الإيمان بالحسين دافع الإحياء
نسجت عاشوراء عبر التاريخ أروع المدارس التربويّة الثوريّة الـمُلهِمة للعديد من الثورات، متّخذةً من الأحداث المأساويّة التي جرت آنذاك (في واقعة كربلاء) حافزًا ودافعًا لبلوغ الإصلاح الاجتماعي والسياسي. وقد اتّخذت عاشوراء من الشعائر الحسينيّة وسيلةً لإحياء هذه الذكرى سنويًّا. وبما أنّ الشعائر لا تنفصل بحال من الأحوال عن الناس، فالدراسة الأنثروبولوجيّة تُعتبر من أنجح المناهج للبحث فيها، والحال أنّ الأنثروبولوجيا هو علم الإنسان[1]، أو أحدث الدراسات في العلوم الإنسانيّة[2].
إنّ النشأة التاريخيّة لإحياء الشعائر الحسينيّة، والمشروعيّة التي يتمتّع بها هذا الإحياء كمبدأ ثابت لدى غالب المسلمين الشيعة، ووسيلة مرِنة يُمكن تطويرها والإبداع في الإضافة عليها، تؤكّد بأنّه كلّما ضاقت الأحوال وصعُبَت الظروف ابتكر الموالون أساليب جديدة للإحياء، فلم يثنيهم جَوْر الحكّام وتسلّطهم وتنكيلهم، ولا حتّى انتشار الأمراض والخوف من العدوى، كما يحصل في وقتنا الحالي من المرض المستجد المسمّى بالكورونا، والذي كان سببًا هذا العام من الاستغناء عن التجمّعات في عاشوراء، والاكتفاء بإقامة المآتم الحسينيّة عبر البث المباشر، ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
تطوّرت وسائل إحياء الشعائر الحسينيّة عبر الزمان من مجرّد إلقاء الشعر والندب والنواح، ورواية ما حدث مع الإمام الحسين (ع) في زمن الأئمة (ع)، مرورًا بمجالس العزاء والمسيرات الحاشدة، والضيافة والإطعام على حبّ الإمام، وزيارة مرقده الشريف في العديد من المناسبات، إلى استخدام أكثر الوسائل تطوّرًا من المذياع والتلفاز والهاتف الذكيّ، فتضمّنت البرامج والأفلام والمسرحيّات والمسلسلات التي حاكت واقعة كربلاء بإبداع وتأثير.
فعلى سبيل المثال، إنّ شعيرة اللطم في الوقت الحالي انطلقت من كونها صادحة على المنابر وفي الساحات إلى ظهورها في الشوارع والحارات، كما فعل الرادود الإيراني محمود كريمي وزميله مهدي رسولي وهما يجولان في الشوارع ويندبان الحسين (ع) أيّام عاشوراء لهذا العام، في بادرة فرديّة للبقاء على الإحياء نابضًا في القلب والفكر والممارسة، كذلك بادرة المسيرة الرمزيّة وما تخلّلها من شعيرة اللطم في اليوم العاشر من المحرّم في الضاحية الجنوبيّة لبيروت للتأكيد على مُضيّ هذه الشعائر قُدُمًا ولإضفاء روح المناسبة على الجماهير، علمًا أنّه لا يخفى على باحث مراقب أنّ شعيرة اللطم من أنجع الشعائر التي تستهدف الفئة الشابة، وتستجلبها كعنصر مؤثّر في المجتمع، بل العصب الأساسي والمكوِّن الفعّال داخله في التغيير والتنمية والبناء، فهي تحاكي قدرتهم وطاقاتهم وعواطفهم الجيّاشة، كفنّ مرغوب لديهم.
