من التصوف التنويري إلى التحرير العقلي

من التصوف التنويري إلى التحرير العقلي

قراءة حول الرؤى العربية فلسفيًّا

تمهيد

ليس الهدف من هذه الدراسة هو تعريف التصوف وتاريخه ومراحل تطوره، والفروق بين التصوف الطرقي والتصوف الفلسفي، ولكنّ الهدف منه هو إبراز كيف يمكن للتصوف الإسلامي أن يكون قاطرة للتنوير الروحي والإنساني، وصولًا إلى التحرر العقلي الجمعي، بما فيه من نقد علمي وبناء فلسفي، ذلك أن التصوف في الإسلام اتصل بالفلسفة وتداخل معها إلى درجة اعتبر فيها الفيلسوف صاحب تصوف عقلي، وهذا لا يلغي المنطق الخاص للتجربة الصوفية، ونرى هذا بوضوح عند المتصوفة من أمثال محي الدين بن عربي والجنيد والبسطامي، وذلك كله من أجل الاجتهاد مع غيرنا لإنقاذ الأمة من الضعف الداخلي.

وهذا البحث ينقسم إلى عدة عناوين…

الدور الإنساني للتصوف الإسلامي

الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر

إن الأمن الروحي هو الناهض الحقيقي بالحضارات، والحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين المدنية والروح، فالمطلوب هو التطبيق الجاد للتصوف، لأن الأمة اليوم في حاجة لتربية ربانية أخلاقية روحية ترنو إلى الإحسان، وتدعو إلى البناء والفداء والتضحية في كل حين، وفي خدمة الخلق أجمعين[1].

إن التصوف ضرورة إنسانية ويقظة دائمة تدعو إلى التوافق بين المادة والروح حتى تتجسد الصوفية بمعناها الحقيقي، وتسهم في إيجاد روح ناهضة بالحيوية ورؤية فاعلة تنطلق من المفاهيم الأصيلة للإسلام، وتصلح بين الناس بدون تمييز المذهب والعرق، وإن التصوف الحقيقي لا يفسد، ويوحّد ولا يفرق، ويوجه الناس إلى الإخلاص لله تعالى في كل أعمالهم، لينتشر الحب في الله بين الناس، ويرسخ التقوى في كل الأعمال، ويعمل على تحقيق العدل، ويجلي النفوس للتحلي بالعفاف والحياء والسعي إلى الخيرات.

إن التصوف له دور محوري بالتراحم وتقريب الإنسان لأخيه الإنسان، فهو الذي يغرس في الضمير الإنساني مكارم التواد والمحبة والتآلف وحسن التعايش، وهذه القيم تأتي بالسكينة والاستقرار والسلم والسلام، وهذه أهم مقومات الأمن الاجتماعي والحضاري.

الرؤى العربية الفلسفية والأدبية المعاصرة

لا شك في أن دراسة التصوف الإسلامي قد خطت خلال النصف الأول من القرن العشرين خطوات واسعة، ومن الملاحظ أن المستشرقين قد قاموا بدور كبير في هذا المجال، فقد نشروا الكثير في مخطوطات التصوف، كما درسوا مبادئه ونظرياته، وبحثوا كثيرًا في أصوله ومنابعه، ثم ما لبث أن جاء من بعدهم الباحثون العرب – ومعظمهم درس في الجامعات الغربية – فأضافوا إلى جهد المستشرقين جهدًا آخر، يتميز بالمعرفة العميقة للغة التصوف، وبمعايشة حقيقية للتراث الإسلامي، وترتب على ذلك أن صححوا بعض آراء المستشرقين، كما طوروا بعضها الآخر، وأضافوا إليه، بحيث يمكن القول: إن دراسة التصوف الإسلامي – تبعًا للمنهج العلمي الحديث – تعتبر من أكثر الدراسات الإسلامية تطورًا في الوقت الحاضر.

لكن المتأمل في كل من دراسات المستشرقين والعرب للتصوف الإسلامي يجد اتجاهين من البحث العلمي، يؤكد الفارق بينهما نوع الهدف الذي وضعه كلا الفريقين لأبحاثهما، وتعمل فيه بدون شك الدوافع الخاصة من ناحية، وظروف البيئة الثقافية من ناحية أخرى.

وليس هنا مجال تحديد خصائص كل منهما، بقدر ما يهمنا في هذا المجال، التعرف على أبرز الدارسين من المستشرقين والعرب في مجال الدراسات الصوفية، مع إلقاء الضوء على أهم أعمالهم والميادين التي تخصص فيها كل منهم.

