الروحانية وعلم النفس(8)*
كان البحث عن معنى للحياة بعيدًا عن الدين وبمعزل عن الروح هو أزمة العلمانية الكبرى خلال قرونها الثلاثة الأخيرة، فسعت لملء الفراغ بالأشياء المادية، فزادت من أزمة الإنسان، وأصبح الإنسان الغربي تحديدًا من أكثر البشر معاناةً في هذا الجانب. فبرزت المساعي الحثيثة لملء الفراغ بغير الدين خاصة في ما يتعلق بعلم النفس فبرز ما عرف بـ[علم النفس الروحاني].
تعريف علم النفس الروحاني (Spiritual psychology)
علم النفس الروحي كما يوحي اسمه هو مزيج من الروحانية وعلم النفس، وهو دراسة كيفية تأثير العقل في التطور الروحي وخلاف ذلك صحيح؛ إذ يُشار أحيانًا إلى علم النفس الروحي على أنَّه علم نفس ما وراء الشخصية؛ أي ما يكمن وراء شخصية كل فرد.
الروحانية الحديثة والدين
تاريخيًّا، تمّ استخدام الكلمات الدينية والروحية بشكل مترادف لوصف جميع الجوانب المختلفة لمفهوم الدين، ولكن في الاستخدام المعاصر ترتبط الروحانية بالحياة الداخلية للفرد بدلًا من العلاقة مع الإله.
مؤسّس علم النفس الروحاني
الأب الروحي لعلم النفس الإنساني هو أبراهام ماسلو، عالم النفس الأمريكي المعروف في القرن العشرين. يتم تحديد مساهمته الأكبر في هذا المجال عمومًا على أنها صياغته للتسلسل الهرمي للاحتياجات. “ماسلو” أعلن عن علم النفس الروحاني كقوة رابعة في علم النفس، وذلك من أجل التمييز بينه وبين قوى علم النفس الثلاث الأخرى: التحليل النفسي، والسلوكية، وعلم النفس الإنساني.
علماء النفس الروحانيّون والإلحاد
عالم النفس السويسري الروحاني “كارل يونج” في كتابه الأشهر “الكتاب الأحمر” حاول تغيير مفهوم الله وجعله مفهومًا نفسيًّا. وقد صرّح بذلك وقال: إنّ له إلهه الخاص ككل البشر، وكان يقصد بالله “الروحانيّة”، وليس الجانب الشعائري والتعاليم المقدّسة، ونفى أن يكون الله رمزًا للخير للمطلق، بل إنّ الأمر يعتمد على الإنسان، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، بحسب التقلّبات النفسية لدى الإنسان التي تتراوح ما بين الخير والشر.
واعتبر يونغ أن الإله هو “الروح”، وعلى الإنسان أن يبحث عنها في داخله، وليس في خارجه، فهي غير موجودة في الخارج، ويجب على الإنسان ألا يذعن لمفاهيم الناس التي تُملى على الفرد إملاء، ولكل إنسان روح خاصة به، وإلا لأصبح البشر متشابهين، ولا توجد لهم شخصيّة مستقلة، وهو ما أطلق عليه مصطلح التفرّديّة.
أما المفكرة البريطانية “كارين أرمسترونج” ففي كتابها “حقول الدم” تمسك بذات المفهوم الذي طرحه يونغ قائلة: “كثيرًا ما عاش البشر لحظات من النشوة والكثافة التي تمنح حياتهم المعنى والغاية، وإذا لم يعد الرمز أو الأيقونة أو الأسطورة قادرًا على تقديم قيمة مفارقة للإنسان، فإنّ البشر يقومون باستبداله بأي شيء آخر”.
ومن الكتب ذات الطابع النفسي الروحاني التي لا تعترف بوجود الخالق سبحانه، ولكن تصرّ على أهميّة الإيمان بالخالق، كتاب “اختراع الرب: علم نفس الإيمان وصعود الروحانيّات العلمانية” لعالم النفس “جون ميلز” الذي ينكر وجود الخالق، لكنه يرى أن الإنسان بحاجة إلى اختراعه، وينسج من تلك الأفكار الهشّة إيمانًا ضحلًا لا يبحث عن النور والحقيقة، ولكن يمنح المسكّنات لتكفّ الروح عن طرح الأسئلة الوجوديّة، إذ تحاول هذه الأفكار إزالة الدهشة والرهبة في نظر الإنسان للكون.
