مفهوم اليسار الإسلامي في فكر الدكتور حسن حنفي
بدأ مشروع المفكّر حسن حنفي – على ما نعلم – من الوجهة الأُعلومية (الإبستمولوجية) مع ترجمته لكتاب سبينوزا “رسالة في اللاهوت والسياسية” – ولعلّ أعظم ما أسهم به سبينوزا في الفلسفة فصل العقل عن النقل، واستبعاد كل التفسيرات الغيبية عن التفكير الفلسفي، وقد كانت الدراسات التاريخية التي قام بها للأناجيل في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” استباقًا وتدشينًا للبحوث التاريخية في القرن التاسع عشر، من كتاب حياة يسوع لهيغل، إلى كتاب جوهر المسيحية… لشتراوس، وانتهاء بكتابات فورباخ اللاهوتية – النقدية والراديكالية، فهل انتهى الدكتور حسن حنفي إلى ما انتهى إليه سبينوزا في أولوية العقل على النقل، أو على الأقل ما قام به ماكس فيبر مؤسّس سوسيولوجيا الدين – في مشروعه لليسار الإسلامي؟
إن أولوية العقل على النقل ليست مسألة سبينوزية، ولا غربية، بل لها في التراث العربي – الإسلامي مكانٌ ومكانة، مع الفارابي، وابن سينا، وابن رشد. فقد اقتصر التفكير في الموجودات في الفكر العربي الإسلامي، قبل الفلسفة على قواعد وأدلة أصولية تقوم على الاستصحاب الفقهي، والأدلة الشرعية والأحكام والتكاليف (كالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة)، وعلى الاستحسان أو الرأي والاستصلاح أو الاجتهاد، وفق قواعد “مضبوطة” تقوم على قوانين اللسان كالنحو والصرف والبيان وشرائط الاستنباط، والاستدلال الفقهي (كالعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والأوامر، والبيان، والخبر، وحكم العلة، والاحتجاج بخبر الواحد، والقياس والاجتهاد) وفق مبدأ التمييز ما بين المحكم والمتشابه في النص الديني.
وأتى المتكلمون فأضافوا إلى هذه القواعد قواعد أخرى مستمدة من الاصطلاحية الكلامية، ومال هؤلاء إلى نمطٍ من التأويل الكلي، والاجتهاد المُرسل في إطار علم أصول الدين (في الجمع ما بين المصطلح الفقهي والمصطلح الكلامي الفلسفي،كالعلة والمعلول، والوجود والعدم، والكلي والجزئي إلخ).
وجاءت الفلسفة فوضعت العلم بالموجودات على قاعدة البرهان والمنطق كأساس للمعرفة واليقين، فصار “للقياس” صفةً عقلية ومنطقية وبرهانية صرفة، تقوم على التصور والتصديق والحد الصحيح (البرهاني). فالمعرفة اليقينية الضرورية عند الفارابي هي المعرفة الفلسفية، وكل معرفة غيرها مثالات أو خيالات لها: “ما في الملة مثالات لأمورٍ صحت في الفلسفة”.
وعند ابن سينا المعرفة تقوم على الحد الصحيح والقياس الصحيح، وهو البرهان، المتميز عن الحد الجدلي (الكلاسيكي)، والخطابي (الأدبي)، والسوفسطائي، والخيالي (الشعري).
وكذلك الأمر عند ابن رشد، فطُرق الحد والتصور والقياس والتصديق ثلاثًا: البرهانية والجدلية والخطابية، في أولوية البرهان على البيان والعرفان.
قد يقال: إن الفلاسفة المسلمين تأثّروا – سلبًا – بالنظرة اليونانية العقلاطية (اللوغوقراطية) في تقديم الكليات على الجزئيات، والذهنيات على العينيات، والماهية على الوجود، غير أنهم أجمعوا على اعتبار المعرفة علمًا بالموجودات كموجودات على ضوء العقل الكلي والكوني.
في كتابه الموسوعي الكبير “من العقيدة إلى الثورة” يتّبع الأستاذ حنفي في منهجه التأويلي الطريقة الكلامية الأشعرية، وهي طريقة جدالية، تقوم على نظرية الكسب، والسببية الطبيعية الميتافيزيقية، وذلك في تمييزه ما بين العلوم الأصيلة والعلوم الدخيلة في الإسلام، سيرًا على خطى الشيخ الإصلاحي مصطفى عبد الرازق في اعتبار علم أصول الفقه أو “الفلسفة الفقهية” – على حد تعبيره – أقل نواحي التفكير تأثرًا بالعناصر “الأجنبية” الدخيلة (اليونانية)، وهو نمط من التفكير يتفق برأي الشيخ عبد الرازق مع طبيعة العرب العملية الفكرية، البعيدة عن مباحث ما وراء الطبيعة الميتافيزيقية المجرّدة، وأقرب إلى مفهوم الحكمة منه إلى الفلسفة.
