النفس عند أرسطو (2)

by الدكتور أحمد ماجد | نوفمبر 7, 2024 2:36 م

نقل أرسطو مبحث النفس إلى مستوى آخر، يختلف عن أفلاطون بشكل جذري، حيث عمل على إخضاعه لرؤيته المنهجية، التي تنطلق من العالم الحسيّ باتجاه التجريد، لذلك نراه يخلص إلى القول إنّ النفس: “كمال أول لجسم ذي حياة بالقوة، نعني بجسم آلي”[1][1]، والجسم الآلي هو الذي له أعضاء ويتميز بالحركة أو يقوم بأفعال، فتكون النفس بهذا المعنى جوهرًا، والجوهر هو صورة، نعرف من خلالها ماهية الشيء، ويكون بذلك الجسم حاملًا لصفة خاصة هي الحياة، وللتوضيح يضرب مثال “الفأس”، و”القطع”، ويقول: “ولنفرض مثلًا أنّ آلة كالفأس كانت جسمًا طبيعيًا فإنّ ماهية الفأس تكون جوهرًا، وتكون نفسها، لأنّ الجوهر إذا فارق الفأس فلن يكون هناك فأس، إلا باشتراك الاسم، لكنّ الفأس في الواقع فأس، إذًا ليست النفس ماهية أو صورة جسم من هذا النوع، بل جسم طبيعي ذي صفة معينة، أي فيه بذاته مبدأ الحركة والسكون”[2][2]. أما الأجسام الخالية من الحياة ليست لها صورة أي نفس، ما يعني أنّ النفس غير مفارقة للجسم الحي ولصيقة به لأنّها لا يمكن أن توجد من دونه، وهي ليست جسم بل هي ترتبط به؛ أي “ضرب من الكمال وصورة لما هو بالقوة، مستعد لقبول طبيعة معينة”[3][3]. والكلام السابق، يقود إلى وجود ترابط بين النفس والجسد بالنسبة إلى أرسطو، فالنفس هي الصورة، والجسد هو المادة.

إن لفظة الحياة التي وردت في تعريف أرسطو، تدلّ في أحد معانيها إلى الحيّ؛ أي المتحرك الحساس المتغذّي والنامي، وهذا ما انعكس في تقسيمه لقوى النفس إلى ثلاث قوى هي الغاذية والحاسة والعاقلة، وهذا يختلف عن تقسيم أفلاطون الذي استخدم كلمة أجزاء لتقسيم النفس، وكانت غاية أرسطو من خلال عمله إظهار وحدة النفس في ظل انقسامها من الناحية الرتبية وفق تدرج تصاعدي من الأدنى إلى الأعلى، باعتبار أن الوظيفة النامية (الغاذية) يمكن أن توجد لوحدها كما في النبات، هذا إضافة إلى أن الوظيفة الحاسة يمكن أن تستغني عن الوظيفة العاقلة دون أن تستغني عن الوظيفة النامية كما في الحيوان، ولتوضيح هذه الفكرة، قسّم أرسطو النفس إلى القوى التالية:

أ. القوة الغاذية: تخص النفس النباتية[4][4]، تكون مشتركة بين جميع الكائنات، فهي مبدأ أول للحياة، ومن خصائصها، التوالد والتغذية، باعتبارهما صفتين موجودتين في الكائن الحيّ تلقائيًّا، فمن الحيوان يولد الحيوان، ومن النبات يولد النبات أيضًا، أما التغذي فمن خلال النقصان والزيادة؛ أي النمو والانحلال اللّذين تعرفهما الأشياء.

ب. القوة الحاسة: وهي الموجودة في النفس الحيوانية، يبدأ “أرسطو” هنا من تحديد معنى الإحساس الذي يرى أنّه يرتبط في وجوده بالحركة التي تحصل من خلال اتصال الحيوان بمحسوس ما، ورغم أنه لا توجد في الحواس معطيات ومعاني عن هذه المحسوسات، إلا أن الإحساس موجود بالقوة، أي إنه استعداد داخليّ يظهر بفعل فاعل هو الموضوع المحسوس”[5][5]، وهذه القوة تنتمي إلى النفس كقوة متميزة تعلو القوة الغاذية وأدنى من القوة العاقلة، وهي الخاصية التي جعلتها في الحيوان العاقل وغير العاقل على حد السواء، لكن عملها وانفعالها سيتدرج في الحيوان الناطق نحو المعرفة العقلية، أما في الحيوان غير العاقل سيكون محدودًا بحدود.

