الرشد الفقهي في تجربة الصدر: قراءة في نظرية المصلحة العليا
مقدمة
يعتبر الاجتهاد من الوظائف المهمة والخطيرة في الحياة البشرية لما له من دور يشبع حاجة فطرية عند الإنسان هي الرغبة بالارتباط بجهة غيبية قادرة حكيمة وعارفة، يريد كإنسان أن يحوز على رضاها من خلال القيام بطقوس معينة يعتقد أنها تقرّبه من هذه الجهة، لذلك هو دائم السعي إلى كل من يربطه بهذه الجهة ويخبره عن كيفية الوصول لها ونيل رضاها.
وبما أن الحدود والأحكام الشرعية هي أمور غير متاح فهمها للجميع، وتحتاج إلى علم خاص وقدرات وملكات خاصة لكي تنهض وتوضح الأحكام الشرعية وترسم المنهج التعبدي في تحقيق الرضا الإلهي، وهو ما لا يتوفر إلا في نفر من الناس وهم المجتهدون الذين حملوا على عاتقهم مهمة إيصال المراد الإلهي من الأحكام الشرعية المنصوص عليها في النصوص القرآنية أو الحديثية عبر آليات عمل معينة إلى الناس، ليتوافق سلوكهم في مختلف مجالات الحياة والشريعة الإسلامية.
الفتوى وأثرها على المجتمع
والاجتهاد وظيفة محورية في حياة الإنسان، نورد أهمها أثرًا في الدنيا من خلال ما طرح من آراء في هذا الصدد لعلماء ومفكرين.
يقول الشهيد محمد باقر الصدر عن وظيفة الاجتهاد: “تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة، لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها”[1].
والاجتهاد هو القوة الفعّالة التي تستطيع قيادة مثلث الفرد، المجتمع، السيادة في النظام والدولة، وتشرح لهم وظائفهم وتكاليفهم في جميع المناسبات الحياتية الواسعة. وهو وسيلة لتبيين التكاليف الدينية فيما يتعلق بالأفراد والنظام الحاكم من أجل تحقيق غايات الدين وأهدافه، وهو يحدد مسار الحوادث الواقعة من منظار الدين، وهو يكون في القسم المتحول والمتغير من الحياة وليس القسم الثابت، فهو الناطق باسم الدين[2].
والفتوى كونها نتاج وثمرة جهد المجتهد وعملية الاجتهاد، فوظيفتها تكون في تصويب فعل المكلف وسلوكه وفق الرؤية الأقرب لإرادة المشرع، فتكون لها سلطة على الناس غير مباشرة إلا أنها فاعلة وقادرة على التأثير والتوجيه وتمثل سلطة حاكمة بيد الفقيه.
وحدود سلطة المجتهد، إن صح التعبير، لا تتعدى كونه يبذل الوسع والجهد في استنباط الأحكام الشرعية التي يبتلى فيها الناس، بحيث يكون على المكلف الرجوع فيها إلى الفقيه الجامع للشرائط فيقلده بها فقط، أي في الأحكام الشرعية، ولا تتعدى وظيفة المجتهد هذا أبدًا كما جاء في الرسالات العملية.
لذلك تعتبر الفتوى ذات سلطة فعلية على الناس، توجه سلوكهم وتضبطه، ليكون في دائرة حدود الله لا يتعداها، وهو ما يفرض على الفقيه امتلاك القدرة والمكنة في مواكبة عصره ومعرفة أهم التحديات التي تواجه المكلفين وأهم مستحدثات المسائل التي تتطلب توضيح فقهي يضبط إيقاع المكلفين ضمن حدود الله.
الفتوى
الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي، ويقال: أفتيته فتوى وفتيا، وإذا أجبته عن مسألته، والفتيا تبين المشكل من الأحكام، وفاتو إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه بالفتيا[3].
وقال الراغب: الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام، ويقال استفتيته فأفتاني بكذا..انتهى.
