الفكر العربي الحديث والمعاصر | محمد عزيز الحبّابي والشخصانية الواقعية
يُعتبر الحبّابي أبرز شخصية فلسفية تبنّت الشخصانية، وعملت على تسويغها في المجتمعات العربية الإسلامية، وهو عمل على نشرها بين المثقفين باعتبارها تحمل في طيّاتها نزعة تحرّرية، تعمل على تخليص المجتمعات الإسلامية من حالة الركود، لتنقلهم إلى النهوض، وهو وإن كان قد أخذ هذه الفكرة من الفلسفة الغربية إلا أنّه حاول أن يوجد أصول تراثية لها، وسعى إلى بناء خصوصية لها تتوافق مع التفكير والمرجعية الإسلامية، فكيف عمل الحبّابي على ذلك؟ وهل نجح في ما سعى إليه؟ هذا ما سنحاول الوقوف عليه في هذه الورقة.
أولًا: في أصول الفلسفة الشخصانية
لم يتمّ تداول مفهوم الشخصانية كدلالة على فكر فلسفيّ قبل منتصف القرن التاسع عشر، حيث أخذ ينمو تيار فكري، يدعو إلى مواجهة العقلانية التنويرية ومثالية هيغل المطلقة والاتجاه الفردانيّ والحتمية التطورية النفسية والمادية، وهو وإن مال إلى تسمية نفسه بالشخصانية إلا أنّه اختزن في نفسه توجهات عدة، وفي هذا المجال، يمكننا أن نرصد الأمور التالية: “استُخدم اصطلاح الشخصانية لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية من جانب برونسون آلكوت 1863 م، وفي فرنسا من جانب شارل رينوفييه 1901 م، وقد كان مؤسس الشخصانية بوردن باركر باون 1847 – 1910 م، أما دعاة الشخصانية في الفلسفة الأمريكية المعاصرة فهم تلميذ (باون) وزعيم مدرسة كاليفورنيا فلوويلنج ولد 1871 م، وزعيم مدرسة بوسطن كذلك (س برايتمان( 1884- 1953″[1]، ويذهب رأي آخر إلى اعتبار ف. د. ي. شلايرماخ (1762-1834) هو أول من استخدم مصطلح der Personalismus في كتابه “عن الدين”[2]، وبمعزل عن لحظة البداية، يلاحظ المتابع لتاريخ الفلسفة أنّ هذه الفلسفة بدأت في الأوساط اللاهوتية، وهي جاءت كردة فعل على نمو التيارات الحداثوية والإلحادية، وعلى هذا الأساس ينظر ألبرت سي. كوندسون إلى اعتبار الشخصانية: “الثمرة الناضجة لأكثر من ألفي عام من الجهد الفكري، هي قمة الهرم الذي رسم قاعدته أفلاطون وأرسطو”. ويؤكد الشخصانيون الكاثوليك بشكل خاص: “دور الفكر القروسطي والتعاليم المدرسية على تطور الشخصانية، فلقد لاحظ إيتيان جيلسون على سبيل المثال أنه بينما اعتبر أفلاطون وجود مركز الواقع في أفكار ذات تمثيلات عينية، وهي مصادفة فقط، ولم يركز أرسطو على أفراد معدودين، وإنّما ركّز على هيئة كونية محددة، فإن توماس أكويناس[3] رأى الشخص الفرد ككائن متميّز عن بقية الكائنات بسبب المنطق والسيادة الذاتية. وبالرغم أن أحدًا لم يمض قدمًا بتسمية أكويناس شخصانيًّا إلا أنّ البعض يقترح بأنّه هو من قام بتجهيز التربة الضرورية لتضرب النظرية الشخصانية جذورها فيها”[4].
