستدلال لا يُعدّان واسطة في العلم الشهودي بسبب أن العلم الحصولي محكوم بالانفصال والانفكاك بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، أما في العلم الحضوري فالأمر خلاف ذلك، حيث إن واقعية المعلوم تكون حاضرة لدى العالم، ولذا فليس لأحد الشك في شكه هو نفسه.

وفقًا لما مر، لا يكتفي النظام المعرفي المفترض للميتافيزيقا البعدية ببيان القواعد العقلية والأسس النظرية للمكاشفات القلبية والمشاهدات الباطنية، بل هو يعتني بدور آخر بالغ الأهمية هو تقرير هذه المكاشفات وإخراجها من كمونها في عالم الباطن إلى عالم الظهور، ومن مكمن الغيب إلى الواقع المشهود. من الباحثين في العرفان النظري من عدّ العلاقة بين العقل والقلب كالعلاقة بين العين والنفس. لولا العقل لحرم القلب من حكمة الاستبصار. فالعقل الذي يتمتع بقابلية الاستدلال يتمتع بقابلية المشاهدة والكشف، ولولا العقل لما كان بإمكان القلب أن يشاهد أو أن يتحقق له الكشف. وإذا ما عُدّ العقل عين القلب فلا بدّ من أن يُعدّ عمل العقل نوعًا من المشاهدة، فإذا تنور العقل بنور القدس واتحد العقل بالقلب، وحصلت البصيرة  في القلب، وصار العقل يرى بواسطة القلب عندها تتفجر المعرفة اللدنية من الله، وتفاض المعارف والحقائق الإلهية على قلب السالك فيشاهدها عيانًا بواسطة قلبه وعقله معًا لجهة الاتحاد والوحدة الحاصلة بينهما، ولكن كل بحسب سعته ومرتبته الوجودية لأن المعرفة العقلية مهما ترقت في مراتب الكشف تبقى محدودة إذا ما قيست بحدود المعرفة القلبية وسعتها والمقام الأسمى، الذي يمكن أن تصل إليه. أما بلوغ المعرفة القلبية مقامات الكشف فإنما هي صيرورة متدرجة حينًا ودفعية حينًا آخر، الأمر الذي تكشف عنه التجارب والمعايشات الروحية والمعنوية، وهو ما يعرف عند العرفاء بالإلهام؛ أي اللحظة التي يتلقى فيها العارف فيوضات معارفه من لدن الروح القدس في ما يتعلق بتدبير دنياه وآخرته.

عند هذه المنزلة تترقى معرفية الميتافيزيقا البعدية – كما يبيّن الدكتور محمود حيدر –  لتنظر إلى الفطرة كمعرفة بدئية أصيلة لتظهير الشهود كمعرفة عقلانية. والمراد من هذا أن الوحي كعلم لا متناهٍ مبني على الفطرة بما هي الغرسة الإلهية البدئية لعلم التوحد، وهنا يلاحظ ثلاث مميزات للأمور الفطرية:

– الأمور الفطرية لكل نوع من أنواع الموجودات مشتركة في الموجودات كلها، وإن اختلفت كيفية وجودها في الأفراد ضعفًا وقوة.

– لا يمكن لفطرة موجود ما أن يكون لها اقتضاء معين في مرحلة زمنية، بينما لها اقتضاء آخر في زمنية أخرى.

– الأمور الفطرية بما هي فطرية وتقتضيها خلقة الموجود لا تحتاج في وجودها إلى التعليم والتعلم، وإن احتاجت إلى التربية والتعليم في تقويتها وتنميتها أو في توجيهها وهدايتها.

وفق واحدية العقلي/الشهودي تستوي معرفيات الميتافيزيقا البعدية على خط واحد بين المعرفة الوحيانية في أفقها الغيبي، والمعرفة العقلية في أفقها الطبيعاني. وإذا اتفق أن المعرفة العقلية تتعامل مع الاستدلال والمفاهيم والتصورات والألفاظ تقوم المعرفة الوحيانية على الكشف والشهود وعلم الفطرة. ومن هنا يوضِح أنه لا يوجد خلاف جوهري بين هذين اللونين من المعرفة، وإنما يقع كل واحد منهما في مقابل الآخر. وعلى هذا الأساس تصبح الفلسفة وهي العلم، الذي يدرس بالاستدلال العقلي مرتبة أولية في معارف الميتافيزيقا البعدية؛ ذلك أن مهمة الفلسفة معرفة الحقائق والأداة التي تستخدمها لهذا الغرض وتثبت بها مسائلها هي العقل والمفاهيم الذهنية. وعليه من المحال أن نتوقع منها الإقرار بالكشف والشهود.   

بعد ذلك يذكر الدكتور محمود حيدر غاية الميتافيزيقا البعدية، وهي إثبات نسبة المعارف والعلوم الحكمية إلى فضاء الميتافيزيقا، ثم لتمييز ما هي عليه الحكمة الإلهية البالغة مما هي عليه الميتافيزيقا القبلية أي الفلسفة الأولى في نظرتها إلى حقائق الوجود. الوجهان يحيلان إلى قضية تتصل بالاختلاف المنهجي بين ما به صارت الحكمة علمًا يرقى إلى استشعار كنه الوجود، وما به صارت مباحث الفلسفة الأولى ميتافيزيقا قبلية قصرت غايتها على فهم الوجود في حقله الفينومينولوجي(3).