أولًا: المستشرقون

تجيء دراسة المستشرقين للتصوف الإسلامي في إطار دراستهم للدين الإسلامي[2].

 ومن المعروف أن أبحاثهم الأولى حول الإسلام صدرت أساسًا عن دافع سياسي مناهض، ودافع ديني منافس، ومن ثم، فقد تركزت اهتماماتهم في هذا الصدد حول البحث عن مصدر أو مصادر الدين الإسلامي، والعوامل الأجنبية التي عملت في تكوينه وانتشاره، وقد ظلّت معظم أبحاث المستشرقين الأولى تذهب إلى أن الإسلام خليط من اليهودية والمسيحية وديانات الشرق القديمة، وهم بذلك يستبعدون إمكان الوحي الإلهي المنزل على الرسول (ص)، وفي هذا الاتجاه، حاولوا أن يجعلوا من رسول الإسلام إما إنسانًا عبقريًّا، أو ثائرًا مسيحيًّا نهض في وجه الكنيسة[3].

ولكن الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين شهدا تحوّلًا أساسيًّا في مسار الاستشراق بصفة عامة، فقد تعمّقت معرفة أصحابه باللغة العربية، والثقافة الإسلامية – وهي ليست معرفة سهلة بالنسبة للدارس الأجنبي الذي يعيش في حضارة مختلفة، وبيئة ثقافية متباعدة – وقد تم التغلب على ذلك نتيجة كثرة الرحلات التي بدأ يقوم بها هؤلاء المستشرقون إلى بلاد العالم الإسلامي، والعيش أحيانًا فيه، والدراسة في أحيان أخرى بمعاهده الأصيلة، بالإضافة إلى ثورة وسائل الاتصال التي سهلت تبادل المعلومات وسرعة انتقالها من جانب إلى آخر، كذلك فإن المستشرقين الجدد التزموا أكثر ممن سبقهم باتباع المنهج العلمي الحديث، الذي يستبعد الأغراض الخاصة، ويكرّس نفسه لدراسة الظواهر بموضوعية كاملة، أو شبه كاملة قدر الإمكان.

سبقت الإشارة إلى أن الدارسين العرب في مجال التصوف الإسلامي قد صححوا كثيرًا من آراء المستشرقين، وطوروا بعضها الآخر، وأضافوا إليه ولا شك في أنهم، من زاوية محددة، أقدر على معالجة هذا المجال الصعب، الذي يحتاج إلى معايشة عميقة، ومعرفة واسعة بلغة التصوف الخاصة من ناحية، وروح الثقافة الإسلامية من ناحية أخرى.

وتتميز أبحاث الدارسين العرب بالخلو من الدوافع الخاصة التي وجهت أحيانًا – بعض أعمال المستشرقين وجهة بعيدة – قليلًا أو كثيرًا – عن الاتجاه الموضوعى الخالص في البحث العلمي، ولكنها في المقابل من ذلك، تتسم – أحيانًا – بنبرة عالية في الدفاع عن التصوف الإسلامي، واعتباره لدى بعض الدارسين هو الحل الوحيد والأمثل لمشكلات المجتمع الإسلامي.

ومع ذلك، فإن كل واحد من الدارسين العرب يتميز بطابعه الخاص، والأصيل وينصب اهتمامه حول موضوعات معينة توفر على دراستها بأمانة وجدية. وسوف نكتفي هنا بذكر رواد هؤلاء الدارسين، الذين تعتبر أعمال كل منهم مرجعًا أساسيًّا في الميدان الذي تخصص فيه:

أبو العلا عفيفي: درس في إنجلترا، وهو تلميذ المستشرق الإنجليزي نيكلسون، وقد تخصص في فلسفة ابن عربي الصوفية، وكتابه عنها ترجم أخيرًا للعربية، وهو بعنوان:The Mystical philosophy of Muhyiddin lbn Arabi. Cambridge. 1939، وبعد عودته إلى مصر، حقّق رسالة الملامتية للسلمي، وفصوص الحكم لابن عربي، مصحوبًا بشرح واف، وترجم لنيكلسون مجموعة محاضرات بعنوان: (في التصوف الإسلامي وتاريخه)، كما نشر أخيرًا كتابًا لخص فيه أفكاره عن التصوف الإسلامي بعنوان: “التصوف: الثورة الروحية في الإسلام: سنة 1963م”.

