صورة الله بين العقل والوهم

صورة الله بين العقل والوهم

شهد العالم الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نزوعًا لافتًا نحو المادية. وامتد تأثير ذلك إلى الساحة الإسلامية. والمقصود بالمادية هنا رؤية فلسفية تقوم على أساس التفسير المادي الحصري للعالم بدعوى العلمية. وقد تناول أهل التحقيق العلمي ظاهرة التوجّه المادي بالنقد والتشريح، كما عالجها الشهيد مطهري في كتابه “الدوافع نحو المادية”، محلّلًا لأهم الأسباب والدوافع التي أدّت بالغرب إلى الوقوع في حبائل هذا المنزع، والذي أدّى إلى انحسار التدين خلال القرنين المذكورين.

لاحظ الشهيد مطهري أنه لم يقتصر وجود المادية على القرون الأخيرة، فقد تردد صداها في العصر الجاهلي، وأيضًا في العصور الإسلامية حيث عُرف أتباعها باسم الدهريين. إلّا أنه لم يرق ذلك إلى مستوى وجود مدرسة فكرية مادية في العصور القديمة، وإنما اقتصر الأمر على بعض الميول الفردية نحو المادية. كما لاحظ بهذا الصدد أن ظهور المادية بصورة مدرسة فكرية في العصر الحديث، لا يرتبط بالتقدم والتطور العلمي، بدليل أننا نجد أفرادًا ماديين على مر العصور في الطبقات الجاهلة والمثقفة معًا، تمامًا كما نجد مؤمنين إلهيين من مختلف المستويات، بما فيها طبقة العلماء.

تعود الأسباب والدوافع نحو المادية في العصر الحديث – بحسب الشهيد مطهري – إلى عامل القصور في الفهم الديني والفهم الفلسفي والاجتماعي. والجدير بالذكر، أنه، ومن بين العوامل التي عدّدها بوصفها دوافع نحو المادية، لا نجد شيئًا يذكر بخصوص التطور العلمي نفسه، وإنما تستند الدوافع في مجملها إلى قصور في التوجه المعنوي نتيجة سوء الفهم الذي أصاب الأديان والفلسفات والأنظار الاجتماعية، وهذا ما يؤكد على حقيقة أن دعاة التوجه المادي لم ينجحوا في إيجاد بدائل نظرية، وإنما نجحوا في صرف الناس عن الأديان لجهة تحديد الأولويات والاهتمامات؛ أي إن ما يعد من الدوافع نحو المادية هو في واقعه صوارف صارفة عن الدين لا غير.

وعلى صعيد قصور المفاهيم الدينية، فهو يرى أن الكنيسة تحدثت بصورة بدائية عن اللَّه والماورائيات؛ فقد قدّمت اللَّه سبحانه على صورة كائن بشري، وحيث إن هكذا تصور لا يتفق مع الموازين العلمية والعقلية الصحيحة، فقد أدى ذلك إلى ردة فعل قوامها التنكر لوجود الله. والمقصود بالموازين العلمية هو نفس المبادئ الأساسية التي يستند إليها الأسلوب العلمي، بصرف النظر عن تقدير العلماء لما تستلزمه هذه الموازين من دلالات على صعيد الرؤية العامة. فالنجاح العلمي يتوقف على مراعاة الأساليب العلمية، أما تقدير هذه الموازين من ناحية لوازمها الفلسفية فهو يخضع للفهم المنطقي السليم، والذي قد لا يتوفر لدى الكثير من العلماء التجريبيين بالضرورة. في هذا السياق، يرى عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية وولتر أوسكار لندبرج أن المبادئ الأساسية التي يستند إليها الأسلوب العلمي، هي ذاتها دليل على وجود الله. وقد ينجح كثير من العلماء في أعمالهم كعلماء، ولكن دون أن يتوقف هذا النجاح على مدى تقديرهم للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها الأسلوب العلمي.

من هنا، يحيل لندبرج السبب في الاندفاع نحو المادية – مضافًا إلى عامل انعدام العدالة الاجتماعية – إلى الوهم الذي يخضع له عقل الإنسان في تصوره لله، والذي يزول مع نضوج التحليل المنطقي وما يحتكم إليه عقل الإنسان من قوانين مقررة تقريرًا لا يخضع لإرادة الإنسان وميوله، فيدرك عندئذ أن صورة الله التي كان يمتلكها منذ طفولته بإيحاء من التعليم المغلوط ما هي إلا توهم لا واقع له.