نحن كما ذكرنا مع دعوة الدكتور محمود حيدر إلى ميتافيزيقا بعدية، وما كتبنا عنه ونشرناه من مباحث إنما جاء تأكيدًا لهذه الدعوة وله علاقة وثقى بغاياتها، إلا أننا نختلف معه في تفاصيل مضمونها وفي انحيازه إلى الميتافيزيقا في حقلها العرفاني وتضعيفه لميتافيزيقا العقل الفيزيائي الاستدلالي البرهاني ومقولاته؛ لأنه  – كما يقول – لم يأتِ بالحقيقة وعجز عن الوصول إليها واكتفى بالسؤال عنها دون الإجابة، في حين أننا نجد أن العرفان والكشف والحدس لم يتقدم على البرهان العقلي، وما قدم للناس دليله على ما كُشف له أو ما يسعى إلى الكشف عنه بالرغم من أنه لا يغفل دور العقل في المعرفة الكشفية؛ إذ يتحد العقل بالقلب وتحصل البصيرة في القلب، ويصير العقل يرى بواسطة القلب فتتفجر المعرفة اللدنية من الله، وتفاض المعارف والحقائق الإلهية على قلب السالك، فيشاهدها عيانًا بواسطة قلبه وعقله معًا لجهة الاتحاد والوحدة الحاصلة بينهما – كما يقول – وإننا نجد أن العارف أو السالك لا يستطيع مهما كانت (مرتبته في العرفان وسعة معرفته) أن ينقل تجربته العقلية والقلبية إلى الآخرين ويقنعهم بحدوثها فتصبح قناعة عقلية وقلبية عند الآخرين. يقول الدكتور محمود حيدر: إن المفهوم والاستدلال في العلم الحضوري الشهودي لا يُعدّان واسطة؛ إذ يكون المعلوم حاضرًا عند العالم، وليس ثمة حاجة إلى دليل لإثباته لأن كل شخص حاضر لنفسه ويشهد لنفسه، وهذا صحيح بالنسبة إلى العارف، وغير صحيح بالنسبة إلى غيره ممن لم يُؤتَ هذه المرتبة الوجودية التي تتيح له بالإلهام أن يتلقى فيوضات معارفه من لدن الروح القدس. وكيف يمكننا أن نقنع، الذي غشيت قلبه وعقله أوهام الارتياب والإنكار للحقيقة الإلهية بحصول هذه المعرفة؟ وكيف ننقل إليه مضامينها دون أن يكون قد استشعرها بنفسه وحصل له الارتباط الحضوري المباشر بالمعلوم كذلك؟ فواقعية المعلوم ليست حاضرة لدى غير العالم والسالك، ولذا فالشك حاصل لدى غير الذين تحصل لهم هذه الحالات العرفانية، فالمعرفة العرفانية لا تستطيع أن تقدم معرفة عجزت عن تقديمها الميتافيزيقا القبلية؛ إذ تبقى الأسئلة الوجودية الكبرى حاضرة في العقل البشري دون الإجابة عنها، وبهذا لا يستطيع الشهود بيان حجيته المعرفية. يقول الدكتور: إن العقل الذي يتمتع بقابلية الاستدلال يتمتع بقابلية المشاهدة والكشف، وإن الوظيفة الأساسية للعقل الممتد لدى العارف هي قبول الحقائق وتأييدها بعد تنزلها عليه من عالم القدس، وعملية القبول هذه هي أساس المعرفة العقلية، وهو ينسجم مع دقة العقل ووظيفته الوجودية والتي هي التقييد والضبط. وهنا نسأل عن إمكان تقييد وضبط هذه الحقائق عقليًّا، وهل حدث ذلك من قبل بعض العرفاء؟ وإن حدث هل هو مُلزِم للآخرين بقبوله عقليًّا؟

