مفهوم الحداثة في فكر محمد سبيلا
20th ديسمبر 2024
يعدّ المفكّر محمد سبيلا أحد أعمدة الفكر المغربي المعاصر، نظرًا لما خلّفه الرجل من غزارة في التأليف والكتابة الفلسفية؛ حيث نصّب نفسه مفكّرًا للحداثة وما بعد الحداثة، لكونه استطاع أن يقارب هذا المفهوم العصي والزئبقي، من جوانب مختلفة وسياقات عدة؛ ساعده في ذلك تكوينه الفلسفي ووعيه السياسي والوطني المبكر.
إن مقاربة مفهوم الحداثة في الفكر المغربي المعاصر من خلال منظور محمد سبيلا، يدفعنا إلى طرح تساؤلات عدة ماذا يقصد بالحداثة؟ ومتى تشكّل هذا المفهوم؟ وهل هناك حداثة واحدة أم هناك حداثات؟ وما موقف المغاربة من الحداثة؟
ينطلق محمد سبيلا في تحديد دلالة مفهوم الحداثة من خلال البعد التاريخي، فالحداثة هي مرحلة تاريخية بلغتها مجتمعات إنسانية في مسارها التاريخي. أو بعبارة أخرى، الحداثة هي ظهور ملامح المجتمع الحديث، المتميز بالعقلانية والتعدد والتفتح والمتسلح بالتقنية. والحداثة كونيًّا، هي ظهور المجتمع البورجوازي الغربي، في إطار ما يسمّى بالنهضة الغربية الأوروبية؛ أي النهضة التي كان لها الأثر الكبير في تقدم المجتمعات الغربية، أو بتعبير محمد سبيلا المجتمعات الصناعية[1].
وارتباطًا بما سبق يجمع الكثير من الباحثين أن مصطلح الحداثة يطلق على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم، ويشمل التطور الاقتصادي والديمقراطية السياسية والعقلانية في التنظيم الاجتماعي. أو بتعبير أدق وأشمل، فالحداثة هي؛ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونشأة الدولة الليبرالية، وصعود البورجوازية، والملكية الفردية، وسيطرة الفكر العقلاني في فهم الطبيعة وتفسيرها، واستعمال مصطلح المنهج العلمي في دراسة الوثائق. ويفرد محمد سبيلا في هذا السياق بالقول: إن “الحداثة” تعني في المقام الأول تحقيبًا زمنيًّا، أي إشارة إلى العصور الوسطى وللعصور القديمة حسب التصنيف الغربي، الذي اتخذ اليوم طابعًا كونيًّا.
إذًا، فالحداثة ترتبط ارتباطًا زمنيًّا بعصر النهضة الأوروبية، أو عصر الأنوار التي نتج عنها تحديث أوروبا وعصرنتها ماديًّا ومعنويًّا على جميع الأصعدة والمستويات؛ فالحداثة إذًا هي عبارة عن تحول ثقافي ذهني عقلاني وفكري وسلوكي، تعني التجديد والإبداع وتجاوز التقليد والتخلف.
عمل محمد سبيلا على تفكيك ورصد أهم الأفكار والتحولات الفكرية المرتبطة بالحداثة، في شتى الميادين، ليتوصل إلى فكرة مفادها، أن الحداثة تتميز بكونها تحولًا جذريًّا على كافة المستويات في المعرفة. وعلى هذا يرى أن الحديث عن الحداثة بصيغة الإجمال أمر لا يستقيم، لذلك يكون من الأنسب الحديث عن مستويات الحداثة، أي الحداثة المادية والحداثة المعنوية؛ ومن هنا تبين لكثير من المفكرين تقسيم الحداثة إلى حداثات لتضم، الحداثة التقنية، والحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية؛ لكن إذا سلمنا بهذه المستويات فإن المستوى الفكري سيأخذ الخيار الأول في بنية الحداثة. أو بعبارة المفكّر محمد سبيلا، بمثابة الروح من كل هذه الحداثات[2].