محمد مصطفى حلمي: كان من أبرز من تخصصوا في ابن الفارض، الشاعر المصري الشهير الذي تغنى في أشعاره بالحب الإلهي، وله فيه كتاب (ابن الفارض والحب الإلهي)، و(ابن الفارض سلطان العاشقين)، ثم نشر كتابًا شاملًا عن التصوف بعنوان: (الحياة الروحية في الإسلام) سنة 1945م.

توفيق الطويل: من كبار أساتذة الفلسفة في مصر، ويهمنا هنا كتابه القيم عن (التصوف في مصر إبان العصر العثماني) المنشور سنة 1946، والذي تناول فيه مظاهر التصوف العملي في تلك الفترة، ودرس الطرق الصوفية، والظروف التي ازدهرت فيها.

زكي مبارك: أديب، ودارس للأدب أساسًا، لكنه تعرض للتصوف الإسلامي في أطروحته للدكتوراه التي قدمها للجامعة المصرية سنة 1937 بعنوان: (التصوف في الأدب والأخلاق)، وقد نشرت في جزأين سنة 1938، تحدث فيهما عن السكندري، وابن عربي، والحلاج، وابن الفارض، والشعراني، والنابلسي، وذي النون المصري.

3.التحليل الأدبي والتحليل الفلسفي

ومن الطبيعي أن يغلب التحليل الأدبي على التحليل الفلسفي للظواهر الصوفية التي تناولها زكي مبارك، ولكنه يقدّم كثيرًا من المباحث المبتكرة، ومنها على سبيل المثال موضوع: الحياة في مصر من خلال كتابات الصوفية الذي يمكن أن يضيف كثيرًا في مجال الدراسات الاجتماعية.

محمد أبو ريان: تلميذ المستشرق الفرنسي كوربان، تخصص في فلسفة الإشراق الصوفية عبر درس فلسفة أكبر ممثل للتصوف في العالم الإسلامي، وهو أبو الفتوح يحيى السهروردى (المقتول بأمر صلاح الدين الأيوبي سنة 587هـ)، وله في هذا الصدد كتابان: أحدهما محقق بعنوان: (هياكل النور) للسهروردى، والثاني دراسة تفصيلية بعنوان: السهروردى المقتول وفلسفته الإشراقية.

علي سامي النشار: من أشهر دارسي الفلسفة الإسلامية درس في إسبانيا، وكتب عدة مجلدات ضخمة عن: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، خصّص الأول لعلم الكلام، والثاني للشيعة، والثالث للتصوف. وهو يتميز باتجاهه السلفي الواضح، ولكنه يعرض التصوف الإسلامي بصورة شاملة، بدءًا من آراء المستشرقين حول مصدره، ثم يتتبع خطواته الأولى لدى العباد والزهاد الأوائل، كما يعرض لآراء ابن تيمية في مدى اقتراب أو ابتعاد الأصول الصوفية من الدين الإسلامي.

– عبد الرحمن بدوي: من أكثر الدارسين العرب إنتاجًا في مجالات التحقيق، والترجمة، والتأليف، وهو باحث موسوعي تغطي مؤلفاته جوانب متنوعة من الفكر الفلسفي الإسلامي، نشر في مجال التصوف: رسائل ابن سبعين، وترجم كتاب ابن عربي حياته وتصوفه لأسين بلاثيوس، كما ألّف (شطحات الصوفية) سنة 1949م، و(رابعة العدوية) وأخيرًا نشر دكتور بدوى كتابًا خاصًّا عن التصوف الإسلامي يبدو أنه يعتبر حلقة أولى في مشروع طويل بعنوان: (تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني الهجري)، الكويت 1974م.

محمود قاسم: من أكثر دارسي الفلسفة الإسلامية تنوعًا في دراساته. كرّس الفترة الأولى من حياته العلمية لدراسة ابن رشد، والاتجاهات العقلية في الإسلام، كما ترجم عددًا من الكتب في علم الاجتماع، وألّف كتابًا في المنطق الحديث ومناهج البحث العلمية، ولكنه في الفترة الأخيرة من حياته اتجه إلى دراسة فلسفة ابن عربي، وأعجب بها كثيرًا، وعقد بين هذا الصوفي وبين الفيلسوف ليبنتز Leibnitz مقارنة – تعتبر الأولى من نوعها بعنوان: (محيى الدين بن عربي وليبنتز) القاهرة 1972. كما كتب بحثًا هامًّا عن نشأة التصوف الإسلامي، وبحثًا آخر عن التصوف السني، وخاصة عند المحاسبي، وله كتاب “الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي”.