نحن نختلف مع الدكتور محمود حيدر في دعوته إلى ضرورة التحرر من هذا العقل، الذي نحمله لكي ننظر إلى الوجود من خلال العودة إلى الفطرة، تلك الفِطْرةُ التي تشير إلى الابتداء والاختراع والخِلْقة التي خلق الله عليها الإنسان، والجبلّة التي جُبل عليها وما غُرس فيه من العلم والمعرفة الأولية، ومنها الإيمان بوجود الله والاعتراف بربوبيته، فهي المعرفة الأولى والغرس الأول، وهي تمثل في استنتاجنا الفلسفي، الذي تضمنته مباحثنا السابقة، المرحلة الأولى من مراحل وجود الإنسان، وهي الحالة الملائكية كما بينّا. المعرفة في هذه المرحلة معرفة صافية لا تشوبها شائبة الكفر والشك بوجود الله وهي تشبه المرحلة أو الخطوة الأولى من خطوات الجدل الهيجلي التي يسميها مرحلة المعرفة المباشرة والتي يصفها بالبريئة، وهيجل لا ينظر إليها ولا يصفها وصفَنا لها، ونحن نتحدث عن مراحل الوجود الإنساني وحسب تفسيرنا لما ورد في آيات القرآن الكريم من ذكر لمراحل وجوده، فنحن نرى أن الملائكة يمثلون الحالة الوجودية الأولى للإنسان، كما ذكرنا، ومعرفة الملائكة معرفة فطرية مباشرة لا تشوبها شائبة الكفر، وهم يسبحون بحمد الله ويقدسون له كما جاء في القرآن الكريم، ولكن هذه المعرفة لا تتعدى حدود معرفة ذاتها ومعرفة وجود الله تعالى، بدليل أن الله امتحنها بمعرفة بعض الأسماء فلم تعرف الإجابة وقالت إنها لا تعلم غير ما علمها الله: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ (سورة البقرة، الآية 32)؛ لأنها لا تملك إلّا المعرفة الفطرية، ولهذا شاء الله تعالى أن ينقلها إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة الوجود الإنساني المادي والعقل الإنساني المتناقض، الذي يشوبه النقص والجهل، وينحرف إلى الكفر والشرك، ويضعف إيمانه وصلته بالله تعالى، فينحرف عن اﻟﻔﻄﺮة التي كان عليها، والتي تبقى مركوزة في العقل، وهي أصله الثابت، ولكنها تُجابَه بالسلب والنقص والإنكار؛ أي إن العقل انتقال إلى حالة التناقض والمجابهة بين الفطرة الإيمانية والإنكار والكفر النابع من النقص. وهذه الحالة – وهي مرحلة صراع بين المعرفة الواثقة الفطرية والنقص أو السلب، الذي أخذ يصارعها – لا تدوم فتنتهي إلى طرد السلب والنقص والعودة إلى الكمال المعرفي الفطري، ولكن بالكدح وإثبات الحجة العقلية. إن مرحلة المعرفة الفطرية معرفة حبيسة في حدود الذات ولم تتعرف إلى الآخر لكي تعرف وتعلم، ولهذا عبّرت عن حالها المعرفي بقولها: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَ مَا عَلَّمْتَنَا﴾، فهي لا تعرف الأشياء، والشيء لا يعرف ولا يسمّى إلا بالعلاقة؛ أي علاقة التناقض. إن التناقض من مقولات العقل الإنساني وهو يعرف من خلال التناقض، وهذا هو العقل، الذي يسميه الدكتور محمود حيدر بالعقل الفيزيائي الاستدلالي البرهاني، وهو يتخذ الحدس والكشف والشهود العرفاني بديلًا عنه، وهذه الحالة المعرفية قد يعيشها بعض الناس الذين استطاعوا العودة إلى فطرتهم الصافية فيستمدون منها معاني التوحيد ولكنهم لا يستطيعون أن يقنعوا بها من حالت بينهم وبين العودة إليها حجبٌ كثيفة من الشك أو الكفر فطمست إيمانهم وغطت عليه بالرغم من أنه مركوز في أصل خلقتهم. ولهذا يبقى الإنسان بحاجة إلى العقل الاستدلالي، الذي يقدم الحجة العقلية المقبولة التي قد تكون فلسفية أو علمية. إن الفطرة تمثل كما ذكرنا المرحلة الأولى من مراحل المعرفة الإنسانية التي يستطيع الإنسان استعادتها، لذا يقال: العودة إلى الفطرة، أنها معرفة بدئية أولية انتقلت إلى الإنسان مع انتقاله من حالة الملائكة إلى الحالة الإنسانية، لذا يمكن الرجوع إليها، ولكن العقل الإنساني يتقدم على هذه الحالة بالرغم من نقصه، وبالرغم مما يعتريه من شوائب الجهل والشك، ولكنه القادر على إزاحة هذه الشوائب ودحضها بالاستدلال فيصل العقل إلى مرحلة الكمال المعرفي، وعندها يستطيع العودة إلى معرفته الأولى الفطرية بكدحه وجهده المعرفي، ويحقق الغاية التي خلقه الله لأجلها. ولذلك، فإن الفطرة ليست مقدمةً على العقل، بل هو المقدم عليها ويفضلها، ولذا قيل إنه أحب مخلوقات الله إليه وبه ارتقى الإنسان وفُضل على الملائكة؛ لأن معرفة الملائكة معرفة فطرية هي عبارة عن استشعار أو اتصال مباشر ومعرفة العقل استدلالية برهانية. وإذا عجز عقل الإنسان في تاريخه السابق عن أن يقدم براهينه التي تثبت وتؤيد ما سبق له أن عرفه وثبت له من المعاني الإيمانية في مرحلة معرفته الفطرية، فإنه قد يستطيع أن يقدمها في تاريخه اللاحق، ولقد قدمنا في مباحثنا السابقة الحجة العقلية الفلسفية مؤيدةً بالحجة العلمية التي تؤكد معاني الإيمان التي غرسها الله تعالى فينا، والتي أوحى بها إلى أنبيائه، وجاءت بها كتبه ونخص منها القرآن الكريم.