ج. القوة الناطقة: كما رأينا الإحساس تشترك فيه جميع الحيوانات، عكس العقل الذي هو خاص فقط بجزء منها، وأنّ قوة العقل التي تدرك الكليات يمكن أن تَصْدُق ويمكن أن تقع في الخطأ، في حين أن الحواس تدرك الجزئيات، وتكون صادقة دائمًا، هذا وتجمع في النفس العاقلة كلّ الوظائف السابقة، الغاذية والحسية وأهمها العاقلة التي تمثل الخاصية الجوهرية للإنسان، من خلالها يُدرِكُ الإنسان الموجودات عبر مجموعة من الملكات، تتدرج من الإدراك الحسيّ إلى الحسّ المشترك ثم التخيل والذاكرة، وصولًا إلى أعلى ملكة هي التفكير. إنّ خاصية النفس وفق هذه المعطيات السابقة تجمع بين قوتين، القوة المدركة التي تشمل الملكات المذكورة سابقًا، والقوة المحركة أو كما يقول: “هناك صفتان أساسيتان تميّزان ما تعرف به النفس الأولى الحركة الموضعية، والثانية التفكير والحكم والإحساس”[6][6].

والكلام الذي أورده أرسطو عن النفس تعود إلى منهجية معالجته، التي تنطلق من الحسيّ الجزئيّ باتجاه العقليّ الكليّ، وهو بالتالي يحمل في طياته أبعاد ذات طبيعة تجريبية، وهو عندما تحدث عن قوى النفس، كان يريد أن ينسب الفعل إلى فاعله الحقيقيّ، وهو الإنسان.

 هذا التفكير المتعلق بالنفس الذي ابتدأ مع سقراط فأفلاطون وأرسطو، أسّس لنظرة جديدة تعتمد على بناءات فلسفية مختلفة من ناحية النسق، ولكنّها تتوحد في طلب الفضيلة، ففي حين يذهب أفلاطون باتجاه اعتبار الفضيلة الإنسانية وليدة نزعة فطرية موجودة بالإنسان، يصل إليها الإنسان عبر عالم المثال، نرى أرسطو يربطها بالطبيعة الإنسانية واستعدادتها لتلقي العلوم، وهي تعكس الجانب التجريبيّ في تصور أرسطو، والتي تقوم على أساس تربية الإنسان تربيةً فاضلة، تجعله يصل إلى مبتغاه عبر الوسطية التي تقع بين الإفراط والتفريط. وهو بالرغم من حديثه عن الفرد إلّا أنّ نظرته كانت تتوجه نحو الاجتماعيّ، وهو في ذلك قد ترك أثرًا كبيرًا في التفكير الأخلاقي ما زالت تداعياته مستمرة حتى وقتنا الراهن. وهو في نظرته هذه كان يقدم لوجهة نظر تدعو لضبط الإنسان، وهذا ما ينعكس من خلال الاهتمام بالجانب القانوني، ولعلّ هذا ما ظهر أيضًا مع أرسطو من خلال الاهتمام بالدستور والقانون.

[1][7] – أرسطو طاليس، كتاب النفس، ترجمة: أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1949، الصفحة 42.

[2][8] – المصدر نفسه، الصفحة 43.

[3][9] – المصدر نفسه، الصفحة 49.

[4][10] – أرسطو طاليس، كتاب النفس، مصدر سابق، الصفحة 46.

[5][11] – المصدر نفسه، الصفحة 60.

[6][12] – المصدر نفسه، الصفحة 102.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [1]: #_ftnref1
  8. [2]: #_ftnref2
  9. [3]: #_ftnref3
  10. [4]: #_ftnref4
  11. [5]: #_ftnref5
  12. [6]: #_ftnref6

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/16981/arosto/