by أحمد الخالصي | أغسطس 21, 2023 8:14 ص
22nd ديسمبر 2024
لم يكن الطف مجرّد حربًا بين الحق والباطل، بل منطلق فكري متكامل يجسد فرادة الإسلام في تجدده المستمر ضد الجاهليات المتكررة، كما إنه صراع الإرادة السماوية مع النفس البشرية، مع فسحة التخيير في تعبئة هذه النفس بين الفجور والتقوى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾.
الاستفهام المثار حول تأثير الطف في الفكر السياسي الإسلامي، ينبع من كونه محطة مرتبطة بعدد من المراحل السابقة، والتي ساهمت في إعادة تشكيل الإطار الفكري للسلطة في الإسلام، من حيث كونها أسست لمبادئ قد تكون مغايرة عن حياة الرسول الأكرم (ص)، جرى ترميم شرعيتها من باب (خير القرون) واتخاذ صحبة النبي ذريعة في تديين الأفعال التي حصلت في تلك المراحل السابقة، من هنا كانت هذه الحقبة مرجعية تأسيسية في التصور السياسي لكثير من المسلمين، عبر إقحام الفعل الشخصي بالديني، ودمجهما سوية، بل وفي بعض الأحيان يتفوق هذا الفعل البشري على الدين، من حيث كونه مستوعبًا؛ أي الأول لمقاصد الأخير، كما إنه اجتهاد معبّر عن روح النص للتعامل مع ما يستحدث، بالتالي مزيد من القدسية التي تحمي ديمومته عبر الزمن.
شكّل الطف نتيجة ومنطلقًا في ذات الوقت، فهو نتيجة لما حصل سابقًا من ظروف وملابسات تتعلق بتغييب الدور النبوي عن الحكم الذي أعقبه، من ثم غياب المعيار الأخلاقي في الميدان السياسي، وطغيان العصبية ومبدأ الاستئثار بالسلطة والتمسك بها من منطلق قوة لا استحقاق، وهذا ناجم عن المحاباة في تعيين الولاة على الأمصار وخصوصًا معاوية على بلاد الشام، بلا رقابة ولا محاسبة، مما سمح له بالتأسيس لعصبية متماسكة شكلت عائقًا أمام استمرار الأصالة الإسلامية في الحكم.
وهو منطلق لمجموعة رؤى فقهية أجازت فيما بعد مسألة الخلافة بالتغلّب وكذلك الحكم الوراثي، لأنه أي الطف شكّل مأزقًا لاستمرار ما بعده بالنسبة للفقهاء والمفكّرين الإسلاميين فيما يتعلق بالانتقال السلطوي من طور الخلافة إلى الملك العضوض، وما ترتب عليه من تراجع، بل وانعدام مفاهيم أساسية جوهرية متعلقة بالحكم، مثل البيعة والشورى وإلخ…، وكانت هذه العناصر من الثوابت بالنسبة إلى الفقهاء في تحديد شرعية الحكم، هذا المأزق كان قد ظهر جليًّا في توريث معاوية ليزيد، وإن كان حاضرًا بالأصل بخروج الأول على أمير المؤمنين(ع)، لكن كانت المراوغة حاضرة بحجة الفتنة. من هنا تلاشت المعايير المرسومة في دولة الخلافة (والتي هي محل نظر)، وظهرت بدلًا عنها إمامة المتغلب، ورغم أن الكثير من مفكري وباحثي الإسلام، قد جردوا هذا التحول من شرعيته، لكن جرى تبرير مشروعيته بالواقع كوجود من ثم البناء عليه، بينما ذهبت آراء أُخرى لمنح الشرعية لحكم يزيد، وجرى تعليل ذلك من خلال أن بيعته مستمدة من شورى العصبية وبالتحديد (الشامية)، والتي أُعتبرت مرحلة تالية لشورى الأمة، أي إن عصبية الشام، هي معبر عن الأمة الإسلامية برمتها كآراء واختيار، وهي نتيجة طبيعية للتطور، الذي جرى من امتداد رقعة الأمصار، الذي صاحبه تواجد أسماء وشخوص مهمة من الصحابة فيها، كما إنه استجابة تلقائية لصعوبة تطبيق ذات المبادئ التي كان معمولًا بها في دولة الخلافة، والتي بالأصل كانت محصورة بشورى المدينة كمعبّر عن الأمة كما يرى أصحاب هذا الرأي، من هنا جرى تبرير شرعية ومشروعية يزيد بالقياسات التالية:
وعوضًا على أن يتم علاج هذا الانحراف ذي الآثار الممتدة إلى الآن، جرى تبريره مما أدّى إلى تجريد الرؤية الإسلامية من ذاتيتها السماوية، إلى مجرد تنظير وضعي، قائم على ثوابت مغايرة عن الأصل ومتغير حسب المراحل الزمنية، وإلا بحسب الأنساق المعتمدة من قبل فقهاء المذاهب الإسلامية (ما خلا الجعفرية) في أساس النظرية السياسية الإسلامية، القائمة على البيعة والشورى وإلخ…، فكيف يمكن التراجع عن هذه المعايير بحجة الواقع؟ فإما أن تكون السياسة ضمن المفاهيم الإسلامية الأخرى، بالتالي عدم إمكانية التلاعب بها تحت أي ذريعة كانت، خصوصًا وإننا نتحدث ضمن النسق الزمني المحمّدي؛ أي لا زلنا لم نغادر القرن الذي عاشه الرسول (ص)، أي لا يمكن الاحتجاج باختلاف التطبيقات بتبدل الزمن، أو تكون خارجة عن منظومة المفاهيم الإسلامية، والذي بدوره يؤدي إلى الاعتراف بكون الإسلام مجرد من السياسة؛ أي إنه محصور ضمن العلاقة الفردية بين العبد وربه، بالتالي فالتجربة النبوية في الحكم مجرد اجتهاد بشري محض، وهو ما ينسحب على دولة الخلافة من باب أولى، وهذا ما يقود بالمحصلة إلى النفي التام لأي نظرية سياسية إسلامية، وقد يحتج هنا بأن الرسول (ص) لم يوصِ، ولم يدعو إلى شكل معين في الحكم، وهذا الفهم حاضر كثيرًا في الكتابات الفكرية والفقهية، أي ترك الأمة تختار الشكل، الذي يناسبها في الحكم بحسب ما تقتضيه هذه المرحلة أو تلك، وها هنا ببساطة وبعيدًا عن (غدير خم)، القول بذلك يؤدي إلى جزئية الإسلام وعدم شموليته، فالسياسة لا يمكن أن تترك لأهواء الناس، فلا يمكن منطقيًّا التسليم بسحب الفهم الإنساني؛ أي الوضعي إلى رؤية سماوية، ولا يمكن أن تترك جزئية السياسة ضمن فضاء الإسلام، فذلك مخالف لأي رسالة إصلاحية تحاول صنع حضارة متكاملة، مبنية على أساس إلهي، وإلا فما الداعي بالأصل للإسلام إذا تركت هذه المفردة المهمة للناس، أوليسَ ذلك من شأنه أن يؤدي إلى أنظمة وضعية تهدم البناء المتكامل للدين؟ فالسياسة التي تترك ها هنا ستكون خالية من المعيار الأخلاقي من ثم البعد المعنوي، الذي يميز السياسة الإسلامية عن غيرها من تلك المقتصرة على الجانب المادي، وهو ما حصل بالفعل وأدى بالأمة الإسلامية إلى الانسلاخ المستمر من قيمها ومبادئها، من ثم غياب هويتها الدينية بسبب هذه الرؤى، فتغييب المعيار الأخلاقي عن السلطة الناجم بدوره عن إعدام النص المحمدي السياسي (الوصية)، والرضوخ للواقع كمشروعية لا مواجهة وما ينطوي عليه من اعتراف وتأسيس لهكذا ممارسات، من ثم النظر إلى الممارسات الصادرة من هذا الواقع؛ أي(السقيفة والدولتين الأموية والعباسية)، على أنها وجود مفترض القبول، بالتالي شرعية ومشروعية تحت عناوين الاجتهادات المرحلية، لهذه الممارسات السياسية الصادرة من هذه العناوين، والمختلفة جذريًّا في معظمها عن الرسالة المحمدية، أدّى إلى رسوخها في بنية الأمة الإسلامية بمرور الزمن، فتعاقبت بذلك مجتمعات مسلمة بالافتراض أي بالنشأة دون الاكتساب اللاحق، وبالبديهية دون المعرفة، مما يجعل علاقتها بدينها بالمجمل، تبنى على أساس عاطفي لا معرفي، مما يولد حالة من الفصل المتكرر للدين عن التعاملات الجارية داخل هذه المجتمعات، وكذلك نظرته للأشياء. هذه الأمور وغيرها، تساهم بمرور الوقت في وضع الدين في رفوف النسيان والتناسي، وصولًا إلى حالة من المفارقة الفاضحة بين المبدأ المدعى المستمد من الانتماء للدين، وبين الواقع كميدان تعامل.
وجرى ذلك لأن الانحراف المسلكي لهذه المجتمعات في الوقت الراهن، مشرعن ومكتسب درجة البديهية من حيث كون الوجهة السياسية الإسلامية مستندة إلى شرعية ومشروعية السلف؛ أي إلى نموذج وضعي يخلو من العنصر الأخلاقي، وهذا النموذج، الذي تنطبق عليه النظرة الإسبرطية أكثر من المنهاج المحمدي، والمتطبع بالاستبداد الكسروي أكثر من الفضاء المتسامح، الذي وفرته حكومة الإمام علي (ع).
من هنا يظهر تأثير الطف الحاسم في ميدان الفكر الإسلامي، ويمكن إجمال هذا التأثير بالنقاط التالية:
وهناك الكثير من النتائج وملامح التأثير الأُخرى، والتي قد تدخلنا في تشعبات عديدة.
مما نود التأكيد عليه ختامًا كون الطف حقيقة مفصلية في تاريخ الإسلام، شكّل حدًّا فاصلًا بين السياسية الإسلامية الأصيلة، والسلطة الوضعية، بين رسالة الإسلام وما تحمله من حضارة ممتدة، وبين أشكال نظم مستبدة، تشكل مسيرتها معولًا هادمًا، لأي بناء إنساني وأخلاقي.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/15985/atharaltaf/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.