عبد الحليم محمود: شيخ الأزهر الأسبق، درس في فرنسا الحارث المحاسبي، وطبع كتابًا عنه بالفرنسية، ثم أعاد كتابته باللغة العربية. ويعتبر الشيخ عبد الحليم محمود أهم باحث نقل التصوف من مجال الجامعة والدراسات الأكاديمية إلى المستوى الشعبي، فنشر مجموعة كتب تُعرف بأعلام الصوفية من أمثال أبي العباس المرسي، وأبي الحسن الشاذلي، والغزالي، والمحاسبي، وغيرهم وذلك بالإضافة إلى تحقيقه عددًا من مصادر التصوف الأساسية، مثل: المنقذ من الضلال للغزالي، واللمع للطوسي، والرسالة للقشيري، والرعاية للمحاسبي.

أبو الوفا التفتازاني: تخصّص بالكامل في دراسة التصوف الإسلامي، وقد درس في كل من إسبانيا، والولايات المتحدة، وهو باحث موضوعي أصيل، يتميز بتحليلاته العميقة، ودراساته المستوعبة للشخصيات التي تناولها، وأهمها: “ابن عطاء الله السكندري وتصوفه”، و”ابن سبعين وفلسفته الصوفية”، وله دراسة قيمة عن الطرق الصوفية في مصر، وكذلك: الطريقة الأكبرية (نسبة إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي)، أما كتابه “مدخل إلى التصوف الإسلامي” فإنه يحسم كثيرًا من القضايا التي تردد فيها الباحثون من قبل، ويمكن القول بأن الدكتور التفتازاني يعايش الصوفية عن قرب، فقد اختير ليشغل منصب “شيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر”، وذلك بالإضافة إلى عمله الجامعي، كأستاذ للتصوف والفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة القاهرة.

محمد كمال جعفر: درس في إنجلترا، تخصص في الصوفي المشهور سهل التستري، أحد رواد التصوف في القرن الثالث الهجري، وحقق معظم تراثه الصوفي، كما حقق أخيرًا (اصطلاحات الصوفية) للكاشانى، ومن أهم مؤلفاته: “التصوف: طريقًا وتجربة ومذهبًا”، القاهرة 1970، ويتميز دكتور جعفر بفهم عميق للنصوص الصوفية القديمة، وأسلوب أدبي في طريقة عرضها.

كامل مصطفى الشيبي: باحث عراقي تتلمذ على كل من دكتور عفيفي، ودكتور النشار،  وتخصص في موضوع هام هو (الصلة بين التصوف والتشيع)، وجمع أبحاثه أخيرًا تحت هذا العنوان في جزأين: خصص الأول منهما للعناصر الشيعية في التصوف، والثاني للعناصر الصوفية في التشيع، الطبعة3، بيروت 1982.

عثمان يحيى: باحث سوري، أعطى كل جهوده لمجال التحقيق العلمي للمؤلفات الصوفية، وعملية إحصائها. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في إحصاء مؤلفات ابن عربي، كما نشر (ختم الأولياء) للحكيم الترمذي – بيروت 1965، وقد قام، قبل وفاته، بجهد مشكور في تحقيق بعض أجزاء كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي.

تلك نبذة سريعة عن أشهر – وليس جميع – دارسي التصوف الإسلامي في العالم العربي، ولا شك في أن مؤلفات كل منهم قد أصبحت تعتبر مرجعًا أساسيًّا في مجال تخصصه، وذلك بالإضافة إلى أنهم شغلوا جميعًا منصب الأستاذية في الجامعات التي عملوا بها، ومعنى هذا أن عددًا كبيرًا من الطلاب قد تخرجوا على أيديهم، كما أنهم كوّنوا جيلًا من الشباب الدارسين، الذين بدأوا ينشرون التراث الصوفي محققًا، ويبرزون عناصر القوة فيه.

لكن يبقى أن يحاول الدارسون المحدثون بحث التصوف الإسلامي المعاصر في مظاهره المختلفة، وخاصة لدى الطرق الصوفية[4]، أو في الإنتاج الأدبي والفكري لدى بعض الكتّاب.