لقد قالوا: “إن المسافة بين عين اللَّه اليمنى واليسرى تعادل 6000 فرسخ”[1]. ولا شك أن مثل هذا التصور المغلوط الذي يقدمه بعض أتباع الدين للناس عن الله والدين، لن يكون موضع إنكارهم فحسب، بل سوف يفضي في نهاية الأمر إلى الانصراف عن سائر المفاهيم الدينية والنفور منها.

ولا شك أن التصورات الوهمية من شأنها أن تترك مردودًا هائلًا من السلبية في عقيدة الناس اتجاه صورة الله. كما سوف تنعكس في أذهان علماء تلك القرون – بوحي من التأثير الكنسي – بصورة انزياحات مفهومية تقع في خدمة الأهداف الوضعية حتى ولو أدّى ذلك إلى إعطاء صورة أكثر محدودية وقصورًا عن الله.

فقد كان أوغست كونت الوضعي يتعامل مع فكرة الله كما لو أنه جزء من أجزاء العالم، غاية الأمر أنه موجود خفي. ذلك أن الله تعالى يتصرف في الظواهر التي ما زال العلم عاجزًا عن معرفتها والكشف عنها. أما الظواهر التي كشف عنها العلم فهي ظواهر طبيعية، ولا حاجة لافتراض وجود اللَّه تعالى بوصفه الفاعل فيها. وبذلك يمكن تقسيم ظواهر العالم على قسمين: ظواهر كشف العلم عن علتها، وظواهر ما زالت مجهولة العلة لنا. وبالتالي، فما لا نعرف العلة فيه، ننسبه إلى اللَّه. وما نعرف علته، نقول إنه أمر علمي طبيعي ولا ربط له باللَّه تعالى. وفي النتيجة نتصور الله كموجود خفي قابع في زاوية معينة من هذا العالم، كما نتصور أن نشاطه يقتصر على مجال المجهولات فقط.

من هنا، سوف يتم استثمار فكرة إله الفراغات أو إله الفجوات هذه بشكل واسع، والتي تفترض الوجود الإلهي والنشاط الإلهي لأي شيء غير قابل للتفسير العلمي الراهن.

وسوف يضمحل تأثير المفاهيم الدينية التي ترى أن الله تعالى هو إله كل العالم، وأن العالم كله قائم به، وأنه تعالى محيط بالزمان والمكان، لا أنه قابع في زاوية ما من هذا العالم، بل كل مكان تحت قبضته. وليس فعله مقيدًا ومحدودًا في إطار نشاط خاص هو إطار المجهول، بل إن كل ظواهر العالم هي مظاهر لقدرته وعلمه ومشيئته، سواء كشف العلم عنها أم لم يكشف. وأن من يبحث عن علة وجود العالم في داخل العالم، هو كمن يبحث عن علة وجود الثوب (أي الخياط) في داخل أجزاء الثوب.

النظر الصحيح إلى نشاط الله في العالم هو أن نتصور هذا الكون برمته كوحدة منتظمة متناسقة مخلوقة للَّه تعالى. لا أن الله هو إله الفجوات فحسب، والاستثناءات التي لم يتوصل العلم إلى الكشف عنها بعد.

فقد افترض أتباع التوجه المادي أن فعل الإله يقتصر على تفسير الظواهر الطبيعية غير المفهومة، ذلك أن وجود فجوة في فهم بعض جوانب العالم الطبيعي؛ هو أمر لا يمكن تبريره ظرفيًّا إلا من خلال وجود سبب متجاوز للطبيعة. وعلى سبيل المثال؛ بما أن العلم الحالي لم يتوصل إلى تحديد كيفية بدء الحياة تمامًا، فلا بدّ أن الله هو سبب بدء الحياة. وهذا الافتراض ربما يغري بعض المتدينين – عن حسن ظن – بالاستناد إلى وجود الفراغات أو الفجوات أو الكرامات في استدلالهم على وجود الإله، والذي يستند في واقعه على وجود نقص في المعرفة العلمية.

وإذا كان دور الإله يتحدد في الـفجوات التي يعجز العلم عن تفسيرها في ظواهر الطبيعة؛ فهذا يقودنا إلى القول بأنه كلما تمكن العلم من إعطاء شرح أدق للعالم تراجع دور الإله في هذا العالم. أي إن كل ما يمكن تفسيره بعلم الإنسان فهو ليس من اختصاص الإله، وأحد أسباب الأزمة المعاصرة في الإيمان بالأديان تعود إلى تراجع قيمة إله الفراغات مع تطور المعرفة العلمية، وهذا يفسر لنا وجهًا من وجوه سحب البساط من تحت أقدام الدينيين.

