مؤامرات في التاريخ  بين التهوين السياسي والتهويل الديني

مؤامرات في التاريخ  بين التهوين السياسي والتهويل الديني

نظرية المؤامرة

يعيش المسلمون طوال تاريخهم في هاجس نظرية المؤامرة، وأن الصهيونية العالمية منذ القدم تقوم بمؤامرة ضد المسلمين، وأنه لولا الصهيونية لتقدمت الأمة، وهو ما سبّب أزمة نفسية وتاريخية لهم حتى اليوم.

نعم توجد مؤامرات وخطط، تقوم بها الدول الكبرى والصغرى ضد بعضها البعض، ولا أحد يستطيع أن ينكر المؤامرات الممتدة، على المستويات العسكرية والسياسية، والثقافية الفكرية/الدينية، ولا يمكن التهوين من شأن المؤامرات الممتدة، وكذلك لا يجب التهويل من شأنها، ولا بدّ من الاستعداد النفسي والثقافي والديني لأن مشكلتنا تتلخص في أننا نهول من الخطر الثقافي/الديني عند اليهود، وكأننا أمة لا تستطيع مواجهة الدين بالدين والحجة الثقافية بالحجة الثقافية.

قالوا إن المؤامرة الأولى جاءت بعد وفاة النبي (ص) على يد المتآمر الأول عبد الله بن سبأ، وهو زعم خيالي، وما كان يمكن أن يتسرب الفكر الإسرائيلي دون موافقة الصحابة، أو ربما بسبب غفلتهم، فقد بدأ الفكر اليهودي في التسرّب مع تعيين قصّاص في المساجد، حيث بدأ القصّاص يتعلمون من أهل الكتاب مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وتميم الداري، ثم يقومون بالتدريس في المساجد، مثل الدروس التي يلقيها الشيوخ في أيامنا، فدخلت الأفكار إلى العقل المسلم، حيث خُطب بها في الجمع، ووردت في الكتب البيضاء والصفراء، ووافق عليها الخلفاء والأمراء، فصارت جزءًا من الدين.

والمتأمل في تاريخ الأمة يجد أن فترات الإنجاز الحضاري الإسلامي، لم يكن للوجود اليهودي أثر يُذكر، بل إن كثيرًا من مثقفي اليهود تأثروا بالحضارة الإسلامية، مثل ابن جبيرول، وهليفي عاليزي، وأكثرهم شهرة “موسى بن ميمون” تلميذ ابن رشد في الفلسفة، والطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي، وهو من كان له الفضل في إقناع “صلاح الدين” في إعادة توطين اليهود في فلسطين، وهي المرة الأولى في التاريخ اليهودي، والسماح لهم بالعيش في فلسطين منذ عام 135 من الميلاد عندما شتتهم الإمبراطور الروماني”هادريان”، كما ظل اليهود يعيشون في الدول الإسلامية دون تأثير منهم في الشأن الثقافي أو السياسي، بما يعني أن فترات الضعف الإسلامي تسمح بتدخل الغير في الشأن الداخلي الإسلامي.

ونؤكد أن نجاح الصهيونية العنصرية في تأسيس دولة إسرائيل نجح بسبب الخلل النفسي وفقدان المناعة السياسية للأمة، وهو ما قاله المفكّر الجزائري “مالك بن نبي”: عن مرض الأمة، وهو “القابلية للاستعمار”، أو ما قاله المفكر الإيراني “علي شريعتي”: “القابلية للاستحمار”.

