كانط في اليوم العالمي للفلسفة
إعداد: إدارة التحرير
أقام معهد المعارف الحكمية ضمن برنامجه المنتدى الفلسفي، وبمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وفي أجواء مئوية الفيلسوف عمانؤيل كانط ندوة موسعة بعنوان: “فلسفة الدين عند كانط” عبر تطبيق زووم، شارك فيها؛ الدكتور عقيل حسين البزوني من العراق، الدكتور نور الدين السافي من تونس، البروفسور خنجر حمية من لبنان، والدكتور أحمد ماجد من لبنان. أدار الندوة الدكتور سمير خير الدين، وذلك نهار الخميس في 28-11- 2024 الساعة الثالثة بتوقيت بيروت، حضر هذه الندوة نخبة من الباحثين والمهتمين بالفلسفة في العالم العربي.
بدأت فعاليات الندوة بكلمة لمدير الندوة الدكتور سمير خير الدين، أكد فيها على أهميتها في هذا الوقت بالذات، والذي يتعرض فيه اللبنانيون لكلّ أساليب العنف، فهذه الندوة تأتي لتؤكد إرادة الحياة وتفعيلها بالفلسفة على الرغم من الدمار والجراح والوحشية التي يقوم بها العدو الصهيوني ضد المدنيين العزل، وشرح أنّ هذه الندوة وعلى الرغم من الظروف القاسية، تأتي لتؤكد إرادة الحياة عبر التفلسف، وهي جاءت لتؤكد باستمرار معهد المعارف الحكمية بأنشطته كالمعتاد.
ثم انتقل للتعريف بالدكتور نور الدين السافي، فقال: هو دكتور تونسي، مدير الشؤون التعليمية وأستاذ بمعهد يعقلون العالي للتدريب الدمام في المملكة العربية السعودية، وأستاذ جامعي بجامعة الملك فيصل المملكة العربية السعودية (كلية الآداب قسم الدراسات الإسلامية)، أخصائي المناهج في اختصاص الفلسفة والعلوم الإنسانية بوزارة التربية والتعليم مملكة البحرين، ومتفقد عام (مفتش عام الفلسفة) بوزارة التربية والتعليم تونس. شارك في العديد من المؤتمرات الدولية والعربية، له العديد من الدراسات منها: كتاب نقد العقل، منزلة العقل النظري والعقل العملي في فلسفة الغزالي، كتاب فلسفة الأخلاق والسياسة عند فلاسفة الإسلام، كتاب الهوية ورهاناتها، ترجمة كتاب العقل والتاريخ عند العرب للأستاذ فتحي التريكي وغيرها من الكتب، وهذا إلى العديد من الأبحاث المحكمة. بعد هذه المقدمة أعطى الكلام للدكتور السافي.
بدأ الدكتور السافي كلمته التي تطرقت إلى مفهوم الضيافة الكونية ومفهوم السياسة الكونية أو السلم العالمي بدلًا من فلسفة الدين. وقال: بدا لي أنّ مصطلح فلسفة الدين؛ الكلمة والعبارة والمصطلح، ليس كانطيًا، فهو جاء من بعده، وظهرت في محاضرات هيغل الذي دون شك استفاد من كانط. وهنا اعتراضي على الكلمة لا يعني أنّ كانط لم ينشغل بهذا الموضوع، ولكن الإشكالية مفهومية، في حين أنّ الموضوع كان حاضرًا في العموم من خلال جعل الدين موضوعًا للدراسة الفلسفية. وعندما نقول هذا الكلام، فإنّنا نريد أن نقول إن الفلسفة هنا لا تفكر في دين معين باسمه وإنما تفكر في الدين، حضور الدين وليس دينًا معينًا كأن نقول الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو أي دين آخر، رغم أنّه لا يمكنه تاريخيًّا ولا نفسيًّا ولا اجتماعيًّا أن يخرج الفيلسوف عن بيئته الاجتماعية، ولكن التعالي وفكرة المجرد والتجريد ضرورية في عملية التفلسف. لافتًا إلى أن هذا ما يعطي الفيلسوف القدرة على النظر في المسألة بغضّ الطرف عن الخصوصيات التي يعيشها، وهذا ما ينطبق على كانط المسيحي البروتستانتي الذي يعيش في بيئة الشخصية يعني البيئة الزهدية والبيئة المتدينة. فالدين حاضر في شخصه وفي تربيته وفي وجوده الفعلي، وكذلك في نهجه الذي سلكه في التفكير من خلال نقد العقل النظري.