وقد استلفت هذا الأمر انتباه الكثير من الباحثين في الأديان، فنبهوا إلى أن الله لا يرى فقط في الفجوات، وإنما يرى أيضًا في نظام وقوانين العالم. وفي الاعتقاد بأن الطبيعة كلها لله ومن خلق الله العظيم، وأن الله يطور العالم بانتظام، فلا يصح أن نجعل الله إله الفراغات في المعرفة البشرية. وحيث إنه يوجد في هذا الكون المادي فكر وخطة وقدرة يمكن أن نرى الله من ورائها، وأن الله موجود في كل الطبيعة، فمن الخطأ استعمال الإله لسد فراغات قصور معرفتنا أو الاعتقاد بأن الله لا يستبطن القانون الطبيعي وإنما يوجد فقط في ما نلاحظه من ألغاز غير مفسرة علميًّا.

من هنا، يجب علينا أن نجد مفهوم الإله فيما نعرفه وليس فيما نجهله. بل إن الله لا يستبطن القانون الطبيعي فحسب؛ وإنما هو فعال في ما وراء الطبيعة أيضًا.

من جانب آخر، يفسر أوغست قانون تطور التفكير البشري ضمن ما يعرف بقانون الحالات الثلاث أو المراحل الثلاث:

1- المرحلة اللاهوتيّة أو الإلهية، والتي تعني بنظر كونت المرحلة الخرافيّة أو الخياليّة أو الأسطوريّة. في هذه المرحلة كان الإنسان ينظر إلى الأشياء الطبيعيّة على أنها تحتوي على نوع من الحياة، كالأصنام والكواكب التي كان ينظر إليها على أنها ذات نفوس حية. وبالتالي كان يسود الاعتقاد بأنّ لها تأثيرًا في حياة البشر بحيث تتحكم في مصيرهم. ولأنه كان يعتقد بأنها مما تضر وتنفع، كان الإنسان يعبد هذه الأشياء الطبيعية. ثم بعد ذلك، تحول إلى عبادة كائنات علويّة غير منظورة، كان يسميها إله الزرع، وإله المطر، وإله الصيد.. إلى أن وصل في نهاية المطاف إلى عبادة الإله الواحد مع ظهور الأديان السماوية. ومن خصائص هذه المرحلة اللاهوتيّة أنّ الظواهر والأحداث تفسر بالاستناد إلى عوامل غيبية فوق الطبيعة، وأنّ المنهج المتبع فيها هو منهج خياليّ وهميّ، لا صلة له بالواقع.

2- المرحلة الميتافيزيقيّة أو الفلسفية، وفي هذه المرحلة انتقل الإنسان من البحث عن علل الأشياء في داخل الأشياء، وليس في خارجها. وكان يعتقد أن في داخل الأشياء علل متعدّدة؛ من قبيل القوّة الميكانيكيّة، والقوّة الفيزيائيّة، والقوّة الحيويّة، وبعد ذلك قام بتوحيد هذه القوى المتعدّدة في قوّة واحدة هي الطبيعة. وقد ساد نتيجة ذلك انطباع قوي بأن كل شيء يمكن تفسيره من خلال الطبيعة وحدها، وإن لم يتوصل الإنسان بعد إلى معرفة العلل الخاصة بكل ظاهرة.

3- المرحلة الوضعيّة أو العلمية، وهي مرحلة انتقال العقل من الأوهام الذاتيّة؛ أوهام اللاهوت والميتافيزيقا، إلى الحقائق العلمية الوضعيّة؛ بدعوى أنه من خلال العلم الوضعي، يدرك الأشياء على حقيقتها، وكما هي في الواقع. وقد بات واضحًا أن إنسان العصر العلمي لا يؤمن بالحقائق المطلقة واليقينيّة، وإنما يبحث عن الأشياء وقوانينها من خلال واقعها الماديّ الوضعيّ القائم على الملاحظة والتجربة، هذا العلم هو الذي يسمح لنا بالتوصل إلى العلل الخاصة بكل ظاهرة.

وهكذا كلّ إنسان يمر بهذه الحالات الثلاث في مراحل عمره: ففي بداية حياته يقنع بالحلول الخفية الغيبية الخيالية. وفي مرحلة متقدمة من عمره يميل إلى البحث عن علل الأشياء في داخل الأشياء. ثم في مرحلة النضج يعتمد على ملاحظة الظواهر، وعلى التجارب للوصول إلى القوانين التي تحكم الأشياء.

خلاصة المسألة، إن أوغست كونت يريد أن يقول: إن الدين مجرد ظاهرة اجتماعية طارئة عابرة وليست أصيلة في حياة الإنسان. وأن التطور العلمي يساعد الإنسان على التخلص من المرحلة الدينية التي هي خيالية بنظره. ولا شك أن هذا النمط من التأسيس العلمي الوضعي يفسر لنا أهم دافع من الدوافع نحو المادية.