وسوف تظل دراسة الصلة بين التصوف الإسلامي وعناصر الثقافة الأخرى من ناحية، وبينه وبين واقع المجتمعات الإسلامية التي ازدهر فيها من ناحية أخرى – من أهم الواجبات الملقاة على دارسي التصوف الجدد. كذلك يمكن القول بأن التراث الأدبي والفكري الذي خلّفه لنا صوفية المسلمين ما زال حتى اليوم ملقى تحت غبار السنين، دون عناية كافية، مع أن إعادة بعثه، واكتشافه، وتسليط الضوء عليه مما يساعد كثيرًا في أعطاء دفعة للأدب والفكر الإسلامي بصفة عامة في عصرنا الحاضر.

إن التصوف ما يزال يلعب دورًا هامًّا في حياة مسلمي أفريقيا، وقد كان وراء نشر الإسلام نفسه في بعض مناطقها. وبعض الدعوات الإصلاحية التي ظهرت في العصر الحديث ذات صلة عميقة بالتصوف  وفي مقدمتها “الدعوة السنوسية”. وهذا ما يعطي دراسة التصوف أهمية أخرى كواحد من روافد التجديد الديني، والبعث الروحي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

إن الإنسان المعاصر يحتاج السلام النفسي والأمن الروحي أكثر من الأمن الحضاري والاجتماعي في الأزمات والحروب والمآسي الإنسانية التي يعيشها اليوم العالم المعاصر. فالإنسان في حاجة ملحة إلى الثقافة المتصوفة في عصر طغت فيه المادة على الروح، وهاجمت علينا الفتن من كل حدب وصوب. ولا يمكن أمن حضاري بغير أمن روحي، ولا أمن روحي بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير دين، لأن الدين في أسمى معانيه خلق، ولا دين إلا بالتكامل بين الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بالتكامل والتوازن. فالساحة إذا خلت من التصوف ملئت بالتطرف والإرهاب والتدمير.

في الفترة المتأخرة، ومع تنامي العصبيات والتيارات التكفيرية، بات حضور ابن عربي، والتصوف عمومًا، حاجة لدى المؤمنين الذين يبحثون عن إيمان فردي، وتثقل عليهم الجماعة التي تحوّلت في معظمها إلى حالات من الانغلاق والعنف. وبات التكفير هو الأداة التي تستعملها الجماعات في مواجهة خصومها. وقد تلقى نصر حامد أبو زيد سهام هذه الجماعات وهذه الثقافات المنغلقة.

كتب نصر حامد أبو زيد معرّفًا بابن عربي كأحد رموز التصوف الإسلامي، وفي كتابه (هكذا تكلم ابن عربي) سنجد الإيمان القائم على الحب وتقبّل الآخر، ويقول: “إن فكر ابن عربي يمثّل رصيدًا ثريًّا في تأكيد قيم الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل. ويقدم صورة عن روحانية الإسلام بعد أن طغت أفكار هنتنجتون عن صراع الحضارات، وركّزت على الأصولية الإسلامية متغاضية عن الأصولية اليهودية في إسرائيل التي تعتبر النموذج الخالص للتعصب والعنصرية، ومحاولة نشر الإسلاموفوبيا في العالم لخدمة الصهيونية.

إن التصوف يجمع كل الأديان، بل كل الثقافات بما يمثّله من علاقة خاصة بين المؤمن وربّه. إذ يعتبر المتصوفة أن التجربة الروحية الذاتية هي الأساس[5].

لقد كان لأبي زيد تجربة طويلة مع كتب ابن عربي، فرسالته لنيل الدكتوراه كانت “فلسفة التأويل عند ابن عربي”، وهو هنا يكتب عن سعي ابن عربي إلى محاولة التواصل مع “مصدر المعرفة” من خلال “التجربة”، بدلًا من الانشغال بنصوص الشريعة ودلالاتها التي مزقت المؤمنين إلى شيع ومذاهب.

التصوف من البناء التنويري إلى التحرر العقلي

(تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد) هو كتاب تفسير القرآن من تأليف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ جامعة الزيتونة بتونس.