أضاف: إنّ كانط عالج الدين باعتباره يربط الإنسان بوجوده أو معنى وجوده الواقعي في علاقته بنفسه وبالآخر، في علاقته بالله وفي علاقته الخاصة بمعنى الديمومة والخلود؛ أي اليوم الآخر الذي يصبح المعنى أو المقصد أو المغزى أو المصير الذي ينتظر كل فرد خيرًا أو شرًّا حسب السؤال الذي قام به. وهنا طرح سؤال هل الدين هو الذي يشرع الأخلاق؟ حسب كانط العملية صارت عكسية أن الأخلاق صارت تستدعي وتشرع للدين، الدين صار ضرورة بسبب الأخلاق والإيمان بالله، هذا الإيمان الذي يقوم على التسليم بالإيمان بالله وبخلود الروح واليوم الآخر هو من الأمور المهمة، لأنّنا إذا افترضنا غيابها سقط كل هذا المشروع، وسقطت كل هذه الرؤية في قضية البيئة والسياسة والسلم العالمي.
ورأى أن كانط من خلال عمله أكد على الواجب الأخلاقي الذي يوجب الخير والفضيلة، هو الذي في الأخير يوجب السلم العالمي والكوني، وهو في هذا يريد أن ينظم علاقة الناس مع بعضهم والمجتمع، والدول في ما بينها في عصر سادت فيه، فهو أراد أن يقول إنّ الخلاص لا يكون إلا من خلال الواجب الأخلاقي.
وأردف: الدين عند كانط ليس العقيدة، فالعقائد تقود دائمًا إلى الصراع، فكل فريق، يعتبر نفسه ناجيًا، لذلك يرجعنا إلى الكلمة المنسية أو الكلمة التي نجعلها مرادفة للاعتقاد وهي ليست مرادفة، وإنما هي مغايرة وهي كلمة الإيمان، وهذا الإيمان بالوجود الإلهي، وبخلود الروح، وبالحرية، تلك الأمور التي تشكل المقصد الإلهي الحقيقي، والتي توصل الإنسان إلى الخير والفضيلة والسلم الكونيّ.
وختم: يبقى الجوهر في الدين هو الإيمان، ورأى كانط أن مهمة أو رسالة الإنسان المؤمن هي الخير والقيام بالواجب والحرية، الأمر الذي يحقق السلام العالمي، ومن أجل هذه الغاية اقترح كونفيدرالية عالمية، أو حكومة عالمية تدعم هذا السلم، وهذا ما يفسح المجال لأن نؤسس لفعل الضيافة حيث يكون الإنسان في كل مكان ملتزم بأمر القانون الذي هو السياسة؛ السياسة الكونية.
بعد ذلك كان الحديث للبروفسور خنجر حمية، فعرّف به الدكتور سمير خير الدين قائلًا: “هو أستاذنا في الجامعة اللبنانية، أستاذ لمجموعة من المواد الإبستمولوجية ومنهج التفكير العلمي والمنطق الرياضي وعلم الكلام، وأيضًا هو أستاذ مشارك في مرحلة الدكتوراه في جامعة القديس يوسف، وعضو هيئة تحكيمي وهيئة علمية في مجلات فكرية ودوريات عديدة منها مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، وصدى العلوم وغيرها من المجلات. لديه مشاركات طويلة في المؤتمرات والندوات الوطنية والدولية، وأكثر من ثلاثين دراسة وبحث في المجلات الفلسفية والفكرية المتنوعة، ولديه مجموعة كبيرة من المؤلفات منها الميراث إعادة التفكير في بنيته وقانونه، والعرفان الشيعي دراسة في الحياة الروحية والفكرية لحيدر آملي، واختبارات المقدس مقاربات في المعرفة والتصوف والتجربة الدينية، كذلك جدل الإبداع والإتباع، المنطق اليوناني في السياق الفكري العربي الإسلامي، وأيضًا قام بترجمات متعددة حول الفينومنولوجيا الألمانية، والفينومنولوجيا الهيرمينيوطيقية، ثم أعطى الكلام للدكتور خنجر.
