معادلة كربلاء الذهبية

معادلة كربلاء الذهبية
قد تبدو عاشوراء للبعض موسم حزن وعزاء تتجدّد معه مراسم ومظاهر البكاء واللطم ولبس السواد. بيد أن عاشوراء تاريخ حي قائم بذاته؛ فالدروس والعبر الزاخرة في الحدث تعطيه كينونته التاريخية التي تتجاوز الماضي مع كل عام، وتنبض حاضرًا يصنع المستقبل. وما اختزال عاشوراء إلى عبَرات ليس إلا تشويهًا للتاريخ الإنساني، وليس فقط الإسلامي، لأنه يطبعه بالجمود والسلبية، كما يمنعه من السير باتجاه التغيير والتطوّر في طريق الإصلاح على كل المستويات. وهل عاشوراء إلّا حركة قلبت كل الموازين والمعايير طلبًا للإصلاح؟ ولعل النظر إلى عاشوراء من منظور الأنثروبولوجيا الاجتماعية تحيل إلى الاستفسار عن المنطق الكامن وراء سلوك ثلة قليلة طريق مواجهة وقتال جيوش بالألوف، بل ومحاولة فهم كيف تسابق هؤلاء النفر من أبناء وإخوة وأصحاب إلى استقبال الموت.
وفي معرض الإجابة، تبرِز عاشوراء ببياناتها ومواقفها وأحداثها، بل وأدق تفاصيلها صورة متكاملة لمعادلة ذهبية تكاد تكون سرّ إكسير الحياة الخالدة. والخلود هنا يتجاوز التصورات المادية الحسية إلى عالم الجوهر حيث تتجلّى مفاهيم الحياة الحقيقية من حرية وكرامة وإباء، وغيرها من خلال مواقف تضحي منارة تسترشد بها الأجيال. وحقيقةً، لم يذكر التاريخ ما يعكس معنى الخلود أكثر مما تفعل حادثة عاشوراء، بما يلغي معه افتراضية أن تكون مجرد ملحمة كباقي الملاحم التاريخية الكثيرة. وهذا الإكسير الذي سطّر خلود انتصار الدم على السيف في كربلاء عبارة عن معادلة البصيرة الذهبية بعناصرها الثلاثة: التشخيص الواقعي، وتحديد الهدف، والتحرّك باتجاهه؛ العناصر التي يحول عدم تفاعلها فيما بينها دون فعالية المعادلة. أما العامل المساعد الذي لا تتم دونه عملية التفاعل أو على الأقل تكون دونه بطيئة فهو عنصر القيادة.
البصيرة هي عقيدة أو رؤية قلبية، تعرّف بأنها “الدلالة التي يُستبصَر بها الشيء على ما هو به”[1]. وهي مفهوم قرآني له دلالته القيمية التي تفوق مقام الحس البصري، لأنها بيّنة أهل العلم في التمييز بين الحق والباطل؛ بها تتعقّل القلوب، ويهتدي الإنسان إلى الطريق السليم، ويباشَر روح اليقين. بهذا المعنى، يكون البصير وفق ما ورد في كتاب نهج البلاغة: من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جددًا واضحًا يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي”[2]، يقابله “العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعدًا”[3].
لقد قدّمت كربلاء النموذج الأتم والمصداق الأكمل لمعنى البصيرة، بحيث إن الرؤية الثاقبة لبواطن الأمور وحقائقها لم تجمد عند حد المعرفة بماهية محور أهل الحق، بل إنها بعد التشخيص الصحيح تبحث في الغاية التي تساهم في إعطاء الهوية الإنسانية قيمتها، ومن ثمّ تتحرّك باتجاه ذلك الهدف بما تمليه الحكمة وعدم العبثية. من هنا، يمكن فهم كيف استحق أصحاب الإمام الحسين لقب “أهل البصائر” بشهادة أحد قادة جيش ابن سعد وابن زياد، عمرو بن الحجّاج الزبيديّ، حيث خاطب أصحابه قائلًا: “أتدرون من تقاتلون؟! تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقومًا مستميتين، لا يبرز لهم أحد منكم إلّا قتلوه على قلّتهم” . [4]
وهنا، يبرز دور القيادة في المساعدة على تبيان الحقائق وإنارة الطريق وتفعيل عملية إعمال الفكر في طريق التبصّر بالحقيقة. ويؤمن تبصّر الصورة الشاملة لمجريات الأحداث، والتخطيط الاستراتيجي الطويل المدى، وتداعيات الأمور وعواقبها، قوة توليد للرؤية الصحيحة الأقرب إلى اليقين وصولًا إلى معاينة اليقين بذاته. وأما تمام هذه الخطوات فيكون بالتبرّي من معسكر الضلال، ومن ثمّ تولّي قيادة معسكر الحق، وهو ما يعكسه ما ورد في زيارة الإمام الحسين من سبق التبري على التولي.
هكذا، تكون البصيرة راية يتمسّك بها أهل الحق في رفع الشبهات وتجسيد التضحيات والذود عن الحرمات والكرامات، وتكون عنوان وشعار راية العباس التي جمعت دلالات كل رايات معسكر الحسين الأخرى. وإذ اختُصَّ العباس بن علي دون سواه بأنه كان “نافذ البصيرة”[5] بشهادة صاحب مدرسة علوم أهل البيت، الإمام الصادق، وبأنه مضى على بصيرة من أمره، كما ورد في الزيارة الخاصة به، فإن ذلك من قبيل قوله تعالى في النبي إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً…[6]. لقد كانت بصيرة العباس متكاملة لدرجة نيل شرف القيادة والاقتداء، لكن دون أن يعني ذلك سلب الصفة عن سائر أصحاب الحسين، بل على العكس تثبت لهم، ولكل من يتّبع تلك الراية مهْما بعُد الزمان والمكان.
وهنا تكمن حقيقة حياة النبض العاشورائي، فالمعادلة تتجدّد في كل ساحات رفع الظلم والطغيان والاستئثار بمصير الشعوب والتهاون بحقوقهم. بيد أن التوقف عند حدود تشخيص الأعداء والظلمة والسكوت عنهم ليس إلا عداوة للنفس وشراكة بالظلم، تمامًا كما إن الهدف الذي لا يُسعى إليه يفقد معناه بل وحيثيته. وما راية البصيرة التي رفعها العباس يومًا إلّا معلَم لشعوب الأرض جميعًا، والمجتمعات الإنسانية كافة. فالبصيرة العاشورائية التي تنبض في كل عام هي تلك التي تشعل البكاء في طريق البحث عن معسكر أهل الحق في الزمان الراهن والذود عنه. وأكثر من ذلك، بدلًا من التحسّر بقول: “يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا”، يصبح معسكر الحسين اليوم على امتداد العالم المظلوم، لا سيما من العراق إلى اليمن، على مرأى منّا وهو ينتظر من الأصحاب كمن مثل حبيب وعابس. 
 
