نظريات وأطروحات للعالم الجديد: ما بعد العلمانية كبديل للعلمانية

نظريات وأطروحات للعالم الجديد: ما بعد العلمانية كبديل للعلمانية

ملخص

تتناول هذه الورقة البحثية موضوع ما بعد العلمانية كأساس في الانطلاق، ثم تعرج على العلمانية من باب المقارنة والفهم، وكان السبب الأساس في كتابتها هو لفهم النظريات والأطروحات التي تصاغ للعالم الحديث، أين نحن منها؟ كيف نفهمها؟ وهل ممكن الاستفادة منها سلبًا أو إيجابًا؟ وما هي البدائل؟ وبذلك تتوضح الخطوط العريضة أو الخط البياني للسير وفق العالمية بالنسبة لنا، وأين نحن من هذا الخط البياني، وكذلك من أجل تحقق الرقي أو نحو من الرقي العلمي والمعرفي الذي سيفيد في البناء والتطور حاليًّا ومستقبليًّا.

مقدمة

سنحاول في هذه الوريقات تسليط الضوء على بعض المشاريع الاستراتيجية التي طُرحت عالميًّا، وبالخصوص استراتيجيات ومشاريع المشروع الحداثي العالمي، خاصين بالذكر مشروع (ما بعد العلمانية) كونه مدار البحث، عسى أن نوفق في تقديم صورة ولو إجمالية عن الموضوع، مع توصيل الأفكار المطروحة بسلاسة ويسر، مضافًا إلى سعينا لطرح أجوبة عن الكثير من الملابسات التي قد تغيب عن كثرة كاثرة من دعاة الثقافة ومريديها، هدفنا من وراء ذلك محاربة جميع أنواع الكتابة أو التفكير الاجتراري، وإبعاد جميع أنواع التقليد الأعمى على مستوى تبني النظريات، أو على مستوى قراءتها وفهمها.

إن الذاتية شيء مهم في تحديد الامتلاء من عدمه ثقافيًّا، فلن يكون المقلد ذاتي الفهم مطلقًا، ولن يتحرر الأسير للسراب ما لم يحرر نفسه بنفسه.

فلا تبنّي كل ما هو غربي سيحقق حضارة مساوقة، ولا نقد الغرب يكفي وحده لتحقيق الحضارة الخاصة والمستقلة.

إن صاحب النهضة هو الأقدر على فرض نظرياته ونماذجه بسهولة ويسر، ويقينًا فإن اللاهث وراء السراب لن يصل لمبتغاه أبدًا.

 

نظريات متعاكسة أم مقولات متعاكسة

    لقد باتت أطروحات الـ(ما بعد) هروبًا إلى الأمام من إشكالات عجزت (القَبليّات) عن حلها. فبدل الاعتراف بالعجز، ترى الهروب إلى الأمام هو مائز الأطروحات الـ(ما بعدية).

هنا نقطة مهمة لا بدّ من الوقوف عندها وهي: أن الـ(ما بعد) ليس نقيضًا للقَبل، بل هو مرحلة متقدمة للقَبل أو نقلة نوعية، أو قل؛ تطور.

أما الملاحظة المهمة هنا: فإنه لو عجز (القَبل) فالمفروض عقلًا الانتقال إلى نقيضه، وليس إلى نوع متقدم من أنواع ذلك (القَبل) من خلال إضافة (ما بعد) له فقط؟ فهل هذا سيعتبر تغييرًا أم علاجًا أم غير ذلك؟

جوابًا نقول: ما تلك الإضافة ـ عمومًا ـ إلا (ترتيش) للقَبل، لا يتعدى كونها خوضًا في طوباويات مستهلكة أو كلام في ديماغوجيات لا واقع لها.

ثم إن هذه الأطروحات ـ في أكثرها ـ تعجز عن إيجاد (نماذج) تكون محلًّا (للإحلال) المطروح. وما هذا إلا تكرار وتكرار لليوتيبيا التي باتت خيالًا يفتقر إلى أي جزئية واقعية تجسد ولو شيئًا بسيطًا من أطروحاتها.

إنها أيديولوجيات متعاقبة، كلما سقطت واحدة قامت مكانها أخرى، والاجتراريون ينظرون إليها على أنها تطور، بينما هي في حقيقتها استبدال لنماذج فاشلة انطلت حيلة استبدالها الترتيشي على المبهورين والذين أعمت عيونهم بهرجتها الكاذبة.