وحضور اللاهوت في الفكر الشخصانيّ، يجعل هذا التيار مؤسسًا لفلسفة تتوافق مع الدين، وهو ما تؤكده الشخصانية بشعابها المختلفة، التي تؤكّد على مركزية الشخص ليكون الموضع الأساسي للبحث والتقصي في الدراسات الفلسفية واللاهوتية والإنسانية. فالشخصانية منهج أو نظام فكري يعتبر أو يميل لاعتبار الشخص المبدأ التوضيحيّ والمعرفيّ والأنطولوجيّ والأخلاقيّ المطلق لجميع الحقائق، وهذه الفلسفة تنظر إلى الفرد باعتباره العنصر الأول الروحي للوجود، لذلك: “تضع الشخصانية المفهوم القائل بأنّ الطبيعة هي المجمل الكليّ للأرواح (الفردية)، ويحكم العدد الكبير من (الأفراد) الذين يوجدون على مستويات مختلفة من التطور ويشكلون العالم (الوجود الأسمى الله)، وتذهب الشخصانية، إلى أن المهمة الاجتماعية الرئيسية ليست تغيير العالم، وإنما تغيير الفرد، أي دعم كماله الذاتي الروحي”[5].
وعلى الرغم من توسع رقعة الشخصانية إلا أنّ شخصية “إيمانويل مونييه” لعبت دورًا مركزيًّا فيها، حتى كادت الشخصانية تنطبع بطابعه، حيث ارتبطت به، وأخذت شهرتها من خلال إسهاماته، فهذا الفيلسوف عمل على رعاية هذا المذهب الفلسفيّ، وساهمت الظروف الموضوعية في تطورها على ذلك، حيث كانت أوروبا عمومًا وفرنسا خصوصًا، تعيش مرحلة قلقة، تضافرت جملة من العناصر في ذلك، حيث تفاقمت الأزمة الاقتصادية وترافقت بتحركات نقابية قادها الشيوعيون، الأمر الذي أوجد ردّ ديني عند شريحة كبيرة من المفكرين، الّذين أرادوا أن يكون لهم منبر يعلنون من خلاله عن موقفهم ورؤيتهم، فتأسست مجلة Esprit (1932) التي رعاها “مونييه” وأخذت شهرتها بإسهاماته، التي أخرجت التيار الدينيّ من مجرد تنظير أيديولوجي إلى حركية تمتلك الرؤية الفلسفية والساعية إلى تحقيق أهداف سياسية؛ تتمثل في مجابهة الماركسية: “وهكذا تمكّنت الشخصانية من إعادة الله إلى عالم الفلسفة من بابها الأوسع”[6]. وهذا العود يعبر عنه جون لاكروا قائلًا: “الله موجود لأنه يستحق الوجود، ولأن العالم بدونه لا دلالة له، ولأنني (كإنسان) لا أكفي لكي أمنحها إياه. فالإيمان رفض للعبث”[7].
هذا وتناول الفيلسوف “إيمانويل مونييه” الفلسفة الشخصانية بعيدًا عن الفلسفات الأخرى انطلاقًا من رؤيته التي تؤكد على أهمية الشخص، الذي يعتبر: ” كائنٌ روحيّ تساهم ذاته في وجوده واستقلالية تكوينه، ويحافظ على هذا الوجود عن طريق إيمانه بسلسلة من القيم التي اعتمدها بحرية واستوعبها، وعكف على العيش من خلال نشاطها المسؤول وبواسطة تطور داخلي مستمر”[8]، وهذا ما يجعل من الشخصانية فلسفة للحياة، تعتمد الحرية في مقاربتها للموضوعات: “وليست موقفًا فحسب، إنّها فلسفة دون أن تكون مذهبًا فلسفيًّا. إنّها تهرب من التنسيق، إذ من الضروري أن يكون ثمة نظام من الأفكار، فالمفاهيم والمنطق والصور، التي لولاها لكانت الفكرة حدسًا كثيفًا ومعزولًا… وبما أنّ الشخصانية تحدّد وبدقة التراكيب (البنيان)، فهي فلسفة وليست مجرد موقف فحسب”[9]، فالشخصانية هي تفكير حرّ غير منغلق على نسق شامل ونهائيّ، فهي ترفض القوالب الجاهزة، التي تقدم الحلول والتوجيهات، ولهذا يرى مونييه: “أنّه لا توجد شخصانية بل شخصانيات وينبغي احترام مقارباتها المختلفة”[10].