الفتوى اصطلاحًا: عبارة عن مرسوم ديني في الإسلام يقوم بإصداره علماء في الشريعة الإسلامية ومتخصصين في فهم النصوص الدينية يتحلون بصفات معينة نصت عليها النصوص الدينية الروائية المعتبرة[4].
والفتوى هي المعبر عن الحكم الشرعي في المسائل الدينية المبتلى بها المكلف.
والحكم الشرعي هو: التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان، والخطابات الشرعية في الكتاب والسنة مبرزة للحكم وكاشفة عنه، وليست هي الحكم الشرعي نفسه.[5]
ولا يتصدى للفتوى كما هو معلوم في المصادر العلمية إلا المجتهد المتصف بمجموعة من الشروط التي تؤهله لهذه المهمة والوظيفة العظيمة والخطيرة، ويمارس المجتهد عملية الاجتهاد في استخراج الحكم الشرعي.
ويعرّف الشهيد مرتضى مطهري الاجتهاد على أنه القدرة على تكييف المتغيرات واستيعابها وتوفير الأحكام الشرعية للمكلفين بما ينسجم مع روح الإسلام ومقاصده، يجسد أطروحته ونظرياته في الحياة وصلاحيته لإدارة شؤونها المختلفة[6].
من الموضوعات الجدلية والإشكالية في الأمور الفقهية كانت وما زالت هي قدرة الفقيه على المواكبة، وبالتالي قدرته على تطوير فهمه للواقع المعاصر وإشكالياته، وأهم المعوقات التي يعاني منها الناس والمجتمعات، كي يستطيع تطوير القراءة الفقهية واستنباط الأحكام على ضوء الموضوعات الجديدة، وتقديم حلول واقعية للإشكاليات المعاصرة، وتشخيص مستحدثات المسائل في عصره، لتجعل من الأحكام الشرعية جناحًا للتحليق بأمان، وليس أغلالًا تكبّل المكلف وتشعره بثقل التكليف وصعوبة الارتباط بالله من خلال هذا الجسر، مما يضعف قدرته على التطبيق لعدم مواءمة هذه الفتاوى مع الواقع وعدم مواكبتها، بالتالي مع التقادم يتسرب كثير من الناس من الدين ويتركون الالتزام بالتكاليف تحت ضغط الحرج والعسر.
ولكن كيف قدم الشهيد محمد باقر الصدر نموذجًا في المواكبة والمواءمة الفقهية، وعكس رشدًا، بل إبداعًا قياسًا مع تلك الفترة الزمنية التي كان يعيشها؟ حيث إن الإبداع ناظر لظروف الزمان والمكان ومعطيات العصر التي يعيش فيها الشخص المبدع، وكيف قدّم عملًا إبداعيًّا سبّب بذلك نقلة نوعية للفقه وللمكلفين؟
بين اعتبارات المرجعية والتأسيس لنظرية المصلحة العليا
كان لرسالة الشهيد محمد باقر الصدر لحجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد كمال مرتضوي، دورًا كاشفًا عن جانب من جوانب الشخصية الإبداعية لدى الشهيد الصدر، حيث أسس فيها منهجًا هامًّا شكّل قاعدة كلية في مسار الاجتهاد الفقهي، أطلق عليها نظرية، هذه القاعدة اعتمدت على عناصر عدة أهمها:
- التشخيص الدقيق للإشكاليات الفقهية المعاصرة وأثرها على الإسلام وعلى ارتباط المكلف به.
- التشخيص الأدق للأولويات ضمن دائرة مشروع الشهيد الصدر، مقارنة مع المشهور والإجماع الفقهي والفقهائي.
- قدرته على التمييز بين مصلحته كفقيه والمصلحة العليا.
- رسم معالم المرجعية الحقيقية ودورها في تنضيج مبدأ ” يسر ولا تعسر وبشر ولا تنفر”.
- ميّز بين اعتبارات المرجعية ومصلحة الإسلام بما يؤسس لنظرية جديدة للمصلحة العليا على ضوء هذا التمييز.