كذلك يمكن ذكر استعاضة الكثير من الناس بالإطعام على حبّ الحسين (ع)، عن المشاركة غير الـمُتاحة في مسيرات يوم العاشر من المحرّم لا سيّما في القرى. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ القلوب أصبحت مآتم للحسين، فضلًا عن البيوت والشوارع، فلم يعد المأتم الحسيني حبيس المسجد أو الحسينيّة أو المجمّع، بل صارت قلوب العاشقين الموالين مُستَقرًّا ومُستودَعًا لها، ممّا دعا عقولهم إلى ابتكار أساليب إحياء للشعائر العاشورائيّة تتناسب مع كلّ ظرف.
من هنا تجول في فكر الباحث أسئلة كثيرة، والتي من الصعب الإجابة عليها في هذا المقال المحدود، نستعرض منها ما يلي:
-
هل إحياء الشعائر الحسينيّة وسيلة لانتشار المذهب فضلًا عن انتشار الدين، كما يرى بعض الباحثين، أو أنّه تعبير عفويّ عن العاطفة المقترنة بالمأساة؟
-
ما الذي يجعل هذا الشاب أو تلك الفتاة أو ذاك الطفل ملتزمين بلبس السواد، ومظهرين لمظاهر الحزن، ومجتهدين في حضور تلك المجالس التي تُقام لإحياء ذكر أبا عبد الله الحسين (ع)، بغضّ النظر عن درجة الالتزام أو الإيمان أو الاعتقاد بالإمام؟
-
هل هي حاجة للتعلّق بشخصيّةٍ أو هامَةٍ أو مثلٍ أعلى في هذه الحياة، يتناسب مع فطرة الإنسان القائمة على معرفة الحسن والقبح ومصاديقهما؟
والسؤال الدائم يتكرّر، لماذا عاشوراء؟
-
لماذا تجذب هذا التلوّن من الناس؟ هل لقداسة الشخصيّة التي تمثّلها، أم لفداحة وفظاعة الفاجعة التي ارتُكبت؟ أم هل لاحتوائها على المكوِّن الأضعف من النساء والأطفال والرُضَّع وما حصل معهم وطالهم من الوحشيّة؟
-
إذًا لماذا الإحياء للشعائر العاشورائيّة؟ هل هي مجرّد تاريخ مضى نحييه للذكرى فقط؟ لماذا الإصرار على هذه الممارسات الكلاسيكيّة المتكرّرة من الإحياء كلّ عام دون ملل أو كلل؟
إنّ المطّلع على سيرة أهل البيت (ع)، يجد أنّ هذه أسئلة غير مستنكِرة تجول في الخواطر دائمًا، بل هو تعجّب يدعو إلى تكرار الفعل، ومشجِّع على الاستمرار في هذه الشعائر، ودعوة حثيثة للتجديد والإبداع في تقديم السيرة الحسينيّة. ولعلّ كلّ الفرضيات المطروحة هي إجابات صحيحة وواقعيّة لتعدّد الدوافع لدى المشاركين في الإحياءات المتوالية تحت دافع مُشترَك هو: حبّ الحسين (ع)، والإيمان بمظلوميّته. فالإحياء هو مدرسة متكاملة باعثة على المعرفة والثقافة، وتعبيرًا حيًّا عن التمسّك بالنهج الحسيني وقضيّته.
نظرًا للظروف الحاليّة (زمن الكورونا)، وبما أنّ إجراء المقابلات واستخدام الاستمارات والمشاركة الشخصيّة للناس غير متاحة بالشكل المباشر، (وهذا ما يتطلبّه المنهج الأنثروبولوجي)، اعتمد هذا المقال على بعض الأسئلة المحدودة لبعض المشاركين السابقين المتاحين في إحياء الشعائر الحسينيّة، وعلى بعض الدراسات السابقة تحت العنوان المطلوب، وكذلك على المشاركة الشخصيّة الفعليّة في إحياء الشعائر الحسينيّة عبر سنوات مُعتَدّة خلَت، حيث تمّ اختبار الكثير من التفاصيل في هذه الشعائر. وكانت النتائج على الشكل التالي:
يرى البعض أنّ “الشعائر الحسينيّة من أهمّ شعائر الله التي ينبغي إحياءها وتعظيمها […]، وأنّها تسلّط الضوء على حقيقة الصراع بين الحقّ والباطل، وتشكّل هويّة الأمّة وتعطيها الانتماء للإسلام، فهي امتداد للنضال الذي تكبّده الأئمة (ع)”[3]. أمّا البعض الآخر فيراها “حقيقة اجتماعيّة تتحوّل إلى ما يشبه الجين الوراثي تحمله وتتناقله الأجيال لا شعوريًّا، حيث تذوب الذات في المجتمع، وتعكس ما يريد رؤيته ’الآخر‘ منها وليس ما تريده الذات نفسها، وليس من الحكمة مواجهتها أو انتقادها […]، والحقيقة الأنثروبولوجيّة للشعائر الحسينيّة أنّها ابنة تاريخها ومجتمعها”[4].