لقد وصلت المقولات الأيديولوجية إلى حد التعاكس والتصادم من دون أن يلحظ ذلك الكثيرون، فهم مشغولون بتطور الغرب، ونجاح الغرب، وحضارة الغرب، فما دام لا يوجد ولو تقليد واحد ناجح لصنع نموذج نهضوي مساوق، ولا توجد نهضة ذاتية؛ فمن اليقين أن يكون مصير المجتمعات ـ إذا استمرت هكذا ـ الانمحاء.

إبعاد العلمانية أم علمنة الما بعد؟

هل باتت العلمانية وبالًا من الواجب إبعاده؟ أم أن الانتقال إلى (ما بعدها) هو ذهاب إلى مرحلة متطورة من مراحل العلمانية؟

فهل بات الأمر هو إبعاد للعلمانية؟ أم تقرر علمنة الما بعد؟

  1. إبعاد للعلمانية: هل حقًّا أن الدوائر التي طرحت فكرة (ما بعد العلمانية) جادة في الانتقال إلى شيء غير العلمانية وبالتالي هو إبعادٌ لها؟ وهل ذلك لأنها فشلت في تحقيق المراد منها؟ أم أنها أصبحت مكشوفة فلا تستطيع تمرير مشاريع أكثر مما مررته سابقًا؟

لو أن الغرب ـ بحق ـ بات يريد الانتقال إلى (ما بعد العلمانية) فذلك يعني أن العلمانية باتت ضعيفة جدًّا، فكان من اللازم الانتقال إلى غيرها وإبعادها عن الساحة.

  1. علمنة الما بعد: نعم، إننا نرى بأن هناك سعيًا نحو (علمنة) الما بعد، لكن بصبغة جديدة تختلف عن الصبغة العلمانية القديمة، ألا وهي صبغة (العولمة) من خلال طرح نظريات جديدة تضمن سيطرة مطلقة أكثر مما جاءت به نظريات التوسع والسيطرة القديمة كـ(العلمانية) وغيرها.

فالخطة صائرة إلى علمنة المابعد لكن بثوب جديد، وأيديولوجيا جديدة، تضمن للغرب إبعادًا تامًّا لكل ما هو ديني، لأن القضايا الروحية الموجودة في الدين ستكون عائقًا في وجه تحقق علمنة الما بعد كما عرقلت جملة من أطروحات العلمانية يومًا ما.

ماذا بعد؟

    إن تساؤل هابرماس عن (كيفية نفي العقلانية عن الدين)[1]، تساؤل خجول، مكانه الصفحات المطوية من الكتب، إذ لم نرَ له على الواقع ترجمة فعلية. فسواء قال كلامه ـ هذا ـ ناقدًا أم مؤيدًا فلا قيمة للكلام إن لم تكن له ترجمة في الواقع المعاش.

إن إشكالية (الدين) في المجتمعات المعاصرة ـ هو ـ أكبر من تساؤلات هابرماس وغيره، إذ إن هناك توجه أيديولوجي يعمل على حلحلة الدين، وكل ما هو ديني بدأ صداه يتردد من يوم طرح فكرة (موت الإله) من قبل نيتشه. ثم انطلقت وتركزت أفكاره على وفق (مقولات الموت)[2] لكُتّاب أوروبا.

فهل بعد أن أماتت أوروبا كل شيء يحق لها التساؤل عمن أماتته ـ هي ـ أم كيف مات؟؟!

إن تمييع الكلام، والإكثار من الإنشائيات المتداخلة لا ينتج شيئًا، ولن يفيدنا في بعث تصور ملائكي عمن يتبنى هذه الأفكار (المائعة) و(الباهتة).

ولعل من أبرز ما قدمه هابرماس في بحثه (الدين في المجال العام)، هو قوله: إن (التسامح أساس الثقافة الديمقراطية وهو مسار باتجاهين دائمًا، ولهذا لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم فحسب، بل إن من واجب العلمانيين غير المتدينين أن يثمّنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني)[3].

وهذا قول يراد منه ـ ظاهرًا ـ تبنّي وجهة نظر الآخر، إذ على الديني أن يتبنّى وجهة نظر العلماني، وعلى العلماني أن يتبنّى وجه نظر الديني!