شكر الدكتور خنجر الدكتور سمير، ثم بدأ كلمته، فقال: نحن طلبة معرفة وطلبة علم كنا وما نزال. وحمدًا لله على سلامة الجميع في هذه الظروف. ثم طرح سؤال وأجاب عليه: ماذا يجوز لي أن أرجوه؟ هذا هو السؤال الذي وجه تفكير كانط في كتابه الشهير الدين في حدود العقل المجرد وحده، أو كما يحلو لكثيرين بأن يترجموا تحت عنوان الدين في حدود العقل المجرد، واستحسن الدكتور فتحي أن ينحت له عنوانًا متصرفًا فيه في العربية- والعربية حمالة أوجه إذا صح التعبير، هي لغة جميلة نجد فيها ما لا نجده في الألمانية. الألمانية لغة البرابرة. أنا أقول دائمًا ذلك. لغة صارمة جادة جدًّا حازمة تكشف عن عقل بربري. يعني هؤلاء القساة الذين تمتعوا على مدى فترات طويلة من الزمن بقسوة غير عادية، نحتوا هذه اللغة الصعبة للغاية الجامدة. أما العربية لها هذا الطابع الجميل- فهو سماه الدين في حدود العقل المجرد وحده، عنوان جميل يمنحنا جمال صوت إذا صح التعبير، وإن لم يكن هذا العنوان مطابقًا للعنوان الألماني مطابقة تامة.
تابع: ينبغي باعتقادي أن نضع موقف كانط من الدين في سياق مشروعه النقدي، وأنا من الذين يؤمنون بأنه من غير الممكن أن نفهم بأي حال من الأحوال الموقف الديني له من غير أن نفهم مشروعه النقدي ومن يطمح إلى أن يدرك أبعاد مشروعه الديني من غير أن يقرأ المقدمات الأساسية التي يمهد لها لهذا الموقف في كتبه النقدية، والذي بدأ في الحقيقة بنقد العقل الخالص، هذا المشروع النقدي الذي نعتقد جميعًا أنه جاء لمواجهة هذيان من المخيال الديني، الذي كان سائدًا في عصره، ففكرة كانط النقدية لا تنحصر حقيقة في نقد هذه الرؤيويات الدينية التي وجدها عند سويدنبرغ، ولا يقتصر على نقد ما أسماه هو بنفسه الجنون الديني، أو الجنون والغباء الدينيين، إنّما تكمن في محاولته إقامة علاقة متبادلة بين العقل الديني الذي يشعر أن له جناحين يطير بهما ويحط، أو كما يقول يبنون في الهواء مختلف عوالم الأفكار.
أضاف: ما الذي يعنيه مصطلح نقد عند كانط؟ النقد عنده ليس شيئًا يتوجه الى خارج. ولا هو شيء يجعل موضوعه هناك بإزائنا. النقد يتوجه إلى العقل نفسه. لماذ؟ لأنه يقول إنه يحاول أن يفهمنا، أن يعرض أمامنا فكرته عن مشروعه النقدي. يقول لا يوصف العقل بالنقدي إلا إذا كان قادرًا على أن يرسم من الداخل حدوده الخاصة. فإذًا، إنّ مشروعه هو مشروع نقد العقل نفسه، وهو نقد يتوجه إلى داخل ويرغب في حقيقة الأمر في أن يبين أن للعقل نفسه الحدود التي ينبغي أن يحصر نفسه داخلها، أو أن ينضبط ضمن إيقاعها.