وقد تبنّى هذه الأطروحة – قبل الأستاذ حسن حنفي – المفكّر الإسلامي علي سامي النشار في كتابه المشهور “مناهج البحث عند مفكّري الإسلام”، وفيها يتلاقى الأخير مع ابن تيمية ليس فقط في مناوءة الفلسفة والمنطق – مع أهمية هذا النقد من الوجهة العلمية الإبستمولوجية – وإنما مع الاستشراق التقليدي في رد قصور العقلية السامية (الإسلامية واليهودية) إلى استعداد فطري طبيعي لإنتاج أمرٍ واحد في دائرة واحدة هو “التوحيد”.
في كتابه “التراث والتجديد” يؤسّس الدكتور حنفي نظريته الفكرية الحضارية على الأصول الأولى في الوحي والكتب المقدّسة أي ما يعادل “علوم القرآن” في تراثنا القديم. وغايته في ذلك إمكانية تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل، لتحقيق الوحي في التاريخ، من مراحل الوحي السباقة على الإسلام (العهد القديم والعهد الجديد)، مرورًا بالإسلام، وانتهاءً بالعصور الحديثة. وذلك لتجاوز مناهج التفسير التي عرفها تراثنا القديم (الكلامية والفلسفية والفقهية والصوفية) التي تراوح برأيه بين مناهج نصية أو عقلية أو واقعية أو وجدانية، هذا مع محاولة نظرية جديدة للتفسير جامعة لها كلها، تكون بمثابة أيديولوجية تنظِّر الواقع وتطوره ابتداءً من الوحي وانتهاءً بالجهد الإنساني.
ماذا عن اليسار الإسلامي؟ اليمين واليسار في الفكر الديني – بنظر الدكتور – حنفي – هما وضعان اجتماعيان يدلّان على وجود طبقتين اجتماعيتين، تحاول كل طبقة أن تدافع عن حقوقها بالأبنية النظرية المتاحة في المجتمعات التقليدية وهي العقائد الدينية. وهي بتعريفه – قضية عملية وليست قضية نظرية، وبناء اجتماعي أكثر منه حقيقة فكرية. تحاول إحدى الطبقتين، وهي الأقلية المسيطرة على وسائل الإنتاج والمسيطرة على الحكم، استغلال الطبقة الأخرى، لصالحها، عن طريق الفكر الديني أي تفسيرها للدين لصالحها، كما تحاول الطبقة الأخرى، وهي الأغلبية المستغلة، إعادة تفسير الدين لصالحها للقضاء على الأقلية المسيطرة بنفس السلاح (الدين) وهذا هو معنى العبارة المشهورة عن الدين بأنه “أفيون الشعوب وصرخة المضطهدين” – أو “فيتامين الشعوب”[1].
تقوم نظرية العلم أو المعرفة في علم أصول الدين كما يفهمه الدكتور حنفي على موقفين: الأول يجعل الإيمان وسيلة للمعرفة، والإيمان فعل أولي لا يسبقه فعل آخر، يقبل ولا يرفض، يسلّم به ولا يعترض، يأخذ ولا يعطي، ثم يأتي دور النظر في تبرير الإيمان وفهمه دون نقده وتمحيصه. وهذا هو موقف اليمين، فالتسليم يؤدي إلى الطاعة والرضا بما يعطى للشعب من حقائق عليه قبولها، من الطاعة للأمراء إلى الانقياد للحكام إلى التسليم بالوضع القائم والاستكانة والخضوع له… في حين أن اليسار يجعل من النظر أمر عامًا وشاملًا، لا يخص فردًا دون فرد، أو طبقة دون طبقة، أو شعبًا دون شعب، فلا يوجد عالم والباقي جاهلون، ولا يوجد شعب متحضر وباقي الشعوب همجية[2].