تسعى الميتافيزيقا البعدية لدى الدكتور محمود حيدر إلى جلاء حقيقة ما سماه (المبدأ)، هذا الموجود الأول، الذي منه ظهرت الموجودات على تنوعها واختلافها وتكثرها اللامتناهي وهو ما نعته بـ(المثنّى) نظرًا لأنه الكائن، الذي يجمع إلى فرادته خاصية البساطة والتركيب في آن. وبهذه الميتافيزيقا البعدية التي تأخذ بـ(مبدأ الزوجية)، أو (المثنّى) سبيلًا إلى حلّ المعضلة الأصلية لسؤال الوجود يتحرّر العقل – كما يرى – من الميتافيزيقا الأرضية المبنية على (مبدأ التناقض). والمهمة الأنطولوجية للمثنّى توحيد العوالم على كثرتها؛ فالمثنّى كينونة واحدة وهذا يكسبه صفة جوهرانية تجعله كائنًا منقطع النظير. المثنّى وجود بدئي وهو أحد أبرز مفاصل نظرية المعرفة في الميتافيزيقا البعدية التي تعتني بواجد الوجود بما هو الوجود الوحيد، الذي لا ضدّ له بسبب تعاليه على الثنوية. وهو يُقبل على موجوداته بالاعتناء والتعليم من قبل أن توجد وهي في علمه، ومن بعد أن وجدت بالكلمة الأولى: (كُن). ويبيّن الدكتور محمود حيدر أن الفلسفات غير الوحيانية غالبًا ما مزجت بين هذا الكائن والله، ومن ذلك نشأت معضلة المكوث المستدام في كهف السؤال عن ماهيته وكيفية ظهوره ونسيان كونه موجودًا بالتبعية لموجده (4). المثنّى – كما يذهب – هو الموجود الأول، الذي يُنظر إليه (على أنه مطلق من حيث كونه أول موجود في مشيئة الإيجاد الإلهي، ونسبي من حيث كونه محتاجًا لموجده ومركّبًا على الزوجية والكثرة) (5). إنه (موجود أزلي، مفطور على الزوجية مؤلف من زوجين متحدين في واحد كلّي. وهذا التوحد في طبيعته التكوينية قائم على وحدة أضداد ينتظمها تدافع وتضاد أبديان في ما بينها وتلك سيرية جوهرية تحفظ تنامي المخلوقات وتجددها المستدام. والمثنّى زوج ينثني كل من زوجيه في نظيره ويتكاملان معًا. ولا ينأى ما تقصده العلوم الإلهية في الزوجية المؤسسة لعالم الخلق عما ذهبت إليه بعض مذاهب الحكمة القديمة باعتبار الزوجية مبدأ تفسير الكون وفهم أسراره..)(6).

يتبنّى الدكتور محمود حيدر في ميتافيزيقاه البعدية ما ذهبت إليه العلوم الإلهية وبعض مذاهب الحكمة القديمة باعتبار الزوجية مؤسسة لعالم الخلق، وهي مبدأ تفسير الكون وفهم أسراره، وهو يستبعد التناقض، الذي ذهبت إليه الثنوية التي قالت بوجود أصلين للوجود ولكل منهما وجود مستقل في ذاته. وهي ثنوية تختلف جوهريًّا عن المثنّى بوصفه مخلوقًا حاويًا للمخلوقات ذات النشأة الواحدة (7). ويواصل وصفه للمثنّى بأنه (ينفرد.. بما هو جوهر بدئي بالقدرة على الربط بين الظواهر المتضادة التي يتوهم أنها منفصلة) (8). الميتافيزيقا البعدية لدى الدكتور محمود حيدر ترى أن (المثنّى) وجود جوهري بدئي يمثل الظواهر المتضادة في خفائها وكمونها، وهو يمثل الشيء في ذاته بالنسبة إليها، ويأخذ على الميتافيزيقا القبلية أنها حصرت معرفتها بالموجودات في ظهورها العياني وعدم الاكتراث بما هي عليه في خفائها، فلم تصل إلى معرفة حقيقية تستجلي المخبوء في الوجود ومبدئه الأول. ونحن نرى أن تصورًا للمثنّى في وجوده الجوهري البدئي لا تقدمه الميتافيزيقا البعدية بهذا التحديد، الذي يذكره الدكتور. فهل تكون المتضادات في خفائها وكمونها – وهي هنا تمثل الشيء في ذاته – هي نفسها في ظهورها وتجليها؟ وإذا لم نستطع تجاوز المشاهدة العيانية لها فلا يصح أن نقول: إن العقل يجاوز فيها ما بعد ذاته وما بعد الكون المرئي إلى حيث الحقيقة المتعالية، وإنه يخرج هذه المكاشفات من كمونها في عالم الباطن إلى عالم الظهور، ومن مكمن الغيب إلى الواقع المشهود.

 أما طبيعة العلاقة بين طرفي المثنّى: (فالتضاد في المثنّى رابطة تماثل وتكامل وانسجام، وهو نفي للتناقض والتشظي.. وقانون التضاد هو أحد قوانين التقابل.. الذي يدل على علاقة بين شيئين أحدهما مواجه للآخر.. المثنّى كقضية تعرب عن الواحدية الحاوية للتعدد وكنقيض للإثنينية.. ثمة إذن فارق تكويني بين ماهية المثنّى المتأسسة على التناغم والانسجام الذاتي، والإثنينية المبنية على جدل الاختصام والتناقض. مؤدّى الأطروحة: إن كل تناظر بين متقابلين في الإثنينية آيل إلى التنابذ والفرقة، بينما كل الأشياء في حضرة المثنّى محمولة على الانسجام والجمع؛ ذلك بأن زوجية المثنّى لا تعمل إلّا وفقًا لقانون التكامل، ولأنها كذلك فإن سعيها نحو الوحدة يجري طبقًا لمبدأ الامتداد الجوهري في الواحدية الجامعة للكثرة والتنوع. وعلى أساس هذا المبدأ الساري عبر الانسجام والتناسب بين أضداد في المثنّى لا يعود ثمة قطيعة في ما بينها، بل تكامل وتفاعل في الآن نفسه. أما مصطلح القطبية فيقول بوجود ثنائية أصلية لها قطبان متعارضان في كل شيء، ولكنهما متعاونان ولا قيام لأحدهما من غير الآخر، ومن تضادهما وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود وتستمر. يُستفاد مما ذكر أن التحامًا جوهريًّا بين الأزواج قد حلّ في حضرة المثنّى فلا يستطيع أي من عناصره أن ينفك عن نظيره انفكاكًا تامًّا. هما من نفس واحدة لكن لكل فرد في الكثرة الأصلية نفس فرعية تدبّر له أمره ويتدبّر بها شأنه، إلّا أنه لا يقدر على أن يبرح عالم الزوجية والقوانين الكلية التي تنتظمه) (9).