فهل هذا من الممكن بعد أن قرّر الطرفان أنهما على طرفي نقيض؟

إن رؤية المجتمع المعاصر عند هابرماس تتمثّل ـ زعمًا ـ بمشروع الحداثة، ضمن شقين هما: الأول: عقلنة الدين. والثاني: تقليل تحجر وتطرف العلمانية. فـ (المجتمع ما بعد العلماني يلتمس استمرارية الجماعات الدينية في محيط يستمر بعلمنة نفسه، والدور الحضاري الذي يؤديه التشارك والفكر الجمعي الموجه والمتنور بالديمقراطية، وفي هذا الجدل كله يظهر المجتمع ما بعد العلماني وكأنه طريق ثالث بين العلم والدين)[4].

ولا أدري كيف سيكون شكل هذا الطريق الثالث، ولماذا هذه (الأنية) المفرطة عند الطرفين، ما دام لم يتحقق نتاج من كلا المنهجين ـ أقصد هنا بناءً على الفرض المطوي الذي لمح به هابرماس؟ فعلى أحدهما التقليل من (أنيته) فضلًا عن كلاهما، وإتاحة المجال لنظرية جديدة لا تكون خليطًا مشوّهًا ولا هجينًا ممسوخًا.

ما دام الواقع يبشر بظهور عالمي جديد للدين ـ بحسب المفترض ـ فالمفروض أن يسمّى بمجتمع الدين لا أن يسمّى بمجتمع ما بعد العلمانية.

فهل وسم العصر بعصر (ما بعد العلمانية) هو مجاملة للعلمانية؟ أم نقد لها؟ أم تعريض بها؟

يورغن هابرماس يذكر شروطًا ثلاثة على الدين أن يقوم بها ليتماشى مع عصر (ما بعد العلمانية) إذ يقول: (على الدين أن يقبل ويغير بنيويًّا في آلية تعامله ليتقبل الخارج عن نصه، ويتطلب لما سبق أن يؤدي الفكر ثلاث إنجازات هي:

  1. يجب على الوعي الديني أن يبذل مجهودًا ليتجاوز التفاوت المعرفي، الذي لا بدّ أن يبرز من الالتقاء بالطوائف أو الديانات الأخرى.
  2. وعلى الوعي الديني أن يماشي سلطة العلوم التي تحتفظ بالاحتكار الاجتماعي للمعرفة على العالم.
  3. ولا بدّ أن ينفتح الوعي الديني على أولويات دولة الحق الدستورية، ففي كل مرة ينفجر فيها صراع جديد، لا بدّ من متابعته في مراكز المجال العام الديمقراطي)[5].

فإن كان الخطاب ـ يقينًا ـ موجهًا للدين ، فأين الخطاب الموجه للعلمانية؟

أم على الدين دائمًا تقديم التنازلات والقبول بالآخر أيًّا كان شكله ولونه وأطروحاته، وذلك تحت مسمّى (التسامح) وغيره؟!

إن مقولة (قبول الديني مشاركًا في صنع التشريع بطريقة علمانية) لهي من أعقد المقولات على الإطلاق؛ ذلك أن العلمانية ـ أصلًا ـ قامت على أعتاب الصدمة من الواقع المزري الذي كانت تعيشه الشعوب الأوروبية الذي سببته الكنيسة ورجالاتها.

إن الخلل الذي تسببت به الكنيسة حينما نصبت نفسها راعية للدين لن يعكس ـ عقلًا ـ صورة سلبية عن الدين نفسه، بل إن أي خلل يتسبب به شخص وسم نفسه بسمة الدين من المفروض أن لا يعكس أي سلبية لأصل الدين؛ ذلك أن الخلل شخصي، ولن يصل إلى الخلل المركزي عند أي عاقل، فضلًا عند المجتمعات التي تسمّي نفسها بالمجتمعات المتحضرة.

إن كان الدين الكنسي في أوروبا سبّب فقرًا ومآسي وحروبًا ونزاعات، فإن العلمانية ـ التي تلتها ـ سبّبت أكثر من ذلك، والدليل الأجلى؛ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما خلّفته كلٌ منهما من ملايين القتلى، وسلسلة من المآسي التي لا زلنا نعاني منها لحد الآن أبسطها تقسيم وتفكيك العالم إلى دويلات وطوائف متناحرة[6].