لقد ظلّ الصراع قائمًا إلى يومنا هذا في الامتزاج بين النزعة العقلية والنزعة الصوفية بشكل عام، أي التصوف والمنطق، فإن التصوف هو (الخُلُق)، وهذا منطق. إنه الفكر الوجداني، فكر محبة وعشق، قدرة التحكم بالذات، والحب الإلهي، فهذه المفاهيم تحمل معها منطق الحياة، ومن هنا جاء الصراع التصوفي – الموسيقي، وهنا كانت البداية. حرب على الفن لقد حاربت الصوفية الفنون في البدء، ولكنها ساعدت في شهرتها من الوجهة الذوقية والعملية، فمثلًا حاربت الصوفية الغناء، ولكن في حياة الصوفيين كان الغناء أول التعاليم، وعلى سبيل المثال هناك الكثير من أقطاب الغناء قد بلغوا شهرتهم ونبغوا انطلاقًا من البيئات الصوفية. فحياة الصوفية قامت على الذوق، والذوق أساس التفوق في الفنون، والغناء تحديدًا يتطلب ذوقًا رفيعًا في حسن الأداء والمعرفة الصوتية، فكانت هنا بداية العلاقة الصوفية الموسيقية. تعتبر الموسيقى متلازمة مع الأدب الشعري أحد أهم الطرق للوصول للتصوف الحقيقي، والموسيقى الصوفية هي ليست (حلقة ذكر دينية) فقط، إنها موسيقى خاصة روحانية تنطلق من العازفين أو المغنيين باتجاه المستمع لاستيعابها بغية بلوغ حالة (النشوة الروحية)، وكما يسميها بعضهم (تغذية الروح). الثقافة الوجدانية والروحية الصوفية راسخة في شعوب الشرق عمومًا، ولارتباط ذلك في المناطق التي نشأت فيها الديانات والفلسفات القديمة، والتي نقلت إلى العالم (بالأخص الدين) عن طريق الموسيقى، فبدأ المتصوفون أقصر الطرق لنشر أفكارهم الروحية وطرائقهم التصوفية عن طريق الموسيقى غناءً وعزفًا، ولأن الثقافة الموسيقية بالأساس هي اللغة التوحيدية التي تجمع البشر شرقًا وغربًا. كان الصوفيون يفضلون البقاء بصحبة الفقراء وقطاعات المجتمع المستضعفة، وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدل على البساطة اللحنية الموسيقية في الأداء الصوفي وقلة التعقيد النظري، والفطرة في التنغيم وتداول الإيقاع والتكرار الممنهج العفوي لزوم الأبيات الشعرية الجديدة، وإن البسطاء من الناس في غنائهم الروحي يستطيعون حقًّا الوصول لمرحلة (الوعي المستنير الدائم) (النيرفانا – الانطفاء)، ولأنها أعلى الحالات التصوفية والقيمة العليا للحب الإلهي، والتي أطلق عليها الفلاسفة تسمية (الوحدة المطلقة)، أو (الواحدية). بقيت الموسيقى الصوفية موحدة تقريبًا في نوعية الأداء، (وأقصد بذلك منطقتنا الشرقية)، وتراوحت بين الغناء ومرافقة الدفوف، وأحيانًا في استخدام آلة (الناي). ولأن بقية الآلات الموسيقية أو التعدد الصوتي قد يُفقِد اللحنية الأساسية متعتها ونشوتها التي يريد المغني إيصالها له. وخلال عصرنا الحديث وإن اشتركت بعض الآلات المرافقة للغناء فهي حصرًا شعبية وقديمة تراثيًّا. وقد اعتمدت الطرق الصوفية المتعددة أحيانًا أسلوبًا واحدًا في الأداء، وتارة في ابتكارات جديدة تخدم مصلحة التصوف في هذه المنطقة، أو تلك الطريقة بالذات، ولعل أشهر الطرق الصوفية المعروفة لدينا والتي تم تداولها عبر آلاف السنين هي (المولوية)، والتي أسسها (جلال الدين الرومي) وهو أفغاني الأصل عاش في مدينة (قونية) التركية، وتنقل بينها وبين دمشق وبغداد، وهو ناظم معظم الأشعار التي تذكر في (المولوية)، وتلك هي طريق الحركة الدائرية الشبيهة بالرقص (أحادي الحركة). واشتهر في هذه الطريقة النغم الموسيقي الصادر عن آلة (الناي) والتي اعتبرها (الرومي) أكثر الآلات وسيلة للجذب الإلهي والروحي، لشبه صوته من أنين الإنسان. والمريد المولوي يسمى (درويشًا)، ويمارس طقوسه الصوفية في مكان سمي وقت ذاك (سمع خانه)، ولاحقًا (التكية). أما (الذكر) فهو مجموعة من الابتهالات والأدعية والأناشيد الدينية التي يمنع استخدام الآلات الموسيقية فيها، باستثناء الإيقاعات كالمزاهر والدفوف. وحلقة الذكر هي ما يؤدى في المولوية، وتعتبر الطريقة الصوفية المسؤولة ـ بالدرجة الأولى ـ عن ظهور الموسيقى الدينية الصوفية واستمرارها. ومن أشهر الطرق الصوفية المعتمدة على العلاقة مع الموسيقى وتتواصل معها حتى يومنا هذا: الطريقة القادرية، الطريقة النقشبندية، الطريقة الشاذلية، الطريقة الأكبرية، الطريقة الرفاعية، وهناك من الطرائق التصوفية من حاول في الكثير من الابتكارات لإدخال الفرق الكبيرة والحديثة، وهذا ما سنتطرق له لاحقًا. وتعتبر (قصيدة البردة) إحدى أشهر قصائد المدح النبوي والتي كتبها (محمد بن سعيد البوصيري) من مصر في القرن الحادي عشر الميلادي، وأجمع الكثير من الباحثين والنقّاد على أنها (أفضل قصائد المديح النبوي)، حتى إن هذه القصيدة قد ألهمت الكثير من الشعراء والأدباء على مر العصور لكتابة قصائد مشابهة، ولعل أشهرها كانت تلك التي كتبها الشاعر (أحمد شوقي)، وغنتها (أم كلثوم)، وسمّيت قصيدة (البردة) (الكواكب الدرية في مدح خير البرية)، وقد أدّاها الكثير من شيوخ الصوفية، وأحيانًا بطرائقهم الخاصة وطبقًا لمناطقهم وظروف نغماتهم الموسيقية في القاهرة وبغداد ودمشق وحلب ونيسابور والمغرب العربي.