يعتمد الدكتور محمود حيدر الزوجية ويستبعد التناقض، الذي تعتمده الميتافيزيقا الأرضية،كما يقول، وهذا ما نختلف به معه، ونحن نرى أن علاقة التناقض (بين الوجود واللاوجود أو العدم) هي المبدأ المؤسس لوجود العالم، وهي كامنة في كل موجود وفي كل الأزواج المتضادة ما دامت هذه الأزواج تمثل وجودًا، ولكن على أن نراعي كون علاقة التناقض مكونة من لحظات أو مراحل ثلاث – وهذا ما بينّاه في مباحثنا السابقة – فأي وجود لا بدّ أن يكون نفيًا للعدم؛ لأننا عندما نُعرِّف الوجود نقول: إنه نفيُ العدم، أو نقيضُ العدم، فالوجود يتعرّف أو يتعيّن بأن ينفي العدم و(كل تعيّن سلب) كما يذهب اسبينوزا ويوافقه في هذا هيجل ونوافقه في هذا كذلك، فلكي يكون (المثنّى) موجودًا لا بدّ من أن يكون نفيًا للعدم لأن ماهيته بوصفه (وجودًا) أنه نفيٌ للعدم، فهذه العلاقة هي الرابط، الذي يتخلل كل الموجودات. وهذا النفي وهذا التحقق الوجودي يمر – كما قلنا – بمراحل ثلاث هي المراحل التي تتكون منها هيكلية (علاقة التناقض) بين الوجود والعدم. ويجب علينا أن نعدّ المرحلة الأولى أو الخطوة الأولى من خطوات علاقة التناقض هي الأصل الأول المؤسس للوجود المادي، الذي هو (المثنّى) ولعالم الزوجيات. وهذه الخطوة الأولى اصطلحنا على تسميتها (أصل العلاقة)، وهي مكونة من (وجود) أحد النقيضين، و(عدم) وجود الآخر؛ أي إنها كانت بأحد طرفيها مع غيابٍ أو خلوٍ من الطرف الآخر، مما يعني أن الأزواج أو الأضداد بكونها وجودًا ماديًّا ليست المبدأ المؤسس للخلق إنما (أصل العلاقة) وهي الوجود في ذاته؛ أي الوجود المؤسس لوجود الأزواج والأضداد وهي أصلها البدئي، وهذا الاستنتاج لا يتفق مع وصف الدكتور محمود حيدر للمثنّى بأنه (وحدة أضداد لا يستقل فيها أحد الضدين عن آخره)، فلقد بينّا بالبرهان إمكان أسبقية وجود أحدهما على الآخر في (أصل العلاقة) التي تمثل حالة (الوجود الجوهري) قبل وجود النقيض الآخر وتجلّي التناقض. وما حالة الملائكة إلا هذا الوجود الجوهري قبل وجود التناقض ممثلًا بالإنسان. وتمثل (علاقة التناقض) الخطوة الثانية، وهي مرحلة الصراع التي يسعى فيها الوجود إلى نفي العدم (بعد ظهوره) لكي يتحقق وجوده ويتجلى، ويمثل الرجل هذه المرحلة، وتمثل المرأة المرحلة الثالثة التي يتحقق فيها نفي العدم، فهي الوجود الظاهر المتجلي.