كل هذا الذي تقدم لنعود إلى بداية الحديث عن اعتقاد المسلمين بالتآمر الصهيوني عليهم، واليوم يحلو للجميع ترديد الحديث عن التآمر الصهيوني، وأنه هو الذي يشعل الفوضى في المنطقة، وأنه هو الذي أخرج داعش، رغم أن داعش ابنة تراثية متجددة لفكر التكفير، وأن داعش تطبق ما في التراث، وإن وُجد دور صهيوني، فهو استغلال للضعف العربي والثقافة العربية ذاتها، وهو ما نراه في الوقت الراهن، حيث بدا لبعض الدول العربية التعاون مع الكيان الصهيوني، والأخطر أن فيه جانب ثقافي فكري، مثل البيت الإبراهيمي، وهو يماثل المحفل الماسوني، وهو ضعف عربي يبدو للعيون أنه خطر، ولكن قيمة الخطر ليست وليدة اليوم، ولكنها غارقة في القدم، منذ فجر التاريخ الإسلامي.

المؤامرة الأولى والمتآمر الأول

من البداية نجد أن الاعتقاد في التآمر الصهيوني له جذوره الراسخة في الثقافة الإسلامية، حيث تمتلئ كتب التفاسير والأحاديث بما سُمي بالإسرائيليات، وذلك نظرًا لاتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في ذكر بعض المسائل، مع فارق، هو الإيجاز في القرآن، والبسط والإطناب في التوراة والإنجيل.

فكان بعض الصحابة إذا مَرَّ أحدهم على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلًا إلى أن يسأل عن بعض ما أوجزه القرآن منها ولم يتعرض له، فلا يجد مَن يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا في الإسلام، وحملوا إلى أهله ما معهم من ثقافة دينية، فألقوا إليهم ما ألقوا من الأخبار والقصص الديني، فامتلأت الكتب بقصص وروايات لا يستقيم مع الدعوة الإسلامية، ولا مع القرآن الكريم نفسه.

ابن السوداء الصهيوني القديم

ولكن في المقابل لا يمكن القول إن فكر الاستبداد المتغطي بالدين راجع لتلك الإسرائيليات بالكلية، بل هي نابعة من صراعات قبلية وعرقية لا دخل للصهيونية بها.

ولكن هذا ليس موضوعنا، فموضوعنا سياسي أكثر منه ديني، فنكتب عن شخصية تاريخية، زعم كثير من كتب التاريخ على أنه السبب الأول في الفتنة الكبرى وما تلاها من فتن، وظلت راسخة في العقل العربي ووجدانه وميراثه وتراثه، شخصية عبد الله بن سبأ، فقد روى الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم أن ابن سبأ هو المسبب للفتنة الكبرى، وأنه الذي أشعل حرب الجمل بين أم المؤمنين عائشة وبين علي بن أبي طالب(ع)، بعد أن كادا يتفقا على الصلح.

إذن هو صهيوني قديم تخفّى في ثوب الإسلام، ووضع مصطلحات الرجعة والبداء والوصاية، وقالوا إنه أثّر في فكر بعض كبار الصحابة مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري.

وأنه قال: “من الغريب أن نصدّق أن عيسى بن مريم يرجع ومحمد لا يرجع”، واستند إلى الآية الكريمة 85 من سورة  القصص التي تقول: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾؛ أي إن النبي محمد (ص) سيعود في موعد لاحق، كما قالوا إنه هو الذي أوحى لأبي ذر بفكرة توزيع الثروة، وأنه المشعل الأكبر في الثورة على عثمان بن عفان، وأنه جعل في عليّ جزءًا إلهيًّا، وهو ما نعتبره تضخيمًا لدور أسطوري غير موجود.

والباحث عنه يجد خللًا في الروايات، دائمًا يقولون قام السبئيون وتخفّى السبئيون، وأن عليًّا أحرق السبئيين، ولكن ابن سبأ نفسه لم يُحرق ولم يُقتل، ولم يحدث له مكروه، كل ما في الأمر أن عليًّا نفاه إلى المدائن، ثم لا نجد له أثرًا.