ينتقل بنا محمد سبيلا إلى الغوص في مظاهر الحداثة الغربية، وربطها بسياقاتها الثقافية والعلمية، مبرزًا وموضحًا نتائجها وانعكاساتها على البنية الاجتماعية والثقافية الأوروبية. ومن مظاهر الحداثة رغم تباين نتائجها، الحداثة الاقتصادية، التي تتجلى في التصنيع التدريجي وظهور المكننة، مما أدى إلى ارتفاع مستوى الإنتاج واتساعه؛ والانتقال من الاقتصاد المبني على الاكتفاء الذاتي إلى الاقتصاد الإنتاجي المبني على التسويق، الذي أسهم في الانتقال من الطاقة اليدوية إلى استعمال أوسع للطاقة البديلة. (الهوائية. المائية)[3]. إذًا فقد لعب التطور الاقتصادي دورًا أساسيًّا وعاملًا مباشرًا في تطور الحياة الإنسانية، وشكّل مظهرًا من مظاهر الحداثة الفكرية؛ لتشمل الحداثة المجال السياسي، الذي عرف ديناميكية حيوية تمثلت في مشاركة فئات عريضة من السكان في التسيير إقليميًّا ومركزيًّا؛ ما أسهم في شيوع واتساع دائرة الديمقراطية، وتجاوز العصبيات والانتماء القبلي، ليفسح المجال أمام ظهور تنظيمات سياسية جديدة قائمة على الأحزاب. ما أدّى إلى بروز العنصر السياسي حاملًا معه أفكارًا أخلاقية وغير أخلاقية. وممارسات اجتماعية مختلفة وسّعت دائرة الفعل السياسي.
من البين أن الحداثة الاقتصادية والسياسية، وما أفرزته من ابتكارات ومستجدات أسهم بشكل أو بآخر في تطور مناحي الحياة الإنسانية خاصة في أوروبا، إذ نلامس هذا بالدرجة الأولى بنمو الحركية الاجتماعية في مستويات الجسم الإنساني كافة، كالسلوك والقيم والعادات والتقاليد الموروثة، متجاوزة كل الأفكار والمعتقدات البالية، لتحل محلها روابط عمودية قائمة على المواقع الطبقية والاجتماعية والدور الإنتاجي.
وإجمالًا لما سبق يبدو أن حركية الحداثة تمّت في المجتمعات المتقدمة، بفعل دينامية داخلية أساسًا، عكس ما وقع للمجتمعات التابعة، التي عرفت الحداثة باعتبارها دينامية خارجية، أي تحت تأثير الصدمة الاستعمارية والتفوق الأوروبي؛ إذ كان لهذا التفوق أن خلق مخاضًا عنيفًا لدى المجتمعات النامية، فقد أفاقت على هول الصدمة مدركة واقعها الدوني، وعاملة على تدارك هذا الفارق، دون أن تخسر هويتها. في حين أن هول الصدمة أحدث ثنائية عميقة في جميع المستويات المجتمعية، ثنائية بين استلهام الماضي ودعم الهوية من جهة، واحتذاء النموذج الغربي من جهة ثانية.
المغاربة وفكرة الحداثة
عمل المفكّر محمد سبيلا على رصد وتتبع أهم التحولات التي عرفها المجتمع المغربي منذ القرن التاسع عشر، بأسلوبه الفلسفي القلق؛ ويفرد قائلًا في هذا الباب: “إن اهتمام المفكرين المغاربة بالواقع المغربي في مختلف مظاهره هي ظاهرة صحية، وواجب فكري على النخبة أن تعمل عليه”[4].
يعد القرن التاسع عشر في منظور محمد سبيلا، هو اللحظة التاريخية الفاصلة والبداية الأولى للاحتكاك الفعلي للمغرب بمظاهر الحداثة الأوروبية، العسكرية منها والصناعية، جاء ذلك نتيجة المد التوسعي، الذي قادته القوة الإمبريالية. حيث شكلت هزيمة إسلي سنة 1844 ضد الفرنسيين، واحتلال تطوان سنة 1960 من جانب القوات الإسبانية، بداية صدمة الحداثة لدى المغاربة. وأمام هذه الصدمة والانبهار بالتفوق العسكري، عملت السلطة السياسية (المخزن الحاكم)، على تحديث الجيش وإدخال إصلاحات عسكرية وجبائية واقتصادية وتربوية، قصد الخروج من التخلف وتجاوز التقليد، وإصلاح ما فسد في بنية الدولة؛ لهذا أرسل السلطان بعثات تعليمية قصد الاستفادة من التقدم العلمي والتقني، على غرار بعثتي اليابان ومصر، لكن المغرب لم يستفد من بعثاته سواء العسكرية أو العلمية.
لعبت الرحلات العلمية والدبلوماسية إلى أوروبا إبان القرن التاسع عشر، عاملًا أساسيًّا ودورًا هامًّا في إدخال الإصلاحات الجديدة. فقد جسّدت التفاوت الحضاري بين المغرب وأوروبا من الناحية العلمية والتقنية؛ وعبر المثقفون المغاربة عن ذلك التقدم الحضاري والاستكشاف العلمي، لما وصل إليه الغرب من تقدم تقني، حيث اعتبرها المثقفون من صنع الجن والسحر[5]؛ بل هناك من ذهب إلى الإفتاء في كل مخترع غربي جديد وتأويله دينيًّا في ضوء الشريعة الإسلامية كالهاتف والمنوغراف – والعتاد الحربي. رغم هذا الحماس الذي أبانت عليه النخبة المثقفة بالمغرب وتعاطيها لمسألة التحديث، خاصة الجيش من حيث تنظيمه وآلياته، فإن الفقهاء لم يتخلوا عن دورهم في تقييم التقنيات والآليات العسكرية الجديدة من زاوية الشرع.