لقد استنتجنا بالعقل أن علاقة التناقض هي القانون، الذي يحكم الوجود وهي المنطق الداخلي، الذي يتخلله – وهذا كله ذكرناه في مباحثنا السابقة – وبالعقل استنتجنا أنها مكونة من مراحل ثلاث. ثم رحنا نبحث عن التطبيق فوجدنا أن كل الحقائق تؤيد ما ذهبنا إليه حتى الحقيقة الدينية التي يتضمنها القرآن الكريم، فهو يعبّر عن خلق الوجود من خلال حقيقة التناقض، ويذكر هذه المراحل الوجودية الثلاث للتناقض؛ إذ يخبرنا عن قصة الخلق بأنه تعالى عندما شاء أن يخلق الإنسان عرض الأمر على الملائكة، وهذا يدل على وجود حالة وجودية قبل خلق الإنسان: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ (سورة الإنسان، الآيتان 1و 2)، لم يكن في هذا الحين من الدهر إنسان إنما كانت (الملائكة) وهذه تسبّح بحمد الله وتقدّس له، وهذا يعني أن لا وجود للتناقض. ويبيّن القرآن الكريم أن كائنًا كان معها هو (إبليس)، وهو يصفه بأنه من الجن: ﴿إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ (سورة الكهف، الآية 50)؛ ولفظة (كان) تشير إلى أصله القديم قبل أن يتحول إلى (شيطان) بعد خلق الإنسان؛ أي إن حالة الوجود الأولى كانت مكونة من الملائكة والجن، الملائكة تمثّل هذا الطرف، الذي سميناه وجودًا وهو وجود جوهري لأن الطرف الآخر النقيض (العدم) لم يظهر بعد ليظهر الوجود الجوهري ويتعيّن. ويمثل الجن أو إبليس الطرف، الذي هو العدم الذي سيتضح أنه حالة استتار أو كمون، (وهو ما تعنيه لفظة الجن كما تعني لفظة إبليس العدم)، وستظهر هذه الحالة فيما بعد لتكون النقيض الآخر، الذي هو (الشيطان). هذه الحالة الوجودية الأولى تنطبق إذن على (أصل العلاقة). ثم يشاء سبحانه أن يخلق (العلاقة) وهي الإنسان، الذي يجمع في تكوينه بين الوجود والعدم، أو بين الملائكة والشيطان وهما نقيضان، الملائكة (من روح الله)، والشيطان عدو لله. ويشير قوله تعالى في الآية الكريمة: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ (سورة الإنسان، الآية 2). إلّا أن خلق الإنسان جاء بعد هذا الحين من الدهر من نطفة وهي العامل الذكري، ثم يذكر تعالى لفظة (أمشاج)؛ أي أخلاط، وتشير إلى اختلاط العامل الذكري بالعامل الأنثوي، ومن هذه النفس الإنسانية الواحدة خلق المرأة وهذه ثلاث مراحل. ولعل قوله تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ (سورة الزمر، الآية 6) إشارة إلى هذه المراحل الثَلَاث التي تمر بها الخلقة الإنسانية. ويخبرنا القرآن الكريم أن إبليس لم يشهر عداوته لله سابقًا، ولم يكن نقيضًا للملائكة، إنما تحول إلى هذه الصفة عند خلق الإنسان، وهذه إشارة إلى حالة التناقض التي خُلقت بخلق الإنسان، فالإنسان مكون من تناقض، وهو عبارة عن الحالة الملائكية التي تحول فيها إبليس إلى شيطان. وهكذا أصبح الشيطان جزءًا مكوِّنًا للإنسان، وهو لا وجود له خارج الإنسان، أو خارج علاقة التناقض. وبوجود علاقة التناقض وتجلّي المتناقضات تجلّت الصفات والأسماء التي لم تستطع الملائكة التعرف عليها؛ لأنها تقترن بعالم الظهور وهو العالم المحدث، وقبل هذا العالم كان عالم الذات أو عالم الشيء في ذاته وهو وجود جوهري. وتبين الآيات القرآنية أن الرجل وهو آدم هو الحالة الوجودية الثانية بعد الملائكة، ومنه خلقت الحالة الوجودية الثالثة وهي المرأة أو حواء: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (سورة الزمر، الآية 6)، ولفظة (ثم) تشير إلى الترتيب والتتابع بانفصال؛ أي بوجود فاصل زمني يطول أو يقصر. الرجل علاقة تناقض وهي حالة صراع بين الوجود والعدم في داخله تنتهي إلى نفي العدم لتكون المرأة التي هي نفي للنفي؛ أي إنها إيجاد للوجود المتعين الظاهر.

 الزوجين الرجل والمرأة، وكل زوجين في الوجود عبارة عن علاقة تناقض بين الوجود والعدم، أحدهما أصله وجود (جوهري)، وهو الرجل، والآخر أصله عدم وهو المرأة، وكل منهما يبقى بعد وجوده يحمل أصله، الذي صدر عنه؛ لأن العدم لا يُنفى كلُه مرة واحدة، والوجود الجوهري لا يتحول كلُّه إلى وجود ظاهر مرة واحدة، فتبقى علاقة التناقض قائمة، وهذا هو سر التجاذب وعدم الانفكاك بينهما، وسر استمرار الجنس الإنساني عبر الولادات المتتابعة كل هذا التاريخ الطويل، وهو يفسّر لنا لِمَ طلب الشيطان من الله تعالى أن يُنظرَه إلى يوم يبعثون؛ ذلك لأنه لم يُنفَ من العلاقة مع أول خلق للإنسان. وإذا ما أتم الوجود نفي العدم بتحويله إلى وجود مثله انتهت علاقة التناقض بينهما بالانفصال، فالشحنات المتناقضة تتجاذب، والشحنات المتشابهة تتنافر كما يقول العلم. ولا أريد أن أعيد ما تحدثت عنه بالتفصيل في المباحث السابقة. الدليل على اتصال هذه الحالات الوجودية الثلاث أن الملائكة يتحولون إلى الحالة الثانية؛ أي (الرجل)، فعندما يرسل الله ملكًا إلى الأرض يكون بهيئة رجل لا بهيئة امرأة. والحالة الوجودية الثانية وهي الرجل تصدر عنها الحالة الوجودية الثالثة وهي المرأة، كما يخبرنا القرآن الكريم وكما يخبرنا العلم؛ إذ إن الرجل يحمل العاملين الجنسيين، الذي يكوِّن أحدهما الرجل، ويكوِّن الآخر المرأة.