والشخصانية كما رآها مونييه تعارض الفردانية[11]، لأنّ الفردانية وليدة الحداثة الغربية والبرجوازية التي شتتت الشخص، وجعلته يعيش فوضى حضارية، وقامت بتسطيحه، وجعلته دائمًا يميل إلى عالم المنفعة جاعلًا الكسب والمادة هدفًا، بينما الشخصانية تنظر إلى الشخص باعتباره كائنًا روحانيًّا من حيث ماهيته، ومن حيث انتمائه الحر إلى سلم من القيم، يستوعبها ويعيشها من خلال التزام مسؤول وتحول متواصل. وهكذا يوحد الشخص كل نشاطه في الحرية، وينمي زيادة على ذلك بواسطة أفعاله الخلّاقة أصالة قيمته. وهذا التمييز الذي قام به “مونييه” بين الفرد والشخص، لا يعني إنكارًا للفردانية، إنّما هو ينطلق من اختلاف الطبيعة الوظيفية لكلا المفهومين، بمعنى آخر مونييه يريد أن يتجاوز الفرد بما هو كائن مبتور منفصل ومنعزل وأنانيّ نحو الشخص: “حيث الفعل والقيم لأنّ الشخص لا ينمو إلا إذا تصفى باستمرار من الفرد الكائن فيه[12]، وانفتح باتجاه وحدة الإنسان والجماعة انطلاقًا من الحرية والعدالة الاجتماعية.
ثانيًا: من مونييه إلى الحبّابي
رأى “الحبّابي” في الشخصانية مدخلًا لمقاربة موضوع النهوض الحضاريّ العربي – الإسلاميّ، لما تحمله هذه الفلسفة من أبعاد واقعية، تنتمي إلى محيط إنسانيّ شامل: “لقد تمّ تصور الشخصانية الواقعية انطلاقًا من ثقافة مزدوجة، إسلامية وغربية؛ وأنّها نبعت من انشغال مزدوج: الرغبة في تنمية وإحياء الروح الواقعية والتركيبية في عالم الإسلام؛ وإثارة اندفاع نحو الأنا، حيث يتجاوز الأنا ذاته دون أن يفقد شخصيته. وبما أنّي كنت منجذبًا من قبل مجتمعين مختلفين، على مستويات متعددة، فقد رزأت تحت “شعور بالفراغ”، وهو شعور دفعني إلى مقابله المتمثل في التواصل مع الغير. وبهذا الانفتاح على الغير أعدت اكتشاف ذاتي، كما اكتشفت التعاطف والحب… أيّ كلّ ما يربطني بأمثالي، ومن خلال هذا النزوع نحو الآخر انكشف لي أنني كائن ينتمي إلى عشيرة”[13]، في هذا التعريف على بساطته يضعنا الحبّابي أمام التشظي الذي كان يعيشه المجتمع الإسلاميّ في المغرب العربيّ، حيث وجد نفسه بين هويتين محتلفتين، أراد أن يجد نقطة الالتقاء بينهما فتوجه باتجاه الشخصانية، لِما تحمل في طياتها من إمكانية التواصل مع الذات وعيشها دون التخلي عن المعطي الحضاريّ الغربي.