أما في كتاب “الدين الفردي: دليل لخلق روحانية شخصية في عالم علماني”، فقد سعى “توماس مور” لتدريب الفرد على صناعة روحانيته من خلال مجموعة من النصائح والحكايات لتنمية القوة الروحية بعيدًا عن الدين، رغم أن جزءًا من نصائح الكتاب هي معانٍ دينية، تم صياغتها في قوالب لفظية جديدة.
البرمجة اللغوية العصبيّة
أسّس هذا الفن الباحثان الأمريكيان “جون غريندر”، و”ريتشارد باندلر” بدعم وتنظير من “غريغوري بيتسون” أحد أبرز الباحثين في معهد إيسالن، والذي عاش على المبادئ البوذيّة في أمريكا، كما اعتمد المؤسسان على ثلاثة من المتأثّرين بالروحانيّة، وهم ميلتون إريكسون الذي تميّز في التدريب على تقنيّات الخروج من العقل إلى “حالات الوعي المتغيرة” تطبيقًا مباشرًا لبوذية زن، وفرتز بيرلز أحد الباحثين في معهد إيسالن المهتمين بفلسفة “وحدة الوجود” وفرجينيا ساتير المعالجة التي عملت بمعهد إيسالن، وأسست أحد أكبر مراكز حركة العصر الجديد في أمريكا ويدعى مركز آفانتا.
وتتضمّن البرامج التدريبية لهذا الفن خليطًا من العلوم والفلسفات الهادفة لإعادة صياغة صورة الواقع في الذهن بحيث تنعكس على تصرّفاته، وهي برامج انتقائيّة تجمع نظرياتها من علم النفس السلوكي والمعرفي وفنون الإدارة وغيرها؛ لذلك تشمل بعض التمارين النفسية أو العلاجية الصحيحة، غير أنها تحتوي كذلك على فرضيّات غير مثبتة، ونظريات مرفوضة علميًّا، بينما تُقدّم على أنها حقائق علمية. كما تكمن خطورتها في تسريب بعض مفاهيم الفلسفة الروحانية، وإقناع المتدربين بالإمكانات غير المحدودة التي يمكن تحصيلها عن طريق العقل الباطن، وتدريبهم على الدخول في حالة اللاوعي لإحداث التغيير الإيجابي في النفس من دون قيود العقل.
العلاج النفسي الروحاني
أفادت دراسة جديدة بأن الناس الذين يزعمون أنهم روحانيون لكنهم غير متدينين غالبًا ما يصارعون للتغلّب على صعوبات نفسية وذهنية.
فقد وجد الباحثون بكلية لندن الجامعية أنّ هؤلاء الناس أكثر احتمالًا لمكابدة مجموعة من مشاكل الصحة النفسية من المتدينين التقليديين أو أولئك الذين يتبعون مذهب اللاأدريين؛ (من يعتقد أن وجود الله أمر لا سبيل إلى معرفته)، أو الملحدين.
يشار إلى أنّ هؤلاء الناس يكونون أميل إلى الإصابة باضطرابات القلق وأمراض الرهاب (مرض نفسي ويعني الخوف الشديد والمتواصل من مواقف أو نشاطات أو أجسام معينة أو أشخاص)، والاضطرابات العصبية، كما أنهم يعانون من اضطرابات في الأكل ومشاكل تتعلق بالمخدرات.
وانتهى الباحثون إلى أن “هناك دليلًا متزايدًا على أن الناس الذين يؤمنون بالمعتقدات الروحانية في غياب إطار ديني أسرع تأثرًا بالاضطرابات النفسية. الجدير بالذكر أن الدراسة بُنيت على مسح لـ7403 من الرجال والنساء اختيروا عشوائيًّا في إنجلترا، وسئلوا عن معتقداتهم الروحانيّة والدينية والحالة النفسية.