- قدرته على إظهار نقد غير مباشر للمنهج السائد في الحوزات آنذاك في تغليب كثير من الفقهاء للمصلحة الذاتية على المصلحة العليا، وفق اعتبارات كانت سائدة في عرف الحوزة، تفرض وجودها على مسار الفقهاء بشكل عام، وبالتالي تؤثر على بيئتهم المحيطة وتوجهها باتجاه جبري مسلكي في الفقه.
- من عناصر نظرية المصلحة العليا الاقتصاد التدبيري لطاقات الأمة بشكل عام، وللطلبة في الحوزة بشكل خاص، فهي تعمل على توظيف هذه الطاقات العقلية والفكرية للطلبة في الحوزة توظيفًا نهضويًّا، يضع هذه الطاقات في الموضع الصحيح، والمصداق الأجلى للعمل الصالح، وتوجيهها بطريقة تفتح باب الإبداع من جهة، وباب التجديد والمواكبة من جهة أخرى بعد أن تجعل الاعتبار المعياري فقط للمصلحة العليا للكيان وللدين، وليس لتواضعات الأشخاص من العقلاء لمعايير ذاتية تصب في مصلحتهم ومصلحة مشاريعهم، بل كرّس مبدأ نكران الأنا في قبال المصلحة العليا.
- كرّس مبدأ الدليل في تتبع المسائل الفقهية على ضوء تغير الزمان والمكان وحيثياتها، وكسر الجمود الفقهي على الاحتياط غير المبرر، بل عزّز مبدأ المراجعة للأحكام التي أفتاها الفقهاء مهما كان علوهم العلمي، كون اختلاف الزمان والمكان واختلاف البيئة له مدخلية كبيرة في قراءة النص، وبالتالي في تشريع الحكم.
وقد أسس السيد الشهيد قاعدة فكرية للنظرية تميز بين المصلحة الخاصة والمصلحة العليا كمبدأ تأسيسي في نظم التفكير في الحوزة العلمية والمنتسبين إليها، وكانت ترتكز على مبدأ الإيثار الأخلاقي، وهو إيثار المصلحة العامة والعليا للدين على المصلحة الخاصة للفقيه قائلًا: “الأخلاقية التي كنا نعيشها من نقاطها الرئيسية الارتباط بالمصلحة الشخصية بدلًا من التضحية، نحن بحاجة إلى أخلاقية التضحية بدلًا من أخلاقية المصلحة الشخصية، نحن بحاجة أن نكون على أهبةٍ لإيثار المصلحة العامة للكيان على حساب المصلحة الخاصة لهذا الفرد أو لهذا الفرد، نحن لا بدّ لنا من أخلاقية التضحية بالمصالح الخاصة في سبيل المصالح العامة. أما ما كنا نعيشه، أما ما كان موجودًا فهو على الغالب إيثارًا للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة. كنا نعيش لمصالحنا، وكنا لا نعيش للمصلحة العامة حينما تتعارض مع مصالحنا الخاصة.
وهذه النزعة الأخلاقية التي تتجه نحو المصلحة الخاصة لا نحو المصلحة العامة، تجعل القدر الأكبر من طاقتنا وقوانا وإمكاناتنا خصوصًا في جو من قبيل جو الحوزة، في جو غير منظم، في جو لا بدّ لكل إنسان أن يبني نفسه بنفسه، في مثل هذا الجو إذا عاش الناس دائمًا عقلية المصلحة الخاصة ولم يكن عندهم أخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة، فسوف يصرف القدر الأكبر من هذه الطاقات والإمكانات والقابليات في سبيل تدعيم المصالح الخاصة أو في سبيل الدفاع عن هذه المصالح الخاصة.
ثم يقول: في هذا الجو العام بهذا الاتجاه سوف يضطر كل إنسان) في الحوزة) إلى التفكير في نفسه والدفاع عن نفسه، وإلى تثبيت نفسه، وبذلك تصرف ثمانين بالمئة من طاقاتنا داخل الإطار، بالمعارك داخل الإطار، بينما هذه الـ 80٪ من القوى والطاقات التي تصرف في معارك داخل الإطار كان بالإمكان- لو كنا نتحلى بأخلاقية الإنسان العامل؛ يعني لو كنا نتحلى بأخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة- أن نحول هذه الـ 80٪ للعمل في سبيل الله للعمل في تدعيم الإطار ككل، لتكريسه لتكديسه، لتوسيعه، وبذلك كنا نستفيد – لو كنا نعقل كنا نستفيد- حتى بحساب المقاييس العاجلة أيضًا أكثر مما نستفيد ونحن نتنازع ونتعارك ونختلف داخل إطار معرّض للتمزق، داخل إطار مهدّد بالفناء.
