الفطرة والدين في نصوص الشاه آبادي

الفطرة والدين في نصوص الشاه آبادي

للوهلة الأولى، يمكن اعتبار الفعاليات والأنشطة التي تصدر عن الحيوان بدافع غريزي بحت على أنها ممارسات صادرة عن الطبيعة الحيوانية البحتة. ومثل هذه الأفعال، لو صدرت عن الإنسان، لا نصنفها من أعمال الطبيعة الإنسانية فيه، لأنها لم تصدر عن الجهة المميزة له. وبهذا الاعتبار، سوف يبدو النشاط الغرائزي كما لو أنه معطى هابط في طبيعة السلوك الإنساني، وفي القيم، والأعراف، والقوانين الكلية. وبمعزل عن الدواعي الحيوانية، من شهوية وغضبية، يتميز الإنسان بدواع نطقية من تذكّر وتفكّر، ومع ذلك فهي دواع صادرة عن تعمل وتكسب. أما الدواعي التي تستحق الاهتمام، بوصفها دواع تلقائية داخلية، فهي تلك التي تصدر عن حب ذاتي، وعشق جِبِلّيّ، وشوق فطري. فالنفس الإنسانية تمتلك في بعدها الحي، الذي به تعيش وتشعر وتتحرك بالإرادة، ميولًا داخلية مبثوثة عميقًا في الطبيعة الإنسانية، وهي تشكل بذورًا أولية لكمال الإنسان بما هو إنسان.

هذه الدوافع الفطرية والتي تطبع النفس الإنسانية بطابع خاص، تتجاوز بها حدود عالم المادة، وتكشف عما يكتنف النفس من نزوع لا يمكن معه عزو النفس إلى حيطة الطبيعة. وهي بنحو ما، تتمثل فيها أصول كمالات الإنسان.

إنّ الصفات والميول التي فطر عليها الإنسان إنما هي من لوازم وجوده، ومن كيفيات إيجاده – التي هي نفس هويته. فالفطرة تعبير آخر عن كيفية إيجاد الإنسان، وهو قد أوجد بكيفية خاصة بأن جُبل على معرفة أصول الواقعيات وطلب الكمالات. والإنسان يجد الاقتضاءات الفطرية في نفسه وينساق إليها جَبِليًّا. فهي ثابتة، مجعولة بنفس جعل وجوده. ولذلك لا ينفك الإنسان عنها بحال، بل هو يتطلبها دائمًا في ذات وجوده ﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ[1].

ويتفرع عن مواكبة الفطرة للوجود الإنساني، وتلازمها معه، وكونها كتاب الذات المكتوب بيديه تعالى، أنه لا مجال لتصرف الوهم والخيال في الفطرة، ولأن الفطرة معصومة عن الخطإ في أحكامها ومتطلباتها، كان حكم الفطرة ومقتضاها هو الدين القيم ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[2]، فهي التي يتوقف تحقق الكمال الخاص بالإنسان على متابعتها.

أما سبب الانحراف عن الفطرة فيعزى إلى الركون إلى الطبيعة؛ إذ مقتضى الفطرة غير مقتضى الطبيعة؛ مقتضى الفطرة الحضور والوعي، ومقتضى الطبيعة الغياب والخدر؛ والإنسان يجد نفسه في الحضور واليقين والاطمئنان ونحوها من عوامل توكيد الذات الإنسانية. وحين ينشأ الحجاب من الاحتجاب بالطبيعة، لا يعود يميز الإنسان بين مقتضى الفطرة ومقتضى الطبيعة، فيقع في دائرة الاغتراب عن النفس: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[3].

ويتضح مما تقدم أمور:

  1. 1. أن الفطرة تعبير عن كيفية إيجاد الحق للخلق، ومقتضاها هو معرفة أصول الكمالات وطلبها، وهي واجبة الاتباع؛ بمعنى أن الإنسان يجدها في نفسه وينساق إليها جِبِليًّا.
  2. 2. أن الفطرة لازمة لوجود الإنسان، فهي ثابتة لا تزول، لأنها مجعولة بنفس جعل وجوده، لا بجعل زائد.
  3. 3. أن الفطرة معصومة عن الخطإ في أحكامها ومقتضياتها، لا مجال لتصرف الوهم والخيال فيها، لأنها كيفية إيجاد الحق، كتبها بيديه تعالى، وطابق بها كتاب ذاته تعالى، لاتفاقهما في لوازم الوجود.
  4. 4. أن مقتضى الفطرة غير مقتضى الطبيعة، إذ مقتضى الطبيعة الاحتجاب.

