تجليات الأخلاق الثورية عند الإمام الحسين (ع)

تجليات الأخلاق الثورية عند الإمام الحسين (ع)

  مقدمة

   لا يمثل القول بالأخلاق الثورية بدعة، فالواقع أن العديد من الأحزاب التي قادت كفاحًا ونضالًا للتحرر الوطني أو ثورة اجتماعية قد ارتكزت إلى منظومات أخلاقية ثورية كأساس لكفاحها ونضالها مما ساهم في نجاحاتها، بل وفي استمرار وهج جاذبيتها لدى الجماهير.

   يقول المناضل الفيتنامي هو تشي مينه: ” كل شيء ينجح أو يفشل، يعتمد بشكل أساسي على ما إذا كانت الكوادر مشبعة بالأخلاق الثورية أم لا”، ويضيف هو تشي مينه في نصائحه لكوادر حزبه الفيتنامي: “حزبنا هو الحزب الحاكم. يجب أن يكون كل عضو وكادر في الحزب مشبعين حقًّا بالأخلاق الثورية، وأن يكونوا مقتصدين وصادقين ونزيهين حقًّا. يجب أن نحافظ على حزبنا طاهرًا وجديرًا بأن يكون قائدًا وخادمًا مخلصًا للشعب”[1].

   ومن البديهي أنه في مقابل الأخلاق الثورية، والتي يوحي مسماها لمنحى تغييري لما هو قائم من أوضاع؛ فإن هناك أخلاقًا محافظة تسعى بكل قوتها للإبقاء على الأوضاع القائمة والتي تعبّر عن مصالحها؛ وهنا فنحن أمام تناقض واضح بين نوعين من الأخلاق: الأخلاق المحافظة والأخلاق الثورية.

تجليات الأخلاق الثورية

   تطرح هذه الورقة عدة تساؤلات:

  • ما هي الأخلاق، وما هي الأخلاق الثورية؟
  • ما هي الأخلاق الثورية التي تبناها الإمام الحسين (ع) في ثورته، في مواجهة الأخلاق المحافظة؟
  • ما هو أثر الأخلاق المحافظة والأخلاق الثورية في أحداث الثورة الحسينية؟

   إن الإجابة على هذه التساؤلات سوف تتطلب ضرورة تعريف كل من الأخلاق والأخلاق الثورية، ثم الإشارة، باختصار، إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العالم الإسلامي قبل الثورة الحسينية والتي شكّلت منظومة أخلاقية محافظة سعت للتبرير والحفاظ على مكتسبات طبقات وشرائح اجتماعية محددة استفادت من السيطرة الأموية (السفيانية) على الدولة، قبل البدء في تناول الأخلاق الثورية للإمام الحسين (ع) والتي تبناها وسعى لنشرها، في مقابل الأخلاق المحافظة التي عبر عنها العديد من الشخصيات، التي عاصرت هذه الفترة، ومدى تأثير كلا المنظومتين على مسار وأحداث الثورة الحسينية.

  • تجليات الأخلاق الثورية

   تعرف الأخلاق أو القيم، بأنها منظومة من المبادئ والسلوكيات التي تنظم حياة الأفراد في المجتمع، ويفترض هذا التعريف أن الالتزام بهذه المبادئ والسلوكيات سيؤدي لسعادة البشرية[2].

   لا يضع هذا التعريف في الاعتبار مدى تأثير التطورات الاقتصادية والاجتماعية على الأخلاق والقيم المتبعة بشكل فعلي في المجتمع، وإنما يتحدث عن المنظومة الأخلاقية كما لو كانت حالة مجردة منفصلة تطل على الواقع من أعلى، وهو ما يثير سخط الباحثين السوفييت، على سبيل المثال، الذين يوجهون النقض لهذه التصورات: “إن صيرورة الأطيقا (علم الأخلاق) ترتبط بفرز التناقض بين المتطلبات الأخلاقية العامة المجردة وبين سلوك الناس الفعلي. فمن جهة تكشف الأطيقا التمزق الذاتي الأخلاقي للمجتمع، والنزاع الأساسي بين القيم الملازم له، مستغرقة بالتالي في جوهر العمليات الأخلاقية الجارية. وأمامها تتكشف بهذا المعنى آفاق عرفانية لا يطالها البصر. ولكن بما أن الأطيقا، من جهة أخرى، تتكلم باسم المثل الأعلى الأخلاقي المعارض للأخلاق الفعلية، فإن إمكانياتها العلمية محدودة مبدئيًّا. وهي لا تمت أساسًا بصلة إلى الأخلاق الفعلية إلا بقدر ما تنعكس هذه الأخلاق في المعايير القيمية السائدة في المجتمع”[3].

   لا يمكن إذن فصل الأخلاق عن حركة التاريخ والتطور الاقتصادي والاجتماعي، والتي تؤثر على الأخلاق الفعلية للجماهير، بعيدًا عن الأخلاق المجردة، وهو ما يؤكده الإمام الحسين (ع) في مقولته: “إن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا ينتهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما. إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون”[4]، وهنا يشير الإمام الحسين (ع) إلى مدى تأثر أخلاق الناس عمومًا بالأوضاع الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية، بل يؤكد على تأثر مدى انضباطهم وإيمانهم الديني بهذه الأوضاع.