ثم يختم هذه الجزئية قائلًا: أخلاقية الإنسان العامل أول شروطها هو أن يكون عند الإنسان شعورًا واستعدادًا بالتضحية بالمصلحة الصغيرة في سبيل المصلحة الكبيرة، وهذا ما لا بد لنا من ترويض أنفسنا عليه. [7]
هذا على مستوى تأسيس نظرية المصلحة العليا في الحوزة العلمية والتي ترتكز على:
“قدرة الفقيه على تشخيص الأولويات القائمة على أساس الزمان والمكان والمتغيرات المعاصرة لزمانه بحيث تكون معالجاتها الفقهية قائمة على أساس المصلحة العليا للدين، أو للكيان ككل على حساب مشروعه الخاص، مهما بذل وضحى في هذا السبيل من تضحيات، فإذا وقع التزاحم بين مصلحته الشخصية والمصلحة العليا، ووفق قاعدة التزاحم، تقدم المصلحة العليا على المصلحة الشخصية، كون مصلحة الكيان والدين تخص عامة الناس ومشروع الله على الأرض، بينما مصلحة الفقيه الخاصة تخص شخصه في الدنيا فلا تتعارض مصلحته مع مصلحة الله ومشروعه، ليصبح بذلك أي الفقيه بتقديمه المصلحة العليا على الخاصة في طول الله لا في عرضه، وتنظم نظرية المصلحة العليا بذلك طاقات الطلبة وقدراتهم العلمية بطريقة نهضوية وليست انسدادية، تكون قادرة على محاكاة عنصري الدين الخلود والديمومة”.
وعادة ما نعاني من خلل التطبيق في سلوكنا العام، فالقدرة على تأسيس النظريات ليس بالأمر الصعب كونها تأسيسات نظرية، لكن القدرة على التطبيق هي العائق أمام تفعيل التظرية وتسييلها عمليًّا في أرض الواقع الإنساني، إلا أن ما ميّز الشهيد الصدر (قده) هو قدرته الفائقة في السبق للتطبيق على ذاته، وانشغاله الفعلي في تفعيل ما يقول على نفسه. وسنورد أحد مصاديق تفعيله لنظرية المصلحة في الحوزة في مسيرته الفقهية، والتي تشكل الركيزة الأساس في سيرة العالم الذاتية وتؤهله بشكل كبير للتصدي إلى المرجعية، وهو ما يقتضي – كما هو السائد في الحوزة آنذاك- للسير فقهيًّا وفق الإجماع والمشهور والمألوف، إلّا أن السيد الشهيد شكّل القفزة النوعية في تطبيق نظريته حول المصلحة والتضحية والإيثار.
وهذا المثال من سيرة السيد الشهيد يوضح فيه جليًّا أثر فتوى الفقيه في حياة الإنسان وفي علاقته بالفقيه وانتمائه إليه، وقوة هذه الرابطة الانتمائية بين الإنسان والله ودور الفقيه في تضعيفها أو توثيقها.