أما بصدد نظرية الوجود، إجابة على سؤال: ماذا أعرف؟ فهنا ثمة موقفان: الأول يريد جعل موضوع المعرفة هو الحادث، المتغير، الممكن، ويقصد بذلك العالم الذي نعيش فيه حتى يمكن الانتقال بعد ذلك من الحادث إلى القديم، ومن المتغير إلى الثابت، ومن الممكن إلى الواجب، فالعالم محكوم عليه هنا بالفناء من أجل إثبات موجود وراء العالم يكون هو البقاء، والحكم على العالم بالفناء إلخ. والعالم هنا ليس إلا وسيلة لإثبات شيء آخر، هو الله. فالله هو الباقي، والعالم هو الفاني، الله هو الغني والعالم هو الفقير المحتاج. ويستطيع الغني أن يفعل بالفقير ما يشاء، فلا قانون يحفظ للفقير حقوقه إلا رحمة الغني به، ولا إرادة تقف في مواجهة الغني إلا بفضله وإرادته، ومن ثم لا توجد قوانين للطبيعة، بل يمكن للحجر أن ينقلب ذهبًا، والعصا ثعبانًا، ويعيش الإنسان في عالم يحكمه السحر ويدركه بالخرافة…[3]. وهذا هو موقف اليمين في الفكر الديني.
في مقابل ذلك، هناك اتجاه آخر يجعل هذا العالم باقيًا مستقرًّا، ويجعل جهد الإنسان فيه منتجًا ومؤثّرًا. فالعالم ليس ممكنًا، بل واجبٌ، وليس حادثًا، بل قديم يخضع لقوانين طبيعية مطردة، يمكن للإنسان معرفتها والسيطرة على الطبيعة من خلالها، واستغلالها لصالحه، وتستعصي على كل محاولة للقضاء عليها أو التدخل في سيرها، وعليها تتحطم كل الإرادات المسيطرة، وكل القوى القاهرة، فلا صوت يعلو على صوت الطبيعة، ولا قانون يطغى على قانونها، فالعالم ليس وسيلة لشيء آخر، بل هو غاية في ذاته، وهو ليس فانيًا، بل باقٍ، ووجود الإنسان فيه ليس عارضًا، بل جوهري. وذلك هو اليسار في الفكر الديني.
وقد يستغل اليمين هذا الموقف اليساري لصالحه – كما يفسّر نظرية المعرفة – عندما يفسّر الطبيعة واضطرادها لصالح النظم التسلطية والرأسمالية، فيجعل قانون العرض والطلب أو الصلة بين صاحب رأس المال والعمال، أو قوانين الربح والاحتكار قوانين طبيعية وحتمية…
كما يمكن لليسار إعادة تفسير موقف اليمين لصالحه وذلك بالاعتماد على لا حتمية قوانين الطبيعة لصالح الجماهير، فالنظام الرأسمالي لا يكون – والحال هذه – نظامًا ثابتًا، بل يمكن تعديله، وهذا النظام الذي ترى فيه الأقلية المسيطرة أبدع ما أنتجه العقل البشري يمكّن الثورة عليه وقلبه رأسًا على عقب إلخ[4].
وقس على ذلك بالنسبة إلى سائر الموضوعات، من موضوعة الذات الإلهية، والموقف منها، إلى نظرية الصفات والذات، إلى الأفعال المطلقة والإرادية، والعقل والنقل، والخير والشر، والحسن والقبح إلخ… الواردة في التراث الإسلامي الكلاسيكي.
وتدخل هذه الموضوعات (الذات والصفات، والأفعال)، بشقيها خلق الأفعال، والعقل والنقل ضمن الإلهيات التي تشمل نظريتي التوحيد والعدل، أو ضمن العقليات وهي الأمور التي يمكن الوصول فيها إلى يقين عقلي والتي تعتمد على برهان عقلي بالإضافة إلى برهان النقل… أما الموضوعات الأربع التالية (النبوة والمعاد والأسماء والأحكام، والإمامية) فإنها تدخل في نطاق السمعيات التي لا يمكن الوصول فيها إلى يقين عقلي والتي لا تعتمد إلا على النقل وحده، ومن ثم فهي ظنية لا يكفر منكروها[5].
وهنا يبدو موقفان: الأول يميني يحاول الجمع بين المجموعتين فيرد العقليات إلى السمعيات هادمًا الأساس العقلي اليقيني الذي تعتمد عليه، وهو بهذا يساوي الله بأمور المعاد، ويقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، ويجعل النبوة ضرورية ولا قوام لحياة الناس بدون نبوة، وأن الإنسان قاصرٌ عقلًا، فهو يحتاج إلى وصايا من الخارج.
