الإيمان والمعرفة
ترجمة: طارق عسيلي
أعتقد أن هناك تمييزًا بين العلم والمعرفة، فعلى الرغم من أننا نسمّي رجال الدين علماء، غالبًا ما يُظن أن المعرفة دينية، بينما العلم يختص بالعلوم الطبيعية والتجريبية.
فلنبدأ بالنموذج الموجود في الكتاب المقدس “تحب الرب إلهك من كل قلبك ونفسك وعقلك وقوتك”. فالعقل هو أحد أربع أوجه للحب الإلهي، وأن هناك مكانًا فعليًّا لحب الله في العقل. فعندما يُوَظف العقل في ما نسميه علمًا، أظن أنه يعني الكثير لنا، مسلمين ومسيحيين، وأن كتابينا المقدّسين يتحدّثان عن الأمانة أو الخلافة. ونحن البشر موجودون في الأرض لننميها ونطورها، فنحن مزارعون، وعمّال، ومهندسون… “إن الله استعمركم في الأرض”؛ ومسألة استعمار الأرض هذه، مسألة ذكاء عقلي، وعمل العقل في الطبيعة هو جزء من إدراكنا لله، فكل أمر معقول وممكن الفهم نتعامل معه بقوة العقل، وهذا ما يقدر عليه جميع البشر، المعرفة الطبيعية بالعالم الخارجي هي بمعنى من المعاني تجربة لمعرفة الله، وهذا لا يعني أن إدراكنا للطبيعة هو كل ما يمكن أن نعرفه عن الله، ولكنه ينبغي أن تكون له مكانة في فهمنا لله. عبّر القرآن [الكريم]، والكتاب المقدّس عن هذه التجربة العقلية بعلم الإنسان بالأسماء كلها. وأنتم تعرفون أننا عندما نقول بأننا نعرف شيئًا يعني أننا نستطيع أن نحدّده ونشير إليه، كأن نقول: هذا حجر، وذاك شجر.. وهذا هو جوهر العلم، والتفكير بهذه الطريقة يكمن في كوننا ضيوف الله في هذا العالم.
في الإيمان المسيحي، يوجد دائمًا طاولة كالتي نجلس إلى جانبها، قد يسميها الآخرون مذبحًا، ولكنها بالفعل طاولة. وهناك مكان يقرأ فيه الكتاب المقدّس، ومكان يفسّر فيه، وبين هذا وذاك توجد تلك الطاولة المقدّسة، التي يرمز إليها بالعبادة، إنها المزرعة التي تحتوي كل ما تملكه الأرض لمساعدتنا، وهذا يتطلب منّا أن نحافظ على البيئة، ولا نستهلكها، وأن نسعى دائمًا إلى إصلاحها، وعلم البيئة قريب جدًّا من علم اللاهوت (الثيولوجيا)، فإيماننا بالله يدفعنا للحفاظ على المصادر الطبيعية، وشعورنا بالله ينمّي فينا مسؤولية احترام هذه المصادر، وهذا ما يسميه القرآن الكريم خلافة ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى…﴾[1]. فكل الأجيال منذ بدء الخليقة اعترفت بالله ربًّا.
نحن نمارس سيطرتنا على الطبيعة، ببناء المدن، وإنشاء المزارع، والاستفادة من الموارد الطبيعية بما يخدمنا، وعلينا أن نعرف أن كل هذه الخبرة الحية، هي عبارة عن خبرتنا ومعرفتنا بوجود الله. وتوازي هذه الخبرة عددًا من الأسماء الحسنى، كالخالق، والمصوّر، والوهاب. ونحن نتعرّف على معاني كل هذه الأسماء الإلهية، من خلال علاقتنا كبشر بهذا العالم الطبيعي. وعملية سيطرتنا على الطبيعة التي مضى عليها آلاف السنين، تشكّل معرفة تراكمية. فإذا كنا لا نعرف كيف نضيء الشمعة، فإننا بالتأكيد نعرف كيف نضغط على زر الكهرباء فنشعل النور. ومرور الوقت لغز علينا فهمه، وهو وسيلة للمعرفة التراكمية مُنحت لنا، كالمخلوقات تعيش في الزمان والمكان.