والمؤسف أن المؤرخين أطلقوا عليه ابن السوداء، فما شأن أمه، سوداء أو بيضاء، ثم نساء كثيرات سوداوات، مثل سمية وثويبة وبركة أم أيمن، وغيرهن، وياسر وعمار كانا من السود، وهذا ليس دفاعًا عن شخص ابن سبأ، بقدر ما هو توضيح أن كتّاب السير والمؤرخين لم يكونوا يعرفون أنه لا فرق في الثقافة ولا في الدين بسبب لون الوجه، ثم وصفه بابن السوداء يزيد الغموض غموضًا، اسمه ابن سبأ أي منسوب لقبيلة، دعونا من كون لون بشرة أمه سوداء، وهو الأمر الذي حدا بكثير من المؤرخين أن يشككوا  في وجود شخصية ابن سبأ كلها، نذكر منهم:

الأول: الدكتور طه حسين، حيث قال: “وأقلّ ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية وعن ابن السوداء في حرب صفين أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفًا منحولًا، قد اخترع بآخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية … ولو قد كان أمر ابن السوداء مستندًا إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقّدة المعضلة التي كانت بصفّين… ولكنّا لا نرى لابن السوداء ذكرًا في أمر الخوارج، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلّل غياب ابن سبأ عن وقعة صفين، وعن نشأة حزب المحكمة (الخوارج)؟ أما أنا فلا أعلّل الأمريْن إلّا بعلة واحدة، وهي أن ابن السوداء لم يكن إلّا وهمًا، وإن وُجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوّره المؤرخون، وصوّروا نشاطه أيام عثمان وفي العام الأول من خلافة عليّ”[1].

والثاني: السيد مرتضى العسكري في كتابه “عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى” الذي فنّد الأسطورة السبئية بالكلية.

والثالث: هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي الذي قال في كتابه “الصلة بين التصوف والتشيع”: “إن ابن سبأ ما هو إلا عمار بن ياسر، فهو يمني وأمه كانت سوداء”[2]، ولكن ونظرًا لقداسة عمار في نفوس المسلمين، وأنه كان أكبر الثائرين على عثمان، فقد خلقوا له شخصية ابن سبأ الوهمية.

ومع ذلك ما زال يوجد من المسلمين من يعتقدون بوجود ابن سبأ وأنه مؤسس الفكر الشيعي، وأنه يهودي مثقف كبير أخذ بكافة الفلسفات اليهودية والمسيحية والإسلامية، وتمكن من قلب الرسالة المحمدية كلها رأسًا على عقب.

وعاشت الأمة على هذا التراث الفكري حتى اليوم، وتحتاج لتنقية التراث فعلًا، وعندها سنجد أن ما حدث لنا من بنات أفكارنا قبل غيرنا، وأن التآمر الصهيوني ما كان له أن ينجح لو اعتمدنا على العقل قبل النقل في فهم الدين، وعلى الدراية قبل الرواية، وأن نعترف بقصورنا الفكري قبل السياسي، أو على الأقل نقول الحقيقة، ولا نخشى الخطر الصهيوني بقدر ما نخاف من أنفسنا…

بداية الخطر

نعتقد جازمين أن بعض، وليس كل المسلمين الأوائل من كانوا أكثر خطرًا، وأشد تأثيرًا من الصهيونيين الأوائل، فقد قتلوا بعضهم البعض في أول حروب أهلية في العالم الإسلامي، حدث ذلك في الجمل وصفين، مات فيها عشرات الألوف، بسبب طمع بعض كبار الصحابة في السلطة ضد الشرعية العلوية القائمة على ورع الإمامة، لا شراسة الخلافة، وقد رسّخوا للاستبداد بمفهوم ديني جديد، لا هو من الإسلام ولا من الفطرة، فلم يكن “معاوية بن أبي سفيان” في حاجة للسلاح ولا الأموال، فقد اشترى الرجال والسلاح بالمال الحرام، ولكنه كان في حاجة ماسة إلى شرعية دينية، تقابل الفكر الإسلامي الصحيح، والذي يمثله الإمام “علي بن أبي طالب” (ع)، فبدأ في البحث الدؤوب عن من يجد له هذا التبرير الديني، وجد أولًا من تأول له الآية القرآنية”من سورة الإسراء، الآية 33 ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾، ووجد من علّمه أنه ولي دم “عثمان بن عفان”، ولكن ذلك لم يكن يكفي لمعاوية ومن جاء بعده من خلفاء الأمويين … ثمّ العباسيين.