مأزق علم النفس الروحاني
إنّ اتخاذ علم النفس الروحاني مسلكًا علمويًّا يحاول أن يرد فيه كلّ نفسيّة الإنسان إلى الأصل المادي الفيسيولوجي فحسب مع الاعتراف بروح دون الاعتراف بإله؛ ووصفه مشاعر الإنسان بأنها نتاج مادي محض عبارة عن تفاعلٍ كيميائي معيّن في الدماغ. هو مسلك ينطلق ابتداء من مغالطة منطقية أي (المصادرة على المطلوب) فإنكار كل الأديان يليه إنكار وجود روح في الإنسان، وهو ما يسمح لباحث أن يردّ كل مشاعر الإنسان إلى مادية جهازه العصبي بدون أي شك لوجود عامل آخر يساهم في صحته النفسيّة يسمى بالروح أو النفس أو القلب!
إنّ خطورة الأمر ليست نابعةً من وجود ملحدين يبحثون في علم النفس، بل من السعي الحثيث لإقامة أساس معرفي في مختلف العلوم – ومنها علم النفس – على أكتاف الإلحاد العلموي!
ويصف “هنري تينك” في مجلة “لوموند” حركة العصر الجديد بأنّها أفكار ضبابيّة تخلط مخلفات الروحية الباطنية القديمة مع الطرق الحديثة في التركيز والاسترخاء وشحن طاقة الإنسان، وتضعها جميعًا في إطار وثني معاصر، مع إبقاء فكرة الإله غامضة، وفتح الباب لتقبّل وجود كائنات غيبية غير مرئية مثل الأرواح والأشباح والكائنات الفضائية. ونضيف على هذه القائمة الشياطين من عالم الجن.
إننا أمام حركة إلحاديّة تصف بعض المناهج العلاجية أو التأمُّلية الخاصة بها على أساس التشبيهات والاستعارات المُستمدَّة من العلوم التجريبية، والنظريّات العلمية والتكنولوجيا، بداية من الإشارة إلى أساليب شفاء معيّنة، وصولًا إلى الحديث عن فرضيّة علميّة، ثم استخدام تلك الفرضية – بلغة العلم – للحديث عن إله موجود في كل مكان، أو كائنات متّصلة ببعضها بعضًا، أو غيرها من الادّعاءات. بمعنى آخر، نحن أمام حالة استخدام “علميّة اللغة” للإشارة إلى المعتقدات التي هي بالأساس “بعيدة كل البعد عن العلم”.
* ملف من إعداد طالبات في معهد المعارف الحكمية، وبإشراف الدكتور أحمد ماجد، وهو عبارة عن سلسلة مقالات ستنشر على موقع المعهد، وسنترك ذكر المصادر التي استخدمتها الطالبات إلى نهاية السلسلة.
* طالبة في معهد المعارف الحكمية.
المقالات المرتبطة
نقد ثقافة الحركة الإسلاميّة
كيف تبني الثقافات الزمن؟ وفي أيّ زمان من ثقافتنا نعيش؟ يحيلنا السؤال مرارًا على تجريد مؤدّاه احتياجنا الواقعيّ لفهم العلاقة المتجاسرة بين الوعي والزمن والوجود.
أسرة الزهراء في حديث الكساء
هذا الحديث الملكوتي والولائي الغنيّ بالفيوضات الغيبيّة، والمعاني المليئة برائحة المودة والدفء العاطفي، والمضامين الأخلاقيّة التربويّة في الأسرة الخالدة، في البيت المحمديّ العلويّ الفاطميّ، والمتضح فيه دور الأم المحوري، المتمثّل بالسيّدة فاطمة الزهراء(ع) التي كانت محور اللقاء والتفاعل للعترة الطّاهرة.
نهضة الحسين عليه السلام: ثورة العرفان
قد لا يكون من الغريب القول إن قضية ثورة الإمام الحسين عليه السلام على طاغية زمانه تُعتبر بحق واحدةً من أهم الوقائع التاريخية المقتداة اليوم كنموذج للثورة والثوار