طهارة من نسب نفسه إلى الإسلام
كان المشهور الفتوائي في زمن الشهيد الصدر حول أهل الكتاب في باب الطهارة هو نجاسة أهل الكتاب، وغالبًا ما كان الفقهاء يبنون حكمهم في هذا الموضوع على الاحتياط الوجوبي أو تطرح كفتوى، وهو ما سبب عسرًا كبيرًا على كثير من المسلمين خاصة في الدول الغربية ذات الأكثرية المسيحية أو غير المسلمة، وذلك أدى مع التقادم لترك كثير من المسلمين وخاصة الطلبة نتيجة العسر والحرج وهدر الكرامة، أدى إلى تركهم للإسلام برمته، أو تركهم للتدين والصلاة وعدم الالتزام بالأحكام، وتدريجيًّا التفلت تمامًا من الدين وتشريعاته الناظمة، وهو ما دعا السيد الشهيد إلى إعادة النظر في أدلة هذا الحكم حتى توصل وفق اجتهاده إلى حكم مخالف لما عليه مشهور الفقهاء في زمانه، وهو طهارة أهل الكتاب، مما حدا بأحد المراجع الخوف على مستقبل الشهيد الصدر العلمي، والذي كان يعول عليه المرجعيات التي تتطلع للتغيير والتطوير في الحوزة، وكانوا يعلقون آمالهم على تصدي الشهيد الصدر (قده) للمرجعية في العراق والنهوض بالحوزة العلمية، فأرسل له رسالة يبدي فيها مخاوفه من مخالفة ما هو عليه مشهور الفقهاء، وكان رد السيد الشهيد هو:
بسم الله الرحمن الرحيم
جناب حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد كمال مرتضوي دامت بركاته.
أرجو أن تصلكم هذه السطور وأنتم وسائر من يتعلق بكم في أفضل الأحوال من سائر الوجوه، كما أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرعاكم بعظيم لطفه ويديم لكم التأييد التسديد، وإني أتفقد أحوالكم وأعتز بما أسمع عنكم وعن خدماتكم الجليلة للدين طبقًا لما أعهده فيكم منذ عرفتكم من صفات الكمال والورع والغيرة على الدين الحنيف.
نكتب إليكم هذه السطور بمناسبة رسالة شفهية وصلتني من سماحتكم بتوسط الفاضل الألمعي الشيخ عبد الله الخنيزي حفظه الله تعالى، فقد ذكر لي أنكم كلفتموه بتبليغي ملاحظاتكم حول الفتوى بطهارة المنتحلين للإسلام ممن يحكم بكفرهم شرعًا، وطلبكم مني الاحتياط في ذلك. وكان بودنا أن تكتبوا إليّ بذلك، فإني أتلقى كل ما تتفضلون به بكل اعتزاز وتقدير.
وعلى أي حال، فإنني أثمن ملاحظاتكم الشريفة وأعتز بها لثقتي بأنها نابعة من ذلك المنبع الطاهر الذي يعمر قلبكم الزكي، ولما تعبر عنه الملاحظة من اهتمامكم بهذا الجانب؛ لأن النصح والإرشاد إحسان ورعاية وتفضل. فلكم الشكر على ذلك، ولا حرمنا المولى سبحانه من أمثالكم ومن نصائحكم وأدعيتكم، غير أني أريد أن أشرح لكم بهذه المناسبة واقع الخصوصيات الدينية والملاكات الشرعية التي ألحظها في هذا المقام وأمثاله، فإني أعرف أن مجرد تمامية الميزان العلمي والدليل الفقهي على حكم لا يستلزم التصريح به، وأعرف أنه في حالة قيام الدليل الشرعي على فتوى مخالفة لما هو المعهود في أذهان المتشرعة يمكن للفقيه أن لا يبرز تلك الفتوى رعاية لعواطف جملة من الأخيار والأبرار، واجتنابًا لما قد يصيبه من تأثرهم وانكماشهم عنه، أنا أعرف ذلك، ولكن في مقابل ذلك قد توجد جهات وحيثيات لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار؛ إذ تنعكس على أوضاع الشيعة في مختلف أنحاء العالم ومدى ما يمكن أن يكون لفتوى معينة من أثر في رفع الحرج عن جملة منهم من البقاع في الدنيا، أو من أثر في تأليف قلوب من حولهم أو رفع الأذى عنهم.