[1] الطريحي، مجمع البحرين، (طهران: طروات، الطبعة 2، 1362)، الجزء 3، الصفحة 224.
[2]  نهج البلاغة، الخطبة رقم  153.
[3]  الحر العاملي، وسائل الشيعة، الجزء ٢٧، الصفحة 24.
[4]  المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 45، الصفحة 19.
[5]  الأمين، أعيان الشيعة، الجزء7، الصفحة 430.
[6]  سورة النحل، الآية 120.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عاشوراءكربلاءملحمةالبصيرة

المقالات المرتبطة

الوعي والأسئلة الدينية

عادة ما يحدد الإنسان بكونه “كائنًا حيًا واعيًا”، أي يمتلك، بالإضافة إلى العضوية الحية التي يشترك بها مع غيره من الكائنات المتسمة بالحياة، قدرة إدراكية يستعملها في إدراك ذاته وإدراك الوجود.

هل يمكن للعقل أن يعرف الله؟

يبدو أن الإجابة عن هذا الموضوع تحتاج للبحث في أصل المعرفة وإمكانها. فقد ورد في مباحث الحكمة أن معرفة أي شيء تكون بأحد وجهين: إما بذاته، وإما بغيره. وأن معرفة الشيء بذاته

السلفيّة والعلمانيّة

تظهر في فكرنا العربيّ المعاصر معارك زائفة عدّة وثنائيّات مصطنعة مثل السلفيّة والعلمانيّة؛ الدين والدولة؛ الدين والعلم؛ الدين والفلسفة؛ الأصالة والمعاصرة؛ القديم والجديد؛ الإيمان والإلحاد؛

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<