فهل كان ظهور العلمانية ردة فعل انتقامية من الكنيسة؟ أم كان ظهور العلمانية انتقامًا من الدين ـ بما هو دين ـ لإزالة كل ما هو مقدّس؟

نعم، بحسب التنظير وظاهرًا نرى بأن الأول هو ما يقول به الأكثر، لكن الواقع الحقيقي هو الثاني.

إن أقوال هابرماس منظّر العلمانية، وتلميذ مدرسة فرانكفورت، تذكّرني بعبارات قرأتها في كتاب (سارتر بين الفلسفة والأدب) للكاتب موريس كرانستون، إذ يقول فيه عن أسلوب سارتر في الطرح: (إن الناس يتوقعون عادةً من الفلاسفة أن يكونوا كُتّابًا هادئين متزنين غير منفعلين: أما سارتر فهو على عكس هذا، إنه يعبر عن أفكاره في لغة ملونة وفي عبارات مثيرة، وأن اللون يزغلل أحيانًا حتى إنه يسبّب العمى)[7].

إن استخدام اللغة الملونة، و(زخرفة) الأقوال وبهرجتها لن يستر البشاعة طويلًا، وستحين لحظة كشف (القناع) عنها لتظهر على حقيقتها.

العلمانية كمدخل لفهم ما بعد العلمانية

    إن لـ(العلمانية) كلفظ أكثر من مدلول، فهذه اللفظة ذات تاريخ طويل، وقد تنقلت وتبدلت معانيها عبر الزمن، فقام مترجموها من اللغات (الأجنبية) بتعتيم وتعويم معناها الحقيقي قدر الإمكان، فصوروها قريبة للعلم، لتكون قريبة إلى النفوس.

إن لفظ (علمانية) هو ترجمة من الكلمة اللاتينية ( Secular)، ومعناها في اللغات الأوروبية: (لا ديني). فهي لفظة ترتبط بالبيئة التي استحدثتها، إذ إنها نشأت في ظل أحداث تاريخية خاصة اتصلت بأوروبا، وبالدين، وعلماء الدين، وبموقف الكنيسة من المجتمع عمومًا، ومن العلم بشكل خاص.

لقد كان ظهور العلمانية في أوروبا شيئًا طبيعيًّا نتيجة لقصور المفاهيم الدينية التي كان يحملها رجال الدين آنذاك، وكذلك قصورهم عن فهم وعن مجاراة تطورات عصر النهضة. فكان الفكر القاصر مضافًا إلى الحملة المحمومة التي شنتها الكنيسة على (العلم) مصدرًا مهمًّا لإصدار قرار إقصاء (الدين) عن الفكر وعن المجتمع من قبل رجال (عصر التنوير) في أوروبا.

وهذا يدلنا على أن لكل فكر، ولكل أمة طبيعتها الخاصة، وتحدياتها الخاصة، وظروفها الخاصة بها أيضًا.

إن كانت (العلمانية) هي: الدعوة إلى إقصاء الدين وكل ما هو ديني عن الفكر وعن المجتمع وعن السياسة. فسنفهم حينها حقيقة (ما بعد العلمانية)، وأنها تتميم لما عجزت العلمانية عن تحقيقه لا أنها عودة للدين كما يتصور البعض، ويمكن القول بأن (ما بعد العلمانية) هي نسخة مطورة للعلمانية.

ما هي ظروف عودة الخطاب الديني.. كيف ولماذا؟

    بعد إن بدت الحياة غير ما رسمت لها (العلمانية)، وبعد إن عجز (النموذج الديني الدنيوي) عن تحقيق المراد منه، فإلى ماذا سيكون الانتقال؟ وما المرحلة القادمة؟

لقد تجاهلت المجتمعات جميع تراثها الديني، وصار الأنبياء خارج التاريخ، وسعت البشرية إلى نشر السلام بواسطة كل ما هو معاكس للسلام، كما وسعت للحياة عن طريق كل ما هو معادٍ للحياة!

