الابتلاء والصبر عند أهل التصوف

الابتلاء والصبر عند أهل التصوف

مقدمة

اقتضت حكمة ورحمة الخالق سبحانه أنْ ترتبط حياة الناس في الدنيا بالابتلاء والمرض والفقر، وأنْ تنتهي بالموت حتى لا يَركَن الناس إليها وتتعلق قلوبهم بها، فينسون ربَّهم وآخرتَهم.. وما بين الحياة والموت يعيش الإنسان معرّضًا للبلاء، ومن المنطقي أن يجزع المرء، ولذلك أوجد الله الصبر مفتاحًا للأمل.

وهذا مقال حول الصبر والابتلاء بصورة عامة، وعند أهل التصوف بصورة خاصة.

الابتلاء

قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾[1].

 وقال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم﴾[2].

الصبر بعد البلاء

قال تبارك وتعالى: ﴿يا أَيُّها الَّذِينَ ءَامَنوا اسْتَعِينوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾[3].

وقال جَل وعلا: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حساب﴾[4].

وقال عز وجل: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاما﴾[5].

هذه الآيات وغيرها ترشِدنا إلى أنّ الصبر على الابتلاء هو أحد أهمّ علامات الإيمان والرشاد، وأنّ لِذلك جزاءً كبيرًا ومنزلةً عظيمةً عند اللَّه تعالى.

من قبس الصبر النبوي.

اللهمّ صَلِّ على سيدنا محمد وآلِهِ الذي خرج إلى الطائف فلَقِيَ أَشَدَّ الإيذاء، وشكى إلى رَبِّه صابرًا فعَلَّمَنَا الصبرَ على البلاء، من خلال سيرته الشريفة وإنسانيته الكبرى، فهو القدوة الحسنة في كل شيء، ويرى أهل التصوف في النبي (ص) القدوة الحسنة، وحاولوا النهل من نبراسه، خاصة فيما يتعلق بصبره النبيل رغم الابتلاءت الكثيرة.

مراتب الصبر عند الصوفية.

ذَكَر الإمام الغزاليّ في إحيائِه أنّ في كُلِّ فَقْرٍ ومَرَضٍ وخَوْفٍ وَبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا خَمْسَة أمور يفرح العاقل بِهَا: أَحَدُهَا أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ وَمَرَضٍ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهَا؛ فَلْيَشْكُرْ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا[6].

الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يُمكِنُ أَنْ تَكُونَ مُصِيبَتُهُ فِي دينه. الثالث أنّه ما مِن عقوبة إلّا وكان يُتَصَوَّر أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمَصَائِبُ الدُّنْيَا يُتَسَلَّى عَنْهَا بِأَسْبَابٍ أُخَرَ تَهُونُ الْمُصِيبَةُ فَيَخِفُّ وَقْعُهَا، ومصيبة الآخرة تدوم. الرَّابِعُ أَنَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ وَالْبَلِيَّةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِهَا إِلَيْهِ وَقَدْ وَصَلَتْ وَوَقَعَ الْفَرَاغُ وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْضِهَا أَوْ مِنْ جَمِيعِهَا؛ فَهَذِهِ نعمة. الخامس أنّ ثوابها أَكْثَرُ مِنْهَا[7].

فما مِن شيء من هذه الأسباب يوجَد مِن العبد إلاَّ ويُتَصَوَّر أنْ يَكون له فيه خيرة دينية؛ فعليه أنْ يحسِن الظَّنَّ بالله تعالى ويقدِّر فيه الخيرة ويشكره عليه؛ فإنّ حكمة الله واسعة، وهو بمصالح العباد أَعلَمُ مِن العباد، وغدًا يشكره العباد على البلايا إذا رأوا ثواب الله على البلايا كما يشكر الصبي بعد العقل والبلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه[8].

وقال (ص): “أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ فيُبتلَى الرجل على حسب دينِه: فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة ابتُلي على حسب دينِه”[9].

ولذا نجد الفضيل بن عياض يؤكِّد على ذلك المعنى بأنّ البلاء مِن اللَّه إنما هو لِخير العبد الصابر وصالحِه؛ قال: إنّ الله عز وجل لَيتعاهد عبدَه المؤمِنَ بالبلاء كما يتعاهد الرجلُ أهلَه بالخير[10].

وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: الصبر أساس الخير؛ الخيرات كلها تحت أقدام الصبر، ولهذا كرّر الله عز وجل ذكره وأكد أمره؛ فقال عز من قائل: ﴿يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا اصْبِروا وَصابِروا وَرابِطوا واتَّقوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ﴾[11].