البحث عن شرعية دينية للخلفاء والسلاطين والملوك

بعد أن تعلّم معاوية تأويل القرآن ليوافق هواه، بحث ووجد من وضع له الأحاديث التي تهدّد وترغّب في طاعة الخليفة، واستمر الحال حتى بدأ التدوين في العصر العباسي، وراجت أحاديث طاعة الخلفاء والسلاطين والأمراء والملوك، وهي كثيرة بالعشرات من الأحاديث المزورة، نذكر نماذج منها:

عن أبي بكره الثقفي (رض) قال: سمعت رسول الله (ص) قال: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله (رواه الترمذي).

عن عياض بن غنم (رض) قال: قال رسول الله (ص): من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يبده له علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فقد أدى الذي عليه (رواه ابن أبي عاصم).

عن أبي ذر (رض) قال: إن خليلي (ص) أوصاني أن أسمع وأطع وإن كان عبدًا مجدع الأطراف، وفي لفظ آخر عند ابن أبي عاصم بسند صحيح أسمع وأطع لمن كان عليك (رواه مسلم).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك (رواه مسلم).

عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى الأمير فقد عصاني ومن عصاني فقد عصا الله (متفق عليه).

تلك بعض الأحاديث التي تحض على طاعة الحاكم، ولم تكن عصور النهضة الإسلامية خلال الدولة الموحّدة (بخلاف الدولة الفاطمية التي كانت دولة علم وعقل وتنوير)، بل خلال الدول شبه المستقلة، كالدول الحمدانية والسامانية والناصرية في الأندلس، وكانت أحاديث طاعة الخلفاء والملوك من أسباب خمود الهمّة الإسلامية ودخولهم في بيات شتوي عشش فيه الجهل والفقر والمرض، فكانت النتيجة أن تكالبت الدول الاستعمارية لإنشاء المستعمرة الصهيونية في فلسطين.

والمطلوب هو العودة للميراث الحضاري القرآني، وهو ميراث ثوري مقاوم، ونتأكد أن المؤامرات الدولية لن تكف عن العبث بمقدّرات الأمة، ويمكن بعدها نبدأ نحن بالتدخل في الشؤون الدولية وداخل الدول الاستعمارية ذاتها، عندما نكون جادين في فهم أن فكر الاستبداد وثقافة التكفير أشد خطرًا من الصهيونية العالمية ومعها الدول الإمبريالية الاستكبارية.

ولم يبعد الشاعر الكبير الراحل “نزار قباني” عن الحقيقة عندما قال:

لم يدخل اليهود من حدودنا                    ولكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا

[1] طه حسين، الفتنة الكبرى، علي وبنوه، القاهرة، مصر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الجزء الثاني، الصفحتان 101و 102.

[2] الدكتور كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، القاهرة، دار المعارف، الطبعة 2، الصفحة 42.



المقالات المرتبطة

المعنوية الدينية والمعنوية العلمانية*

إن من أخطر أنواع الغزو الذي يمارس الآن هو الغزو الثقافي، وذلك بعد تطور تقنية الاتصال وجعل البعيد الذي لا ينال قريبًا متداولًا كقدح من الماء.

الفكر العربي الحديث والمعاصر | منهجية الجابري في قراءة التراث الإسلاميّ

قدم الجابري رؤية خاصة للتراث العربيّ – الإسلاميّ، واعتبره يمتلك خصوصية ذاتية كونه حاضر فينا، فهو: “جزء من انشغال الإنسان

شهادة في سبيل الله

ليست الشهادة مجرّد مفهوم يبتكره العقل ويصوغه البيان، كما يحلو للبعض أن يمارسه في هذا الإطار الضيق.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<