أمّا بالنسبة للإجابات عن الأسئلة استفتاءً لبعض الآراء الـمُتاحة في السبب والأهميّة لإحياء الشعائر العاشورائيّة والشعيرة الأكثر تأثيرًا، فقد تضمّنت كمًّا هائلًا من المعلومات التي تحاكي عقيدة المشاركين في إقامة هذه الشعائر، سيتمّ عرضها كما تكرّرت بشكل مُختصَر، ودون تصرّف واضح كالتالي:
-
الحفاظ على نهج أهل البيت (ع)، والالتزام بما حثّوا عليه من الإحياء وارتباطه بالتمسّك بالإيمان بالدين الإسلامي.
-
التعلّم من دروس السيرة الحسينيّة في الحياة اليوميّة، والثبات على نصرة المسيرة الحسينيّة كتمهيد لنصرة الإمام المهدي (عج).
-
جزء من إحياء الأمر وفرصة للتقرّب إلى الله، وتربية النفوس على حبّ الإمام الحسين وأهل البيت (ع)، والإخلاص في خدمتهم.
-
استكمالًا للمسيرة الحسينيّة الهادفة إلى إقامة الدين المحمدي الأصيل.
-
إحياء للنفوس، وفرصة ثمينة لإصلاحها، والتمسّك باتّباع أهل البيت (ع).
-
إعادة إحياء الدين الإسلامي، ومسلك مهم لبلوغ تقوى القلوب.
-
إحياء للقيم الحسينيّة وترسيخها والحفاظ عليها والتذكير بها، وتجديد العهد والبيعة للنهج الحسيني.
-
التذكير بعدم التنازل عن الحق مقابل الباطل، وعدم الرضوخ للذلّ والسلطة الجائرة، فالإصلاح له الأولويّة في حياة الإنسان.
-
تعريف الناس بالإمام وأهداف ثورته والأحداث التي جرت في كربلاء لا سيما للأطفال والناشئة، وترسيخ الدين والـمُعتَقَد والثبات على المبدأ والمطالبة بالحقّ.
-
إعطاء الدافع للإنسان الـمُعتقِد بالحقّ للثبات على الموقف حتّى لو قلّ ناصره، ففي النهاية الحق هو المنتصر.
وقد رأى المشاركون في الاستفتاء أنّ الشعيرة الأكثر تأثيرًا في الإحياء تنوّعت بين المجالس الحسينيّة واللطم والزيارة والإطعام، والمظاهر الدالّة على إعلان الحزن كالأعلام والرايات ولباس السواد؛ أي التفاعل مع الممارسات والأمور الحسيّة لا سيّما للأطفال. وهناك إرشادات بضرورة إسماع الأطفال مجالس العزاء حتى لو في أوقات لعبهم، فهذا يؤدّي إلى التساؤل وتحفيز الحركة في الوعي واللاوعي لديهم. كذلك هناك تأثير كبير للتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي من خلال العرض المشهدي، وما تجسّده من تفاعل مُنتِج بين العين والأذن والمشاعر مجتمعة في الشخصيّة.