من هنا، يأخذ الشيخ الشاه آبادي في كتابه (رشحات البحار) في بحثه الموسوم بكتاب الإنسان والفطرة، في بيان أصول الكمالات، ويعدّدها إلى ست كمالات على ضوء الآية الكريمة من سورة الروم ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾،كاشفًا عن كيفية توقف هذه الكمالات على الفطرة، ومبينًا لها على النحو التالي:

  1. 1. معرفة الإنسان نفسه (أصالة معرفة الذات)

يميل الإنسان إلى معرفة نفسه بدافع ذاتي، ويتحدّد هذا الدافع من خلال فطرته العالمة، والعاشقة، والكاشفة، وفطرة حب الراحة، وفطرة طلب الحرية. وتعتبر هذه الدوافع بكافة تجلياتها من أبرز الملامح سطوعًا في تحديد الطبيعة الإنسانية. والتي تنأى بها عن الانتماء إلى حضن الطبيعة المادية، وحسب تعبر الشيخ: “حقيقتي غير طبيعتي”. وهو يبين هذه الملامح على النحو التالي:

أ. الفطرة العالمة: العلم ميزة إنسانية، بحيث يجد الإنسان نفسه في العلم والحضور، ويفقدها في الجهل والغياب. وبمقدار تكثيف زخم الحضور يترسخ الحضور الإنساني، بينما يتسبب الجهل بضمور إنسانيته واحتجابها. ولأنه لا حضور للطبيعة التي هي مناط الغيبة والجهل، يجهد الإنسان في السيطرة على الطبيعة، والتغلب عليها، وتطويعها، وهو لا يكتفي بعيش علمه، بل هو يعي لوازمه، ويستثمر معلوماته في تحقيق غاياته. والطبيعة لا تعي ذاتها، وإنما هي مجال وعي النفس؛ إن لذعة الجوع لا تدركها “طبيعة” الجائع، بل تدركها أناه، وقد لا تدركها بسبب انشغالها وإن كانت الطبيعة تفعل مقتضاها. فالنفس خارجة عن أسر الطبيعة، داخلة في عالم الأمر والمشيئة.

ب. الفطرة العاشقة: الإنسان عاشق لنفسه ولكماله ولإضافاته، حتى أن المنتحر لا ينتحر إلا لحبه نفسه. ويترتب على ذلك أن الإنسان يدرك نفسه كقيمة، ويميز نفسه عن سائر المخلوقات الأخرى حين يجعل منها غاية في نفسها، وليس مجرد وسيلة للغير.

ج. الفطرة الكاشفة: يزاول الإنسان أعماله بدافع من القناعة الداخلية، ولا يتحدد نشاطه بفعل الإكراهات والمؤثرات الخارجية كما تزعم بعض المدارس النفسية. والإنسان لا يصدر قرارًا بشأن الأشياء، أو يتخذ موقفًا منها، إلا بعد انكشاف هذه الأشياء في نفسه. بل إن الإنسان لا يتحرك نحو الشيء إلا بعد العلم بنفعه فيجلبه، أو ضره فيدفعه، فهو يستبد برأيه؛ ولا يستظل برأي أحد إلا بعد انكشافه في نفسه.

د. فطرة حب الراحة: وهي مطلب السعادة، الذي ينشده الإنسان في سعيه مدفوعًا في ذلك بدافع عشقي، بحيث يتعب نفسه في تحصيله، وهي اللذة المطلقة.

ه. فطرة طلب الحرية: وهو عشق الإنسان لنفوذ مشيئته، وعدم المانع لمقصده؛ ذلك أن الإنسان يتعامل مع الأشياء بوصفها موضوعات خاضعة لمشيئته. وهو حين يطالب بحريته لا ينتظر حتى يصل إلى مرحلة الرشد الفكري، ولا يقوم بعملية تفكير حر وناقد حتى يستنتج ويثور ويطالب بحريته! وإنما يشعر بالحاجة إلى نفوذ مشيئته في جبلته وفطرته.

