عاشوراء بين قدسيّة الموت وثقافة الحياة
لا نريد لهذا الموضوع أن يتناول الموت والحياة في ماهيّتهما وحقيقة جوهرهما إلّا بمقدار ما لهذا البحث من دخالة في تشكيل الرؤية العمليّة والموقف الذي ننتهجه منهما. فالناس كانت تدرك وتحسّ على الدوام برابطة خاصّة مع الحياة كما أنّها كانت تدرك هول الموت وما يتركه من انبعاثات للخوف والألم على الوجدان الإنسان منه بشكل خاصّ، ولقد سعى الإنسان بقلق وجوديّ دائم للبحث عن سبل مواجهة الموت والحياة، وكلّما كان يتعرَّف إلى سبيل ما كان يعمل على تكييف نفسه قدر استطاعته بحيث لا يتحوّل القلق والخوف إلى ألم نفسيّ دائم يخرِّب عليه حياته ويهزّ استقراره وعمليّة تفاعله مع الوجود المحيط به، تفاعلًا يهدم مقوّمات العيش وسبل النموّ والترقّي والازدهار، ولعلّ واحدةً من أهمّ وظائف وأدوار الأديان هي معالجة هذه الحالة الإنسانيّة في مواجهة الحياة والموت. الحياة والموت في نظر الإسلام ينبغي علينا أن نلحظ في البداية أنّ هناك حالات نفسيّة تسيطر على الإنسان حين مواجهة الحياة (الميلاد أو الولادة أو الموت) بحيث تُنسيان هاتين الحالتين مستتبعات الحياة الميلاد أو الموت وهاتين الحالتين هما الفرح عند الميلاد بحيث أنّا نتعامل مع المولود بالتزيين وكأنّما حضور وجوده لا انقضاء له كما ونتعامل مع الموت وكأنّما هو انعدام لا ملتقى بعده ولعلّ النظرة المادّيّة لهذه المشكلة فرُغت لتقول بالموت الشامل الذي عبّر عن بعض وجوهه القرآن الكريم: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين}، فليس بعد الدنيا شيء عندهم وعليه فعلينا بناؤها بشكل عُصبويّ تنافسيّ صراعيّ يبقى فيه الأقوى هو سيّد الموت وهو سيّد الحياة دون وجود رقيب أو حسيب وهذا ما احتاج لمعالجة مثل هذه النظرة، احتاج الأمر إلى جملة من التعاليم الإسلاميّة والتنبيهات الربّانيّة إلى حقيقة الحياة الدنيا والموت وما بعد الموت. ومن هذه التعاليم والتنبيهات، نذكر جملة من الأمور: أوّلًا: الإلفات إلى أنّ دار الدنيا قد تتحوّل إلى مركز للَّهو والعبث واللعب بالمصير الإنسانيّ وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى: {وما الحياة الدنيا إلّا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للّذين يتّقون أفلا تعقلون}. لم ينف في القرآن وجود خير ما في هذه الحياة الدنيا، إذ اعتبر أنّ أصل الحياة خير، إلّا أنّ ما هو أكثر خيرًا وأدْوَم حياتًا هي الحياة الآخرة، ومفصل التمييز بين الخير وغير الخير إنّما هو حياة التقوى وتمثُّل التقوى وهذا الأمر قد يُغلِّفه رَيْن اللهو واللعب الذي يمارسه الإنسان دون تعقّل لحقائق الأمور ومستلزماتها، من هنا نبَّه القرآن تنبيهًا استنكاريًّا على الناس بقوله تعالى “أفلا تعقلون”. ثانيًا: من التعاليم أيضًا أنّ منشأ اللهو واللعب يعود لأمرين:
- التعامل مع بهارج الدنيا على أنّها المتاع الذي يتلبّس به الإنسان، والمتاع بحسب طبع مُعرَّض للبلاء {يا قوم إنّما هذه الحياة الدنيا متاع وإنّما الآخرة هي دار القرار}.
- الظنّ أنّ الحياة الدنيا هي عمق الحياة الإنسانيّة وهذا ما نبَّه له الكتاب العزيز بقوله سبحانه ( وما الحياة الدنيا إلّا لعب ولهو وإنَّ الآخرة لهي الحيوان).