فالشخصانية بالنسبة إليه، أو كما هي تسمح بالتعددية أو الأخذ من مشارب متعددة، وتعمل على تسويغها في إطار واحد، فهي كما تتقبل المسيحية بفروعها المتباعدة الكاثوليكية والبروتسنتية، تستطيع أن تحمل الإسلام في طياتها، ومن خلال هذا الأمر، يستطيع الإسلام أن يدخل الحداثة الغربية دون التخلي عن هويته الذاتية. كما أنّ هذا المذهب يسمح بطرح القضية التحررية بلغة تستطيع أن تفهمه المجتمعات الأوروبية وتتعاطف معه، لأنّه ينطلق من لغة مشتركة، بالتالي عند تبنيها، يستطيع أن يخاطب ضميرها ووعيها في إطار إنسانيّ شامل: “حاولت الشخصانية الواقعية أن تنعش الضمير والوعي بالأوضاع، وأن تسهم في استعادة الكرامة وخلق تيار يدعو لتساوي الأشخاص وتعاونهم، فمهما توفرت تلك الشروط، تآخى الناس وقضوا على الظلم والعرقية واستغلال القوي للضعيف، وعلى الاستعمار قديمه وجديده، ومن هنا كان التزام الاتجاه الشخصاني الواقعي بقضايا الحرية والاستقلال”[14]، بالتالي تصبح الشخصانية وسيلة لإيقاظ الوعيّ الأوروبيّ بضرورة تحرير المجتمعات العربية- الإسلامية، كما تصبح وسيلة لإيقاظ الوعي عند المُستعمر بهويته الذاتية وضرورة الحفاظ عليها، وهذا ما يرتقي بالشخصانية الواقعية من مجرد فلسفة إلى وعي للذات والآخر من أجل إنشاء “فلسفة تحد لظروف عصيبة ولسان حال المستغلين والمسحوقين في التاريخ، وبالتالي فهي أساسًا أخلاق أو مشروع أخلاقي”[15]، فالفلسفة الشخصانية الواقعية أخلاقية وليست علمية، حيث تهتم بالجانب المعنوي أكثر من الجانب المادي، وتنادي لأنسنة الإنسانية والابتعاد عن الظلم.
تتميّز الشخصانية الواقعية “بالنظرة الإنسانية الملتزمة مؤكدة أن ميزة الشخص هي في قدرته على التواصل مع الآخرين والاعتراف المتبادل بينهم، ضمن صيرورته كتوتر خلّاق نحو التحرّر والتسامي”[16]، حيث تتميز الفلسفة الشخصانية الواقعية بثلاث مميزات أساسية تتمثل فيما يلي:
1- الإنسانية.
2 – التعارف والتواصل بين الأشخاص.
3- تتميز بالحرية والتحرر والتفتح.
وهذا ما دفعه في البدايات إلى عدم حصرها في إطار دينيّ محدد، وحاول أن يقدم مقاربة علمانية ترضي المؤمنين وغير المؤمنين: “إذا كان كلّ إيمان عاجز في مواجهة إيمان مختلف، فإنّ مهمة الشخصانية الواقعية تكمن في البحث عن جدلية لا تفرض “لا هذا ولا ذاك”، بل تحاول التوفيق دون السقوط في التلفيق éclectisme بين هذا وذاك وإعلائهما transcender؛ وهذه الجدلية ناشئة من الوعي بأنّ الأطراف تتلاقى، بل عليها أن تتلاقى. فالشخصانية الواقعية لكي تكون مذهبًا إنسيًّا حقيقيًّا عليها أن تضع الله بين قوسين، أي ألا تجعل منه متهمًا أو عائقًا، كما لا تجعل منه محركًا مطلقًا. فإذا وضعت الألوهية théisme أو نقيضها كمسلّمة فإنّها تعرقل البحث حول الإنسان. فالوحدة (وحدة الأضداد) هي الحل الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لكي يتشخصن الشخص ويأنسن كل ما يحتك به. وكلّ كثافة الإنساني مرهونة بذلك”[17].
كما نلاحظ، كان الحبّابي يعيش هاجس الآخر، ويريد أن يسترضيه حتى ولو على حساب الذات، لذلك نراه، يُنظِّر له، ويعمل على إدماجه والحوار معه، وهذا ما يوجد مشكلة غير موجودة بالأصل في المجتمعات المغربية التي كانت تعيش انسجامًا على مستوى الدين والمذهب، وإذا كان هناك طارىء نتج عن دخول المستعمر، فهذا يقتضي أن يدمج هذا المستعمر في المجتمع الذي ينتمي إليه لا أن نوجد مشكلة جديدة، تؤدي إلى انقسام المجتمعات الإسلامية إلى اتجاهات دينية ولادينية، بمعنى آخر أن نستجلب مشكلات الآخر إلى مجتمعاتنا الإسلامية.
ثالثًا: من الكائن إلى الشخص
بنى الحبّابي على مجموعة من المصطلحات الفلسفية، لذلك نرى أنّ فهم أصول فلسفة الحبّابي تقتضي العودة إلى قاموسه الخاص للعمل عليه وإظهار ما يحتويه، لذلك سنبدأ بتشريح مصطلحين أساسيين هما الكائن والشخص.