تبين لنا من خلال هذه الأفكار التي تبنتها النخبة المغربية منذ القرن التاسع عشر؛ خاصة تلك المرتبطة بالحداثة والإصلاح، أن المغاربة أخضعوا كل المستحدثات العلمية والتقنية إلى الفحص والتقييم من خلال منظومته الفكرية المعتقدية؛ معتمدين على فئة الفقهاء والعلماء، باعتبارهم حرّاس الأصالة الدينية، ورعاة القيم الأخلاقية الإسلامية. وقد شكلوا على الدوام جسمًا صلبًا محافظًا متشدّدًا يوكل إليه أمر الفحص والحكم في كل أشكال التجديد[6].
وتقعيدًا لما سبق، فالفكر المغربي تأرجح بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الغربية دون استصدار قرار حاسم لتحديد الاختيارات المناسبة للترقي والنهوض وتحقيق الحداثة، وأن انكسار الفكر المغربي هو نتاج الاستبداد وانعدام الديمقراطية، وغياب التحرّر الفكري.
على سبيل الختم.
ظل المفكر الراحل محمد سبيلا منشغلًا بأسئلة الحداثة والإشكالات المرتبطة بها طيلة حياته، وأفرد لها حيّزًا هامًّا من مؤلفاته. فالحداثة بالنسبة له تتميز بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأمّلية إلى المعرفة التقنية. ويتوصل إلى استنتاج مفاده أن النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم، أو المعرفة العلمية التي أصبحت نموذج كل المعرفة. ويشدّد محمد سبيلا أيضًا على إحداث تحول جذري أو ثورة على كل المستويات، واستدماج الحداثة في المعرفة وفي فهم الإنسان وسلوكه وطرق تفكيره، وتصور الطبيعة والتاريخ. إذًا فالمعرفة العلمية والتقنية وحدها من تملك السيطرة الداخلية والخارجية على الإنسان وعلى الطبيعة.
إن الانتقال إلى الحداثة معناه الانتقال المستمر والتدريجي من الساكن إلى المتحول، من الماهيات إلى الظواهر، من ظلم الطبيعة إلى المعايير الثقافية وإلى التقنية والصناعة، ومن التعبير الشفوي إلى التعبير الكتابي، ومن ثقافة الأذن إلى ثقافة العين[7].
والحداثة عمل وفعل يجد نفسه في أعماق القوى الفاعلة في المجتمع، الحداثة فعل جوهري يحدث في الروح الدافعة للتطور والوجود. إنها طاقة تنوير هائلة تلامس الروح والعقل بالدرجة الأولى. هذا يعني أنها لن تتحقق أبدًا عبر المظاهر، وأنها رهينة الروح الحضارية التي تتمثل في تفجير طاقات العقل وبناء الروح العلمية التي تستمد نسخ وجودها من القيم الإنسانية الحضارية التي تتعلق بالحرية والإنسان والمدنية والقيم الديمقراطية.
1 محمد سبيلا، مدارات الحداثة، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة 1، 2009، الصفحة 123.
[2] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، دار توبقال، الطبعة 1، 2006، الصفحة 65).
[3] محمد سبيلا، مدارات الحداثة، مصدر سابق، الصفحة 124.
[4] محمد سبيلا، المغرب في مواجهة الحداثة، منشورات الزمن، الصفحة 8.
[5] المصدر نفسه، الصفحات 13، 15.
[6] المصدر نفسه، الصفحتان 28، 29).
[7] محمد سبيلا، مدارات الحداثة، مصدر سابق، الصفحة 240.
المقالات المرتبطة
العلاقة بين الفنّ والروحانيّة الإسلاميّين
يطرح الباحث في هذه الدراسة سؤالًا حول مصدر الفن الديني وتحديدًا الفن الإسلامي لجهة المبادئ التي أوجدته.
“حوار الحضارات وصدامها” للمؤلّف سيّد صادق حقيقت
المقدّمة: بين أيدينا كتاب حوار الحضارات وصدامها كتبه باللغة الفارسيّة “سيّد صادق حقيقت” عرّبه السيّد عليّ الموسوي. طبع “بدار الهادي
تاريخ علم الكلام | الدرس السابع | كلام أهل السنّة من القرن الرابع حتّى القرن التاسع: تاريخ الأشاعرة وعقائدهم
سنعمل في هذا الدرس على بيان وتوضيح مسائل تتعلّق بمدرسة الأشاعرة لناحية تأسيسها وأفكارها الكلاميّة.