خطّة الحسين عليه السلام ونصرة المحسوس
من الحقائق الجليّة التي يحكم بها العقل ويرتضيها العقلاء هو أنّ الإنسان الكامل في مواهبه لا بدّ أن يزن الأمور بميزان عقله الواعي ليدرك خطرها ويتبصّر بمصيرها – فهو كلّما بدأ في عمل أو استوحى فكرة ما، تراه يبسطها تحت شعاع العقل ليتميّز بدقائقها ويتعرّف بعواقبها – ومن ذلك ما هو جدير بهذا العمل والاستنتاج فكرة الحرب أو الدفاع – ويشترك في هذا التميّز الجماعة والفرد على السواء بملاك واحد. ولذلك ترى الدولة أو الزعيم المحارب قد يكفّ عن إعلان الحرب في بعض الأحيان نظرًا لما اقتضاه تفكيره من اليأس من النجاح في المغامرة أو عدم ضمان سلامة الدولة أو القبيلة – إلى غير ذلك من المقتضيات السلبيّة.
فهو إن قام بمغامرته وأعلن الحرب دون أن يشرعه في وجدانه ويزنه بميزانه، كان ذلك منه تهويسًا وحمقًا وكان جديرًا بأن لا يسجّل له التاريخ أيّ مفخرة حتّى ولو انتصر.
وقد كانت واقعة الطفّ إحدى المثُل العليا لهذه الحقائق الواضحة – وكيف لا تكون مثلًا أسمى والقائم بأمرها سبط الرسول الأعظم، ربيب ثقافة الإسلام الصحيح ودعامة دعايته الأولى.
لقد أعلنت الدولة الأمويّة حربها على الحسين بن فاطمة فضايقته بإنذارها وهو في جوار البيت الحرام ومأمن العالم الإسلاميّ، أنذَرَته باسم فلكيّتها الطاغي يزيد بن معاوية الذي زعم الإسلام وحارب قلب الإسلام. ولكنّه عليه السلام حينما فوجىء بهذا الحادث لم يكترث لهذا الأمر كأنّه على عدّة للملاقاة والمنازلة – الأمر الذي يشير إلى رجحان دفاعه رجحانًا لا تفكير بعده ولا نقض لإبرامه.
ونستطيع أن نفهم ذلك جليًّا من الحوار الذي دار بينه وبين أخيه محمد بن الحنفيّة رحمه الله إذ يخاطبه محمّد قائلًا:
ألم تعدني النظر فيما سألتك فيه فيقول السبط عليه السلام كلاّ يا أخي قد شاء الله أن يراني قتيلًا بأرض كربلاء العراق ثم يسأله محمّد ما معنى حملك لهؤلاء النسوة فيجيبه عليه السلام قد شاء الله أن يراهن سبايا.
ويحسن بنا في هذا الاستطراد، أن نقول أنّ الحسين عليه السلام إذا علم بقتله يقينًا واتّضح لديه سبي نسائه الحرائر وهتك خدورهنّ – فهلّا كان ذلك موجبًا لنقض عزيمته عن الدفاع وهلّا كان ذلك مشيرًا إلى المغلوبيّة في جانبه ثمّ كيف سمحت له الغيرة أن ينقاد ويطيع ويحمل معه النسوة.
ولكنّ الجواب ما كان بالأمر الصعب إذا ما دقّقنا الواقع من ناحيتيه الأولى – هي ما تشير إليه كلمة الحسين عليه السلام من الإشاءة التي هي القول الفصل الذي أكّد لنا أنّ الحسين عليه السلام كانت بواعثه ليست بمحض البشريّة والقوى الإنسانيّة الساذجة.
وإنّما كانت مشوبة بنوع من الإيماء الإلهيّ الرفيع كما كانت العناية الربّانيّة تحيطها كلّ الإحاطة – وبعد ذلك كيف يستطيع ابن الرسول أن يخالف الله فيما علّمه الله من إشاءته، بل لا محالة للمخالفة إذا ما علمنا عدم تخلّف معلومه تعالى عن علمه.
الناحية الثانية: إنّ لكلّ دفاع قرارات وخطط يضعها القائد الحربيّ أو الزعيم المحارب لتكون سبلًا للنجاح وطريقًا فنيًّا للغلبة، وحمل النسوة إلى كربلاء بتلك الحالة هي إحدى وسائل الدفاع التي بُنيت عليها غاية الحسين عليه السلام.
وإذ ذاك لا بدّ من العودة إلى بيان غايته عليه السلام لنتحقّق من صحّة الدليل وأحقّيّة البرهان.
لقد اتّضح لديك بما أسلفنا وبما أنت به خبير من أنّ الدولة الأمويّة قامت باسم الإسلام وشيّدت على دعائمه ومشت بأساليبه، ولكن موضع النقد هو فراغ تلك القواعد من معانيها الصحيحة وغاياتها الأولى فإنّك إذ تسمع بالخلافة الأمويّة وتسمع بالصلوات في الجوامع والقضاة في محاكمها والجباية للأموال باسم الحقوق والفتوح باسم العقيدة الإسلاميّة، فإنّما تسمع بها دون أن يعي أولو أمرها ما تعني به تلك النظم، ولو وعوها فهم في اتّجاه آخر.
ولعلّهم فكّروا بسنّ قوانين تتماشى ومبادئهم الدينيّة. ولكن صدّهم عن تركيز ذلك تحكم العقيدة الإسلاميّة في شعبهم الأمر الذي يهدّد دولتهم بالخراب والانقلاب.