وقد سجلت ملاحظات كثيرة على قانون الحالات الثلاث أهمها أن المراحل التي تجتازها المجتمعات تختلف من مجتمع لآخر. ولو أننا قمنا باستقراء تاريخ كلّ المجتمعات الإنسانيّة، لتبيّن لنا عدم انطباق نظرية أوغست كونت على كثير من هذه المجتمعات؛ إذ هناك مجتمعات ما زالت إلى يومنا هذا تفسّر الحقائق العلميّة المكتشفة حديثًا تفسيرًا دينيًّا أو ميتافيزيقيًّا، بل إن الفهم الوضعيّ قد يكون سابقًا على الفهم الدينيّ أو الميتافيزيقي لا العكس.. فقد كانوا قديمًا يفهمون الظواهر من خلال الحقائق الرياضيّة والفلكيّة. مضافًا إلى ذلك، فإن تطوّر الظواهر الاجتماعيّة لا يرجع إلى عامل التفكير وحده، وليس التفكير هو السبب الوحيد لهذا التطوّر.

يضيف الشهيد مطهري إلى هذه الملاحظات ملاحظتين: الأولى، أن دراسة تطور التفكير ينبغي أن تستند إلى التطور في فكر المفكرين أنفسهم، وليس في فكر العوام من الناس. والثانية، أنه لا مانع من التفكير في الظاهرة الواحدة تفكيرًا جامعًا يجمع الحالات الثلاث معًا. فلا معنى لجعل مراحل للتفكير بحيث تكون كل مرحلة مستقلة تمامًا في خصائصها عن غيرها.

مهما يكن من شأن التفسيرات والتصورات الفلسفية والعلمية والتي لا شك في أنها لعبت دورًا كبيرًا في تحديد الاتجاهات الثقافية؛ الاجتماعية والنفسية. إلا أنه لا ينبغي أن نغفل السياق المتشنج، والذي سلكته الكنيسة بوصفها الممثل الرسمي للدين.

تحت عنوان العنف الكنسي، يتحدث الشهيد مطهري عن خطأ الكنيسة، والذي يكمن – مضافًا إلى القصور في رسم المفاهيم – في جانبين:

الجانب الأول: كانت الكنيسة قد اعتبرت من جملة مقدساتها ومبادئها الدينية بعضًا من المعتقدات العلمية الموروثة عن الفلاسفة الأقدمين وعلماء الكلام المسيحيين. ما يعني أن أي مخالفة لهذه الآراء سوف يترتب عليها الارتداد عن الدين. وبهذا فقد دعت الكنيسة إلى تقديس ما ليس مقدسًا، وحملت الناس على الاعتقاد به تحت تهمة الهرطقة والحرم الكنسي.

الجانب الثاني: أن الكنيسة لم تكتف بهذا، بل أنشأت جهازًا بوليسيًّا مهمته التفتيش عن العقائد، وتحليل ما في ضمائر الناس، وتوجيه التهم إليهم بأدنى مناسبة، ومن ثم إنزال أشد العقوبات في كل من لاحت منه أدنى بارقة كفر أو ارتداد. ونتيجة هذه الأجواء الخانقة لا بدّ أن توجد ردود فعل سلبية وعنيفة في الموقف من الكنيسة خصوصًا، ومن الدين بشكل عام.

أعمال العنف والترهيب هذه والتي كانت تقوم بها الكنيسة ضد كل من ظنت أو توهمت منه الكفر بتعاليمها الدينية بل والعلمية، كان لها الدور الأكبر في تنفير الناس من اتباع الدين.

[1] وإذا قلنا إن الفرسخ يساوي 4000 مترًا على أقل تقدير، فإن المسافة بينهما تعادل 24 مليون مترًا.



المقالات المرتبطة

محمّد جواد مغنيّة: مسألة الأخلاق وقيمة الإنسان

على صعيد البعد الأخلاقيّ، عالج “موقع الأخلاق وهدفها” و”الأخلاق والحياة العمليّة” و”الأخلاق والعادات” وصولًا إلى نقد المدارس الفلسفيّة الغربيّة.

من منهج محمد وشجاعة علي كان حصنًا إلهيًّا ورجلًا فدائيًّا

الإمام الراحل روح الله الخميني (قده) عندما نتحدث عن شخصية ونهج الإمام الخميني (قده) هو نفس الحديث عن الإسلام الرسالي

التصوف والطرق الصوفية في مصر: دراسة مقارنة

إذا كان علم العقيدة قد اهتمّ بما يخصّ الإلهيات والنبوّات، وعلم الأصول اختصّ بالقواعد والضوابط العقدية والفقهية…

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<