النفس عند أفلاطون (1)
لا تخلو حضارة إنسانية بالحديث عن النفس، وإن اختلفت فيما بينها حول تحديد المعنى منها إلا أنّها تبقى كمسلّمة أساسية لا يمكن إغفالها أو القفز عنها، وعند الحديث عنها لا يجدر بالباحث المزج بينها أو تعميم نظرة حضارة على حضارات أخرى، لأنّ كلّ سياق يخضع لنظرة كليّة قد تختلف بمراميها والهدف من الحديث عنها. فما نراه في الفكر الغربيّ، لا يتطابق مع ما هو في الهند أو الصين.. وقد لجأ البحث إلى هذا التوجه لاعتقاده بأنّ الموضوعات تتبع النظرة الكونية الحاكمة عليها، ولا يجوز المزج بينها بشكل عشوائيّ، وأيضًا حتى لا نستغرق في مبحث تاريخيّ لا يخدم الهدف من هذه المقدمة التي سينحصر الكلام فيها بالتنظير الفلسفيّ عندما تحوّلت النفس إلى موضوع عند الفلاسفة، أُسمي “علم النفس”.
عرفت الحضارة اليونانية “النفس” وأطلقت عليها اسم psuchê (hê)، واستخدم اللفظ للدلالة على عنصر روحي موجود في الإنسان من خلال الفيلسوف اليوناني فيثاغوروس الذي تحدث عن انقسامها إلى ثلاثة أجزاء الأول هو الخالد، لأنّه يشبه الأشياء الخالدة، فيما يفنى الآخران لأنّهم متعلقان بأمور جسمانية كالعاطفة والحسّ، وهذه النفس جزء من النفس الكونية، وتوجد على الأرض من أجل التطهر من ما علق بها قبل العودة إلى أصلها، ومن خلال هذه الرؤية، نلاحظ حضور الفلسفات الشرقية في الفكر اليونانيّ[1].
وفيثاغوروس على الرغم من تأثيره الكبير على الفكر اليونانيّ إلا أنّ بروز النفس كموضوع متكامل ضمن منظومة فلسفية، لن يظهر بشكل واضح إلا من خلال أعمال “سقراط” و”أفلاطون”، اللذان سينحوان بالموضوع منحنى جديدًا يتجاوز مجرد اعتبارها ظاهرة مادية كالقول إنّها من البخار أو الماء أو النار أو الذرات أو غيرها من التفسيرات التي كانت سائدة في الحضارة اليونانية، وسيقومان بالاسترسال بالحديث عنها وعن طبيعتها، وعلاقتها بالجسد ومصيرها في كثير من الموضوعات من المحاورات الأفلاطونية، حيث كانت هذه المشكلة من الموضوعات الأساسية التي تُثير الكثير من الجدل والنقاش، ومن أهم المحاورات التي تكلم فيها أفلاطون[2] عن النفس “محاورة طيماوس le Timée”، “فيدروس phèdre le”، إضافة إلى محاورة “الجمهورية République”، و”المأدبة le Banquet”، و”القوانين les Lois”، وبعض الشذرات المتفرقة في المحاورات الأخرى.
تتميّز النفس بحسب أفلاطون بطبيعتها التي تنتسب إلى عالم المعقول، وتحتوي الصفات الإدراكية والعقلانية، إنّها شيء يُفكّر، يُنَظِّم ويتحكّم في الجسد ورغباته وعواطفه، وتتأثر بمدى اضطراب أو تشوش الجسد والحواس، وهي تمتلك ثلاث أجزاء أساسية، هي:
أ. الجزء العاقل: هو الذي يتولى مهمة الحكم وتنظيم أحوال النفس وتوجيه الأوامر، ويمثل الجانب الإلهيّ في الإنسان الذي من خلاله أعتُبِر عاقلًا، وفي هذا يقول أفلاطون على لسان سقراط في محاورة الجمهورية: “وإننا نسميه عاقلًا على حساب ذلك الجزء الصغير الذي يحكم، والذي ينادي بتلك الأوامر، الجزء الذي تقع فيه معرفة ما هو لمنفعة كلّ من الأجزاء الثلاثة منفعة الجميع”[3]. يتمركز هذا الجزء من النفس ذو (الشكل الكروي) في الرأس، ويحكمُ ويسود جميع الأعضاء، ويوضحه أفلاطون بقوله: “أعني ذلك الذي نصطلح على تسميته الرأس كونه الجزء الأكثر ألوهية منّا وسيد كلّ ما فينا”[4].