وهذه الفطرة تظل مواكبة له على الدوام منذ خطواته الأولى المراهقة، ولهذا قد يقاوم عمليات التطبيع الأسري والمدرسي، والتي تظهر في بعض ردود الفعل الممتعضة. كما قد تخضع فطرته لنوع من التحوير ومحاولات الوأد:” كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه”[4]. ومع ذلك، فإن الفطرة تظل تراود الإنسان وتعاود نشاطها من وقت لآخر، وتنتفض، وتنفض التراب عن وجهها.

وعليه، يتوفر الإنسان على دوافع فطرية تتجاوز في متطلباتها حدود عالم المادة، وتضفي على الطبيعة الإنسانية تميزًا فائقًا يتجاوز في دلالاته أي قابلية للتفسير وفق حتميات قانون الطبيعة العامة[5].

  1. 2. معرفة الإنسان وجهه (أصالة التوجه)

المقصود بوجه الإنسان جهة معرفته، والمتوجه إليه هنا هو الدين، والذي هو من مقولة المعاني، فالإنسان مجبول على التوجه، وهو توجه قصدي ملازم لطبيعته؛ إذ إن قبلته دائمًا هي الحقيقة. ولذلك هو يتوجه إلى الواقع بكل حيثياته الوجودية –حسًّا، وعقلًا، وقلبًا، وروحًا – حتى يبلغ ذروة التوجه من خلال مجاوزة التوجه نفسه إلى التحقق بأخلاق الكمال.

وتماشيًا مع المبنى العرفاني، يقوم الشاه آبادي بتفسير وجه الإنسان – بحسب ما يناسب فطرته الدراكة – بجهات إدراكه السبعة: وجه الحس، ووجه العقل، ووجه القلب، ووجه الروح، ووجه السر، ووجه الخفي، ووجه الأخفى.

أ. بوجه الحس يدرك محسوسات هذا العالم بإدراك حسي طبيعي يتعلق بنفس المادة. وهو الحس المقيد.

ب. وبوجه شعاع شمس روحه من الحواس الخارجة عن أسر البدن، يدرك محسوسات عالم البرزخ بإدراك خيالي رياضي يتعلق بالمقدار وآثار المادة. وهو هنا الحس المطلق.

ج. وبوجه العقل يدرك المعقولات بالبرهان، وهو العقل حال ضعفه واحتياجه إلى الفكر. وأما عند كماله فيدرك المعقولات المجردة بالعيان والشهود، وهو الكشف. فالكشف حظ العقل عند قوته وشدة نورانيته.

د. وبوجه القلب يحب نفسه وكل كمال محسوس ومعقول بالفطرة؛ ذلك أنه إذا أدرك نفسه أحبها، وأحب كمالها، وتوجه إلى تحصيل كمالاتها. وقد يدرك الكمالات المحسوسة ويحبها فينتكس. وقد يدرك كمالاتها المعقولة الفطرية فيرتفع بالمعرفة، والعبودية، والمعدلة (وهي التي يجمعها الدين)، ويرتقي ويصرف حبه إلى من لا يقف حبه عند حد. وحينئذ يكون قد نظر إلى فطرته وكمالاتها، فوصل إلى حقيقتها ومولاها.

ه. وبوجه الروح يشاهد المحبوب الظاهر، بعين يقينه، فينتقل من استكشاف الظاهر بواسطة ظهوراته، إلى مشاهدة الظاهر بعين اليقين، الذي هو عشق القلب.

و. وبوجه السر تتجلى فيه في أسماء الحق وصفاته.

ز. بوجهه الخفي تتجلى فيه أسمائه الكلية المطلقة.

ح. بوجهه الأخفى يفنى حتى عن فنائه.

فالإنسان متعطش بطبيعته الفطرية، لا يرتوي إلا بمعرفة حقائق عالم المادة والغيب. وهذا ناشئ من دوافع فطرية داخلية يعبر عنها عادة بحب المعرفة والاستطلاع. فالإنسان أبدًا في طلب الكمال والحق[6].