وتابع: لكن إذا كان هذا هو العقل النقدي كما بيّنه كانط أساسًا قبل مشروعه الكبير في نقد العقل الخالص أو العملي إذا كان هذا هو النقد، فأي موقف يمكن أن يتخذه العقل النقدي من الدين؟ وإذا كنا نجد أن هذا السؤال كان مطروحًا في كتبه النقدية الثلاثة؛ أي نقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم، لم نعرفهم نحن صاروا كلهم بالترجمة العربية، بترجمات ذهبت يمينًا وشمالًا؛ أي ترجمة موسى وهبي لنقد العقل المحض، ثم الترجمات الأخرى التي أعقبتها تلك غربت وهذه شرقت؛ يعني لم نجد ترجمة وسطًا، وأصبحت هذه الكتب الثلاثة موجودة في العربية ويستطيع قارئ العربية الذي لا يعرف الألمانية أن يطلع عليها، ويمكن لقارئ ما أن يقرأها بترجمات أخرى الإنجليزية أو الفرنسية. هذا المشروع النقدي الثلاثي كان يحاول فيه أن يجيب على سؤال ما هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه العقل من الدين؟ لكن الجواب الأكثر وضوحًا يقع في المؤلف الذي نشره سنة 1793 ضمن البرنامج الذي يحمل عنوان الدين في حدود العقل المجرد وحده. هذا المؤلف الذي صدر بعد مرور عامين؛ كل هذه التفاصيل ضرورية لنفهم موقف كانط النقدي من الدين، وكيف أدرج مشكلة الدين في مشواره النهائي بالتخلي عن ثيوديسيا لايبنز، وذلك في دراسته المشهورة التي عنوانها إخفاق كل المحاولات الفلسفية في ثيوديسيا، وهو يتألف من أربعة أبحاث؛ أي الدين في حضور العقل المجرد في أربعة أبحاث كانت مخصصة أصلًا لمجلة واسعة الانتشار في ألمانيا، وبحث واحد من هذه الأربعة أبحاث هي التي نالت أو حظيت برضى سلطة المراقبة بالكنيسة ونشرت في الكتاب الشهري البرليني.
أضاف: بدأت بهذا السؤال الإمكاني ماذا يجوز لي أن أرجوه؟ السؤال الذي يندرج في سياق السؤال المزدوج السابق الذي بدأ به المشروع النقدي ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا علي أن أفعل؟ والسؤال الثالث ماذا يجوز لي أن أرجوه؟ بواسطة هذا السؤال أدخل كانط فكرة الدين عنده ضمن مشروعه، نقطة تقاطع الأسئلة كلها هذه هو السؤال الأساسي الجوهري الذي هو أصعب الأسئلة على الإطلاق وهو ما الإنسان؟ إذا كان كانط يحاول أن يقول ماذا يمكنني؟ ماذا يمكن للإنسان أن يعرض؟ وماذا على الإنسان أن يفعل؟ وما الذي ينبغي للإنسان أو ما يجوز للإنسان أن يرجوه؟ ما الإنسان؟ والملفت أنه على خلفية هذه الأسئلة التوجيهية الإرشادية يمكن أن نفكك، أو أن نحاول فك رموز فلسفة كانط الدينية، طبعًا الآن أنا سأرسم مسارًا، ولن أتحدث في فلسفته الدينية. فإذا استطعنا أن نفك هذا المسار، وإذا كان السؤال ماذا يجوز لي أن أرجوه هو الذي يحرك فلسفة الدين عنده فإن معناه لا يمكن بأي حال من الأحوال تبسيطه إلا من خلال المحطات الثلاث: نقد العقل المحض، ونقد العقل العملي، وكتابه الثالث الدين في حدود العقل وحده، أو مجرد العقل وحده، وكما قلت يجب محاولة – وهذا شيء غالبًا ما ينساه الباحثون- سؤال رابع ما الإنسان في التأويل الكانطي للدين؟ ومن بين كل الأسئلة هذا السؤال الأكثر أساسية.
