مؤمنون وملاحدة
لطالما اشتغل العالم في ثقافاته على التباينات والثنائيات والثلاثيات وغير ذلك..
ويغلب على ظنّي أن السبب في كل هذا يعود لحاجة أي جماعة من الناس تعريف هويتها، ومن المعلوم أن الهوية إنما تُحدّد بحيثيتين:
الحيثيّة الأولى: حينما تعبّر عن نفسها بما هي هي.
الحيثية الثانية: حينما تعبّر عن نفسها بنفيها الانتساب لغيرها، أو نفي انتساب الغير لها.
إلى هنا، نحن مع وضع طبيعي لا شائبة فيه من حيث الفكرة والمنطق، لكن المشكلة تتفاقم عندما يقوم أهل دين ما، بغض النظر عن ما هو هذا الدين، فينسبون لأنفسهم أنهم “أل” مؤمنون، وليوضحوا المقصود أكثر يذهبون ليعتبروا من لا يقول مقولتهم أنه مهرطق، أو كافر، أو مشرك، أو ملحد. بمعنى آخر، كل من ليسوا على شاكلة هذا الدين فهم “لا مؤمن”.
وهذا ما يفرض علينا أن ندرس الفكرة من زاويتين:
- الزاوية الدينيّة: لنبحث عن مقصود هذا الدين من معنى الإيمان، فهل يعني به من لا يشهد على ما يشهد هو عليه، أو يصلّي صلاته، أو يحيي الشعائر على طريقته. وبالتالي، فتعبير مؤمن هنا، يصبح أمرًا شكليًّا وطرائقيًّا، وكل النفي الذي يمارسه نحو الآخر هو مجرّد تعبير عن الطريق في الوعي والعيش؟!
- الزاوية الإنسانيّة: والتي تتجاوز كل الطرق الدينيّة والحدود التي تضعها المذاهب، وهي زاوية تتفاعل مع الإنسان في أصل كينونته، وفي أصل حقه ووجوده.
وهي زاوية، بالمناسبة، تتبنّاها بعض الأديان كحقيقة دينيّة وإنسانية واحدة، ومن هذه الأديان الإسلام.
وبحسب هذه الزاوية الإنسانيّة، فالمؤمن هو صاحب القناعة بوجود خالق وإله للعالم.
وقد يُعبِّر أصحاب الجماعات الدينية عن هذا الإيمان بطرقهم الخاصة، بل قد نجد من لا يسلك طريق الدين في الحياة مؤمن بوجود الإله؛ إذ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.
لذا، فبحسب النزعة الإنسانية للإيمان كلٌّ يعترف بالخالق على طريقته، والمشترك بين الجميع هو أصل الإقرار بالإله الموجِد للإنسان والحياة والعالم.
ولقد قرأنا للإمام الخميني وأستاذه شاه آبادي، وملكي تبريزي كلامًا يعتبرون فيه أن كل موجود إنما يتحرّك بوجدانه نحو كماله، وما الكمال إلّا الله، لذا كلٌ يسبّح الله حتى لو لم يقولوا بذلك.
إنّ هذا التحليل الدينيّ للحقيقة الإنسانية يقوم على الإيجابية في أصل النظرة للآخر.
وعنده لا يوجد أحدٌ ملحدٌ حتى ولو قال هذا البعض أنه لا يؤمن بوجود الله؛ أي حتى لو جحدوا وجوده سبحانه إلّا أن أنفسهم مستيقنة بأصل وجودها بالكامل المطلق سبحانه. إلا أن هذه الزاوية من التحليل لا تنفي وجود من لا يريد الطريقة الإيمانية الخاصة، وهنا تأتي تسميات الغير بالملحد وغير الملحد. لكن المشكلة مع هؤلاء هي في طريقة فهم وممارسة العيش والقيم، وليست في الجذور والأصول.
وإذا كان الأمر كذلك، فالمؤمن الحق هو الذي يعترف بأصل الآخر المختلف معه قيمًا، وطريقة، ونمط عيش. وهنا، تبرز واحدة من صور التعدّدية الأخلاقيّة والقيميّة بين جماعات الناس، وبين من هم مؤمنون، ومن هم ملاحدة.
وبحسب فهمي، فإنّ الملحد هو شخص قد يعلن موقفه السلبي من فكرة الدين والإله، والحياة الآخرة الواقعة خلف هذه الحياة الدنيا، ولقد كانوا يصطلحون عليه في الماضي باسم “الدهري”.