3-1: الكائن: عرّف محمد عزيز الحبّابي الكائن في قوله: “الإنساني معطى خام، يظهر ويصير، كلما ازداد اتجاهه نحو التشخص، ونحو الاندماج في مجتمع من الأشخاص. فهو باق “كائنًا” خامًا ما لم يظهر للآخرين”[18]، والظهور لا يحمل في ذاته معنى إذ أنّه لا يتعدى كونه كاشفًا للكائن، ويتم انتقال الكائن من مرحلة الظهور إلى مرحلة الوجود بفضل إحساساته (الشعور) الملازم لوجوده والذي تخلو منه الأشياء”[19]. ما أشار إليه الحبّابي في تصوره للكائن، يميّز بين الكائن البشري والكائن الخام، فالأول ليس له صفات معينة، فهو يحمل الخصائص الإنسانية العامة، في حين أنّ الثاني هو الذي يعطيه المميّزات ليصبح فردًا بعد أن كان نوعًا، فالكائن الخام مادة أولية إذا لم تندمج مع المجتمع ستبقى دائمًا شيء خالص ليس له مميزات. إنّ الشعور المحض (الخام) يُحدِثُ له تأثيرًا من المجتمع فيتأثر الكائن البشري من الخارج إلى الداخل في أعماقه: “فالكائن البشري ينمو من الجانب الذي تتحدد فيه استعداداته، وحيث تنمحي إمكانيات الكائن المجرد العام (لفائدة الكائن ذي الموقف المعين، وسط مجتمع في تاريخ عصر من العصور). ويتكون الشعور، ثم يتفتح، ويمتلىء حين يندمج الكائن في الموجودات، وبعبارة أخرى حين يصبح شيئًا أكثر من ذاته، وبتعبير أدق، حين يصير شيئًا غير-ذاته، وفي نفس الوقت يتخذ موقفًا بين الآخرين. فهو لا يظهر للغير فحسب، بل يظهر لذاته كذلك، ويصير موضوعًا لشعوره. إنّ الوعي دائمًا وعي- لـ”شيء” وبـ”شيء”: وعي – للذات، ولحضور – الأشياء، ولوجود-الغير. ثم هو وعي -الذات-مع- الآخرين-في عالم-من-الموضوعات- و-الظاهرات”[20]، فالإنسان عندما يكون طفلًا كقطعة القماش هي شيء خام ليس لها أي صفة، وبعد دخولها عند الخياط، يقوم الأخير بتفصيلها وتغيير شكلها، حيث يصبح لقطعة القماش الخام اسم: كاسم القميص أو السروال أو المعطف.
أضاف “محمد عزيز الحبّابي” إلى التعريف السابق المقوم للكائن بعض التوضيحات، من خلال ما ذكره بشأن الكائن حيث إن “الشخصية هي ما نحن عليه وما نملكه في نفس الوقت: بطاقة الهوية…والكائن لا يكون كائنًا بشريًّا إلا على أساس هذه الأبعاد: أحواله المدنية التي تحدّد مكانه ووضعه الراهن، وعلاقاته وصفاته المميزة جنس، لون”[21]، فالشخصية هي الكائن المنجلي في الزمان والمكان، ولا يمكن تحديد اسم الكائن إلا من خلال أحواله المدنية الموثقة في بطاقة الهوية: كتفاصيل الوجه، وتاريخ الميلاد، ومكان الولادة، وطول القامة، وغيرها من صفات الكائن، إذن لا يمكن إعطاء تعريف ثابت للكائن البشري، فالتعريف يتناول الأشياء الجامدة، أما الشخص أو الإنسان فالحياة هي التي تعرفهم، من خلال أقوالهم وأفعالهم وسلوكياتهم فيما بينهم، فالإنسان من خلال هذه المقاربة كائن تحدده الثقافة المجتمعية التي ينتمي إليها، والتي تعطيه هويته الخاصة، ومن أجل تأكيد هذا الجانب، يعمل “الحبّابي” على استعراض هذه الفكرة وحضورها عند الفلاسفة من المرحلة اليونانية إلى الإسلام على الشكل التالي:
3-1-أ: في الفكر اليوناني القديم: بدأ “الحبّابي” بمعالجة الموضوع من خلال إجابة “بارمنيدس” عن المشكلة المستعصية عند القدماء المتمثلة بسؤال “ما هو الكائن؟”، والتي أجاب عنها بقوله: “الكائن هو هو… أي الكائن، كلّ-كامل، وهو في الوقت نفسه، موضوع هذا الفكر المفكر”[22]، كما تناول مفهوم الكائن عند الفيلسوفين “سقراط” و”أفلاطون”، اللذين اعتبرا: “الكائن في الصفات التي ننسبها للأشياء، والمعاني هي أيضًا مجموعة من الصفات”[23].