فعلى سبيل المثال: أنا أعرف كثيرًا يا عزيزي المعظّم عن أوضاع الشيعة في عمان ومسقط وهم يعيشون في كنف الخوارج وفي ظلهم ويقاسون من البناء على نجاسة هؤلاء الشدائد في حياتهم العلمية والإحراجات المستمرة، بل يواجهون في كثير من الأحيان ردود الفعل وعكس العمل من قبل الآخرين، فإذا تم لدى الفقيه الميزان الشرعي للفتوى بالطهارة أليس يدعوه وضع أمثال هؤلاء إلى التصريح بذلك رفعًا للحرج عنهم وحفاظًا على كرامتهم؟ وهكذا الأمر في جملة من المواقع الأخرى.
وكذلك الحال في الغلاة الذين يمكن تقريبهم نحو التشيّع الحقيقي، ويكون للتعامل معهم على أساس الطهارة أثر في هذا التقريب، أفليس هذا الأثر يدعو الفقيه إلى إيثار الإعلان عما تم عليه الدليل في نظره بينه وبين الله تعالى؟!
وأتذكر أن شخصًا من أجلِّ علماء تبريز ومن المحبين والمخلصين لنا قد كتب لنا بعد صدور تعليقتنا على منهاج الصالحين يطلب السكوت عن فتوى طهارة أهل الكتاب وتبديل ذلك بالاحتياط. وذكر دامت بركاته جملة من الأخيار في تبريز تعودوا على استخباث أهل الكتاب ونجاستهم، فهم ينقبضون عمن يقول بالطهارة، وقد كتبت إليه دامت بركاته أني أعلم ذلك. ولكني ألاحظ في نفس الوقت الآلاف ممن يهاجر إلى بلاد أهل الكتاب وقعوا في محنة من ناحية القول بالنجاسة، حتى حدثني الثقاة أن جملة من المتدينين الذين هاجروا إلى هناك تركوا الصلاة وخرجوا تدريجيًّا من التدين رأسًا لأنهم يرون النجاسة محدقة بهم، فيرفعون يدهم من أصل الفريضة، فلو أوقفني المولى القدير سبحانه وتعالى للحساب بين يديه وقال لي: كيف سببت بعدم إبرازك للفتوى التي تراها لانحراف هؤلاء وإحراج الكثير من الناس واستدراجهم إلى المعصية فماذا سوف أقول؟
إنني أيها السيد الجليل أعاني نفسيًّا وروحيًّا معاناة شديدة في مثل هذه المواقف، وأخشى كثيرًا أن أتصرف تصرّفًا أؤثر فيه مصلحتي الخاصة على مصلحة الدين، فأنا أعلم أن هناك عددًا من الصالحين والمتشرّعة الأبرار قد أخسرهم شخصيًّا بسبب إبراز الفتوى المذكورة التي هي على خلاف المعهود في أذهانهم، وقد يقولون: ما لنا ولهذا الفقيه ولنتركه، ولكن هؤلاء إذا قدر لهم أن تركوني فلن يتركوا الدين، وإنما يتركوني إلى فقيه آخر، لن يتركوا الصلاة، لن تتهدد كرامتهم بشيء. إذن فلن يخسرهم الدين وإنما أخسرهم أنا شخصيًّا إذا لم يوجد من يشرح لهم واقع الحال ويرفع ما في نفوسهم. وأما أولئك الذين يقعون في ضائقة من القول بالنجاسة ويصيبهم الضعف الديني اتجاه ذلك فيتحللون تدريجيًّا من واجباتهم، فإنهم سيخسرهم الدين رأسًا.
وعلم الله أني وقفت في لحظات عديدة أوازن بين الخسارتين، وكانت نفسي أحيانًا تقول لي: حافظ على وضعك، ولكن أحس من ناحية أخرى بحاجة إلى جواب أمام الله تعالى.
وهكذا تجدون أيها السيد الجليل أن ما صدر منا من فتوى لم يكن لمجرد الرغبة في أن نبرز كل ما تم الدليل عليه ثبوتًا، وإنما هو نتيجة معاناة من هذا القبيل، ولأجل الموازنة بين أوضاع الشيعة وحاجاتهم ومتطلبات ظروفهم في مختلف الأماكن والبقاع، وحفاظًا على جملة من المصالح الدينية العامة ولو بالمجازفة ببعض المصالح الخاصة، فالاحتياط والتخوف من أن أؤثر ذاتي على ديني هو الذي جعلني أقف من حيث الفتوى بالطهارة الموقف الذي ترون، وإني أؤكل من لطف الله تعالى وحسن رعايته وعلمه بنية هذا العبد أن يعصمنا من السلبيات والمنفيات التي قد تتولد من ذلك، ويقيض من العلماء الصالحين من أمثالكم من يوضح وضعي.