واعتبر أن هايدغر حاول ذلك من خلال قلب المشروع الكانطي رأسًا على عقب بأن يبدأ بسؤاله الأخير الأساسي الذي ينبغي أن تؤسس من خلاله ليس أنثروبولوجيا فلسفية، إنما ميتافيزيقا للدزاين فيما يتعلق بتأويل الواقع. بول ريكور في قراءته لهذه الثلاثية عند كانط في كتابه الإنسان الخطاء، قال كيف يمكننا أن نعيد فهم الإنسان استنادًا إلى ثلاثية كانط، وهي الطمع، غريزة السيطرة، وحب الشهرة التي تشكل العناصر الثلاثة الأساسية في الطبيعة البشرية كيف يُفهم الإنسان، ثم كيف يكون الإنسان استنادًا إلى مثل هذه العناصر الثلاثة إنسانًا دينيًّا وما علاقته الدينية بهذه المشاعر؟
ختم: يربط كانط الدين بأكمله وليس فكرة الله وحدها بالعقل العملي، وهذا له علاقة حقيقة بفهمه لحدود العقل نفسه، وأن العقل لا يمكنه بأي حال من الأحوال، العقل النظري طبعًا، أن يحيط إلا بالظواهر، وأن الأشياء في ذاتها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحيط بها، فنقل فكرة العقل فكرة الله إلى حضور العقل العملي هل نجح في ذلك؟
ثم كان الكلام للدكتور عقيل البزوني، فعرّف به الدكتور سمير قائلًا: الدكتور عقيل لديه شهادة دكتوراه في الترجمة من اللغة الإنجليزية، وهو أستاذ في قسم الترجمة في كلية الآداب، وأيضًا درّس مواد منهجية، شغل منصب رئيس قسم اللغة الإنجليزية في جامعة دجلة، ودرس الفلسفة المعاصرة باللغة الإنجليزية، وكذلك باحث ومختص في الفلسفة المعاصرة خصوصًا فلسفة مارتن هايدغر، وله اطلاع واسع بالتصوف وتحديدًا عند ابن عربي، رئيس مؤسسة الإبداع الفكري للدراسات الخصوصية، وانتخب عضوًا في مجلس النواب العراقي، وبعد انتخابه مرتين اعتزل العمل السياسي وتفرغ للبحث الفلسفي، هو أيضًا عضو المجمع الفلسفي العربي.
بدأ الدكتور عقيل كلمته بشكر معهد المعارف الحكمية على إتاحة هذه الفرصة التي تجعلنا نجمع الفكرة والدين والفلسفة، ثم قال: بطبيعة الحال أن نتحدث عن كانط هذا يعني أن نتحدث عن صفحة جديدة طوتها الفلسفة منذ وجود هذا الشخص، وأن نتحدث أيضًا عن فلسفة الدين بشكل عام عنده أن نقف عند مواقف كثيرة وآفاق عديدة نحاول من خلالها أن نجد ما هو أصيل وجديد عند هذا الشخص، وكيف استطاع أن يفتح آفاق جديدة من حقيقة التفكير الفلسفي في الدين.
وأضاف: بطبيعة الحال أن الولوج عند كانط من أجل معرفة كيفية مقاربته لفلسفة الدين، أو ما الذي أحدثه في كتابه الدين في حدود مجرد العقل باختلاف الترجمات، حيث اعتبر الدين وحيانيًّا تلقينيًّا إيمانيًّا بدون تعقل وتدبر وتفكر، أما البعد العقلي والذهني والتحليل المنطقي يستدعي منه الموضوعية والخروج خارج المسلمات، إلا أن النقطة الأساسية التي حاول من خلالها كانط أن يوفر شكل جديد من التفكير في الدين هو قوله أنه ثمة دين واحد يمكن أن يكون لكل البشرية مع اختلاف معتقداتهم، وأنا أعتقد بأن هذه النقطة قد قالها قبله ابن عربي عندما قال بتعدد المعتقدات، أو ما جعلها أو ما سماها بالجعل في المعتقدات، أو إذا ما أردنا عبارته الشهيرة لون الماء لون الإناء. وبالتالي كل واحد منا ينصبغ في مقاربته للدين في حدود مجرد عقله.
