الأسطورة والإيمان
لطالما اجتذبني الكلام في الأساطير، ولطالما اعترفت بقلّة معرفتي بها. لذا فلا تسألني عن معنى الأسطورة في المتداوَل عند أهل الكتب. إلّا أنّي سأحدّثك عن فهمي للأسطورة.
إنّ الأسطورة خبر جميل في عرضه، يحدّثنا عن واحد من أمور ثلاث: إمّا نشأة الخليقة وأحوال الموجِد أو الموجِدين للخلق حين خَلقوا، أو رموز تشير لمغاز في الحياة، أو الوجود، بما له من تأثير في شؤون الحياة، أو تنقلنا لصراعنا مع الفرح والحزن، والسعادة والشقاوة، والصحّة والسقم، والغنى والفقر، والأهمّ من كلّ ذلك مع الولادة ومراحل العمر، وصولًا إلى مواجهة الموت، ومعنى الموت، وما ينتظرنا بعد الموت…
إلّا أنّ المائز في خبر الأسطورة وظيفته. إذ ليس المطلوب عبر الأسطورة أن يتمّ إعلامنا عن حادث أو أمر أو فكرة لمجرّد الإعلام، بل هو خبر له وظيفة الإنشاء، بحيث لا يصحّ في حقّه أن تصفه بالصدق أو الكذب كما هو المعروف والجائز في حقّ أيّ خبر.
إنّ وظيفة الأسطورة أن تعكس فينا قناعةً أو سلوكًا عبر إلهام العبَر والرموز الهادية فيها. وظيفتها كالثقافة في صنع الأفق الحضاريّ وكالوَجد في إثارة إبداع الفنّ، فهي قد تتحوّل إلى “نحن” الحضاريّة. أو إلى “أنا” الفرد المبادِر والمبدِع في الآن نفسه. بهذا المعنى هي سرديّة الذات قبل وجودها، إنّها شبيهة بالعلم الأزليّ في إلهيّات الأديان، وبالعلّة الغائيّة في الفلسفة. تبتكر الشخصيّات والهويّات وتنسبها إلى حاضنتها بخفَر عجيب لا يكشف عنه إلّا التأويل، ومن المعلوم أنّ التأويل ولّاد للتعدّد، رغم ما يحمله من صيغة ورجعيّة محدّدة.
لهذا كلّه تشابهت الأسطورة، والفلسفة، والدين، واختلفوا.
إذ إنّ علم الله الأوّليّ جامع لكلّ الحقائق القائمة والآتية في العالم، إلّا أنّه غيرها. فهو يبقى المعيار والثابت، وهي التي تزول وتكدح لمشابهة ميزان العلم الأزليّ دون أن تصل إليه، في الوقت الذي تترنّح الأسطورة مع تفاصيل مسار الناس كعجينة قابلة للتشكّل وفق طموحاتهم وما يرغبون.
لكنّها تعينك، رغم ذلك، أن تعرف خلفيّة مسار الناس هنا وهناك. لأنّ ما في الأسطورة يكشف عن مضمر الهدف أو السبب الموجّه لسلوك الشعوب والأمم.
وهي تختلف عن العلّة الغائيّة في أنّ الغائيّة تتبدّى بعد الفعل، أمّا الأسطورة فتبقى خلفه وتنطوي فيه حتّى لكأنّها هي هو، وليست كذلك…
لكنّ الحقّ أقول. لطالما ساءلت نفسي هل قصّة التكوين في آيات الوحي أو الأسفار الملهمة في الكتب المقدّسة هي أساطير؟!
هل صراع الله والشيطان كما في بعض الأديان، أو صراع الملائكة والشيطان، بل هل صراع الإنسان بين الخير الملكوتيّ وجهنّم إبليس الشرّ، كلّها من باب الأسطرة؟
والأهمّ والأخطر من كلّ ذلك، هل ملك الموت وأعوانه، والمطهّر والبرزخ والمخلِّص، وخروج الناس من الأجداث والنشر والحشر والسؤال والميزان والكتب والصراط والجنّة وما فيها والنار وضجيجها كلّها من تعابير الأسطورة؟
وقبل أن يأخذني الكلام يجب أن أقول إنّ الأسطورة، فيما أفهمها، نصّ مستقلّ في مواصفاته، وهو لا يستدعي بذاته الخرافة أو الحقيقة كما لا يستدعي الصدق والكذب.