ب. الجزء الغضبي: وهو قوة تتمتع بالحماس، محلها الصدر، وداخله توجد روح فانية معرضة للانفعالات الشديدة والألم واللّذة والخوف والغضب، وهو ما يُعَبِّر عنه أفلاطون في الجمهورية على لسان سقراط بقوله: “وإنّ الإنسان الفرد يعتبر شجاعًا كذلك بالإشارة إلى النفس لأنّ روحه تضبط في اللّذة كما في الألم أوامر العقل فيما يجب أن يخافه، وفيما لا يجب”[5]، ويشير “أفلاطون” كذلك إلى أنّ خلق هذه النفس تمّ من خلال مزج كلّ تلك الانفعالات التي تميّزت بها في جزئها الثاني، يقول: “بالإدراك اللاعقلي وبالحب الجسور كلّه طبقًا للقوانين الضرورية، وهكذا صاغوا الإنسان، وعلّبوا الروح الفانية في جزء من القفص الصدريّ”[6].
ج. الجزء الشهوي: وهو الجانب الشهواني من النفس الذي يحتل المكان الأعظم، ويتميّز بالدوافع الغريزية الشهوانية القوية الذي هو دائمًا في حالة الطلب والرغبة والإشباع، يصفه أفلاطون بقوله: “أما الجزء الآخر من أجزاء الروح الذي يرغب اللحم والشراب والأشياء الأخرى التي يحتاجها بسبب طبيعة الجسد، فإنّهم وضعوه بين الحجاب الحاجز وتخم السرّة”[7]؛ أي محله في البطن، وكان هذا الجزء كذلك فانٍ لا يملك العقل ولا يستطيع تعقُل الأشياء.
النفس العاقلة هي الأصل بينما القسمان الآخران، فهما من الأمور الفاسدة التي تندثر بفناء الجسد، وهذا ما يوضحه في محاورة “جورجياس” عندما يقول: “إنّ حياتنا الحاضرة بمثابة الموت، وإنّ جسدنا قبر، وإنّ هذا الجزء من النفس الذي تقوم فيه الأهواء يخضع بحكم طبيعته، لأشد الدوافع تناقضًا. إنّ هذا الجزء نفسه الطيع والسريع التصديق من النفس شَبهَه بالدن قصصي من واضعي الخرافات طريف يتلاعب بالألفاظ[8]، إيطالي من غير شك أو صقلي، كما شبهه الحمقى بغير المطلعين على الأسرار، وهو يسمى ذلك الجزء من النفس الذي تقوم به الأهواء عند الحمقى بالدن المثقوب، نظرًا لأنّه فاسد وغير قادر على أن يحتفظ بشيء”[9].
إذًا، الإنسان بالنسبة إلى أفلاطون كائن مؤلف من النفس والجسد، الأول هو الأصل والثاني تابع له، يقول في محاورة فيدون: “انظر الآن إلى الأمر على النحو الذي يلي: حينما تكون النفس والجسد في صحبة كلّ منهما الآخر، فإنّ الطبيعة تأمر بأن يكون أحدهما كالعبد يؤمر، وأن يكون الآخر كالسيد يأمر. وعلى هذا الضوء، أيهما يبدو لك أكثر شبهًا بما هو إلهي، وأيهما بما هو فان؟ أَوَلَسْتَ تعتقد أنّ ما هو إلهي قد اُعدّ طبيعيًّا ليكون سيّدًا ولكي يحكم، أما ما هو فلكي يؤمر ولكي يكون كالعبد؟”[10].
وهو يمرّ بمرحلتين: الأولى عند بث الروح فيه، حيث تكون النفس أسيرة الجسد الذي عُلّبت أو وُضعت فيه، تحتاج إلى التربية والتعليم المناسبين، حتى تستطيع أن تعرف مكانها وتتذكر حقيقة الأشياء، وكلّ تربية وتعليم غير صحيحين، يؤديان إلى الجهل الذي يعتبر مرض الروح: “الشيء يصبح سيئًا بسبب النزعة المريضة للجسم، وبسب التعليم الرديء، وبسب الأشياء التي تكون مكروهة لكلّ إنسان وتحدث له ضد إرادته، وفي نمط مماثل وفي حالة الألم فإنّ الروح تقاسي شرًّا أكثر مما يقاسيه الجسم”[11]. والثانية هي عند الانعتاق من جسدها حيث تعود إلى عالمها التي تنتمي إليه، فإذا استطاعت أن تتخلص من ارتباطاتها الأرضية استقرت فيه وإلا عادت مرة جديدة إلى الجسد.