إلى جانب كلّ ما ذُكِر، تُعتبر عاشوراء وما يتخلّلها من إحياء للشعائر من المفاصل الزمنيّة التي تهيّء للمؤمنين سُبُلًا للتقوى، وتزكية النفس وتهذيبها، وذلك عبر النظر إلى مواصفات وممارسات وأفعال الإمام الحسين (ع) وأصحابه، حيث تشكّل الباعث على تنقية النفس من شوائبها، والابتعاد عمّا يُغضِب الله، جلّ وعلا، وعن ازدراء حبّ الدنيا التي كانت سببًا لكي يحصل ما حصل مع الإمام والمعصومين الذين سبقوه. هي النظر إلى التاريخ لمعرفة كيف تعذّب أهل الصلاح والإيمان والتقوى والشعور بمظلوميّتهم، ممّا يدعو لاستنكار هذه الأفعال والابتعاد عن الخوض فيها ومحاربتها. هي مدرسة تدرّس الحبّ والتضحية والإيثار والثبات على العقيدة، فهي تحيي بصيرة الألباب، وتدعو للاستقامة، وصولًا إلى انتصار الحقّ.
بهذا يكون إحياء الشعائر العاشورائيّة وسيلةً تبليغيّة فعّالة، لتُنقَل للبشريّة هذه التجربة الفريدة من الزكاة بالنفس والعيال في سبيل الهدف الأسمى، ألا وهو هداية البشريّة، وهو ما سعى إليه الأنبياء والرسل والأولياء عبر التاريخ. وممّا ذكره الإمام الخامنئي في هذا المجال “إنّ ثورة الإمام الحسين (ع) هي لإزالة سحب الجهل والغفلة من آفاق الحياة الإنسانيّة ليبثّ العلم فيها، وليرشدها إلى الهداية الحقيقيّة”[5]. فعلًا إنّها القمّة في الجود والعطاء والبذل لكلّ مدّخرات الإنسانيّة في سبيل الحفاظ على الإسلام، وبالتالي الرقيّ بالنفوس إلى أعلى مدارج الكمال الإنسانيّ. ولهذا ليس مُستغرَبًا بقاء هذه الشعائر حيّة عبر التاريخ ما دامت تتكلّم باسم الحسين (ع).
[1] موقع المسلّة، مقال صلاح عبد الرزّاق، بعنوان “أنثروبولوجيا عاشوراء”، 8/9/2020، 12:15 صباحًا.
[2] البروفيسور الدكتور عبد الواحد مشعل عبد، “ورقة مختصرة حول ’المنهج الانثروبولوجي‘”، 24/8/2020، 10:00صباحًا (Facebook).
[3] موقع البلاغ، مقال عمار كاظم، “الشعائر الحسينيّة في بعدها الاجتماعي”، 25/8/2020، 10:20صباحًا.
[4] موقع الحوار المتمدّن، مقال سليم سوزة، “انثروبولوجيا الشعائر الحسينيّ” 25/8/2020، 10:30صباحًا.
[5] معهد سيّد الشهداء، دروس عاشوراء (بيروت: جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، 2016م)، (من خطبة في مراسم الذكرى السابعة عشر لرحيل الإمام الخميني، 4/6/2007م)، الصفحة 57.
المقالات المرتبطة
التبني الحضاري والتجديد الجذري نحو مشروع رؤية جديدة للفكر الإسلامي المعاصر (1)
ليس في وسع عاقل من هذه الأمة، أن ينكر وجود أزمة حقيقية يعاني منها الفكر الإسلامي اليوم. على أساس هذا
التعدديّة الدينية
يقدم آية الله الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي، في هذا المقال، نظرةً عمليةً مختلفة لموضع التعددية الدينية الدينية
في معنى لذة الموت وكراهة الحياة
كيف تجاوز مخط القلادة حتى أحاط بالموت ولم يحط به.
وكيف لابتسامته أن تلهم الصحب. فيبتسموا للموت.
وكيف يكون مذاق العسل. وطيب العناق. والأنس بالجوار.