  1. 3. معرفة الإنسان دينه (أصالة التدين)

الدين هو الالتزام بمعرفة الحقائق. وهو من اقتضاءات الفطرة التي تتطلب، أولًا، معرفة الحقائق ومبدئها ومعادها، وتتطلب، ثانيًا، الخضوع للكامل من خلال العبودية، وتتطلب، ثالثًا، العدل. الإنسان يثق تمامًا بأن هذه الدوافع والميول الداخلية لا تتطلب سوى ما هو حق وخير، بل هو يعيش هذه الدوافع تلقائيًّا، ولا يتردد فيما تتطلبه، ولذلك يلتزم بكل ما تتعلق به تلك الدوافع والميول. وعليه، يمكن تفسير الالتزامات التي يتطلبها الإنسان بفطرته (بما هو إنسان) في أمور:

أ. الالتزام بمعرفة الحقائق ومبدئها ومعادها: بحيث يعشقها ولا يرضى لنفسه الجهل بشيء منها أصلًا. ويشير الشاه آبادي بذلك إلى الفضول العلمي، الذي يدفع الإنسان من الأعماق للكشف عن مبدئه، ومصيره، وطريق كماله، بحيث يندفع في طلبها من قلق داخلي عميق لا يستكين عن طلب الإشباع إلّا متى ما توفرت له المعرفة بها بالنحو المطلوب له.

ب. الالتزام بالخضوع للكامل، وهي العبودية: ويدل على ذلك:

أبواب الاحترامات الفطرية، والتي يفصح عنها الشيخ بوجوه من الاحترامات: كاحترام الحاضر، واحترام المنعم، واحترام المقتدر، واحترام الكامل، واحترام المحبوب. وأبواب التواضعات للكامل، علمًا، وصنعة، ومالًا، وحشمة، وعشيرة. وأبواب المحبة واختلافها، فإنها من جهة الكمال واختلافه. وأبواب الأجور لأرباب الصنائع. وأبواب المثوبة والعقوبة. وأبواب الانتظامات في كل أساس؛ فإنما هي لكمالها. فالكل ينشأ من فطرة الالتزام بالتواضع.

يشير الشيخ الشاه آبادي بذلك إلى أمرين:

الأمر الأول: الطبيعة الأخلاقية للإنسان (الاحترامات الفطرية) والتي تدعو إلى قيم معينة في التعامل، يقوم بها الإنسان بدافع فطري تلقائي، من قبيل احترام الحاضر، والمنعم، والكامل.

والأمر الثاني: الطبيعة الاجتماعية للإنسان (التواضع للكامل)، والتي تتمثل في التعاون والعمران المدني من جهة احتياج الكل للكل في تحصيل الكمالات. فالإنسان مدني بالطبع، وهو مفطور على التعاون، بل على الرجوع إلى الكامل والاستمداد منه في الاختصاصات التي لا يحيط بها علمًا. وهذا الحكم فطري، يتبعه العقلاء دومًا، ولا يختص بإنسان دون آخر.

ج. الالتزام بالمعدلة: يستحسن الإنسان العدل ويستقبح الظلم بفطرته، حتى إن الظالم يهيج حس الانتقام عنده بعد ملاحظة عدم قيام الناس بحقوقه من الانصياع والطاعة. وهذا ناشئ من اعتقاده والتزامه بالعدل والاستقامة. وهذه الالتزامات تعبر عن أصالة التدين في الطبيعة الإنسانية، والأديان السماوية تنبني على الالتزام والميثاق الفطري. وتتجلى هنا محورية الطبيعة الإنسانية في موضوع الوحي والنبوة؛ إذ الكتب السماوية شرح لهذا الكتاب التكويني، والأنبياء شرّاح كتاب ذاتنا. حتى إن القرآن الكريم جاء بيانًا لتلك المقاصد الثلاثة: علم جميع الحقائق، وبيان لزوم الخضوع وكيفيته، وبيان الحدود والحقوق والمعدلة والأمر بها. فهو علم تام، وعبودية كاملة، ومعدلة جامعة. والفطرة إنما تقضي بوجوب المعرفة، والخضوع، والعدل، بقول مطلق، من غير تخصيص بمعرفة دون غيرها أو خضوع دون غيره، أو عدل دون غيره، وإن كان مقصودها بالذات هو الثابتات، لا الحادثات الموصلة إليها. وهذه الاقتضاءات الفطرية هي الدين الفطري، الذي لا يخلو منه أحد من الناس. فالإنسان متدين بالذات. وحيث إن صحة حياة الإنسان تقوم على العدالة، والعبودية (اتباع الكامل)، والمعرفة، فهذه الاقتضاءات الفطرية لها مدخلية تامة في تصحيح الحياة الإنسانية،كما أنها تمام ملاك حياة الآخرة. وهذه الاقتضاءات هي التي يقوم عليها الدين.

فيتضح أن الكمال المصحح للحياة الإنسانية في جميع العوالم منحصر بإقامة الدين[7].