نعم، بعد إن عجزت جميع النظريات الوضعية عن جلب الراحة والسلام، وبعد إن أصبحت التقنية الحديثة أكثر إزعاجًا كلما تقدمت وتطورت، وبعد إن جرّب الإنسان كل شيء اخترعه، نراه أكثر تحيّرًا وأكثر ضياعًا! فما هو الحل؟

في دراسته (ملاحظات حول مجتمع ما بعد العلمانية)، يؤكد يورغن هابرماس (إنه خلال العلمنة لم يختف الدين بشكل كلي، بل اختفى ببساطة من المجال العام، وصار مسألة خاصة. واليوم يعود الدين إلى المجال العام، ويمكنني تحديد هذه العودة للدين في المجال العام بأنها ما بعد العلمانية).

فهل يا ترى أن اتجاه (ما بعد العلمانية)، الذي أطلقه هابرماس يقابل اتجاه (ما بعد الإسلاموية) الذي أطلقه الكاتب الإيراني (آصف بيات)؟ أم يضاده؟

ونعود لنقول: هل إن (انحسار المعسكر الشيوعي، وقيام الثورة الإسلامية في إيران، وهجمات أيلول، وتغير الأنظمة العربية) كانت الأسباب الرئيسة في عودة الخطاب الديني حقيقةً؟ أم أن هناك تحول جوهري طبيعي قائم وفق نظام (الدورات التاريخية) كما يقول (لويس فيكو) من أن لكل حضارة ولكل فكرة (ظهور، وصعود، واندثار)؟ أم إن هناك أسباب أخرى لذلك؟

ما يُعد للقرن الواحد والعشرين وللعالم الجديد

علينا أن نعلم بأن أي فكرة أو نظرية تظهر أو تطرح مع ترافق إعلامي لها فهي فكرة ونظرية ذات أبعاد وأهداف مستقبلية، أطلقتها الدول المهيمنة لفائدة ترجوها منها (آنيًّا ومستقبليًّا).

ولا يمكن لشخص (حاليًّا) أن يتبنّى نظرية تأخذ بعدًا (عالميًّا)، وهي في أساس انطلاقها (شخصية) التكون والصيرورة، بل إن ذلك من المستحيلات.

إن الأفكار والنظريات باتت أدوات سياسية يمكنها تغيير الكثير من المعادلات التي ـ قد ـ يصعب للجيوش عملها.

الأفكار والنظريات باتت تشكل خطرًا كبيرًا على الشعوب ضعيفة الثقافة، والعجب أن مؤسسات وشخصيات كبيرة لا تهتم لكثيرٍ منها ظنًّا بأنها فردية أو مرحلية.

لقد باتت الفكرة التي ينظر لها والتي يتم طبخها في مطابخ السياسة العالمية تظهر على لسان شخص تابع لتلك المطابخ، وتروج على يد مطبل لا يعلم ما يقوم به، ثم تنتشر، لتصبح واقع حال فيما بعد.

إن تمرير الأفكار صار سهلًا سواءً عن طريق (الوعي)، أو عن طريق (اللاوعي)، فالوعي يُخدع بالتفكير المضاد، واللاوعي يخدع بالكلام الناعم، وبالتالي يتم تمرير الأفكار بكل سهولة ويسر.

إن ظهور نظرية (ما بعد العلمانية) ـ في عمومه ـ ما هو إلا ترويج لفكرة معينة صاغتها الدول المهيمنة، وأظهرتها عن طريق (شخوص) لبسوا لباس الفكر وجلابيب المعرفة ليسهل تمريرها.

أما عما هو صائر في عالم ما بعد العلمانية فإن التخمينات ـ عمومًا ـ تقول:

  1. هناك عودة للدين باعتباره ملاذًا آمنًا عند من سيرجعون إليه كونه المرفأ الأكثر هدوءًا لهم لا غير.
  2. هناك عودة للدين مع فصل الدين عن المؤسسة الدينية وعن رجال الدين، وسيكون الفرد ممارسًا لدينه هو، وبسلطته هو، وبتوجيهه هو.
  3. هناك من سيسير نحو الإلحاد لا لصدمة من الدين أو من غيره، لكن لغايات وأهواء نزوات وغرائز داخلية مسيطرة عليه، وسيكون الإلحاد ملاذًا له ومبررًا ليفعل ما يشاء بحرية تساوق الانفلات.
  4. هناك سعي إلحادي مساوق للعلمانية القديمة، وهذا ما سينتشر بين الطبقة التي تدعي الثقافة والعلم، بل سيكون الإلحاد فيها أكثر من أي طبقة أخرى.
  5. هناك من سيبقى على حاله من دون أي تأثر، لا لأنه صلب العزيمة، ولكن لأنه لا يدري بما يدور حوله أصلًا.
  6. هناك من سيخرجون من اللعبة أصلًا من دون أن نخمّن أين سيكونون، فهم الطبقة البعيدة عن الأضواء دائمًا.