تابع: حاول كانط أيضًا أن يؤطر الدين بإطار العقل وحده ليس على سبيل مقارعة الدين أو تهديم الأنظمة الوحيانية كما فهم بعضهم، ولكنه رأى بأن فكرة الدين بما هي فكرة عقلانية أودعها الله في هذا العقل الذي تساوت فيه جميع البشرية يمكن أن يخرج الدين من أزمته الدغمائية أو من أسيجته التي أطرته فيما يسمى باللاهوت، أو ما شاكل ذلك يمكن للدين إذا ما استخدمنا عقلنا المجرد بعبارة كانط، أن نؤلف شيئًا جديدًا من الظواهر الدينية، والسؤال الذي طالما حارت فيه الفلسفة كيف تحول الله إلى فكرة؟ أو بعبارة هايدغر كيف دخل الله إلى الفلسفة يعني كيف يمكن تعقل فكرة الله جل وعلا من خلال العقل المجرد، إذا ما استحضرنا هنا مشروع كانط وكما تفضل أستاذي الكبير دكتور خنجر لا يمكن فهم فلسفة الدين عند كانط بمعزل عن مشروعه الثلاثي النقدي إنها صورة مرتسمة ليس على مدار النقد بما هو نقد أو كريتيك أي أنه رسم الحدود للعقل بشتى أطواره، وبالتالي هي فكرة لفتح القيود التي فرضت على فاهمة الناس أو البشرية من خلال المستلبات أو الشعائرية كما يسميها كانط، بعبارة أخرى اعتبر كانط أن دين يحارب العقل لا يمكن له أن يصمد أمامه في مستقبل الأيام، وبالتالي حاول كانط أن يعيد للدين مركزيته في عملية التفكر الكوني، يقول كانط: إن كل تفكر في الدين من خلال الوحيانيات أو الطقوس أو الشعائريات هو بعد محلي أو جماعة يمكن أن تكون سياسية أو دغمائية أكثر منها أن تكون بشرية؛ أي أنه بما هو للبشري من عقد حقيقي في مجال استخدام العقل. وبالتالي إذا ما ذهبنا إلى استخدام العقل بمجرده يمكن له أن يتصور أنماط جديدة من فهم الدين أو الإيمان الحر. ويقصد بالإيمان الحر هو ذلك الإيمان الذي يوفر لنا شكلًا أصيلًا من استخدام العقل بمجرده في مقاربته لفكرة الله ولفكرة الدين. وهذا لا يتم إلا عن طريقين؛ طريق الأساس هو في مسألة الأخلاق.
وأردف: كانط من أولئك الذين أسسوا لفكرة أن تكون متخلقًا بعد ذلك يمكن لك أن تكون متدينًا وليس أن الدين هو الذي يوجب الأخلاق، وهذا ليس بغريب عن أدبياتنا الإسلامية لأن النبي (ص) يقول: إنما بعثت ليس لأنشئ مكارم وإنما لأتمم مكارم الأخلاق؛ أي إن الأخلاق بما هي أخلاق يتشارك بها جميع البشر إذا ما استحضرناها عن طريق الواجب الذي كان يؤكد عليه كانت بغض النظر عن أي أخروية أو منفعية أو ما يسميه كانط الكفارة، أو الضمانة الأخروية؛ أي إننا نفعل ونصلي ونصوم ونحج حتى ننال رضا رب العالمين، ومن ثم ندخل الجنة، وأنا أجد أيضًا في مدار الحديث أن فكرة الله سبحانه وتعالى، بمعزل عن كل الشرائط التي قد توضح في بعض المدونات الدينية، أنّ هذا موجود عند الإمام علي (ع) عندما يقول: إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك. بالتالي ضمنًا هو يرى حرية العقل عن طريق الأخلاق، مما يعني أنّ لكل عمل غاية وجدوائية من كل فعل خير يمكن أن نفعله؛ لأن الإنسان لا هو شرير بطبعه، ولا هو خير بطبعه، بغض النظر عن ما يفهمه الآخر من أن كان قال إن الإنسان شرير بالطبع. كانط يقول: إن استعمال حرية العقل عن طريق الأخلاق إذا ما استخدمتها بطريقة ما يمكن أن تكون شريرًا، وإذا ما استخدمتها بطريقة ما يمكن أن تكون خيرًا.
ختم: لا أدعي بأن منظومة كانط في فلسفة الدين هي منظومة خاصة وكاملة لكنها أيضًا تدعونا إلى فتح آفاق جديدة من استعمال العقل في إيجاد رؤية أخرى لا يمكن أن تتوفر وفق رؤية القبول الذي نراها في أفق الجماعات.