وقال لقمان لابنه: إنّ الذهب يجرَّب بالنار، والعبد الصالح يجرَّب بالبلاء؛ فإذا أَحَبَّ الله قومًا ابتلاهم: فمَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السخط[12].

وأشار العلّامة الآلوسي إلى أنّ الصبر على البلاء خصيصة مِن خواصّ الإنسان التي امتاز بها على سائر المخلوقات؛ فلا يُتَصَوَّر ذلك في البهائم والملائكة، وهي إشارة لطيفة تؤكِّد القولَ بأنّ الإنسان هو النسخة الخَلقيّة القابلة لِلكمالات التي تؤهِّله لأنْ يَكون خليفةً دون غيرِه مِن المخلوقات[13].

وفي عِظَمِ جزاء الصبر قال النبي (ص): “قَالَ اللَّهُ تعالى: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييتُ منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانًا أو أنشر له ديوانًا”[14].

وقال: “إنّ الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، وإذا ابتلاه صَبَّرَه”[15].

وعن خبّاب بن الأرت (رض) قال: “أتيتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ – وهُوَ متوسِّد بردائه في ظِلِّ الكعبة، فشكونا إليه فقلنا: يا رسول الله.. ألاَ تدعو الله تستنصره لنا؟ فجلس محمَرًّا لونُه، ثم قال: إنّ مَن كان قَبلَكم لَيُؤتَى بالرَّجُل فيُحفَر له في الأرض حفيرةً ويجاء بالمنشار فيُوضَع على رأسِه فيُجعَل فِرقتَيْن ما يَصرِفُه ذلك عن دينه”[16].

ولِذَا وصف بابُ مدينة العلم الإمام عَلِيّ (ع) الصبرَ بأنّه شجاعة، وأنّه مطيّة لا تكبو[17].

وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والثبات مع الله عز وجل، وتلقِّي مُرِّ أقضيتِه بالرحب والسعة على أحكام الكتاب والسُّنَّة[18].

وأَكَّد ذلك السيد أحمد الرفاعي حيث قال: الصبر هو إيقاف القلب عند حكم الرب، ومِن جميلِ ما يُحكَى في الحثّ على الصبر ما يُروَى عن إبراهيم بن أدهم أنّه خرج يومًا على الفقراء فنظر إليهم وقال: أهل بلاء الله في نعمه، وأهل نعم الله في بلائه.. إنّ الله قد جعلكم لِلبلاء أهلًا؛ فكُونُوا لِلصبر أهلًا[19].

ولِلصبر على البلاء مراتب ومقامات تختلف باختلاف الصابرين، وقد تنوعَت أقوال العلماء في ذلك.

فقال أبو طالب المكي في (قوت القلوب): جَعَل بعضُ العارفين الصبرَ على ثلاث معانٍ: أوله ترك الشكوى؛ وهذه درجة التائبين، وثانيه الرضا بالمقدور؛ وهذه درجة الزاهدين، وثالثه المحبة لِمَا يصنع به مولاه؛ وهذه درجة الصادقين[20].

وقال بعضهم: الصبر أربعة أنواع: صبر على الطاعة وصبر على المعصية؛ وهما أساس طريق الاستقامة، وصبر عن فضول الدنيا؛ وهو أساس الزهد، وصبر على المصائب والمحن؛ وهو أساس الرضا والتسليم لله تعالى وحسن الظن به؛ وهذا أَشَقُّ الأنواع الأربعة على النفس[21].

وحَدّ الصبر أنْ لا تَعتَرِض على التقدير؛ لِقول النَّبِيّ (ص): “لا تتهم الله في شيء قضاه عليك”، أمَّا إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر.

ولِلإمام جعفر الصادق (ع) كلام بديع في الصبر وأحوالِه؛ حيث يقول: الصبر يُظهِر ما في بواطن العباد مِن النور والصفاء، والجزع يُظهِر ما في بواطنِهم مِن الظلْمة والوحشة، والصبر يدعيه كُلُّ أحد وما يَثبت عنده إلاَّ المخبِتون، والجزع ينكِره كُلُّ أحد وهو بَيِّن على المنافِقين؛ لأنّ نزول المحنة والمصيبة مخبِر عن الصادق والكاذب[22].

وقال الإمام علي (ع): وكُلُّ نازلة خلت أوائلها مِن الإخبات والإنابة والتضرع إلى الله فصاحبُهَا جزوع غير صابر[23].