المرأة والتصوف

قال (الشيخ الأكبر) المتصوف (محيي الدين بن عربي): “لا يعرف قيمة المرأة إلا من عرف سبب وجود العالم”، فلم يكن التصوف حكرًا على الرجال فقط، فقد كان هناك من المتصوفات ممن جعلن هذا الشكل التعبيري أوسع انتشارًا وشهرة في حضرتهن، والذي تجلّى في (الحب الإلهي)، و(العشق الإنساني)، وهي صفات متلازمة مع الأنوثة الحقة التي مارست الصوفية، وفي كثير من النصوص الصوفية نرى أنها أصبحت المظهر الأعلى في مبدأ (الحياة الإنسانية)، وكما قيل: (إن المرأة في صورتها الوجودية تكثيف للجمال الكوني)، … ولعل أشهر المتصوفات في التاريخ الإسلامي كانت (رابعة العدوية). وتعتبر بلدان تركيا، إيران، العراق، سوريا، مصر، تونس، المغرب، الهند، باكستان، من أشهر الدول التي ظهرت فيها الطرق الصوفية الموسيقية وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل كل ما يقدم الآن على المسارح وضمن المهرجانات الحديثة لهذا النمط يعتبر صوفيًّا؟

والجواب لا. ولأننا بدأنا بالحديث عن ماهية الصوفية، فلا يمكننا أن نتخيل تلك التجارب الحديثة الممزوجة بمجموعة من الآلات الحديثة، وأحيانًا المعاصرة بالعمل الصحيح أو الجيد، فأحيانًا (التحديث الموسيقي)، أو ما يسمى (عصرنة التراث) ليس صائبًا، فقد عرفناه سمعيًّا كما هو كان، ودخل أنفسنا وألهمنا بطريقته العفوية وصوته البيئي، وعملية التحديث الموسيقي تبعده أكثر مما نتصور عن شكله وأدائه الروحي، ولا يمكن أن نعتبر أيضًا من يقدم الآن أشعار الحلاج وابن عربي والرومي وغيرهم ضمن غناء وتلحين معاصر هو صوفي، إنها طرق جديدة لتقديم عالم موسيقي معاصر تمتزج فيه الأفكار والمعتقدات الحديثة، وتلك كلها لا تمت بصلة للفهم العميق الصوفي الذي أراده عمالقة المتصوفين في منطقة الشرق. أنا لست ضد تقديم تجارب موسيقية معاصرة كهذه، فهي على الأقل تحمل بعض الفكر التنويري الفني، لكنني ضد عملية المزج الموسيقي وعلى سبيل المثال (الجاز الصوفي)، (التصوف مع الأوركسترا السيمفوني)، (الغناء الصوفي بمرافقة الأورغ)، فنشعر بأن كل ذلك أشبه بالبدع السحرية أو الشعوذة في عالمنا الموسيقي، وأجرؤ على القول: إن الكثير من تلك التجارب كانت لموسيقيين (فاشلين) أرادوا من خلال هذا (التصوف الموسيقي!) أن يقدّموا لنا نمطًا موسيقيًّا جديدًا (غير قابل للتصديق) بسبب غرابته. التصوف (Mysticism)  نشاط معرفي وسلوكي يتخذه الإنسان لتحقيق الكمال الأخلاقي والاتصال بمبدأ أسمى للتواصل مع الحقيقة، وذلك لتحقيق سعادته الروحية، والتصوف مشترك بين الديانات والفلسفات والحضارات المتباينة في عصور مختلفة. والتجربة الصوفية واحدة في جوهرها، لكنها مختلفة في أساس تفسيرها المتأثر بالحضارة التي ينتمي إليها كل صوفي.