وختام الندوة كان مع الدكتور أحمد ماجد، فعرّف به الدكتور سمير بأنه رئيس تحرير مجلة المحجة ورئيس قسم الدراسات في معهد المعارف الحكيمية، أستاذ بمادة الفلسفة وتاريخ الأفكار ومادة المنهجية، وطبعًا هو أيضًا مدير لمجلة العتبة منذ 2012-2015، لديه مجموعة من المؤلفات منها معجم دلالات الأنفاظ في تفسير الميزان، أيضًا لديه مجموعة تحقيقات حول المعجم المفهرس لألفاظ الصحيفة السجادية، تحقيق رسالة الأصول الثلاثة لصدر الدين الشيرازي، تحقيق كتاب الرد على الدهريين، وتحقيق كتاب خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء. له مجموعة من المشاركات في المؤتمرات الدولية والوطنية والعربية في موضوعات فلسفية وفكرية متنوعة، وأيضًا يعمل على أول مكنز إلكتروني في المنطق والأخلاق والفلسفة السياسية.
بدأ الدكتور أحمد كلامه بالقول: “كلّ شيء يوحي بالتعقيد عند كانط، وفلسفته في الدين ليست استثناءً من هذه القاعدة، وإن كانت لديه توحي بالبساطة للوهلة الأولى؛ ولكن عندما نتعمق أكثر في البحث، يتبين لنا أنّها عكس ذلك، ويمكن القول: إنّها أكثر غموضًا. ولمساعدتنا على شق طريقنا عبر المتاهة الكانطية قد يكون من المفيد أن نحدّد بشكل عام غايات الأطروحات الرئيسية لفلسفة كانط في الدين.
- لا يمكن للعقل التأملي أو النظري؛ أي العقل الذي يهتم بمعرفة الصحيح والخاطئ عن عالم خبرتنا، وبشروط إمكانية هذه المعرفة، أن يُثبت أو ينفي وجود إله، أو في الواقع أن يُثبت أيّ شيء إيجابي على الإطلاق عن النظام الديني. فالعقل التأمليّ النظريّ بطبيعته هو عقل لاأدري عن الله، وفي هذا الصدد، يعتبر أنّ أيّ حقائق أخرى تتجاوز خبرتنا العادية لا يمكن أن يصل إليها العقل. وهذه أطروحة فلسفية بحتة مستمدة من تحليل “نقدي” لنطاق وحدود العقل التأملي.
- الدين في جميع الأحوال ليس ظاهرة تأملية، بل ظاهرة عملية أو أخلاقية، وهذا يعني أن يكون المرء متدينًا، بالنسبة إلى كانط، لا يقتضي أن يوافق على حقائق معينة، بل أن يوجه حياته باتجاه معيّن. وبعبارة أخرى، الدين هو مسألة إرادة، ومن المفهوم أن الإرادة بالنسبة لكانط تتطابق مع العقل العملي، أي العقل بقدر ما يتعلق الأمر بالاعتراف بأن بعض الأفعال يجب القيام بها، أو أن بعض المواقف يجب تبنيها. يمكن القول: إن الدين هو أحد الشروط العملية للأخلاق، أو على الأقل أحد الأبعاد المهمة للأخلاق، ولا يصبح مفهوم الله ذا معنى بالنسبة لنا إلا من خلال الأخلاق، أي من خلال التجربة المعاشة للحياة الأخلاقية. وقد تأثر بشكل كبير على هذا الصعيد بأفكار روسو حول الدين.
- إنّ تحليل العقل العملي، بقدر ما هو معني بوصف الكيفية التي يجب أن نتصرف بها، وليس بوصف ما هو كائن، يسمح لنا بأن نستنتج وجود الله (مع خلود الروح) باعتباره “فرضية”، أو افتراضًا مسبقًا لممارسته الكافية. نحن لا نعرف نظريًّا، أنّ هناك إلهًا؛ لكن تحليلنا للعقل العملي يُظهر لنا إمكانية وجوده بشكل حقيقيّ، ومن ثم تتضح لنا حقيقة الله في عيش الحياة الأخلاقية. الله هو ذلك الذي يبرر أملنا في بلوغ الخير الأخلاقي الأسمى وفي أن نصبح كاملين وسعداء أخلاقيًّا. أو بعبارة أخرى، وهو ما يقترحه كانط أحيانًا، أن نؤمن بأنّ الكمال الأخلاقي يمكن بلوغه في نهاية المطاف، وأنّ الفضيلة والسعادة ستتطابقان في النهاية، وفي الواقع مع الإيمان بالله.