يريد أفلاطون من خلال كلامه إظهار أنّ الإنسان يقع في صراع دائم بين النفس والجسد، يقول في “فيدروس”: “يلزمك أن تعرف بادئ ذي بدئ أن سائق العربة يسوق حصانين اثنين، وتاليًا، فإنّ واحدًا من هذين الحصانين نبيل وذو محتدٍ شريف، والحصان الآخر وضيع المولد وذو نشأة حقيرة”[12]، هذه المقاربة تصور النفس بالحصان النبيل والجسد بالحصان الوضيع، فإلى أيّ واحد منهما مال الإنسان انطبع بطابعه، فأصبح إما محكومًا بالعقل يسيطر على القوى الغضبية والشهوية أو تتحكم به الشهوات والرغائب، وهو ما دفع “أفلاطون” إلى التأكيد على ضرورة التدريب والتربية الحسنة لأنّ ذلك هو صحة للنفس وقوة تمكنها من استعادة أجنحتها التي بها تصعد إلى مصدرها الأول، أين توجد الروح الكلية مركز الحقيقة والمعرفة والفضيلة: “فالفضيلة إذن هي الصحة والجمال والوجود الحسن للروح، والرذيلة هي المرض والضعف والعاهة”[13].
تتميز النفس عند “أفلاطون” بالحركة، فهي تحرك نفسها والجسم الذي تتحد به، وهذه الخاصية اكتسبتها من كونها منحدرة من العنصر الإلهي الذي يمنحها صفة الخلود، ويعبر عن ذلك بقوله: “الروح تكون خالدة خلال وجودها كلّه، لأنّ ما يكون أبدًا في حركة يكون خالدًا، إنّ المتحرك بذاته فقط لا يتوقف عن الحركة أبدًا ما دام لا يستطيع أن يغادر نفسه، ويكون مصدر أو أصل وبداية الحركة، لكل ذلك المتحرك بالإضافة إليه”[14]، وهذا الكلام يؤشر إلى وجهة نظر أفلاطون التي تعتبر أنّ الجسم إذا تحرك بفعل مؤثر خارجي فذلك دليل على أنه خَال من الروح، أما إنه إذا تحرك هكذا دون وجود أي مؤثر خارجي ظاهر بالنسبة إلى التالي هو مُحَرَكٌ بفعل مُحَرِكٍ كامن فيه، أي من الداخل فهذا دليل على أن النفس هي الأصل.
والكلام الذي يثيره أفلاطون، ينظر إلى الفعل الإنساني انطلاقًا من علاقته بالجزء المخصص له، بالتالي فهو يريد أن يجعل العالم الأرضي مطابقًا لتقسيمات النفس، وكلما نحت نحو الجزء العقليّ كانت أكثر اكتمالًا، لأنّها تخضع للفضائل الموجودة في النفس والمتمثلة بالحق والخير والجمال التي تنعكس في جميع الموجودات.
[1] – Ivan Gobry, Le vocabulaire grec de la philosophie, ellipses, Paris, 1999,p 110.
[2] – لم يترك سقراط أثارًا مكتوبة، وكلّ ما وصل إلينا عبر أفلاطون، لذلك سنقصر الحديث عن الثاني.
[3] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ الجمهورية، ترجمة: شوقي داود تمراز، بيروت، الأهلية للنشر، 1994، الجزء 1، الصفحة 215.
[4] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ محاورات فيدروس، تياتيوس، فيلبوس، طيماوس، الجزء 5، الصفحة 388.
[5] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ الجمهورية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 215.
[6] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ محاورات فيدروس، تياتيوس، فيلبوس، طيماوس، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 394.
[7] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ محاورات فيدروس، تياتيوس، فيلبوس، طيماوس، مصدر سابق، المعطيات نفسها.
[8] – في النصّ اليوناني مجموعة من التلاعب بالألفاظ بين (( soma و(( sema، ولكن من المستحيل بيان هذا التلاعب باللغة العربية، وقد استعار أفلاطون هذا التلاعب من فيثاغوروس.
[9] – أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة: محمد حسن ظاظا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1970، الصفحة 102.
[10] – أفلاطون، محاورة فيدون، ترجمة: عزق قرني، القاهرة، دار قباء، الصفحة 161.
[11] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ محاورات فيدروس، تياتيوس، فيلبوس، طيماوس، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 431.
[12] -المصدر نفسه، الجزء 5، الصفحة 53.
[13] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ الجمهورية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 218.
[14] – أفلاطون، المحاورات الكاملة/ محاورات فيدروس، تياتيوس، فيلبوس، طيماوس، مصدر سابق، الجزء 5، الصفحة 52.
المقالات المرتبطة
تولّي الإمام الحسين بين الغلوّ والاعتدال
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {يا أيّتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي}.
مشاريع فكرية 14 | الدكتور غلام حسين إبراهيمي ديناني
المواليد: 1935 م في دينان، من توابع مدينة أصفهان الإيرانيّة. الدراسة: شرع في الدروس الابتدائية والمتوسّطة في مسقط رأسه، ثم
مقدّمات ضروريّة حول علامات الظهور
ما أكثر الذين يتحدّثون عن علامات الظهور في هذه الأيّام، فقد خاض فيها العالم والجاهل حتّى صار العوام يحدّثونك عن روايات الظهور كأنّهم أرباب الحديث وحفظة السنن.