المراجع العربية

  1. خطابات الما بعد، مجموعة مؤلفين، الرباط ـ المغرب، دار الأمان، ط1، 2013م.
  2. يورغن هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية، ترجمة: جورج كتوره، بيروت- لبنان، المكتبة الشرقية، ط1، 2006م.
  3. موريس كرانستون، سارتر بين الفلسفة والأدب، ترجمة: مجاهد عبد المنعم، القاهرة- مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1981م.

المراجع الأجنبية.

_ Habermas, Jurgen, Religion And Rationality: Essays On Reason,God, And Modernity, Edited And With an Introduction By Eduardo Mendieta, Polity press, 2002 .

[1]Habermas ,Jurgen ,Religion And Rationality: Essays On Reason ,God ,And Modernity , P. 99.

[2] وهذه المقولات هي:

  1. مقولة موت الأب عند دستويفسكي (1821 ـ 1881 م).
  2. مقولة موت الإله عند فردريك نيتشه (1844 ـ 1900 م).
  3. مقولة موت المؤلف عند رولان بارت (1915 ـ 1980 م).

[3] علي عبود المحمداوي، ما بعد العلمانية، أو استنطاق الفهم الهابرماسي للمجتمعات المعاصرة، بحث ضمن كتاب: خطابات الما بعد، مجموعة مؤلفين، الصفحة 223.

[4] مستقبل الطبيعة الإنسانية، يورغن هابرماس، الصفحة 126.

[5] مستقبل الطبيعة الإنسانية، الصفحة 127.

[6] وسنذكر هنا إجمالي خسائر الحربين:

أولًا: إجمالي خسائر الحرب العالمية الأولى: (10) ملايين قتيل عسكري، و (7) ملايين قتيل مدني، و (22) مليون جريح، و (8) ملايين بين أسير ومفقود، فيكون العدد الكلي لخسائر الحرب العالمية الأولى هو (38) مليون شخص.

ثانيًا: إجمالي خسائر الحرب العالمية الثانية: (30) مليون قتيل عسكري، و (30) مليون قتيل مدني، و (25) مليون قتيل بسبب المجاعات وأمراء الحروب، فيكون العدد الكلي لخسائر الحرب العالمية الثانية هو (85) مليون من غير الأسرى والمفقودين.

فيكون العدد الكلي لخسائر الحربين هو (123) مليون، على أن ذلك ما صرّح به رسميًّا أو إعلاميًّا، ونحن نعرف أن الإعلام يحاول دائمًا التقليل من الخسائر لا تهويلها.

[7] موريس كرانستون، سارتر بين الفلسفة والأدب، ترجمة: مجاهد عبد المنعم، الصفحة 67.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
ما بعد العلمانيةدينلا دينعلمانيّة

المقالات المرتبطة

تاريخ علم الكلام | الدرس العاشر | كلام الإماميّة في حقبة التنظير مدرسة الكوفة الكلاميّة

سنقوم، في هذا الدرس، بالتعريف بمدرسة أخرى من المدارس الكلاميّة عند الإماميّة، ونعني بها مدرسة الكوفة الكلاميّة. وقد تأسست مدينة الكوفة أوّل الأمر لتكون سكنًا لعسكر الإسلام، ولكنّها تبدّلت شيئًا فشيئًا لتصبح واحدةً من أهمّ المدن الإسلاميّة.

مجالس أهل البيت (ع) في عاشوراء هي معاقل للتضحية والجهاد

المجالس العاشورائية ومراسم إحيائها هي من أهمّ مميّزات الشيعة عن غيرهم من المسلمين، لما تُظهِره من فيوضات التعلّق والارتباط بآل رسول الله (ص)

الفكر العربي الحديث والمعاصر | نصر حامد أبو زيد والتأويلية

يعتبر نصر حامد أبو زيد من الشخصيات المركزية في الفكر العربي المعاصر، ويتميز باتجاهه التأويلي، الذي حاول من خلاله إعادة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<