عندما يقوم الكيميائي أو المهندس بعمله التقني، يمكنه أن يقول بحق: إني أحب الله؛ لأن ما يقوم به من عمل كائن في العالم الذي خلقه الله. والعقل هو مصدر كل عمل بشري، فالقرآن يقول: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ…﴾[2]. أو ﴿لاَ يَعْقِلُونَ﴾[3]. يوجد في الطبيعة مكان للعقل بوصفه الأداة التي بها نختبر قدرتنا ومعرفتنا بالله. وفي القرآن أيضًا ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[4]، إلى جانب ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وإذا لم يكن الشكر لله فلمن يكون؟ ويبدو واضحًا أن ﴿تَعْقِلُونَ﴾، ﴿تَشْكُرُونَ﴾ كلها متجهة نحو الله الذي نؤمن به.
هذا جزء مما نعنيه بالمعرفة، ولكنه ليس كل شيء، فالغموض لا يزال يحيط ببعض الجوانب؛ لذا فإن المقاربة العقلية اتجاه معرفة وحب الله، تُعمّق وتعزّز بما نسميه جميعنا وحيًا.
كتب مُفتي مصر الكبير، الشيخ محمد عبده، “رسالة التوحيد” التي ترجمتها إلى الإنكليزية، وهي عن العلاقة بين المقاربة العقلية لله، ومقولة الوحي.
في كثير من الاعتقادات الدينية، تكون المعرفة العقلية بالله، والتجربة الشخصية هي الأصيلة والحقيقية، ويودّ بعض المسيحيين الفصل، بين الوحي والعقل، والاعتماد كليًّا على الوحي في معرفة الله. فالوحي يوسع ويطور ويصحّح معرفتنا بالله، من خلال الطبيعة. والمعروف بين المسيحيين والمسلمين على حد سواء، أن الوحي وصل إلينا عبر الأنبياء، ورسل معلمين أولياء، ونعتقد أن هناك كلمات قدسية تنقل إلينا معان قدسية. هنا علينا أن نفكّر بجدية حول شيء مشترك، من طبيعة وأصل واحد، ولكنه مختلف في نفس الوقت.
في الإسلام، نزل القرآن من “اللوح المحفوظ”، وانتقل بالتنزيل إلى شفاه محمد (ص)، وعندما حدث الوحي صار عندنا كتاب، وهذا الكتاب الموجود على الأرض، عبارة عن نسخة فعلية لما هو موجود فوق “في اللوح المحفوظ”، نستطيع أن نقرأه ونتلوه، ونشارك في كلمة الله.
عندما نأتي إلى الفهم المسيحي للوحي، فإن هناك أنبياء هم واسطة للوحي، لكن بالنسبة لنا ما هو موجود، موجود بشكل نهائي وكامل، ألا وهو شخصية المسيح. كما ورد في إنجيل يوحنا “الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا”. فقد جاء ليسكن بيننا، إذ عبّر الله عن نفسه بشخصية إنسانية، ودائمًا في حالة إنسانية، وهذه الشخصية وبهذه الحالة، يخبر عنها في رواية أو كتاب، هو الكتاب المقدّس. بينما نجد في الإسلام، أن النص المكتوب في القرآن هو الأساس، نجد في المسيحية أن الشخصية هي الأساس، ويأتي النص في الدرجة الثانية. ونحن نؤمن أن الأناجيل قد أوضحت لنا، بشكل كاف، ما كانته الشخصية، وما عنته القصة. ومن وجهة نظر مسيحية تقليدية، إذا أرسل الله لنا شيئًا، فإنه بهذا الإعلان للوحي، يمكننا أن نفهم بشكل كامل ونهائي، طبيعة وهدف الله.