وفي مقابل ذلك يرفض اليسار كل أشكال الوصاية على الإنسان، ويجعله مستقلًّا، قادرًا لا يحتاج إلى عون خارجي نظري أو عملي ويضع الإنسان في مجرى التطور التاريخي.
وإذا كانت النبوة تتناول ماضي الإنسان على الأقل فإن موضوع المعاد قد يكون هو الموضوع الأساسي في السمعيات، فلا يوجد دين إلا ويتناول موضوع الأخرويات إجابة عن سؤال: ماذا يحدث للإنسان بعد الموت؟ وهنا يبدو موقفان: الأول يجعل الله هو الذي يميت، وأن الموت حادث بقضاء الله وقدره، وواقع بفعل الله وليس بفعل الأمراض وحوادث الطرق أو الاغتيالات إلخ..
وفي مقابل ذلك، الموقف اليساري يجعل الموت واقعًا بأسبابه المباشرة مثل الأمراض وحوادث الطرق والاغتيالات والحروب، وبتغيير الواقع تقل أسباب الموت ويحيا الإنسان، فالواقع يمكن تغييره إلى واقع أفضل والموت يمكن الإقلال من نسبته بالقضاء على الأمراض، ونشر السلام الداخلي والخارجي، وتنظيم المرور للتقليل من حوادث السير إلخ.
ويأتي موضوع السياسة، كآخر موضوع تقليدي في علم أصول الدين القديم، ويظهر موقفان: الأول موقف اليمين الذي يجعل السياسة ملحقًا لعلم أصول الدين، وليست أصلًا من أصوله، كالتوحيد والعدل، وليستل السياسة من الممارسة اليومية للمؤمنين، فقد لعن الله ساس ويسوس – كما قال الإمام محمد عبده مثلًا – .
وفي مقابل ذلك هناك موقف آخر يجعل من السياسة أصلًا لا فرعًا، وأنها هي المحققة لأصول الدين وأن الله والشعب صنوان. وهو الموقف الذي يجعل الفكر السياسي يدور حول بناء المؤسسات الدستورية، وهو موقف النظم التقدمية ضد عبادة الأشخاص، فالزعماء ترحل والشعوب تبقى، والمؤسسات قوية ومتجرّدة لا يمكن إفسادها، وولاء الحاكم للمبادئ والتزام الدستور، وبالتالي فإن النظم التقدمية هي نظم ديمقراطية بطبيعتها[6].
ويختم الكاتب في موقفه من التراث والتجديد قائلًا: لا أريد أن أعطي مفتاحًا وأقول: إن اليمين واليسار في الفكر قد مثلته الأشاعرة والمعتزلة في تراثنا القديم، فالأشاعرة هم اليمين في الفكر الديني، والمعتزلة هم اليسار في الفكر الديني، وبالتالي تكون مأساتنا أننا بتكويننا الأشعري يمين، في حين أننا بوضعنا الاجتماعي وبدخلنا المحدود وبأرضنا الزراعية يسار. وبالتالي يكون اختيارنا الفكري غير واقعنا المادي، وهنا تظهر ضرورة إعادة الاختيار الفكري حتى يتفق الفكر مع الواقع[7].
هذه الخلاصة تبين موقف الكاتب المتأثل في التراث، وهو كناية عن حالة محايرة ما بين أشعرية في الفكر، واعتزال في السياسة، والاجتماع، وهو موقف تقليدي وقع فيه العلامة ابن خلدون، الذي كان أشعريًّا في الفكر يدعو إلى إبطال الفلسفة، ودهريًّا في السياسة والاجتماع وعلم التاريخ والمعاش (الاقتصاد).
كيف السبيل إلى الخروج من هذه الحالة الانفصامية؟ لا يقدّم الكاتب حسن حنفي أجوبة نهائية، فهو سلفي في الفكر، تقدّمي في السياسة، غربي العقل شرقي الهوى. وهذه الحالة البينية نلاحظها عنده في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب”، حيث يؤسّس “علم الاستغراب” (باسم الفلسفة؟) كنقيضة للاستشراق. فيقول مثلًا: الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل والنقيض من الاستشراق، فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب) فإن علم الاستغراب يهدف إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركّب العظمة عند الآخر”[8].
هل تقوم المعرفة، بالمحصلة على مركّبات سيكولوجية؟
وما هي الطريقة الصحيحة في العلم (المعرفة) والعمل؟
الحل برأينا، هو في الاستعادة التجاوزية (الجينيالوجية) والتاريخية للتراث، على أساس وجودي، ومستقبلي؛ في جدلية الماضي والحاضر والمستقبل.