هذا وإني أرجو أن لا تنسوني من أدعيتكم الصالحة في مظان الإجابة، كما لا أنساكم إن شاء الله تعالى، وأن لا تبخلو علي بأي إرشاد أو توجيه.
محمد باقر الصدر، 8 شعبان 1397هـ[8].
ومما سبق، تكون معالم نظرية المصلحة العليا الجديدة التي أرساها كالتالي:
– أهمية مواكبة الفقيه المتصدي لأهم إشكاليات المقلدين ليس في دائرته الخاصة ومحلته، وإنما ضمن البقاع التي ينتشر فيها المقلدين له، وذلك عن طريق تفعيل دور الوكلاء خارج إطار جمع الأخماس وجلب المنافع، بل أيضًا إضافة إلى ذلك هو نقل أهم الإشكاليات المعاصرة التي تعرقل وتعيق تقدم المقلدين، سواء تعسر عليهم مساحة أداء التكاليف لعدم مواءمتها مع محيطهم المعاش، أو أنها كفتاوى لا تأخذ بالحسبان اختلاف الزمان والمكان والعرف العام الحاكم، أي اختلاف الجغرافيا التي تؤدي لاختلاف الثقافات والأعراف والأفهام وسعة المدارك والعقول، بل اختلاف في الحضارة والعمران.
– وضع الفقيه الإسلام نصب عينه وتغليب مصلحة الإسلام على مصلحته الخاصة ومشروعه العلمي وارتباطاته التي تؤثر في إنجاز هذا المشروع، وعدم محاباته حتى لكبار الفقهاء على حساب مصلحة الإسلام ومصلحة المكلفين، وضرورة التخلص من مؤثرات البيئة والذاتية والقبليات والاتصال بالمحيط الممتد فيه مقلديه.
– مواجهة المألوف والمشهور والإجماع الفقهي من خلال البحث المستفيض عن الأدلة، دون الركون لما دأب عليه عامة الفقهاء سواء المعاصرين أو المتقدمين، بل الاجتهاد من خصيصته المقومة له هو بذل الجهد الذي يقتضي عدم تقليد السابقين والركون للاحقين إلا إذا ثبت لدى الفقيه نفسه بالدليل ما ثبت لغيره من الفقهاء، وإن لم يثبت فيصبح لزامًا عليه البحث عن أدلة جديدة حتى لو أدّى ذلك للإفتاء بخلاف ما عليه المشهور الفتوائي.
– القيم والمبادئ والأخلاق هي جزء لا يتجزأ من بنية الفقيه، فلا انفصام بين الفقه والأخلاق، هذا الانفصام الذي أدى إلى تراجع كبير في الأداء وأعاق مسيرة التطور الفقهي بسبب عدم تفعيل قيمة التضحية والإيثار في ارتكاز كثير من الفقهاء وفق نظرية المصلحة العليا، وهو ما جسده عمليًّا الشهيد الصدر في منهجه الفقهي والعلمي وعلى رأس ذلك نكران الذات والتواضع العلمي والسلوكي، وقبول النصيحة وحسن الظن بالآخرين حتى المختلفين منهم معه شخصيًّا والحلم، وهي ميزات تميز بها بشكل جلي الشهيد الصدر سواء في هذه الرسالة أو في منهجه الكلي.