يصف الدكتور محمود حيدر ما بين المتضادين في (المثنّى) بأنه: (تدافع وتضاد أبديان في ما بينها، وتلك سيرية جوهرية تحفظ تنامي المخلوقات وتجددها المستدام)، ولفظة التدافع توحي بالصراع مع أنه يركز على علاقة الانسجام والإلفة والتناغم والتكامل التي بين المتضادين، ويرفض علاقة التناقض لأنها تؤدي إلى الصراع والتنابذ والتشظي، كما عبر عنها. وهو يصف هذا التدافع بأنه (أبدي)، ولقد بينّا في استدلالنا بأن الصراع له نهاية، وأن الحركة لها نهاية، وهذا ما يتفق مع المعرفة الوحيانية التي تضمنها القرآن الكريم، فعالم الوجود وهو عالم الزوجيات يؤول إلى نهاية هي نهاية الحركة ونهاية الصراع وانشطار (علاقة التناقض)، أو (علاقة الزوجية)؛ إذ يتم الانتقال إلى المرحلة الأخيرة التي هي (الوجود المتعيّن)، وهي ما عبّر عنه القرآن الكريم بـ(النشأة الأخرى) التي ستنفصل فيها (علاقة التناقض)، أو (علاقة الزوجية)، ولهذا سُمي يوم القيامة وهو اليوم، الذي سيشهد نهاية الصراع بين الأزواج المتضادة، أو المتناقضة بيوم الفصل. والدكتور يحصر البعد الصراعي (في المتضادّات السلوكية كالتضاد بين الصدق والكذب، والجمال والقبح، والخير والشر) (10)، دون المتضادات الوجودية على الرغم من قوله: إن النواميس الأخلاقية (لا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد خيار أخلاقي أو قيمي، بل ينبغي اعتبارها حقيقة أنطولوجية أيضًا؛ أي إنها ذات أصل وجودي حيث تتموضع الحقيقة الأخلاقية في الحقيقة الأساسية لنظام الخلق) (11). وكما يصف حالة ما يدور من تدافع في المثنّى بأنها أبدية يصف المثنّى بأنه (أزلي الوجود)، وهو ما لا بداية له، وهذا لا يتفق مع كونه موجودًا محدثًا كان بعد أن لم يكن.

وبحسب الميتافيزيقا البعدية وعلم المبدأ فإن (الوجود الوحيد، الذي لا ضدّ له بسبب تعاليه على الثنوية والمثنّى في آن هو ما يسمّى أحيانًا الحقيقة الغائية، أو الذات الإلهية، أو المبدأ الإلهي، في حين أن العملية الخلقية أو إيجاد العالم يستلزم التضاد بطبيعته. حتى في النظام الإلهي، الذي يكتنف فضلًا عن الذات الإلهية المتعالية، أو الواحد المطلق هنالك توسطات، أو حسب التعبير العرفاني الإسلامي أسماء وصفات إلهية يمكن عن طريقها معاينة الكثرة ونظام الضدية، الذي تحتكم إليه. ويجوز القول، تبعًا لمبدأ التوسطات المشار إليها: إنّ دائرة الأسماء والصفات الإلهية هذه هي التي تنطلق منها مساحات النسبية. ولذا فإن ظهور أشياء هذا العالم كافة وهي الصادرة عن الأمر الإلهي إنما يتم عن طريق أضدادها)(12). ولم يوضح لنا الدكتور محمود حيدر كيف تتعالى الذات الإلهية على الثنوية والمثنّى – وهو أمر صحيح تمامًا – ويكتنفها (توسطات)؟.. ولم يوضح لنا كذلك معنى: (إن دائرة الأسماء والصفات الإلهية هذه هي التي تنطلق منها مساحات النسبية) – وهو أمر صحيح تمامًا كذلك – وقد أثبتناه بالبرهان والاستدلال العقلي، ومن طبيعة العقل الإنساني أنه لا يؤمن بما يأتيه عن طريق (النقل) العرفاني، إنما يؤمن بما تثبته الحجة والاستدلال وهذا ما يتطلبه حتى أهل العرفان كما يذكر الدكتور: (يستهل العرفاء سفرهم لمعرفة المخلوق الأول من خلال السعي لإثباته بالدليل العقلي..)(13).

وينقل الأستاذ الدكتور أقوالًا لابن عربي في وصفه للمثنّى (بأنه مخلوق وخالق.. استنادًا إلى كونه معادلًا للأعيان الثابتة بما هي الوجود الكامن في مقام الألوهية، فقد ثبت أن المثنّى لم يوجد من عدم، بل إن فعل إيجاده متصل بكمونه وقابليته للظهور حالما يجيئه الأمر الإلهي.. المثنّى بوصفه التجلّي الأول.. يؤسّس ابن عربي ميتافيزيقا التجلي وهي ميتافيزيقا وحدوية تصل بين الله والعالم، فتجعل من العالم مرتبة من مراتب التجلّي الإلهي الدائم، ويعتاض بها عن ميتافيزيقا الفيض.. إن الخلق عند ابن عربي هو التجلّي. المثنّى أو الحق المخلوق به.. فهو مخلوق متفرد بذاته فاعل بالخلق منفعل بالحق الأعلى.. تتضمن كلمة كُن التي كان بها الحق المخلوق به كل شيء إيحاءً غيبيًّا من خالقه مؤداه: لست أنت الذي يخلق حين تخلق، ولهذا فخلقك حقيقي، وهو حقيقي لأن كل مخلوق له بعد مزدوج: فالخالق المخلوق ينمذج وحدة الأضداد ومنذ الأزل، وهذه المصادفة متأصلة في الخلق لأن الخلق ليس من عدم وإنما هو تجلٍ. وحدة الخالقية في صيغة المثنّى) (14). إن قول ابن عربي عن المثنّى – وهو يؤسس لميتافيزيقا التجلّي وهي ميتافيزيقا وحدوية تصل بين الله والعالم – بأنه يعادل الأعيان الثابتة بما هي الوجود الكامن في مقام الألوهية استنتاج غير صحيح؛ لأن الكمون في الذات الإلهية يجعلها مركبة وهو شرك بالله غير مقصود. وكذلك قوله: (منذ الأزل وهذه المصادفة متأصلة في الخلق لأن الخلق ليس من عدم وإنما هو تجلٍّ)؛ أي إن كمون المخلوقات في الذات الإلهية أزلي (قديم) قدم الذات الإلهية. إن وصفه للخلق بأنه التجلي هو صحيح ونقرّ به، لكن ليس عن طريق إظهار ما كان كامنًا في الذات الإلهية. وقول ابن عربي عن الموجود الأول بأنه (الحق المخلوق به.. فهو مخلوق متفرد بذاته فاعل بالخلق منفعل بالحق الأعلى..)، هو صحيح وينطبق على (القانون)، أو (علاقة التناقض) التي هي الوجود الجوهري أو المنطق الكامن في كل الموجودات وعنه يتجلى الوجود بأسره ويتطور. و(علاقة التناقض) هذه أو(القانون) من خلق الله، الذي شاء أن يتجلى – كما فسرنا ذلك في مباحثنا السابقة- بأن نفخ من روحه في كيانٍ خلَقَه تجتمع فيه روح الله مع الشيطان، وهذا الكيان المتناقض هو الإنسان أو العالم. وهذا النفخ من الروح الإلهية أمر حادث وليس قديمًا مع بقاء الله في أحديته وتعاليه عما خلق، ولكن هذا المخلوق المتناقض سيخوض باسمه ونيابة عنه لأنه (الإنسان الخليفة) صراعًا مع الشيطان حتى يطرده من وحدة العلاقة فتنتهي العلاقة إلى وجود يحاكي الله تعالى ليتحقق بذلك التجلّي ووصفُ الله تعالى لنفسه بأنه الباطن والظاهر والأول والآخر.