ويصف الشيخ محيي الدين بن عربيّ حالَ الصابرين توصيفًا رائعًا في قوله في فتوحاته المكية: هم الذين ابتلاهم الله فحبسوا نفوسَهم عن الشكوى إلى غير الله الذي أَنزَلَ بهم البلاءَ، وما وهنوا لِمَا أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا عن حمله؛ لأنهم حملوه بالله، وإنْ شَقَّ عليهم لا بُدّ مِن ذلك، وإنْ لم يَشُقّ عليهم فليس ببلاء، وما استكانوا لِغير الله في إزالته.، وعن ثمرة الصبر وفائدتِه قيل: تجرع الصبر؛ فإنْ قَتَلَك قَتَلَكَ شهيدًا، وإنْ أحياك أحياك عزيزًا[24].

 خلاصة الأمر، أنّ لِلابتلاء حِكَمًا وفوائد، وأنّ الصبر أحد أهمّ السبل لِنَيْل رضا المولى سبحانه، وهو القادر على أنْ يَجعَلَنَا عبيدَ إحسان شاكرين، أو عبيدَ ابتلاء وامتحان صابرين راضين؛ فبأيّهمَا قَدَّر رضينا بحُكْمِه واستكَنَّا لِمشيئتِه وخضعنا لإرادتِه؛ فالحمد لله على كُلِّ حال.

[1] سورة البقرة، الآية 155.

[2] سورة محمد، الآية 31.

[3] سورة البقرة، الآية 153.

[4] سورة الزمر، الآية 10.

[5] سورة الفرقان، الآية 75.

[6] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، دار العلم للملايين، 1993. بتصرف من أجزاء الكتاب.

[7] المصدر نفسه.

[8] المصدر نفسه.

[9] نقلًا عن موقع دار الإفتاء المصرية https://www.dar-alifta.org/ar

[10] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، باب الفضيل بن عياض، القاهرة، دار الريان للنشر، 1986، الجزء8، الصفحة 296.

[11] الذهبي، سير أعلام النبلاء، باب الفضيل بن عياض، المصدر السابق، الجزء 8، الصفحة 298.

[12] المصدر نفسه، الجزء 8، الصفحة 300.

 [13] آية الله الشيخ مجتبى الطهراني، الأخلاق الإلهية، ترجمة: حيدر الحيدري، من مكتبة نور الإلكترونية، الجزء1. بتصرف من صفحات الكتاب.

 [14] مرتضى الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مكتبة نور الإلكترونية، الصفحة 546.

[15] من موقع دار الإفتاء المصرية https://www.dar-alifta.org/

[16] ابن  هشام، السيرة النبوية، القاهرة، البابي الحلبي للنشر، نسخة قديمة، الجزء 2، الصفحة 243.

[17] نقلًا عن خطبة للشيخ د. خالد بن عبد الرحمن الشايع، موقع youtube

[18] مرتضى الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مصدر سابق، بتصرف من صفحات الكتاب.

[19] مرتضى الزبيدي، إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مصدر سابق، بتصرف من صفحات الكتاب.

[20] المصدر نفسه، بتصرف من صفحات الكتاب.

[21] كتاب مصباح  الشريعة، منسوب للإمام الصادق، نسخة كمبيوترية، الصفحة 185.

[22] آية الله الشيخ مجتبى الطهراني، الأخلاق الإلهية، ترجمة: حيدر الحيدري، مصدر سابق، الجزء1، بتصرف من صفحات الكتاب.

[23] المصدر نفسه، الجزء1، بتصرف من صفحات الكتاب.

[24] د. نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2005، بتصرف.

الأستاذ عاطف وفدي

الأستاذ عاطف وفدي

باحث في الشأن الإسلامي الصوفي



المقالات المرتبطة

عسكرة الثقافة واستعمارها

صراع الهوية بين الداخل والخارج، صراع يفقد الإنسان مقوماته الإنسانية، ويضعه أمام خيارات أحلاها مر، فالمواجهة هنا ليست من صنو

سؤال الهوية في العالم العربي

تناول الكثيرون مسألة الهوية وعلاقتها بموضوعات متعددة مثل: الهجرة، وشيخوخ السكان، والانتماء

مفهوم الحياد السياسيّ

يفيد مصطلح الحَياد، لغويًّا، دلالة الميل والانحراف وترك الجادة الصحيحة والفرار وحماية النفس من الرماة، لأنّ الكلمة في أصل الوضع اسم فعل أمر قياسيّ

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<