3-1-ب: في الفكر الإسلاميّ: لم يكتف “الحبّابي” بعرض الرؤية الفلسفية للكائن من خلال الفلسفة اليونانية، بل عرض مفهوم الكائن في الفلسفة الإسلامية، وقد ذكر الفيلسوف “ابن سينا”، حيث اعتقد هذا الأخير “أن الإنسان لا يمكنه في مطلق الحالات أن ينسى وضعه وزمانه وحتى أعضاءه، كما أنه لا يمكنه إطلاقًا أن ينكر وجوده وذاته، وهذا البرهان قريب جدًا من البرهان الذي أتى به رينيه ديكارت “أنا أفكر إذًا أنا موجود””[24]. تطرّق الحبّابي إلى ابن سينا الذي وصف الكائن معبّرًا عنه بأنه: موجود ومفكر ولا يمكن الفصل بينهما لأنهما في مكان وزمان واحد، وهذا ما اقترن بفكرة ديكارت “أنا أفكر إذًا أنا موجود” الذي له خلفية للفكر الإسلامي واقتران واضح للأفكار، والجمع المتزن للفكر والوجود الذي اختص بهما الكائن في آن واحد.
3-1-ج: في الفكر الحديث والمعاصر: اعتبر “الحبّابي” “رينيه ديكارت” من أهم الفلاسفة الغربيين الذين اهتموا بالكائن وطبيعة وجوده، حيث أثبت وجود الكائن قبل القيام بأي عملية تفكير أو عملية شك في أشياء أخرى وهو غير واثق لوجوده. لقد أكّد “ديكارت” رأيه حول الكائن في قوله: “إلا أنني لا أعرف بوضوح كاف، أي شيء أنا، الذي ثبت عندي أنّي كائن”[25]، إنّ ديكارت تأكّد بأنه كائن، لكن ليس واضحًا لديكارت أنه يبدأ في البحث عن حقائق نفسه بها أنها موجودة. أما إذا انتقلنا إلى فلسفة “فريديريك هيجل” نجد “الحبّابي” يعبّر عنها قائلًا: “فكل عودة إلى الكائن المحض، هي انقذاف خارج الميدان الذي تدور فيه الحياة الاجتماعية، إنها أمراض الشخصية. إذن لا بدّ من العودة إلى الاندماج والتكيف في البيئة”[26]. إنّ الكائن عند فرديريك هيجل لا يحتوي من الواقع بقدر ما يحتوي من العدم، فمفهوم الكائن يعادل العدم، من حيث انعدام مضمونه، ويمكن اعتبار العدم كائنًا في حد ذاته، لكنّ الحبّابي يرى أن الكائن الخام ليس له علاقة بكل ما هو اجتماعي واندماجه وتكيفه مع الغير، في حين أنّ الكائن البشري في تحول دائم لاتصاله بالحياة الاجتماعية واندماجه وتكيفه فيها، إذن الكائن عند هيجل يساوي العدم، والكائن عند الحبّابي يساوي المجتمع.