  1. 4. معرفة الإنسان إقامته (أصالة العدل، والعبودية، والمعرفة)

يتحقق الالتزام بمعرفة الحقائق (الدين)، وذلك من خلال تحري العدل في عمله (الحس)، والتخلق بالأخلاق الحسنة (القلب)، والتحقق بالمعرفة الحقة (العقل)، وينبع هذا النشاط من أن المعرفة ليست علمًا فحسب، بل هي علم وعمل؛ بهما يتحقق مفهوم الإقامة، وهما نابعان بدورهما من دوافع فطرية مغروزة في جِبِلّة الإنسان. وعليه، أصول وجوه الإنسان وكيفية إقامتها إلى الدين ثلاث:

أ. وجه الحس: إقامة وجه الحس إلى الدين لا بدّ أن يكون إلى المعدلة والأعمال الصالحة. وأما كيفية إقامته، فلا بدّ من معرفة الحقوق والحدود وأربابهما من الحق والخلق، وذلك يتوقف على النظر إلى علم الفقه وأصوله للمجتهدين، وإلى فتاويهم للمقلدين، وإلى الاحتياط للمتوقفين. فلا بدّ في تنظيم وجه الحس وتعديله بترك المفاسد وارتكاب المصالح من الرجوع إلى الفطريات الخمس:

  1. 1. احترام الحاضر فطري، وحيث إن العاصي هتك حضور الرب بعصيانه، فيؤاخذه ربه يوم القيامة بفطرته، فيقال: هل لم أكن حاضرًا فخالفتني، أو لم يكن حضور الحاضر محترمًا في فطرتك، أو كنت مستثنى من هذه الحكومة الفطرية؟ والكل ممنوع بفطرتك.
  2. احترام المنعم فطري، فيؤاخذك المنعم: هل لم أكن منعمًا، أو لا يجب احترامه، أو كنت خارجًا من ذلك؟
  3. 3. احترام المقتدر فطري، فيؤاخذك: هل لم أكن عظيمًا مقتدرًا، أو لا يجب احترام العظيم والمقتدر عندك، أو كنت غير مشمول بهذا الحكم؟
  4. احترام الكامل فطري، فلو احتج عليك يوم القيامة: هل لم أكن كاملًا، أو لم يجب احترامه عندك، أو كنت من المخرجين؟ فأي جواب هيأت؟
  5. 5. احترام المحبوب فطري، فلو قال الله لك يوم القيامة: ألم أكن محبوبًا؟ أو لم يجب احترام المحبوب؟ أو الحكم مخصوص بغيري؟

فالعدالة تقوم على فطرة الاحترام، والاحترام موقف نابع من دخيلة الإنسان إزاء كل مظهر من مظاهر الحضور، أو النعمة، أو القدرة، أو الكمال، أو الحب.

والأسئلة التي يطرحها الشاه آبادي على لسان المولى سبحانه تعطي دلالتها السياقية بامتياز، فعلى مستوى الحضور:

  1. 1. فطرية احترام الحاضركأصل ارتكازي: “هل لم أكن حاضرًا فخالفتني!”.
  2. 2. الإيمان بهذا الأصل هو نفسه إيمان فطري: “أو لم يكن حضور الحاضر محترمًا في فطرتك!”.
  3. 3. الإيمان بأنه لا استثناء في الفطرة متى توفرت شروطها، فإن الاحترام ملازم للحضور، ومتى انقطع الحضور انقطع الاحترام، وفطرة الإنسان تأبى عليه أن يرتكب الموبقات المعيبة بوجود الحاضر، فكيف لو كان هذا الحاضر يمتلك كل الحضور: “أو كنت مستثنى من هذه الحكومة الفطرية!”.

وأسئلة الفطرة هذه سوف تتكرر مع سائر المطالب التي تكون مخالفة لمقتضى النعمة، والقدرة، والكمال، والحب؛ إذ “الكل ممنوع بفطرتك”.