خاتمة
إن إهمال كثير من تراث الشهيد الصدر وشخصيته وإنتاجه العلمي لهو مصداق واضح الظهور في عدم تفعيل نظرية الشهيد الصدر “نظرية المصلحة العليا” على حساب المصلحة الخاصة، وفي استمرار الطالب في الحوزة في خوض صراعات الوجود الفردي على حساب صراعات وجود الكيان ككل، وإلا ماذا يمكن أن نسمي إهمال كتاب الأسس المنطقية للاستقراء وهو من إبداعات الشهيد كتظهير علمي واءم بين نظريات الغرب مستفيدًا منها وتطعيمها وتطويرها برؤية الإسلام، يسخرها كأداة منطقية في إثبات وجود الخالق، بل إثبات كثير من العقائد، وكم نحن بأمس الحاجة لهذه الأداة في زماننا هذا، حيث استطاع علماء الطبيعة التجريبيين في الفيزياء الكونية والأحياء التطورية إعلان الإلحاد كعقيدة أثبتوها بالاستقراء المنطقي التجريبي، ونشروا بذلك أفكارهم حتى في أوساطنا، لدرجة أن الإلحاد بدأ ينتشر كالمرض المعدي في أوساطنا، مما يتطلب مواجهة بنفس المنطق، ولا يوجد من وجهة نظري منطق له قدرة للمواجهة كمنطق الصدر الاستقرائي القادر على تفنيد مزاعمهم ودحضها، بل إثبات خلاف ما يزعمون، بأدواتهم التي يؤمنوا بها، إلا أننا لا ننكر تأثير كثير من إنتاجات السيد الشهيد المعرفية والفكرية في مسيرة الحضارة الإسلامية، وإحداث انزياحات وإن بطيئة في لاوعي الحوزات العلمية التي أثراها السيد الشهيد بالسبق المعرفي لزمانه، وكان لها الأثر الكبير لاحقًا ليس فقط في القضاء على الشيوعية كرياح اكتسحت المجتمعات، بل ما زالت قادرة اليوم على الرد على كثير من شبهات العصر، ومواجهة الرأسمالية مواجهة معرفية حاسمة، كونه واكب في عصره مستجداتها واستشرف المستقبل كعادته، وكفيلسوف أدرك تداعياتها على العالم ككل.
[1] السيد محمد باقر الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، مجلة الفجير(بيروت) العدد الأول-ديسمبر 1980، صفر 1401.
[2] إبراهيم العبادي، الاجتهاد والتجديد، دراسة في مناهج الاجتهاد عند الإمام الخميني والشهيدين المطهري والصدر، دار الهادي، الصفحة 29.
[3] لسان العرب والقاموس المحيط.
[4] موسوعة ويكيبيديا.
[5] الشهيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، دار التعارف، الصفحة 256.
[6] الاجتهاد والتجديد، دراسة في مناهج الاجتهاد عند الإمام الخميني والشهيدين المطهري والصدر، مصدر سابق، الصفحة 76.
[7] ومضات، الحوزة والمرجعية، إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قده، الصفحة 452.
[8] ومضات مشرقة) ١٧)، سلسة إحياء فكر الإمام الشهيد محمد باقر الصدر )١٤(، البصرة، مؤسسة الكوثر الثقافية، من محفوظات أرشيف المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قده).
المقالات المرتبطة
مسيرة ومحاولات تجديد الخطاب الديني في مصر
بعضهم يساري مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وكاتب إسلامي مثل خالد محمد خالد، وبعضهم ليبرالي مثل القاص والأديب نجيب محفوظ، الذي لم يكن باحثًا ولكنه في رواياته يدين وينتقد الخطاب الديني
بعض الملامح السياسية للإمام الكاظم(ع)
الحديث عن بعض الجوانب السياسية من حياة الأئمة (ع) ونزولًا عند الفقهاء من كل المذاهب، لا بدّ أن يكون مختلطًا بالمفاهيم الفقهية والتعاليم الإسلامية، وهذه ضرورة يقتضيها كل فكر يمتلك مقوماته الذاتية
تاريخ علم الكلام | الدرس السابع | كلام أهل السنّة من القرن الرابع حتّى القرن التاسع: تاريخ الأشاعرة وعقائدهم
سنعمل في هذا الدرس على بيان وتوضيح مسائل تتعلّق بمدرسة الأشاعرة لناحية تأسيسها وأفكارها الكلاميّة.