وكما طاب لبعضهم أن يسمّيهم مشعوذين، وسحرة، ومهرطقين، وعبدة شياطين، بل كانوا ينسبون إليهم أبشع صور الصفات والألقاب لأنهم يرفضون الله والدين.
وطبعًا نحن لا نعتقد أن هذه التوصيفات دقيقة وصحيحة، لأن الدهريين هم أصحاب فهم زمني يرفضون فيه كل ما يمتّ لما فوق الزمن بصلة ليس إلّا…
أما اليوم فيحلو للبعض أن ينسب الإلحاد إلى العلمنة أو إلى العلمية، اعتقادًا منهم أن العلم هو البديل عن الفلسفة والدين في كشف أسرار هذا العالم وتفسيره، وهي الفرضية التي ما زالت تشغل بال أهل الفكر والفلسفة والدين. فهل فعلًا يمكن أن نعتبر أن نطاق البحث العلمي هو عينه نطاق البحث الديني أو الفلسفي ليكون بديلًا عنهما؟ وتولّد عن هذا النقاش حقل من فلسفة العلم يساهم فيه علماء مؤمنون، وعلماء ملاحدة… لكن المسألة بنهاية المطاف سوف تبقى في دائرة تأويل العلم بين الإيمان وغيره، ولا ينبغي لهذا المبحث أن يُفسد في ودّ العلاقات الإنسانيّة – التعدّدية أي قضيّة.
أمّا القول بأن العلمنة هي رؤية دنيويّة تعني اللادينيّة، فهذا ما تكذّبه حقائق مسار العلمانيّة ومقاصدها، خاصة لدى تيارات واسعة ممن جمعوا بين الإيمان بالله واحترام الدين، وبين العلمنة وإن كانوا يقولون فعلًا أن العلمنة ترفض سلطة التراث والماضي حتى لو كان دينًا، إلّا أنه رفض للسلطة، للقمع، وللظلم الذي لحق بالإنسانية جراء الإقطاعَيْن السياسيّ والدينيّ. وهذا، حتى الدينيين اليوم، بعضهم على الأكيد، يتفقون فيه مع العلمانيين.
الأمر الذي يفرض علينا أن نبحث عن الجامع الإنساني بين الجماعات في القضايا الإنسانية والحقوقية الكبرى، لا أن نجنح نحو كيل السباب والشتائم الأيديولوجية والسياسية.
أن تختار الزمن والآن كأفق للرؤية ونمط العيش، هذا يعني أن تكون علمانيًّا وهو لا يستدعي على الإطلاق أنك تنكر ما وراء هذا العالم وما بعده.. ثم لو فرضنا أنك كنت كذلك فلماذا يجب أن يساوي ذلك العداء؟ ألم يحفل التاريخ الإسلامي بمتكلّمين من وزن هشام بن الحكم كانوا على صلة فكرية ومسالمة في العيش مع دهريين؟ ألم يفتقد دهريون كثر الإمام الصادق عليه السلام الذي كان يحاججهم بجوار الكعبة؟
إن كان هناك مؤمنون وملاحدة، هل هذا يعني أننا ينبغي أن نبحث عن مساحات التقاصف والتشاتم والقتل الرمزي، في أشكال من العبائر والرسوم الساخرة هنا وهناك من وسائل الإعلام؟ هل حق التعبير يعني أن أسخر منك ومما تعتقد؟ أم أن هذا الحق في الحرية هو قرين العقلانية التي تؤمن بإنسانيتك وإنسانيتي، وأن نبحث عن سبل للتحاور البنّاء؟
كفانا تكاذبًا، لا العلماني بما هو علماني، ولا الملحد بما هو ملحدٌ عدوّي.. وإن كانا يختلفان عني أحيانًا بشكل جذري.. ولا ينبغي للملاحدة أن يتخذوا من أهل الإيمان أعداءً لهم يتربّصونهم حتى في زلات اللسان وسقطات التعبير.
إن عدوّنا المشترك هو الظالم المغتصب للحقوق والأرض، فمثلًا لو جمع الإلحاد بين عروبي ثوريّ، وصهيوني ظالم، هل يفاضله على مؤمن بالله واليوم الآخر من أبناء الجهاد والمقاومة لإسرائيل وعدوانها؟ أبدًا، فإنسانية الإنسان فيهما سابقة على موقفهما النظري.