ب. وجه القلب: إقامة وجه القلب إلى الدين لا بدّ أن يكون إلى العبودية، وهي الخضوع للربوبية، والتخلق بالأخلاق الحسنة. وأما كيفية إقامته، فلا بدّ من معرفة الفضائل والرذائل من الصفات، فيعبده بالصبر وترك الجزع ونحوها. فالصبر لغيرها لا يكون كمالًا. وإقامة وجه القلب – الذي به يحب نفسه وكمال نفسه – إلى الدين، وهو هنا العبودية، بمعنى أن روح شتات الأعمال والصفات هي العبودية، فيصلي ويصوم لله، ويصبر ويحلم لله، وبالجملة، المطلوب إرجاع الكثرات إلى الوحدة، واتصاف القلب بصفة العبودية هو المقصود من كثرات الأعمال والأوراد، وهكذا الصفات حتى يكون الحال سرمدًا، ولا يحصل إلا بإرجاع الصفات إلى الحق وعبوديته. فلا بدّ من تزيين القلب بالعبودية حتى يصير موردًا للتجليات الأسمائية والصفاتية، وتزيين القلب بها موقوف على التوجه وإحضار القلب لذلك، والتوجه والإحضار موقوفان على تعلق القلب به، والتعلق موقوف على اهتمام القلب به، والاهتمام موقوف على تذكر القلب بالآثار المحبوبة، وتذكره بها موقوف على العلم بالآثار، والعلم بها موقوف على الأخذ من مبدأ الوحي والنبوة.

ج. وجه العقل: إقامة وجه العقل إلى الدين لا بدّ أن يكون إلى المعرفة. وأما كيفية إقامته، فلا بدّ من التوسل بقراءة كتاب الفطرة ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ[8]. وإذا راجعنا الفطرة لوجدناها عاشقة للكمال، بل الخير مطلقًا، بحيث لو أحاط بما في الأرض واحتمل وجودها في كرة القمر لتمناها. أو أحاط بما في الملك واحتمل وجود ما هو أكمل منها في الملكوت لتمناها. ويترتب على ذلك أمور:

  1. 1. كل ما وجدناه فليس بمعشوقنا، لأن تمام مقصود العاشق السكون حال الوصال، وحيث تجاوز عنه ينكشف عدم كونه معشوقًا له.
  2. 2. لا نهاية لعشقه؛ لتجاوزه عن الجمال إلى ما هو أجمل، ومن الكمال إلى ما هو أكمل.
  3. 3. عدم فتور الفطرة، ولو كان سالكًا جميع المسالك، وأتعب نفسه وألقاها في المهالك.

وإذا عرفت وجود العشق المطلق بالفعل في ذاتك وفطرتك، بحيث لا يتفاوت فيه أحد، والعشق من الصفات الإضافية يقتضي معشوقًا – كما كنت عاشقًا – بالفعل، فلتحكم بوجود معشوق الفطرة في دار التحقق[9].

  1. 5. لماذا يجب إقامة الوجه إلى الدين؟

إن النفس تحب ذاتها وكمالاتها بالفطرة. والإنسان بما هو إنسان عاشق لنفسه، ولحياته، ولما تصح به حياته بما هو إنسان، وليس هو إلا كماله علمًا وعملًا. فكل ما يصح به حياته بما هو إنسان فهو كماله، وما لا مدخلية له في صحة حياته بما هو إنسان فليس بكماله. ولذا لا يكون علم المقامرة وعملها كمالًا، لعدم كونها مصححة لحياته بما هو إنسان – وإن كانت قد تصحح حياته بما هو حيوان. والمدار في صحة الحياة بما هو إنسان أن لا يكون مزاحمًا لجهاته الأخرى، ولا لصحة حياة الآخر، فإن صحة حياة الإنسان بما هو إنسان اجتماعي مدني ملازمة للحياة الاجتماعية.

ويختلف الكمال المصحح للحياة الإنسانية بحسب الأزمنة، وبحسب العوالم. وكل كمال يسع دائرة تصحيحه الحياة الإنسانية من الملك، والبرزخ، والملكوت، والجبروت، فهو أقوى الكمالات وأعظمها. بخلاف الكمالات التي تختص بالملك دون غيره، كامتهان الخياطة ونحوها من الصنائع.