ولعلّ أوضح دليل على ذلك قول معاوية في خطبته عند صلحه للحسن بن عليّ عليه السلام: ” أيّها الناس ما حاربتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ولكن حاربتكم لأتأمّر عليكم”. وهذه البادرة منه بدرَت على حين لا يستطيع الجمهور النهوض لردّه، نظرًا لقوّة إرهابه واستتباب أمره.
ولذلك أطلق الكلام عن نفسيّته الخائنة دون خشية واتّقاء، وهكذا استطاعت الدولة الأمويّة أن تهوّد الأمّة الإسلاميّة وتنصرها وتعيدها تارةً ببذل المادّة وهي العامل الأوّل وأخرى بالإرهاب والعقابات الصارمة تلك الأمّة التي كلّفَت الرسول الأعظم صلّى الله عليه وعلى آله غاليًا حتّى أخذ بيدها من أعماق الضلالة وانتشلها من الكفر والجهالة.
تلك الأمّة التي عُرفت بالإيمان ودانت بثقافته وتحضّرت من فيوضه الزاخرة وليتها اكتفت من ذلك بإشباع رغباتها دون أن تجرّد رماحها في وجه أبي الضيم تحاول استسلامه لطغيانها.
وأصرّ أبو الشهداء على كسر صورتهم ودكّ عروشهم واستئصال شأفتهم. فنهض بأصحابه الذين لم يكونوا غير أبناء المهاجرين والأنصار الذين عُرفوا بالإيمان بين الأمّة ذاتها.
فسار بأهل بيته وأصحابه صبيةً ونساءً وشبابًا وكهولًا، والكلّ من أفراد العترة ونعمة القيادة من ابن فاطمة الذي عرفوه، وابن الوصيّ عليّ الذي جرّبوه، وابن النبيّ محمّد الذي خبروه.
سار على هذه الحالة ونزل أرض الفرات، وقابل طغاة الكوفة فاضطرّهم على الاعتراف بكرامته وأهل بيته وأصحابه حتى صرّحوا له بنسبه وأنّهم غير تاركيه فإذا به يسمع ملء أذنيه منهم أنّك ابن فاطمة، أبوك علي، جدّك الرسول، ولكنّنا نحاربك بغضًا لأبيك، هكذا عجّ التاريخ بإلحادهم وهكذا انتشر للأمم أنّ هؤلاء جيوشًا وأمراء مردة عاتون، ليس لهم من الإسلام نصيب، لأنّهم الذين قصدوا العترة اعترافًا بكلّ ما هنالك من نتائج غير مبالين بما سيكون.
وأظنّك قد التفتّ من هنا إلى نجاح الأسلوب الذي سار نحوه السبط عليه السلام ذلك ليوضّح للأمم عدم إسلامهم وأنّهم على الشرك الذي فُطروا عليه سادةً ورعيّةً وكان ذلك بمثابة دعوى يصحبها البرهان.
ثمّ انكفأ مرّةً أخرى نحو إبراز نفسيّاتهم الرذيلة للناس الآخرين، فعرض عليهم عرضًا تستجيش له الإنسانيّة وتُستثار منه العواطف وتنفعل له النفوس، إذ قدّم رضيعه الظمآن طالبًا منهم أرخص ما في الوجود وهو الماء باذلًا لهم، أخذه إليهم أن اتّهموه بالحيلة على تحصيل الماء، فكان الجواب منهم استنزاف دم الرضيع في حجر أبيه فإذا به يضطرب وأوداجه تبعث فوّارة الدم، ويا للمأساة.
ثمّ ما كانت الإّ ساعةً دارت في مثل هذا اليوم فيها رحى الحرب. فقابل قلب الإيمان وصريخة الإسلام فيها ثلّة من المشركين، حتّى رأيت وجه الأرض مكسوّةً بدماء الشهداء وراحت التربة ترتشف دمًا لم تدنّسه أوهام الشكّ وراح السبط في الحومة وحيدًا لا يجد من يقدّم له جواده حتّى حاول وهو أبي السبط أن يحاجّهم بآخر كلمة فنادى ملء صوته الرهبة حتى خُيّل لهم أنّ الرسول في الميدان أو أنّ عليًّا فيها.
ألا هل من ناصر؟
ألا هل من ذابّ عن حرم الرسول في الميدان؟
ألا هل من راقب الله فينا؟
وما زادهم ذلك النداء والاختبار إلاّ عتوًّا، ولكنّه عليه السلام لمّا سقط صريعًا على التراب سابحًا بدمائه يخبّط في وجهه الثرى، شاهد ببقايا بصره الشريف تكالب القوم على هتك الحرائر فناداهم بلسان العروبة قائلًا: “إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارًا في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربًا كما تزعمون.
هكذا ربح الحسين النصر دينًا، إذ قلب الدولة قلبًا محتمًّا بفاجعته بعد ما أثبت كفرها واستصرخ التاريخ في الرقن على طغيانهم وأقام الإسلام مجدًا جديدًا صبغه بدمائه وركّزه على أشلاء الشهداء من أنصاره الأطياب، فتعالى صرخة عالية رجّت بها العصور وتمسّكت بها الأجيال، فعادت الثقافة الإسلاميّة تصدع في سماء الجزيرة على مرّ الأعوام وعلى قمم الأعواد وما تزال الأفواه تتعطّر بأسمائهم، والعيون تذرف الدمع لمصابهم والعاقبة للمتّقين. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.