المرأة والتربية العاشورائيّة في لبنان

by الدكتورة نزيهة صالح | سبتمبر 30, 2016 11:30 ص

عاشوراء في العالم كانت ولا تزال مناسبة للمسلمين الشيعة لإحياء التاريخ بدلالاته الحسينية المستمرة عبر الأجيال من خلال استحضار الشهادة وانتصار الدم على السيف، فكان استحضار عاشوراء كل عام فرصة تربوية للمربين والقيّمين على العملية التربوية لربط الأجيال بهذه المدرسة التي لا زالت مناهجها صالحة لكل زمان ومكان.

ربطت الأم المربية في لبنان عاشوراء بالواقع من خلال ربطها بما حصل في كربلاء في كل تفاصيل الحياة اليومية حتى خارج أيام الذكرى السنوية. وكانت تجيّر المعاناة الاقتصادية لصالح الارتباط بفكر من استُشهِد في عاشوراء. فالحرمان من الماء كان عنوانًا استعانت به على وضعها الاقتصادي بجعل ابنها يتحمل مشقة الفقر والحرمان إسوة بمن قتلوا عطشى في كربلاء. فتردد هذا النمط التربوي جيلًا بعد جيل، وتأصَّل مع الوقت في الفكر الوجودي بحيث لم تتغير النظرة والرؤية برغم التحوّل الاقتصادي الذي حصل ونتج عنه بعض الرفاهية في الحياة المعيشية، فبقيت عاشوراء تتردد وتتوارث في السلوك. وهذا التوارث السلوكي العاشورائي أعطى قيمة أكبر للوطن وللدفاع عنه في وجه المحتل الغاصب، فكانت المقاومة التي أُنشأت في لبنان من روحية عاشوراء، والمدرسة التي اعتمدت نهج الإمام الحسين.

 وعلى الرغم من تراجع النمط الإنتاجي القديم في لبنان ودخول نمط إنتاجي جديد، إلا أن نمط المرأة المربية لم يتغير في المجتمع العاشورائي، فبقيت الأم ترى في عاشوراء تجديدًا لفكرها التربوي سواء كان تقليديًّا أم حداثيًّا. وبقيت هي النموذج التربوي المتجدد عاشورائيًّا كنموذج اقتصادي واجتماعي ونفسي في مجتمعها، وأصبحت العلاقات النفسية المتجددة عاشورائيًّا هي المتوارثة بين الأم والأبناء، فيرث الأبناء نهج هذه الأم، ويستمر النهج التربوي العاشورائي جيلًا بعد جيل.

كل هذه التركيبة من الدورة العائلية تأصلت في عاشوراء بعمق وكانت معتقدًا وممارسةً وسلوكًا شكّل أنموذجًا في التربية المتوارثة. واستمر هذ الأنموذج على غير النمط الاقتصادي الزراعي التقليدي والعائلة التقليدية وتقدم بعد أن ورث الأبناء هذه الأم المربية في التواصل، وهنا نرى قوة وقدرة السلوك على التردد والتوارث في مجتمع له خصوصيته التي يظهر فيه المرتكز الديني المتعصرن من خلال المرأة التي عاشت في مجتمع قيمي حافظت عليه وسعت إلى إيجاد مجتمع نمطي. وبرغم التغيرات التي حصلت في المجتمع انتقلت المرأة معها بخياراتها الأخلاقية إلى نمط عقيدي ثابت يتجدد كل عام في موسم عاشوراء.

التركيز على دور المرأة في التربية المجتمعية من الأهمية بحيث يسلط الضوء على التحوّل الذي صنعته المرأة في لبنان بشكل عام وفي الجنوب حيث المقاومة بشكل خاص من الناحية التربوية والاجتماعية والسياسية، فاستطاعت المرأة المزارعة البسيطة التقليدية الغارقة في زراعة التبغ من إنشاء مجتمع مقاوم، آخذة من عاشوراء الأسس التربوية التي لم يكشف عنها علماء التربية بعد، لتبني عليها أسلوبها التربوي وتنشأ أولادها على خطى الإمام الحسين بالتطبيق العملي حين دعت الحاجة لمقاومة يزيد المتمثل بالمحتل الإسرائيلي. وبالتالي أصبحت قدوة تخطّت الحدود الجغرافية للبنان إلى العالم، على الرغم من التحوّل الاقتصادي في المجتمع التقليدي الذي تعيش فيه هذه المرأة.

إن مسألة التحوّل الذي أحدثته المرأة المربية نتيجة تربيتها للأجيال، بمعنى ارتباطها بالفكرة العقيدية باعتبارها أنموذجًا تربويًّا استطاعت من خلاله كامرأة بسيطة تقليدية من أن تُنشئ نمطًا من المجتمع المقاوم له علاقة بالإسلام ولكن بفرادة خاصة تمثلت بـ”عاشوراء” من خلال استخدامها للمفاهيم المرتبطة بعاشوراء مثل الصبر والإيثار والاستشهاد كآليات تماسك تساعد على تحمل المعاناة والتحوّل بذلك إلى إثبات الوجود أمام الاعتداء والظلم.

