زلزال تركيا والهزات الارتدادية في عقول الملحدين

زلزال يتجاهل الحدود الدولية والصراعات الأيديولوجية لتتوحد أمامه الإنسانية مستحضرة نعمة سكون الأرض تحت أقدامنا.
تأتي هذه الكوارث لتذكرنا بأن استمرار حياتنا هو مُعجزة تُصان كل لحظة بقوة خارجة عن إرادتنا، ومهما بلغت بنا الغفلةُ واندمجنا مع أدوارنا في مسلسل الحياة والطموح يأتي فجأة ما لم يكن في الحسبان مرة على مستوانا الشخصي وأخرى على مستوى البشرية، لكن تختلف ردات الفعل، ففريق يجعل من هذه الكوارث فرصة للسخط على الحياة وتحميل من خلقها المسؤولية طالما لم يمنع حدوث هذه الكوارث، وفريق آخر ينظر إلى هذه الكوارث المؤلمة فرصة لتوقير كل لحظة تستمر فيها حياة على هذا الكوكب سواء كانت حياة إنسان أو حيوان أو نبات لأن استمرارها هو معجزة متجددة.
فإذا كان اهتزاز للقشرة الأرضية (ليس الأعنف) قد تسبب في كل هذا الضرر وأدى إلى عشرات آلاف الضحايا فتخيلوا معي لو تبدد الغلافُ الجوي، أو لو ارتفعت حرارةُ سطح الأرض، أو بدأت القارات في الغرق، أو انطفأت عينُ الشمس!
ألا تكفي واحدة من هذه الكوارث لإبادة كل أشكال الحياة خلال دقائق؟
وكما أنّ مرارةَ الأمراض تذكّرنا بأنّ عافيتَنا وعافيةَ من نُحبُّهم هي نعمة مستمرة متجددة كلّ لحظة، فالعجيب حقًّا هو أننا فقدنا الشعور بالاندهاش من قلوبنا التي ما زالت تَخفُقُ بين جنبينا دون إرادة منا أو انتباه، أو لأننا ما زلنا نجد الهواء الكافي للتنفس كلما أردنا التنفس، أو لأن كريات الدم البيضاء في دمائنا لم تختلط عليها الأمور فتبدأ في مهاجمة أجسادنا وأعضائنا الحيوية!
التفاصيل السابقة قد لا يستحضرها الكثيرون، لكن الكوارثَ والأمراض ومختلف المصائب هي سبب لنستذكرَ ما اعتدنا على نسيانه من النعم التي تغمر حياتنا، ثم بعد ذلك بالإيمان نجدُ الصبر والعزاء والأمل حين لا يجد غيرُ المؤمنين سوى الحزن والخوف واليأس والفناء.
في النهاية مهما تمتع الإنسان بالصحة والعافية وأخطأته سهام المصائب والكوارث فلا بدّ من الموت، بل من الممكن أن يساهم الإنسانُ في صناعة الموت والتعجيل به تمامًا كما يساهم في صناعة الكوارث والتعجيل بها، فالبعض يربط بين زلزال تركيا وبين ضخامة السدود التي تم إنشاؤها فوق منطقة نشطة زلزاليًّا، فعندما يزداد ضغط الماء في الصخور يعمل على تليين الصدوع الموجودة تحت إجهاد تكتوني، وبسبب التغير في الإجهاد نتيجة وزن الماء تعيدُ البيئةُ توازنها بحدوث الزلازل.
ويعتقد بعض العلماء أن زلزال سيتشوان الصينية عام 2008 والبالغ قوته 7.9 درجة، والذي أودى بحياة 80 ألف إنسان هو مثال لتلك الزلازل حيث ربطه الخبراء ببناء سد زيبينغو.
قراءة الملحدين معكوسة
لم يأت نبي من الأنبياء ليقول للناس إن الإيمان بالله سيمنع الموت في الدنيا أو سيُلغي وجود الكوارث والآلام منها، بل على العكس تمامًا كان الأنبياءُ غالبًا مستضعفين يتعرضون لكثير من الأذى والمخاطر والمحن هم ومن يتبعهم، وعندما فسروا ظاهرة الموت والكوارث والآلام للبشرية فقد فسروها بطريقة وجد الناس فيها العزاء وتجاوزوا اليأس، بل وشعروا بالأمل فكل ما نعيشه في حياتنا الدنيا ونعايشه ليس سوى مرحلة تمحيص قصيرة مقارنة مع الحياة الحقيقية الدائمة التي تنتظرنا بعد الموت والتي يتحدد فيها المصير النهائي لكل فرد بحسب استحقاقه، ولن تكون مختلف التجارب التي مر بها في الدنيا في ذاكرته سوى مشاعر متزاحمة من الفرح والألم والسعادة والحزن والأمن والخوف والفخر والإحباط لا تتجاوز كلها، بحسب المعايير الأخروية، ساعة من نهار تعرّف فيها على الناس وأبجديات الحياة.
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[1]
الملحدون يقرأون المسألة بالمعكوس، هم يعتبرون الكوارث والآلام فرصة لإثبات غياب الحكمة والرحمة في إدارة الكون.
ولا أدري ماذا ستستفيد البشرية من الترويج لمثل هذه الأفكار التي تبث اليأس بين الناس في وقت الكوارث العصيبة؟
لا أرى مبررًا لها سوى المكايدة السياسية والأيديولوجية.
فحسب منطق هؤلاء ثبوت وجود الله مرتبط بأفعاله، فحين تحدث كارثة وهو لا يمنعها فذلك معناه أنه غير موجود! ثم يتساءلون: إذا كان موجودًا ولم يمنع الكارثة فما هي الحكمة من ذلك؟
﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[2].
إن حياتنا التي تزخر بالعافية والراحة في أكثر من 90% من تفاصيلها يتخللها بين الحين والآخر نقص أو هم أو حزن لعل الحكمة منه هي التذكير بأن هذه الحياة الدنيا ليست الغاية ولا النهاية، وينبغي علينا أن نتطلع لما هو أعظم وأجمل وأبقى.
ومثلما قد تبدو الأم الرحيمة قاسية على طفلها في موقف ما وهو يصرخ صراخ الحزن والحرمان الذي تذوب له القلوب، بينما الأمّ في الواقع تقوم بوظيفتها التربوية اتجاهه، فهذه التربية العالمية للبشرية والتي قد تبدو قاسية في 1% من مظاهرها هي عينُ الرحمة سيما وهناك في دار البقاء سيكون تعويض جزيل عن أدنى ألم أو حزن أو خوف أو نقصان…
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[3].
[1] سورة البقرة، الآيتان 155و 156.
[2] سورة التوبة، الآية 126.
[3] سورة آل عمران، الآية 185.
المقالات المرتبطة
مصادر الأدعية في تراث أهل البيت (ع)
لنا في حديث الأئمة أهل البيت (ع) ثروة هائلة من الأدعية والمفاهيم الرقيقة والشفّافة في المناجاة. اهتمام أصحاب الأئمة بتدوين
الدين والأخلاق ثلاثة أنماط في العلاقة
بين الدين والأخلاق كثير من النقاط المشتركة( ). فالمفاهيم الخُلقية، مثل الواجب، وحرية الإرادة، والمسؤولية، والخير، والصواب..
قراءة في كتاب “معرفى ونقد منابع عاشورا”
بَحثُ هذا الكتاب يدور حول مصادر واقعة الطف، حيث إن الكاتب “سيد عبد الله حسيني” قام بعملية مقارنة بين النصوص وقيّمها