نصّ قد ينشأ من إلهام سماويّ، أو دنيويّ. لكنّه منساب في أمّة أو أمم تمتدّ بمسارات تاريخيّة طويلة ومديدة.
نصّ قد يولد من رحم الخوف والوهم والرجاء والخرافة، وقد يولد من حاضرة المقدّس والوحي والحقيقة والنبوّة والبطولة.
نصّ يخلق هويّةً وانتماءً وسلوكًا وإيمانًا بأشكال متفاوتة من دين وحْيانيّ، أو وضعانيّ، إلى شرك صريح أو مضمَر، إنّه (أي ذاك النصّ) كماهيّة اللا بشرط عند المشّائين التي تضارع كلّ صورة، لكنّها أيضًا كالكلّيّ الطبيعيّ الذي يوجَد بتجانس أفراده، وتجانسهم معه.
والآن فليخبرني أحدكم ما الذي يتقدّم أو يتأخّر عندي أو عندكم لو أنّ الله خلق الموجودات بثلاث أيّام لا بسبعة أو ستّة؟ ماذا يعنينا معرفيًّا هذا الخبر؟!
ماذا يعني لنا إن كان عرش الله على الماء؟! كما ماذا يعني لنا خلق الأفعى وخلق جنّة آدم ثمّ إنزاله منها وحديث الله مع الملائكة وإبليس، ثمّ حديث آدم وإبليس، ثمّ خلق الجنّة والنار، وإلى ما هنالك. ماذا يعني كلّ ذكر لو لم ينعكس في أصل قيمنا ورؤيتنا وتوجّهاتنا؟!..
لقد اتّهم أهل الشرك والغواية حديث الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وكلام الكتاب العزيز بأنّه ﴿…إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾[1] وحكموا على موازين الحياة ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾[2] بل ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾.
فالله، عندهم، وقصّة الخلق وما بعد الموت، وكلّ ما بُنيَ عليه الدين من أحداث كونيّة استدعت النبوّة، كان مجرّد أسطورة حاكتها رغبات انطوت عليها قبائل وشعوب، وأنبتتها بتكرار مستديم على أرض الخليقة زمانًا تلو الزمان… لقد تشابه الأمر عندهم بين خيال الأساطير، وحقائق الوحي. ففي الأسطورة ادّعاءات يقول عنها ربّ الوحي﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾[3] إذ وحده من يملك الحقّ الحصريّ في نقل القصّة المؤسّسة لما ينبغي أن تكون عليه مسارات الحياة. ودون ذلك أساطير. وما الشبه بين الأسطورة وآيات الله في السرد، إلّا كالشبه بين أفعى السحَرة ومعجزة موسى في الأفعى… لكن في الحالين من يكشف الفارق وحده من أمكن له معرفة الحقيقة والإيمان بها. من دون معرفة حقيقة ما برز على يدي موسى عليه السلام ما كان للسحَرة، أهل الخبرة، أن يسجدوا لإله موسى عليه السلام مذعنين – ومن دون إدراك الإعجاز في آي الرحمن – لا يمكن التمييز بين أسطورة الخرافة وكلام الله في سير الخلق والخليقة. لذا، كلّ من لم يؤمن بدين، نسب خبر الدين إلى الخرافة والوهم، وأطلق على سرديّته اسم الأسطورة. أمّا أهل الإيمان فهم القائلون أنّه الحقّ من عند ربّنا…
نعم، يتعدّد القائلون بنيل الحقيقة، والحقيقة أبيّة على غير الإيمان.
[1] سورة المؤمنون، الآية 83.
[2] سورة المؤمنون، الآية 37.
[3] سورة الكهف، الآية 51.