أما الكمال الديني – ومن شعبه المعدلة – فتصحح الحياة الإنسانية، كما إذا قايست العبودية – وحقيقتها الخضوع للكامل بقول مطلق – إلى الحياة الإنسانية لوجدتها تامة المدخلية في صحتها. وإذا نظرت إلى المعرفة والعلم بالحقائق لوجدتها تامة المدخلية لصحة الحياة. ولا يمكن الحياة إلا بالعلم والعمل، غاية الأمر أن الجاهل يعيش تحت ظل العالم. فإذا نظرت إلى المعرفة، والعبودية، والمعدلة، وقايستها إلى عالم البرزخ والعوالم الأخر، لوجدت أنها تمام ملاك حياة تلك العوالم، وإن كان كمال المعدلة ظهورها في البرزخ أقوى، والعبودية والصفات الحسنة ظهورها في الملكوت أقوى، والمعرفة ظهورها في الجبروت أقوى. وإذ قد تحققت انحصار الكمال المصحح للحياة الإنسانية في جميع العوالم بالدين، عرفت حكمة إيجاب إقامة وجهك إلى الدين[10]. وعلى هذا الأصل ينبني الوحي،فما يتضمنه الوحي من تكاليف الرشد الأفعالي، ووصايا الكمال الصفاتي، يجد الإنسان صداه في عمق الذات.وما جاء الدين إلا لإيقاظ تلك الفطرة فيه.

  1. 6. معرفة الإنسان حنافته (أصالة التوحيد)

الحنافة هي الإعراض عما يخالف الحقيقة. والفطرة تلزم الحنافة فتمتنع عن التوجه إلى الشيئين، لعدم الوجهين. وهي بذاتها صادقة ومخلصة في ميلها وولائها، لا تعرف النفاق والخداع، لذلك هي أحادية الاتجاه، تأبى عن التوجه إلى شيء إلا بعد الإعراض عن الغير، فلا تتعلق إلا بالواحد. غير أن النفس لوقوعها بين عالمي الغيب والطبيعة، وتربيها في حضن الطبيعة زمنًا طويلًا، يحصل لها الأنس بها بحيث تغفل عن الغيب، وتسلم مفاتيح ذاتها وأناها إلى الطبيعة. فالإنسان يتعلق بما هو زائل ويعشقه، ويستبد به، ويبني قناعاته على أساس المنافع المؤقتة، ويبحث عن راحته في الفانية، ويسعى إلى التسلط فيها، كل هذا بحكم الطبيعة وليس بحكم الفطرة. والحال أنه ينبغي أن يُعرض عن الطبيعة في ذاتها (الحنافة) ولا يقبل منها إلا ما كان واسطة لحصول كمالاته بما هو إنسان[11].

فيتطلب مفهوم الحنافة النظر إلى الجسد كمظهر لحقيقة النفس، وواسطة اكتمال النفس. وهذه الواسطية تعني أكثر من مجرد كون الجسد وسيلة، إنه المجال الفعلي، الذي يقيم فيه الإنسان صلة الرحم مع الطبيعة. ولكن ليس على أساسأن النفس منجزة باستقلال عن الجسد، بل على أساس أن النفس تتمظهر وتتحقق من خلال الجسد. فالجسد هو النفس في رتبة النفس، والنفس هي الجسد في رتبة الجسد.

[1] سورة الروم، الآية 30.

[2] سورة الروم الآية 30.

[3] سورة الروم، الآية 30.

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 58، الصفحة 187.

[5] الشاه آبادي، رشحات البحار، إصدار المعارف الحكمية، الصفحة 67.

[6] رشحات البحار، مصدر سابق، الصفحات 74 إلى 76.

[7] رشحات البحار، مصدر سابق، الصفحتان 76 و 77.

[8] سورة الإسراء، الآية 14.

[9] رشحات البحار، مصدر سابق، الصفحات 77 إلى 80.

[10] رشحات البحار، مصدر سابق، الصفحتان 72 و 73.

[11] المصدر نفسه، الصفحات 69 إلى 72.



المقالات المرتبطة

الموت كتجلٍّ للمقدّس..

إنّ وصول العبد لهذه الدرجة من الإخلاص لله، يجعل الموت لحظة تكامل ووصل إلى الإنسان الحقيقي، وبالتالي يكون الموت موصلًا إلى المقام القدسيّ للملائكة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | عثمان أمين والفلسفة الجوّانية (1)

عمل عثمان أمين على إشادة مذهب فلسفيّ أو هكذا يقرّر في كتبه، يقول في إحدى المقالات التي كتبها في ستينيات

المهدي (عج)، الانتظار، والتمهيد

لا ريب أن الاعتقاد في المهدي/المخلص لا يختص بالإسلام أو بالمذهب الشيعي الاثني عشري، وإنما يمثل مشتركًا عقائديًّا يؤمن به العديد من أبناء الديانات سواء الإبراهيمية أو غيرها،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<