فعدم الالتفات إلى عمق ومغزى الحياة وأنّها تقترن بالخلود – الذي ينسجم هذا الخلود – مع الحياة الآخرة، والتي لا تكون إلّا بالحياة الآخرة، عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة هو ما يُفضي عادةً إلى الركون إلى الحياة الدنيا. ثالثًا: إنّ فهم الدنيا باعتبارها مركزًا للّعب واللهو وأنّها مجرَّد متاع يؤسّس لفهم وثقافة التعاطي معها كمعبر للحياة الآخرة أو بحسب الروايات باعتبار أنّ الدنيا هي مزرعة للآخرة، وبحسب ما يزرع هنا فإنّ الجزاء والحصاد يكون في الآخرة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “ما بين أحدكم وبين الجنّة والنار إلّا الموت الذي ينزل بكم”. رابعًا: التنبيه إلى أنّ الموت وترك الحياة الدنيا هو المصير الحقّ الذي سينزل بكلّ مخلوق {كلّ نفس ذائقة الموت}، وقوله سبحانه: {كلّ نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا ترجعون}. خامسًا: تأكيد أنّ وجود الحياة الدنيا التي يليها الموت ليس عبثًا بل عن حكمة وجوديّة مفادها أنّ الحياة كما الموت هي بلاء الإنسان وإنّما يرتقي سبل الكمال ومدارجه بحسب قدرته على الخوض في امتحانات البلاء وهذا الامتحان هو فتنة الناس إذ يُعرض عليهم الخير والشرّ بحسب اختيارهم يكون رسم مصيرهم الخالد وستبقى هذه الفتنة التي فيها الابتلاء مفتوحة أمام الناس إلى يوم لقاء الله فمنهم من يترك الصلاح ليركن إلى الدنيا كما حصل مع عمر بن سعد الذي خيّر نفسه بين الجنّة ومتاع حكم الريّ فاختار حكم الريّ. كما حصل مع الحرّ الرياحي الذي خيَّر نفسه بين الجنّة والنار فاختار الجنّة على النار، رغم أنّه جعجع بالإمام الحسين عليه السلام وأخَّره عن الماء، وفي هذا السياق {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور} الله العزيز الذي لا يضيم، وأيضًا غفور قابل للتوبة. سادسًا: أن نتعامل مع واقعة الموت حين تَمثّلها أمامنا باعتبارها الحقيقة التي كتبت علينا نحن. هذه من التنبيهات في التعاليم الإسلاميّة، وهذا الموت كُتب عليك أنت، كُتب عليّ أنا كُتب علينا نحن، لا أنّه كُتب على غيرنا دوننا. ففي الوارد أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان يحضر جنازة فسمع أحدًا يضحك فقال: “فكأنّ الموت فيها على غير ما كتب… وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموت”. سابعًا: الاعتبار بالمرض والألم والشيخوخة والنظر إليها كرسل للموت يقول تعالى: {والله خلقكم ثمّ يتوفّاكم ومنكم من يُردّ إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئًا إنّ الله عليم قدير}، وأرذل العمر هو أدْونه إذ يؤثّر على جوارح الإنسان وعقله بالهرم ليعود كما كان طفلًا فلا يعلم ممّا تعلّمه شيئًا. إلّا أنّ هذه التعاليم والتنبيهات لا تتعلّق بالدنيا كدنيا بل كيف يتمثّل الإنسان بالتعاطي معها وليس المستنكر الدنيا بل بطبيعة النظر إليها باعتبارها مجرّد مركز للّعب والعبث والمتاع المذموم الذي يتمثّل بالتعلّق القلبيّ بها وإلّا فإنّ الحياة خير وإنّما كانت الحياة الدنيا من ربّ الخير، من هنا طلب الله من عباده أن يعملوا لتُشرق بنور ربّها الأرض وأن يحكموا فيها بأحكام القسط والعدل الإلهيّ وأن يستشهد في سبيل ذلك أعظم الخلائق من الأنبياء والأوصياء والصدّيقين ومن هنا حمل الإمام الحسين عليه السلام سيفه على الظلمة كما فعل جدّه وأبوه فلا يصحّ لا من حيث الغايات التنكّر للدنيا والحياة فيها ولا يصحّ التنكّر أيضًا لأحداثها وعِبَرها وسننها الإلهيّة، ولهذا جاء أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام اعترض على من ذمَّ الدنيا قائلًا له: أيّها الذامّ للدنيا المغترُّ بغرورها المخنوع بأباطيلها ثمّ تذمّها أتغترّ بالدنيا ثمّ تذمّها أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك متى استهوتك أم متى غرَّتك أبمصارع آبائك من البلا أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثرى كم علّلت بكفّيك وكم مرضت بيديك أبتغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء لم ينفع أحدهم إشقاقك ولم تسعف فيهم بطلبتك ولم تدفع عنهم بقوّتك قد مثلت لك الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها ودار موعظة لمن اتّعظ بها مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها فمثُلت لهم ببلائها البلاء وبسرورها إلى السرور راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترهيبًا وترغيبًا وتخويفًا وتحذيرًا فذمّها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكّروا وحدّثتهم فصدّقوا ووعظتهم فاتّعظوا” صدق وليّنا وإمامنا أمير المؤمنين عليه السلام. فالدنيا إذًا، موجود محايد ومائدة ممدودة فيها ما فيها من الذي إن حفظناه لمجرّد الصورة تحوَّل إلى شيء عفن وإن تناولناه لما فيه الغذاء لروحنا كانت صلة استمرار لحياة هنيئة فنحن الدنيا المذمومة إذًا، ونحن الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة وعلى هذا النحو من الفهم تفتّقت كلّ القرائح والسجايا لتعاليم السماء عند الإمام الحسين عليه السلام ومن كان معه من أهل بيته وأصحابه، فالعلاقة التي تقوم على ربط المصير بالدنيا وحدها نابع عن الغفلة والجهل بينما العلاقة معها كمزرعة للآخرة إنما ينبع عن علم يولّد الاطمئنان النفسيّ والهدوء في مواجهة كلّ الزلازل بما فيه الموت. بسم الله الرحمن الرحيم {إنّ الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها والّذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} ،{أعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يُرد إلّا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم}. نظرة الإمام الحسين إلى خير الدنيا والآخرة ورد في الأخبار أنّه قد قيل للإمام الحسين عليه السلام أنّ أبا ذرّ يقول: “الفقر أحبّ إليّ من الغنى والسقم أحبّ إليّ من الصحّة”. فقال عليه السلام: “رحم الله تعالى أبا ذرّ أمّا أنا فأقول من اتّكل على حسن اختيار الله له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له”. هذه المقولة للإمام الحسين، تؤسّس لثقافة في الدنيا لا تقوم على الزهد السلبيّ، بل على التعامل مع حكم الله بحسن الرضا والتوكّل بحيث يكون أيّ حال من أحوال الإنسان في الفقر أو الغنى في الحكم أو الاضطهاد هو مورد لعبادة الله والعمل على إنفاذ إرادته سبحانه. هذا ما يؤسّس لثقافة الغنى والعزّ في الحياة إذ ورد عنه عليه السلام: “إنّ العزّ والغنى خرجا يجولان فلقيا التوكّل فاستوطنا”. ومقتضى التوكّل في الحياة العامّة والعلاقة مع الناس أن تُبنى العلاقة على أساس حكم الله ورضاه إذ سُئل عليه السلام: “ما هو خير الدنيا والآخرة. فكتب قائلًا: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فمن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسلام”. فالحرّ الغنيّ العزيز هو الذي يتعامل مع الناس كخلق لله لا كأولياء لنعمة وجوده ومكانته من هنا استمرّعليه السلام رغم كلّ المعارضين لحركته وكان يقول مناجيًا ربّه: “إلهي وسيّدي وددت أن أُقتل وأُحيا سبعين ألف مرّة في طاعتك ومحبّتك سيّما إذا كان في قتلي نصرة لدينك وإحياءً لأمرك وحفظًا لناموس شرعك. وكان عليه السلام ينظر إلى كلّ صنوف البلاء باعتبارها مفتاحًا للفرج ففي الرواية أنّه لمّا نظر إلى أهل بيته وأصحابه وكلّهم صرعى خاطب من بقي من النساء والأطفال قائلًا: “استعدّوا للبلاء واعلموا أنّ الله حافظكم وحاميكم وسينجيكم من شرّ أعدائكم وسيجعل عاقبة أمركم إلى خير ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء ويعوّضكم الله عن هذه البليّة أنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم” فنظريّة لعواقب الأمور لم تقتصر على حدود الدنيا بل الآخرة أيضًا باعتبارها الحياة الحاضرة على الدوام لأنّ حضور الله في الدنيا ورعايته لأهلها هو حاضر على الدوام، من هنا تحدّث عن أنّ كسب الآخرة يكون بشرط الصبر وأن لا يقول المرء ما يقلّل من قدر عبوديّته لربّه سبحانه. وهذه الملاقاة لموت وفهم الحياة قامت عند الإمام الحسين عليه السلام على أصلين أوّلهما: أنّ الموت قد خط على ابن آدم وأنّ ما بينه وبين ملاقاة الحياة الخالدة ليس إلّا عبور قنطرة الموت فإذا كان العبور بإرادة تصنع العزّ تحول الموت إلى خلود إذ الحياة بموتكم لعدوّ الله ولصعوبات الموت بينما الموت الذي هو خسران دائم لحياة الآخرة هو بالحياة مغلوبين، وهو – هذا الأمر – كان يُلحظ عند الإمام الحسين عليه السلام من قبل الكثير ممّن حدّث عنهم في كربلاء أنّه كلّما اقترب من الموت أكثر كانت تباشير الفرح على وجه وتبدو السعادة على وجهه أكثر. ثانيهما: أنّ إعمار الحياة الدنيا واجب على كلّ مكلّف أن يسعى إلى تحقيقه ولو كلّف الأمر بذل الروح والشهادة على طريق هذه العزّة من هنا كان يردّد عليه السلام: “ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة”. وإلّا فأصل طلب القدر دونما هدف هو انتحار يعاقب المرء عليه من قبل الله وهذا ما تضجّ به الأحكام الشرعيّة وما تنطق به الآيات القرآنيّة (من قتل نفسًا فكأنّما قتل الناس جميعًا حتّى لو كانت هذه النفس- قاتل هذه النفس قتل نفسه). وهذا الفهم وجدناه عند أصحاب الإمام الحسين عليه السلام فمنهم من تأمّل الحياة والموت واستيقن ما بعد الموت وعلى أساس هذه القناعة اختار الشهادة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام من هؤلاء كنموذج الحرّ الرياحي الذي قال وهو ينتقل مرتجفًا نحو الإمام الحسين “إنّي والله أخيِّر نفسي بين الجنّة والنار ووالله لا أختار على الجنّة شيئًا ولو قُطِّعت وُحرقت” ثمّ جاء الإمام الحسين منكسًا رأسه قائلًا له: “قد جئتك تائبًا ممّا كان منّي إلى ربّي ومواسيًا لك بنفسي حتّى أموت بين يديك أفترى لي مثوبة” فالمقدّس عند الحرّ الذي حوّل الموت إلى فعل مقدّس والذي هو أغلى من الاستمرار في الحياة الدنيا كانت الجنّة التي أرادها بالتوبة وولاية الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام….تحميل المقال
المقالات المرتبطة
رأس العبادة | ما الدعاء وما أهميته؟
الدعاء، سنةٌ من السنن المفترضة التي أكّد عليها الإسلام إن في القرآن الكريم، أو في الروايات الشريفة، أو روح المزاج
مفهوم السلطة من منظور الدين
ثمّة خلل مفهومي ضارب بجرانه في موضوع الحاكمية، ناشئ عن خلل أكبر أصاب البنية الاجتماعية في الصميم، شأنه في ذلك
الدعاء في القرآن
الدعاء وهو دوّ وعاء= دعاء، كما قلنا، يقوم على حركية الخطاب المتبادل من الداعي والمدعو له الذي هو أيضًا داع.