أما مارتن هايدغر له نفس رؤية محمد عزيز الحبّابي تقريبًا من خلال قول هايدغر: “الوجود بدون الآخرين، هو نفسه الوجود مع الآخرين”[27]. لقد بين مارتن هايدغر أن وجود الكائن ليس فردي ذاتي متطرف، بل هو وجود جماعي له علاقة جوهرية مع الغير بعد تنازله من الوجود الخالص، أي دون صفات وامتزاج واحتكاك بالأشياء إلى الوجود مع الآخرين. أما جون بول سارتر عبّر عن رأيه محمد عزيز الحبّابي من خلال ما ورد عن سارتر في القول التالي للمفكر فؤاد زكريا: “أن الجسم في اتخاذه موقفًا معينًا يدرك الغير في تعاليه المتعالي عليه”[28]. إذن الكائن عند جون بول سارتر في كينونته له علاقة أساسية بالغير )المجتمع)، كالحب والكراهية والماسوشية (حب العذاب)[29]، إذن علاقة الكائن بالغير هي علاقة صراع وليست “الوجود مع”؛ أي الشعور بالآخرين كما يعتبر هايدغر.
وهكذا توصل الحبّابي الى أن الكائن هو معطى خام، والكائن البشري يظهر ويصير بامتزاجه بالمجتمع والواقع المعاش فيكتسب صفات تميّزه عن غيره، وهذا الموضوع مركزيّ حيث: “نجد أنّ البحث في الكائن، هو مسألة المسائل، عند القدماء وعند المحدثين. فلا تزال تُعطى الأولية، في ألمانيا، كما في فرنسا، إلى علم الوجود العام (أنطولوجيا): فالكائن يتمتع بامتياز فريد”[30].
3-2: الشخص: يعتبر مفهوم الشخص من بين المقومات الأساسية للفلسفة الشخصانية الواقعية عند الحبّابي، وهي عنده: “كيان مستقل وشخصي: إنه انبثاق للأنا وسط النحن (بين الآخرين)، وهذا وذاك (العوامل الموضوعية). إن هذه المسيرة الصاعدة التي تتسلق من درجة وعي إلى أخرى تفسر كيف أن كل ذات (sujet) هي في الوقت نفسه نحن وأنا. فالوعي جهد مزدوج يهدف إلى تحقيق ذاتنا والوفاء لها. إننا نتحقق من خلال التشخصن، وهذا التشخصن لا دلالة له إلا ضمن محيط إنساني. والوفاء للذات يقتضي إمكانية هوية شخصية، أي وحدة مركبة، وهي ما يسمى بـ الأنا”[31]. فالتشخصن من هذا المنظور سيرورة نفسية واجتماعية، تنطلق منذ الطفولة، تحصر التشخصن في البعدين النفسي والاجتماعي، لذلك يُقال: “الشخص” في مقابل الشيء وهو من توافرت فيه صفات تؤهله للمشاركة العقلية والأخلاقية في ) personne morale ) مجتمع إنساني”[32].
هذا ويعتبر “الحبّابي” الشخص غير قابل للتحديد، ويقول: “لا يمكن القول بأن الشخص شخصية مطهرة أو بدون قناع، لأنّ الشخص بصفته صيرورة يفيض عن كلّ تعريف بفضل غنى إمكانياته؛ فهو يميل إلى تحقيق الإنسان كما يميل كلّ نسق إلى الوضع الذي يحقق توازنه؛ إنه الممكن الذي يميل إلى اللامتناهي. وتحديد الشخص بعلاقته بالشخصية يعني الحد من ديناميته وإمكانياته وتجميده في مقدماته”[33].
نفهم من خلال ما قُدِّم أنّ الشخصانية الواقعية لا تطمع في صياغة تعريف جامع مانع، لأنّها تعمل على رصد العناصر الدينامية في تطور الشخص وتتبع أشكال تجلياته المتعددة، وليس القبض على ماهيته الثابتة والخالدة، وسنقف عند هذه النقطة لنستكمل القراءة في الأسبوع المقبل.
[1] م. روزنتال ب. بودين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة: سمير كرم، (بيروت، دار طليعة، لبنان، 1981)، الصفحتان 258-259.
[2] توماس ويليامز، وجان أولوف بنجسون، الشخصانية، ترجمة: وضاح ناصر، موسوعة ستانفورد، على الرابط:
[3] توما الأكويني.
[4] توماس ويليامز، وجان أولوف بنجسون، الشخصانية، مصدر سابق، المعطيات نفسها.
[5] أبو يعرب المرزوقي، وطيب تيزيني، آفاق فلسفية عربية معاصرة، (دمشق، دار الفكر، 1991)، الصفحة 310.