 والتصوف نوعان: ديني وفلسفي، فالديني ظاهرة مشتركة بين الأديان جميعًا، سواء في ذلك الأديان السماوية أو غيرها من غير السماوية، والشرقية القديمة ومنها (البوذية).

أما التصوف الفلسفي فهو قديم عرف في مناطق الحضارات القديمة. وكان التصوف الديني يمتزج أحيانًا بالفلسفي (كما هو الحال في بعض صوفية الإسلام والمسيحية)، ولقد انتشر الأداء الصوفي بين البسطاء والفقراء والمستضعفين بسبب ما يتوافر عليه من بساطة لحنية وقلة التعقيد النظري، ومن خلال الغناء الروحي يستطيع هؤلاء البسطاء حقًّا الوصول إلى مرحلة “الوعي المستنير الدائم”، أو “النيرفانا – الانطفاء”، وهي أعلى الحالات التصوفية والقيمة العليا للحب الإلهي، والتي أطلق عليها الفلاسفة تسمية “الوحدة المطلقة”، أو “الواحدية”. ومن سمات الأداء الموسيقي المقترن بالتصوف: الفطرة في التنغيم، تداول الإيقاع، التكرار الممنهج العفوي لزوم الأبيات الشعرية الجديدة، وفي منطقتنا الشرقية بقيت الموسيقى الصوفية موحدة تقريبًّا في نوعية الأداء، وتراوحت بين الغناء ومرافقة الدفوف، وأحيانًا في استخدام آلة “الناي”.

[1] د. محمد الطاف والدكتور أبو بكر، دور التصوف في الأمن والسلام الاجتماعي، مجلة القسم العربي، جامعة البنجاب، لاهور – باكستان، العدد 24، 2017م.

[2]د. حامد طاهر، معالم التصوف الإسلامي، القاهرة،دار النشر نهضة مصر للنشر، 2010 م،الصفحات 15- 16.

[3]L. Gardet, L’Islam, religion et comminate, p. 408 , Paris 1970.

[4]دكتور أبو الوفا التفتازاني، بحث “الطرق الصوفية في مصر”، حوليات كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1968،الجزء2، الصفحة 25.

[5]د. نصر حامد أبو زيد،هكذا تكلم ابن عربي، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1999م، بتصرف من صفحات الكتاب.



المقالات المرتبطة

صعوبات تحديد الدين

اصطدم المؤلفون، منذ القرن الثامن عشر ميلادي، عندما بدأت المحاولات الأولى لدراسة الدين دراسة علمية، بمشكلة تحديده، وهي مشكلة ستتعقد بقدر ترسّخ المذهب الإنسي الفلسفي

تجربة الحياة عند الإنسان

تفتتح تجربة الحياة عند الإنسان، على عالم الأحداث التي تحيطه منذ ماضيه الخاص وحاضره، مرورًا بما يمكِّنه من المدى والعمر… إلا أنها لا تتوقف عند ذلك؛ إذ قاطرة الحياة تتجاوز “أناه” في حدودها الزمنية …

الوعي التأريخي كأساس للوحدة الإسلامية

تتناول الدراسة نماذج من عمليات التزوير الممنهج قام بها بالتدريج مجموعة من “المؤرخين”، فظلّت الأمة الإسلامية تتحمل تبعاتها إلى يومنا هذا

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<