تكلمنا عن مظهرين للمعرفة (العقل، التجسّد، الوحي)، وهناك مظهر ثالث وهو التجربة، فإنه يمكن دراسة وقراءة الشكلين الأولين للمعرفة، ولكي تكتمل المعرفة، لا بدّ من تدخّل المظهر الثالث.
قلنا: إن النص هو النص، ولكنه أكثر من نص؛ لأنه يدعونا أن نعيشه بكل قلبنا. ويتم ذلك بنوع من الإحساس، يسميه الناس حدسًا، والحدس لا يعني أننا نقرأ شيئًا، بل يعني أن الشيء يتحد بذواتنا.
قام بعض المسلمين والمسيحيين بدراسات حول كيفية تأويل، أو تفسير الوحي، وحول إمكانية التأكّد من أن ما يُقرأ، يُقرأ بشكل صحيح، وأنه في بعض الحالات، لا بدّ من وجود مرجعية تعرف المعنى وتنقله لنا.
تقع المعرفة بالنص بشكل كبير، على عاتق العلماء والشيوخ والراسخين في العلم، والمسألة هذه مثار جدل، إذا لم نقل خلاف، داخل الإسلام وداخل المسيحية، خصوصًا عندما يطرح تساؤل ما حول معنى معيّن، فهل نحن بحاجة إلى وجود من يمتلك معارف معينة ليتمكن من معرفة معنى النص وينقله للشخص العادي؟
عندما نتحدث عن الوحي، علينا أن نتحدث عن المؤهلين والثقاة لتفسير هذا الوحي. وإذا لم أكن مخطئًا فإن هذا جزء مهم من الإيمان الشيعي، حيث تكون الحاجة إلى نور الإمام ضرورية، لكي نفهم القرآن بشكل صحيح. وهناك، في المسيحية مسألة مشابهة، وهي مسألة المرجعية الصالحة لتفسير الوحي. وما يتعلق بموقع القارئ من فهم النص، من وجهة نظر مسيحية، هو أكثر وضوحًا مما كان من الفلسفة.
هل يمكن للشيء أن يصبح حقيقيًّا بالنسبة لي عندما أريده أن يصبح كذلك؟ أنا لا أعني أن الإيمان هو الذي يخلق الحقيقة، ولكن أعني أن الإيمان يصادق على الحقيقة بشكل ما، عندما نفكّر مليًّا نعرف أنه لا يوجد نص مقدّس يقول لنا إننا أسأنا قراءته.
هناك ملاحظة قد تبدو ساذجة، ولكن لا بأس من الإشارة إليها. عندما سُئل أحد الكتّاب الإنكليز، بعد نشره لأحد كتبه، عمّا عناه بكلامه قال: سأعرف ماذا عنيت عندما أقرأ ما يقوله النقّاد. فعندما يُكتب شيء، لا يمكن التنبؤ بمعرفة كيفية فهمه، فهناك عدة تعقيدات حتى حول فهم كلمة واحدة. وبالتالي، فإن الوحي الموجود في نص مقدّس، بحاجة إلى عقل فطن وبصير كي نتأكّد أن ما فهمناه هو ما يجب فهمه. وأعتقد بأنه لا بدّ من احترام هذه النقطة، حيث يأتي دور الإيمان الإحساس بقداسة النص، والتأكيد على الوصول إلى المعنى الحقيقي له. وهذا الإيمان والإحساس هو الذي يستجيب للوحي، حيث ينشأ الشعور بالتابعية.
عندما نقول: هناك الإيمان، والانتماء، والسلوك، ويمكنك أن تضع هذه الأمور الثلاثة في أي ترتيب تريد. فكيف نشعر، وكيف نفكّر، وكيف نتصرف، يمكن جمعها معًا، وعندما يُعطى الوحي لنا، تتفاعل هذه الأمور، وتصير المعرفة ممكنة وحقيقية.