[6] – M. Winock, Histoire politique de la revue “Esprit“ 1930/1950, Seuil 1975, p43.
[7] -M. Winock, Histoire politique de la revue “Esprit“ 1930/1950, Seuil 1975, p43.
[8] كريم اللحام، موقف الكنيسة الكاثوليكية من الإسلام بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، سلسلة ورقات طابة، العدد – 2، 2008، الصفحة 11.
[9] إيمانويل مونييه، الشخصانية، ترجمة: محمود جمول، (بيروت، في مجموعة “ماذا أعرف” العربية، 1979)، الصفحة 6.
[10] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[11] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[12] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[13] محمد عزيز الحبّابي، دراسات في الشخصانية الواقعية من الكائن إلى الشخص، مصدر سابق، الصفحة 101.
[14] بنسالم حميش، معهم حيث هم لقاءات فكرية، (بيروت، دار الفارابي، 1988)، الصفحة 164.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 170.
[16] السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي: مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010)، الصفحة 171.
[17] – M. A. Lahbabi, Liberté ou libération? Alger, SNED, 1974, p347.
[18] محمد عزيز الحبّابي، دراسات في الشخصانية الواقعية من الكائن إلى الشخص، (القاهرة، دار المعارف، 1968)، الصفحة 11.
[19] محمد عزيز الحبّابي، محمد عزيز الحبّابي الإنسان والأعمال، الفيلسوف، (الدار البيضاء، لجنة رعاية الترشح لجائزة نوبل، 1991)، الجزء 2، الصفحة 11.
[20] محمد عزيز الحبّابي، دراسات في الشخصانية الواقعية من الكائن إلى الشخص، مصدر سابق، الصفحة 13.
[21] – المصدر نفسه، الصفحة 14.
[22] محمد عزيز الحبّابي، دراسات في الشخصانية الواقعية من الكائن إلى الشخص، مصدر سابق، الصفحة 17.
[23] المصدر نفسه، الصفحة 17 .
[24] منير سغبيني، الشخصانية الشرق أوسطية، مصدر سابق، الصفحة 50.
[25] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة :كمال الحاج، (بيروت، منشورات عويدات)، الصفحة 17.
[26] محمد عزيز الحبّابي، دراسات في الشخصانية الواقعية من الكائن إلى الشخص، مصدر سابق، الصفحة 16.
[27] زكريا إبراهيم، الوجود والزمان لهايدغر، كلية الآداب/ جامعة القاهرة، الصفحة 532.
[28] فؤاد كامل، الغير في فلسفة سارتر، (القاهرة، دار المعارف)، الصفحة 57.
[29] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[30] محمد عزيز الحبّابي، دراسات في الشخصانية الواقعية من الكائن إلى الشخص، مصدر سابق، الصفحة 18.
[31] – M. A. Lahbabi, De l’être à la personne, Alger, SNED, 1974, p33.
[32] إبرهيم مدكور، المعجم الفلسفي، (القاهرة، مجمع اللغة العربية، 1713 ه، 1983)، الصفحة 101.
[33] – M. A. Lahbabi, De l’être à la personne, Alger, SNED, 1974, p58.
المقالات المرتبطة
الshهيد شمران وقصة البطولة في كردستان إيران
تاريخ الثورة الإسلامية حافل بالكثير من الشخصيات العظيمة والبارزة صاحبة التأثير الكبير ليومنا هذا في مختلف المجالات.
الضرورة في الفكر الديني والوضعي والفلسفي
الضرورة في معاجم اللغة العربية هي الحاجة والشدة والمشقة، وتوجد عندما تنعدم الفرص، ولا يجد المرء مناصًّا للجوء إلى الحاجة الضرورية المتاحة…
الحج ومناسكه في الكتاب المقدس ورؤية المنصفين من علماء الغرب
ارتبطت النبوات بالأرض المقدسة، والأرض المقدسة تشمل الجزيرة العربية وامتدادها الشمالي الطبيعي نحو الشام، وهي الأرض التي عاش فيها أبو الأنبياء إبراهيم (ع) وذريته من بعده