المروءة الحسينية
يا ابن رسول الله أحبك الناس حبًّا روحانيًّا خالصًا لأنك أردت أن تنصر الحق فنصرته وتخذل الباطل فخذلته، والناس – يا سيدي – في كل مكان يبحثون عن الحق وينصرونه ويفجعهم الظلم فيقبحونه، وإن مروءتك يا مولاي دنيا فخر أوَ لست الذي خطبت في جماعة الحر بن يزيد – وقد أرسل ليصدك عن دخول العراق – فقلت: أيها الناس، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: “من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقًا على الله أن يدخله مدخله…“.
يا سيدي، يقدسك عشاق الفضيلة لأنك حفظت عفاف أرينب زوجة عبد الله من فجور يزيد، ولأنك جمعت بين قلبين محبين كادت الرذيلة تحطمهما بتفريق. أينسى الناس مروءتك – وأنت في أحرج المواقف – أو لم تقل للذين جاؤوا معك من المدينة وقد سمعت في طريقك بمقتل مسلم وهاني: “وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف فليس عليه منا ذمام..!”.
فتفرق عنك من أردت له السلامة… وهل للمروءة صورة أوضح من صورة سيد مقدام لا يهاب الموت ولا يخشى الطعان، رابط الجأش ثابت الجنان يحف به فرسانه وهم قليل عديدهم، كثير عدوهم، يقف هذا السيد أمام جيش عدوه وهو موقن أنه مقتول، فيعلن مبدأه ويقول: “ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا ينهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فإني لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برمًا”.
إنه يود أن يكافح وحيدًا إلا أنهم بايعوه على النضال. تعالوا، معي لتروا بطل النهضة في صورة أخرى فقد سمعت زينب ما عزم عليه الحسين فنادت:
“واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم”.
فجاء إليها الحسين ونصحها وختم نصيحته بقوله:
“يا أخية إني أقسم عليك لا تشقّي عليّ جيبًا ولا تخمشي وجهًا ولا تدعي بالويل والثبور إن أنا هلكت”.
ولم تكن مروءة الحسين وقفًا على أصحابه وأقربائه بل كانت إنسانية عامة حتى بلغ إحسانه أعداءه فما من موقف وقفه إلا ذكّرهم فيه ونصحهم ووعظهم خوفًا عليهم من عذاب شديد، فالحر الذي أرسله ابن زياد ومعه ألف فارس لكي يقطع الطريق على الحسين كان هو وقومه قد أشرفوا على الهلاك، فأمر الحسين أصحابه وفتيانه فقال: “اسقوا القوم ورشفوا الخيل ترشيفًا”.
فكان من فضيلة هذه المروءة أن انحاز إليه الحر وكان من الشهداء… وألمسوا هذه المروءة في ضمير الشهيد تجدوه يتفقد صرعى الطف، ويدفع عنهم ذئاب الطمع، وجنود الباطل، فذاك مسلم بن عوسجة الأسدي من أنصاره خر صريعًا فمشى إليه الحسين – وكان به رمق – فقال: “رحمك الله يا مسلم بن عوسجة”. إنه يضمد قلبًا امتلأ بالإيمان، إنه ليترحم لجندي باع دنيا ذل بأخرى عز وكرامة.
ورأى حسين النخوة زوجة الكلبي وهو يقاتل تحمل عمودًا وهي مقبلة تقول: “فداك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين ذرية محمد..” فناداها الحسين وقال: “جزيتم من أهل بيتي خيرًا ارجعي رحمك الله، فإنه ليس على النساء قتال…”.
ولما قتل الكلبي ذهبت إليه تمسح التراب عن وجهه وتقول له: “هنيئًا لك الجنة..!” فأمر شمر فشج غلامه رأسها بالعمود فماتت.. وكان حسين الرجولة يهجم على أعدائه لينتصر لأولئك الذين باعوا أنفسهم لله مشتاقين فيبدد عنهم جحافل الجبن والغدر.
ثم أنظروا هذا القائد المنافح الناصح المؤمن بالحق العامل على إحقاقه بالروح وقد سقط على الأرض فأدركه طفل هو ابن أخيه فجاءه وغد من جيش يزيد وأهوى عليه بالسيف فصاح الطفل: “أتقتل عمي..!”.
فضربه الغاشم بالسيف وقطع يده فصرخ الغلام فأفاق الحسين من سكرة الموت وقال له: “يا ابن أخي إصبر على ما نزل بك فإن الله يلحقك بآبائك الطاهرين”.
هذه مروءة الحسين وهذه نخوته وهذا جهاده الذي أذل دولة وهدم ظلمًا، فهل نحن مؤمنون حقًا بالمروءة، ومتى نعمل..؟ أنكتفي بالدموع..؟ أنسير ظالمين مظلومين، وحتى متى..؟