وهذه الاستعادة تحكمها حاجة الأمة إلى الوحدة، والتقدم، وتأكيد الذات والكينونة، ولا ينفصل في هذه العملية، الإصلاح الديني، عن النهضة، عن التنوير، وهذا الأمر يتطلب تجاوز النظرة الأصولية، أيًّا كان لونها، باتجاه فكر جديد ديني ودنيوي، يقترن الديني بالدنيوي، بالحداثة دون خوف من محدثات الأمور يأخذ من التراث عناصر الإيجاب كلها، من منطق الفلاسفة، إلى علوم الذرية التجريبية عند العلماء، إلى مفهوم الإرادة والاختيار عند المعتزلة، إلى مفهوم الإرجاء (بتقديم المعرفة على الإيمان والإيمان على الإسلام، وإرجاء الحكم على الإنسان إلى الله تعالى)، إلى التصوف العقلي الداعي إلى تقديم الروح على النص، والمعنى على الحرف، في وحدة الوجود، ووحدة المذاهب والأديان، إلى النظريات الكونية الحديثة في علوم الإنسان، بمنأى عن النزعات التمركزية على الذات، والاتباعية، والتبعية في علاقة الذات بالآخر، والإنسان بالجماعة الوطنية والإنسانية، في مشروع جديد يعطي المشروعية لأمتنا العربية والإسلامية بمعزل عن التقوقع المذهبي، والطائفي، والقومي، وبمنأى عن التمذهب الشيعي والسني، والبحث عن الفرقة الناجية، في الفرق ما بين الفرق.
وهذا الأمر لا تضمنه إلا فلسفة الاختلاف التي تقوم على التعددية الفكرية والروحية، وعلى اعتبار النقد سلطة فوق كل سلطة والمعرفة العلمية (لإبستمية) معيار للحق والحقيقة، والإنسان معيار الوجود والكينونة في علاقته مع الله والكون والكينونة.
لقد قام الإصلاح الديني في الغرب على البروتستانتية، والعودة إلى الطبيعة، والنزعة الإنسانية (أصالة الإنسان) وما حملته من أخلاقية جديدة تقوم على العلم والعمل، والعقد والعهد والوعد، والمبادرة والريادة والتفسير الوجودي (الزمني) لعلاقة اللاهوت بالناسوت، وكم نحن بحاجة إلى لاهوت تحرير، أو “بروتستانتية” إسلامية نرى علاماتها في النموذج التركي والماليزي والإيراني الإصلاحي، يعيد لأمتنا العربية والإسلامية دورها الحضاري لتحرير الإنسان والإنسانية من الاستعمار والاستثمار والاستحمار – كما يقول علي شريعتي – من أجل إقامة مشروع تقوم عليه مشروعيتنا في هذا العالم!
[1] الدكتور حسن حنفي، اليمين واليسار في الفكر الديني، (دمشق: منشورات دار علاء الدين، القاهرة: دار الثقافة الجديدة)، الصفحتان 6 و 7.
[2] المرجع نفسه، الصفحة 7و 9.
[3] المرجع نفسه، الصفحة 9.
[4] د. حسن حنفي، اليمين واليسار في الفكر الديني، المرجع السابق، الصفحة 11.
[5] المرجع نفسه، الصفحة 20.
[6] الدكتور حسن حنفي، اليمين واليسار في الفكر الديني، المرجع السابق، الصفحة 24.
[7] المرجع نفسه، الصفحة 32.
[8] د. حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، (بيروت: منشورات مجد، 2000)، الصفحة 23.
المقالات المرتبطة
قراءة في الجزية … بين العُرف الفقهي والمفهوم السياسي
من المصطلحات التي دار حولها جدل كثير، هو مصطلح الجزية، والجزية كما ذهب أغلب الفقهاء هي أموال سنوية، أو ضريبة رؤوس
حوار الدهشة والرهبة بين لحظتي انبثاق
الوقوف على الحوار الإسلامي-المسيحي، يقتضي الرجوع إلى اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة الإسلاميّة، فهي جاءت في محيط جاهليّ، ولكنّه لم يخلُ
“تساؤلات في المبنى العقيديّ والمنهج” عند الدكتور حسن حنفي
نحن أمام مشروع رؤيويّ، منهجيّ، ذي مادة غنيّة وغزيرة، يسعى لبناء نسق كلاميّ، عقائديّ، ثوريّ جديد، وذلك على أرض علم