- 4. يتحدث كانط أحيانًا كما لو كان جوهر الدين متطابقًا مع الأخلاق، بالمعنى الذي ذكرناه للتو. إنّ مجرد الإيمان بالله يعني اتخاذ مواقف أخلاقية أساسية معينة. وهذا ينطوي، بالطبع، على إنكار أيّ بعد خارق للطبيعة أو الوحي الديني، وإلغاء التأكيد على الجوانب الخاصة والتاريخية للمسيحية. لكن في أحيانٍ أخرى، يتحدث كانط كما لو أن الله موجود بطريقة “متعالية” بشكل مستقل تمامًا عن أي مواقف أخلاقية قد تكون لدينا. ومن هذا المنطلق، فإنه يفسح مكانًا للبعد الخارق للطبيعة في المسيحية، وكذلك لجوانبها التاريخية والخاصة.
أضاف، سيتضح من هذا الملخص الموجز أنّ هناك شقين متمايزين تمامًا في فلسفة الدين عند كانط:
أولًا: إذا نظرنا إلى الدين في سياق العقل التأملي/ النظري، فإنّ مهمة الفلسفة اتجاه الدين هي مهمة سلبية بحتة أو لاأدرية. وتتمثل وظيفتها ببساطة في إفساح المجال للإيمان من خلال تحديد نطاق العقل التخميني الافتراضي بطريقة تجعل من البراهين التخمينية الافتراضية ونفي وجود الله على حد سواء وهمية. وإذا لم نتمكن من إثبات وجود الله، فلا يمكننا بالمثل دحضه: “العقل النظري العاجز عن إثبات وجود الله عاجزٌ كذلك عن إثبات عدم وجوده”.
ثانيًا: في منظور العقل العملي، يصبح كلّ من إمكانية الله وحقيقته واضحين لنا، وبالتالي فإنّ للفلسفة، بقدر ما هي معنية بافتراضات أو مسلمات العقل العملي، تأخذ مواقف إيجابية فيما يتعلق بالدين. في الواقع، إذا ما تبنينا هذه القراءة الكانطية، فإنّ الفلسفة – بالمعنى الذي وصفناه للتو- لا تمهد الطريق للدين فحسب، بل هي في الواقع متطابقة مع الدين. فالاعتراف ببعض مسلمات العقل العملي – تلك الشروط التي بدونها تكون عمليات العقل العملي أو الأخلاقي “غير مبررة” – هو في الواقع الاعتراف بوجود الله، وهذا ما يتيح الطريق أمامك لأن تكون شخصًا متدينًا.
وختم، مع هذه الخطة العامة التي أمامنا، دعونا نلقي نظرة أكثر تفصيلًا على موقف كانط، حيث يخبرنا في إحدى رسائله أن “نقد العقل المحض” كُتب من أجل حلّ التناقضات التي تواجه العقل بمجرد أن يحاول الانخراط في أي تكهنات “متعالية”: “هذا ما أيقظني أولًا من سباتي العقائدي ودفعني إلى نقد العقل نفسه، من أجل حلّ فضيحة التناقض الظاهري للعقل مع نفسه”.
وفي ختام الندوة، فتح مدير الجلسة النقاش مع الحاضرين، حيث طرحت العديد من الأسئلة، تمّ الإجابة عنها.
المقالات المرتبطة
تأصيل التكامل المعرفي عند محمد محسن الفيض الكاشاني
أقام معهد المعارف الحكميّة ضمن برنامجه الدّوري “المنتدى الفلسفي” لقاءً فلسفيًا بعنوان “تأصيل التكامل المعرفيّ عند محمد محسن الفيض الكاشاني”مع الأستاذ والباحث حسين إبراهيم
البعد الاجتماعي في الأمة – السيد علاء الدين الجزائري
إنّ مفهوم الشهادة هو من المفاهيم الأساسية التي أسّس لها الإسلام، يُراد منه الموت أو القتل في سبيل الله عز وجل. وخارجًا عن إطار الدين والإسلام يشغل مصطلح الموت بال الجميع.
أم الشهداء- اليوم الرابع
وختم معهد المعارف الحكمية إحياء الليالي الفاطمية لليوم الرابع في مجمع المجتبى (ع)، فبعد قراءة آيات من الذكر الحكيم، كان الكلام لسماحة الشيخ شفيق جرادي، حيث تابع في اللقاء الرابع والأخير