يقول الدكتور محمود حيدر: (إن للمعرفة الصوفية علاقة وثيقة بمفهوم الأضداد: فمشاهدة الحقيقة الإلهية الحاضرة والقريبة والموجودة في كل شيء ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ (سورة البقرة، الآية 115)، تولّد لدى الصوفي قبولًا بفكرة الأضداد باعتبارها لحمة الوجود وأساسه سواء على المستوى الأخلاقي أم الوجودي العام، ففي هذه المعرفة يتجلّى التقابل الضدّي بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والمحدث، وبين الثابت والزائل، وبين الخالد والفاني. والله تعالى جعل الأضداد كامنة في الأضداد: فجعل العلو كامنًا في الدنو، والعز كامنًا في الذل إلى غير ذلك من الأوصاف العلوية مع الأوصاف السفلية..). فـ (الأشياء كامنة في أضدادها، ولولا الأضداد لما ظهر المضاد كما يقول بعض العارفين)(15). نقول: نعم لولا وجود الإلهي في هذا العالم المتناقض لما تجلّى الإلهي، ولما تجلّت أسماء الله وصفاته التي هي قديمة قدم ذاته تعالى إنما لم تكن قد تجلّت فوجودها قديم وتجلّيها حادث. يقول الإمام علي (ع): (الحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه)(16)، إن الوجود المحدث، الذي أحدثه الله تعالى وهو وجود العالم ومنه الإنسان يُجلّي صفات الله تعالى وهو الوجود الظاهر له تعالى، أما الوجود القديم المتعالي على وجود العالم ووجود الأضداد والتناقض وكل شيء فهو وجود الذات وهو الوجود الباطن له تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الهوامش:

(1) نقد المبدأ المؤسس للحداثة الغربية، محاضرة للدكتور محمود حيدر.                                  https://www.facebook.com/mahmoud.haidar327/videos/960161518022377

(2) ضرورة التنظير إلى علم المبدأ، محاضرة للدكتور محمود حيدر.

https://zoom.us/j/93614006059

(3) ينظر: التمهيد إلى ميتافيزيقا بعدية، محمود حيدر، مجلة علم المبدأ، العدد الرابع 1444، هـ 2023 م، الصفحات 7 – 21.

(4) ينظر: ميتافيزيقا المثنّى، دربة العرفاء إلى توحيد الله وتوحيد العالم، محمود حيدر، مجلة علم المبدأ، العدد الرابع 1444 هـ 2023 م، الصفحة 170 .

(5) المصدر نفسه، الصفحة 178.

(6) المصدر نفسه، الصفحة 171.

(7) المصدر نفسه، الصفحة 171.

(8) المصدر نفسه، الصفحة 171.

(9) المصدر نفسه، الصفحتان 171 – 172.

(10) المصدر نفسه، الصفحة 173.

(11) المصدر نفسه، الصفحة 173.

(12) المصدر نفسه، الصفحة 172.

(13) المصدر نفسه، الصفحة 181.

(14) المصدر نفسه، الصفحات 182، 185، 191، 192، 193، 194، 196.

(15) المصدر نفسه، الصفحة 173.

 (16) نهج البلاغة، الخطبة 108.



المقالات المرتبطة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | زكي نجيب محمود والوضعية – التسويغ والمصادر المعرفية (2)

التوفيق الذي دعا إليه زكي نجيب محمود، لا يقوم على فرضية استعادة الماضي، إنّما تحكمه آلية مختلفة ترتكز على أسس بعضها يتعلق بطبيعة حياة الإنسان المسلم، وبعضها يتناول تراثه وطريقة التعامل معه.

الجمال بين الحب والتجلي عند ابن عربي

يتناول هذا البحث فلسفة الجمال عند ابن عربي، الذي بدأ رحلته العلميّة باكرًا مذ كان في عمر الثماني سنوات، فحفظ القرآن الكريم، ودرس الحديث والفقه.

المحمل المصري لكسوة الكعبة تراجيديا سياسية بنكهة دينية

فتح المسلمون مصر عام 20 من الهجرة النبوية /641 من ميلاد السيد المسيح، فكانت إضافة مالية اقتصادية مهمة بالنسبة للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة، فقد كانت مصر سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية طوال 600 عام…

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<