الإسلام في لبنان وخصوصية التشيع ضمن الإسلام والتاريخ المقاوم للمنطقة وخصوصية عاشوراء كمقومات كان لها التأثير المباشِر على السلوك التربوي للمسلمين الشيعة. وبما أن المرأة هي الركن الأساس في إدارة العملية التربوية فقد كان لها بالتالي دور مهم في التأثير على أبنائها بالنسبة لمفهوم الشهادة. فساهمت هذه المرأة التي تظهر أنها امرأة بسيطة تقليدية في بناء مجتمع مقاوم. على الرغم من أنها تربت في عائلة تقليدية وفي مجتمع عقيدي وتقليدي، وخرجت إلى الحقل في المجتمع الزراعي مزارعة ومنتجة وتحملت الآلام. ولكنها كأنموذج نمطي تقليدي لا بد من ربطه بعقيدة هذا المجتمع وهو الإسلام، وعاشوراء التي هي نمط ضمن أنموذج لها خصوصيتها كتلوين شديد الفرادة ضمن عمومية التاريخ ومحيطه والتي تمثل التشيع وأهميته وخصوصيته ضمن الإسلام. شكّل سلوك المرأة فرادة لهذا الأنموذج، وكان التوارث التربوي هو ما ينتج عن هذا الدمج ما بين التربية والسلوك من خلال نموذج تردد السلوك في علاقة الأم بولدها وفي زراعة التبغ اقتصاديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا. من هنا نربط التربية بالعائلة والعلاقة بالتاريخ ومحيطه. العائلة وعاشوراء يترددان في السلوك لذلك انتشرت المقاومة في عدة فئات، ولم تكن حكرًا على فئة بعينها.

التحول الاقتصادي في لبنان عمومًا وفي جنوب لبنان خصوصًا أدخل المرأة والمجتمع في معادلة تعديل للمجتمع التقليدي من خلال المرونة في تلقي المفاهيم الحديثة واستحضار المفاهيم التراثية وتأطيرها وتكملتها بشكل إيجابي. ونرى ذلك من خلال إدخال بعض الأنماط الحديثة على المجتمع التقليدي من اللباس ومن طرق المعيشة والتغذية، وكذلك شكل العمران وأثاث المنازل، إضافة إلى ما استجد من تطور تكنولوجي أصبح لازمة لكل أسرة. إلا أن هذا المجتمع رفض أنماطًا وقبل أخرى، بحيث لم يتم إلغاء المجتمع التقليدي كلّيًّا وكذلك لم يتم تلقي المفاهيم الحديثة كاملة كما هي، وخاصة المفاهيم المتعلقة بعاشوراء، فبقيت المفاهيم الأساسية موجودة في السلوك التربوي كالصبر والإيثار والاستشهاد كعمليات تماسك عملت المرأة على المحافظة عليها في العملية التربوية الأسرية، ورفضت أي مفهوم حديث يمكن أن يمس بهذه الآليات بينما تقبلت مفاهيم حديثة أخرى لا تمس بهذه الآليات. وما قبلته المرأة والأسرة كقيم تربوية مستمدة من العقيدة ومن عاشوراء تحديدًا، هو ما قامت عليه المقاومة الإسلامية في لبنان في مقاومتها للاحتلال الإسرائيلي، كون المقاومة هي التي تلقفت الرجال الذين تربوا على حب الإمام الحسين ووظّفت هذا الحب في الدفاع عن الوطن والكرامة.

كل ما ذكرناه يعود الى سلوك بسيط له دلالاته التربوية التي أثرت بالأجيال، وهو أن الأم التي تصطحب أولادها إلى مجالس عاشوراء في ذكرى استشهاد الإمام الحسين التي تقام كل عام ولمدة عشرة أيام، وفي مناسبات الوفـيات عندما تتم قراءة السيرة الحسينية، تكون بذلك تمهد الطريق لهذه الفكرة العاشورائية للوصول إلى عقل وقلب ولدها فيتشربها منذ الصغر مقرونة بقطعة الحلوى (الراحة والبسكويت) التي يأكلها عند انتهاء كل مجلس عاشورائي. فنرى فعاليتها بالتأثير بصورة غير مباشرة في فكرة المقاومة ضد المحتل، فهي لا تشارك في القرار في الشأن التربوي فحسب بل هي صاحبة القرار في ذلك.

ورغم التحول الذي يعيشه المجتمع اللبناني بشكل عام ورغم تقليدية المجتمع وبالتالي المرأة في بعض المناطق، إلاّ أنها تنتج سلوكًا متجددًا تعمل على إرسائه، ويظهر واضحًا وجليًا من خلال العلائق التي يعيشها الطفل، يمكن أن يكون بهدف التفتيش عن الأمن وإثبات الوجود والحق بالحياة، مع تداخل القيم الوطنية والقيم الجغرافية وكذلك القيم الدينية والعقيدية، وترسيخ مفاهيم مستمدة من عاشوراء مثل الصبر والإيثار والاستشهاد كآليات تماسك في السلوك التربوي، فكانت نتيجته بناء مجتمع مقاوم للاحتلال الإسرائيلي.

لقد استمر هذا الأنموذج نهجًا سلوكيًّا وأثّر في الحاضر رغم أن هذه المرأة كانت تقليدية وفي مجتمع تقليدي. وتمت وراثة هذه المرأة من خلال التواصل الذي ورثه ابنها، وكذلك من خلال مؤسسة المقاومة ومؤسسات مجتمعية أخرى تابعت الدور التربوي فيما بعد وكان لها علاقة بمقاومة المحتل. فبقي التواصل المتوارث الذي تركته في ولدها وخرج إلى المجتمع فأنتج سلوكًا متجددًا ظهر في المجتمع المقاوم خلال عشرين سنة، وبقيت العلاقات النفسية الاجتماعية مؤثرة من خلال التربية جيلًا بعد جيل. ولفهم هذا الإنتاج من السلوك المتردد والمستمر من وجهة نظر علم الاجتماع لغير المجتمعات العاشورائية لا بد من الرجوع إلى مفاهيم من نظم ماضية وإلى مفهوم الالتزام الديني كما فعل عالم الاجتماع “بيار بورديو” الذي جاء بمفهوم (الهابيتوس) أو النزوعات التربوية المتوارثة من توما الأكويني ومن الأيديولوجيا الدينية.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/7915/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%a3%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d8%b4%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7-2/