فأنا أقبل ألف مرة ملحدًا حرًّا في قيمه على مدّعٍ للإيمان وهو ظالم للناس وحقوق البشر.
فيا مؤمني وملاحدة هذا الوطن والقوميّة والقضايا المشتركة كفانا تكاذبًا بادعاء أننا أعداء، نحن أبناء مصير حياتي مشترك، وفي عمق تراثنا الفكري جوامع كثيرة حتى لو افترقنا في الدين والطريقة. نعم لكم دينكم وليَ دين.. لكن كلانا ينتمي، أو ينبغي أن ينتمي لشعور إنساني عميق في حبه للإنسان ورفضه الظلم، وفي قناعته بحق الاختلاف، وأن الحوار بين المختلفين رحمة.. ولا يتحول إلى نقمة إلّا إذا اتبعنا طريق التقاصف.
لست متخصصاً, لكنّي أود الاعتراض على نقطة:
“…خاصة لدى تيارات واسعة ممن جمعوا بين الإيمان بالله واحترام الدين، وبين العلمنة وإن كانوا يقولون فعلًا أن العلمنة ترفض سلطة التراث والماضي حتى لو كان دينًا، إلّا أنه رفض للسلطة، للقمع، وللظلم الذي لحق بالإنسانية جراء الإقطاعَيْن السياسيّ والدينيّ. وهذا، حتى الدينيين اليوم، بعضهم على الأكيد، يتفقون فيه مع العلمانيين.”
هناك اشتباه خطير في تحديد مفهوم السلطة أدى إلى سوء فهم لموقف العلماني والمتديّن الاثني من التراث. السلطة أولاً لا ترادف التسلّط. السلطة -فلسفيّا- هي الحق في الأمر, داخل ميادين متعددة ومتشابكة, سياسية ومعرفية وأخلاقية ودينيّة وغيرها. والموقف العلماني الملازم للحرية الفكريّة الفطريّة للإنسان يمارِس -من الناحية الإطار النظري على الأقل- أو يطالب باستقلال الإنسان الفرد عن أي سلطة-بالمعنى الاجتماعي, لا الفلسفي- معرفية ومعيارية لم تنل التصديق والموافقة من الذات العارفة الحديثة. والتراث, ممثلاً بشكل أساسي في النصوص المقدّسة والشروحات والتفاسير المتولدة عن اصطدام العقل النظري بها, يشكّل سلطةً معرفية ومعيارية في فضاء مجتمعي وثقافيّ ما, ويطالب بإطاعته لأنه تراث. المتديّن الاثني يخضع خضوعاً تاماً لها بسبب مقتضيات التنشئة الاجتماعية المتحيّزة غير اللبرالية التي لا تهدف لإنتاج الإنسان العارف الحر الحديث المستقل, بقدر ما تهدف لانتاج إنسانٍ طَيِّع. الموقف العلماني هنا لا يمكن أن يقبل بهذا الإطاعة للتراث. كما لا يلزمه ذلك بتجاهله أو رفضه. بل يفتح أفقَ تواصلٍ معه من أجل
الإغتناء بما يمكن الاغتناء به روحيا وأخلاقيا ومعرفيا…
القول بأن المتدين الاثني يشارك العلمانيَّ موقفَه من رفض سلطة التراث قولٌ غير صائب, وهو مبنيّ في الأساس على استحضار مفهوم شعبي ومشوَه عن السلطة في سياق نصّ يُفترض به أن يكون فلسفياً. رفض التسلّط أمر مفروغ منه, ولا داعي لأن يقف الإنسان موقفاً علمانياً كي يفعله.
إن من الخطير تغييب الاستشكال الحقيقي للعلاقة مع التراث عبر هذا التغيير في دلالات الألفاظ, بهدف إظهار اشتراك موهوم بين المتديّن والعلماني.
لكن يُحسب لكم فتح أفق ايتيقي جديد في الساحة الدينية من أجل التفكير في سؤال الإيمان واللاإيمان, في أبعاده الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والتواصلية والعقائدية, عبر التذكير بالانتماءات الأصلية للكائن الحي العاقل, أي الانتماء لمقام الوجود في العالم, ومقام الحياة, ومقام الإنسان, التي تؤدي بالضرورة إلى أوليّة العقل والحرية في الوجود الإنساني, ومستتبعات ذلك في العقلين النظري والعملي.