وهذا يقودنا إلى البعد الثالث للمعرفة، البعد الذي يتجه للمشاركة في الحقيقة، ويعطي معنًى للحقيقة المكتسبة بطريقة عقلية، فكلمة حواري تعني تلميذ، ولكن التلميذ الذي يمارس التدريب على المعرفة، ليكون على جهوزية كاملة، للوصول إلى الحقيقة. فليست المسألة مسألة عقلية فقط، أو شكل من التسامي، بل هي عبارة عن مزج بين كل أعمال النفس. وربما صح القول: إن أفضل ما يشرح هذا المعنى للمعرفة، هو التقليد الصوفي، الذي هو حب الله بكل القلب والنفس، وكل قوى الشعور، وهذا ما نعبّر عنه بالحب وليس بالمعرفة، فالحب أرفع درجة من المعرفة.
كانت هذه محاولة للتفكير بموضوع المعرفة والإيمان. وهناك نقطة أخيرة لا بدّ من الإشارة إليها، أنه في الإيمان المسيحي، يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل تيماثوس: “إعرف بمن آمنت”. ولا يقول إعرف بماذا آمنت. وعندما يقول بمن، غير عندما يقول بماذا؛ فإن “بمن” تشتمل على المعرفة والإدراك. وعندما يتكلم الكتاب المقدس، فإنه يتكلم عن المعرفة والمحبة معًا، ويرى كثيرٌ من المسلمين، أن حب الله يعني معرفته وفهمه.
هناك شيء من الله خارج نطاق الإدراك البشري، وإذا قلنا غير ذلك نكون قد أحطنا به، فهناك دائمًا شيء لا ندركه. ويوجد في المتدينين من يقول: إن هذا يعني أنه ليس بمقدورنا أن نعرف الله أبدًا. ولكن في العهد الجديد المسيحي، وبالاعتراف بالمسيح كوحي شخصي، نتجرّأ أن نقول: إننا عرفنا الله، نقول هذا ونحن ندرك ونعترف أن هناك ما لا يمكن معرفته والوصول إليه وإدراكه، ولكن ما نقول: إننا لا نستطيع الوصول إليه ومعرفته لأنه سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك. ليس مناقضًا ولكنه يتلاقى بشكل ما مع ما نختبره من حب الله كما يقول بولس: “الذي في المسيح وحده”.
وبالعودة إلى عبارة ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾؟ فإنها سؤال بصيغة النفي وهذا النوع من الأسئلة ينتظر دائمًا إجابة بنعم. والجواب المتوقع يكون بالإيجاب. كأن نسأل ألم أقل ذلك؟ ألم يكن الأمر على هذا النحو؟ وحب الله هو الجواب الدائم، للذي يسأل عنه، ولكنه جواب يتم حمله في القلوب. وشكرًا.
* محاضرة ألقيت في معهد المعارف الحكمية.
[1] سورة الأعراف، الآية 172.
[2] سورة يوسف، الآية 2.
[3] سورة البقرة، الآية 171.
[4] سورة الجاثية، الآية 12.
المقالات المرتبطة
تجليات الأخلاق في كربلاء
واقعة كربلاء ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي نقطة تحول محورية في التاريخ الإسلامي تمثل قمة الصراع بين الحق والباطل، والظلم والعدالة
العلم اللّدنيّ في التّصوف: النشأة والدّلالة
في عصرٍ بات تحصيل العلمِ سهلٌ يسير حيث يتلقّف المرء المعارف من كل حدبٍ وصوب، طُرح سؤال حول نوع وقيمة العلم الحديث وحاجتنا لعلم مقدّس (محاولة حسين نصر)…
مفهوم الحداثة في فكر محمد سبيلا
يعدّ المفكّر محمد سبيلا أحد أعمدة الفكر المغربي المعاصر، نظرًا لما خلّفه الرجل من غزارة في التأليف والكتابة الفلسفية