   إن كلمة الإمام الحسين (ع) تعيد ربط الأخلاق بالواقع وليس بالفرد، فالأخلاق المحافظة تسعى إلى محاولة الإيحاء بأن “البلاء” في كلمة الإمام الحسين (ع) ناتج عن الخلل في سلوكيات كل فرد على حدة، وبالتالي فإن إصلاح الخلل لن يتم إلا عبر قيام كل فرد على حدة بإصلاح سلوكياته، وهنا تبحث منظومة الأخلاق المحافظة عن خيال لا يمكن تحقيقه على الإطلاق، بينما يشير الإمام الحسين (ع)، في كلمته الناقدة للواقع، إلى حقيقة أن إصلاح الأخلاق يرتبط أساسًا بتغيير الواقع الاقتصادي وما يفرضه من ظلم اجتماعي واستئثار طبقات وشرائح اجتماعية انتهازية بالثروة.

   إن الأخلاق الثورية إذن تمثل المنظومة القيمية التي يؤدي التزام الكوادر المالكة للوعي الثوري باتباعها في الواقع العملي “القلة الملتزمة بالدين في كلمة الإمام الحسين (ع)” إلى تحريض الجماهير على تغييره للأفضل، وتحسين شروطها الموضوعية لحياتها مما يؤدي إلى تطور المجتمع ووضع الفرد فيه والتقدم الأخلاقي[5].

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قبل الثورة الحسينية وتأثيرها على الأوضاع الأخلاقية

كان صعود الأسرة الأموية على رأس السلطة إيذانًا بعودة الأرستقراطية القبلية القديمة للسيطرة على الأوضاع مرة أخرى، فقد سُمح لها بالعودة لحيازة الأراضي والإقطاعيات، كما جرى تحويل أراضي الصوافي والتي كانت موقوفة على بيت المال إلى إقطاعات لأفراد الأسرة الحاكمة، أو من دار في فلكها من زعامات القبائل والولاة والقواد، على أن الملاحظ هو تغير شكل حيازة الأرض الزراعية والتي كانت طوال العهود السابقة قاصرة بشكل عام على “حيازة الانتفاع”، إلا أن في العهد الأموي تحول هذا الشكل إلى “حيازة الملكية”، وهو تحول جاء في إطار القوانين التي أصدرها معاوية لتقوية وضع الإقطاع، وتدلنا الوسائل الجديدة في طريقة اقتناء وحيازة الأرض على صحة هذا التصور، كان الإحياء هو الوسيلة التقليدية والتي تقوم على استصلاح الأراضي وزراعتها، وظلت هذه الوسيلة مستخدمة في العصور اللاحقة، وفي العهد الأموي ظهرت وسائل أخرى ناتجة عن التحول إلى الملكية كالشراء والتوريث، كما ظهرت وسيلة ثالثة في إطار الصراع السياسي هي غصب الأراضي الخاضعة لانتفاع الموالين لزعماء المعارضة[6].

   من ناحية أخرى شهدت الطبقة التجارية الكبرى نوعًا من الازدهار بسبب عودة الهدوء السياسي والاتصال مرة أخرى بين مناطق العالم الإسلامي، وقيام السلطة الأموية بإلغاء الإجراءات التي اتخذها علي بن أبي طالب، والواقع أن هذه الطبقة أصبح الغالبية من أبنائها من المروجين للسياسات الأموية، أما الطبقات والفئات الصغرى كصغار الملاك وصغار التجار والحرفيين وعمال الأراضي فقد عانوا من الإجراءات الأموية التي أطاحت بمكتسباتهم في عهد علي (ع)، وخاصة طبقة صغار التجار التي تضررت من عودة السماح بحيازة الإقطاعيات الكبيرة والاحتكار والذي وجه ضربة كبرى لدورها بسبب سيطرة الإقطاعيين وكبار التجار المطلقة على أسعار السلع، وبالتالي فقد شكلت هذه الطبقات النسبة الغالبة من قيادات وكوادر المعارضة بشكل عام وإن اختصت المعارضة الشيعية بتأييد الغالبية منهم[7].

    وعلى المستوى الاجتماعي فقد أدت سيطرة الإقطاع المركزي للأمويين إلى عودة نفوذ زعامات القبائل العربية مرة أخرى والتي قامت بالتآمر حتى على أبناء قبائلهم من الموالين لعلي بن أبي طالب أو المنتمين إلى الخوارج مما أدى إلى نجاح السلطة الأموية في القضاء على الكثير من قيادات المعارضة الشيعية والخارجية. كما استطاعت السلطة الأموية اجتذاب زعامات أخرى معارضة إلى صفوفها لعل أهمها شبث بن ربعي التميمي، والذي كان من قيادات الخوارج، وزياد بن أبيه وكان من المحسوبين على الشيعة[8].

   إن هذه القرارات وما أدّت إليها من نتائج لم تساهم في تقوية الإقطاع المركزي فقط، وإنما ساهمت أيضًا في ربطه بالعلاقة مع الدولة الأموية مما سمح لمعاوية بن أبي سفيان فيما بعد بمحاولة الانقلاب على أسلوب انتقال السلطة وإرساء مبدأ التوريث سعيًا لتولي ابنه يزيد الخلافة من بعده، وهو الأسلوب الذي كان مرفوضًا من قبل العرب والمسلمين عمومًا خاصة مع وجود الحسين بن علي (ع)، والذي يحظى بشرعية كبرى لكونه الحفيد الثاني للرسول (ص) إضافة إلى اشتمال المعاهدة على نص يمنحه حق خلافة الحسن (ع) في تطبيق نصوصها خاصة في البند الخاص بتولي السلطة، إضافة إلى وجود الكثير من التحفظات الأخلاقية التي سجلت على سلوكيات يزيد بن معاوية، وقد تقبلت معظم الشخصيات الإقطاعية هذا الترشيح ليزيد إلا أن معاوية فشل في إقناع القيادات الكبرى من الصحابة أو أبنائهم وهم الممثلين الأساسيين لطبقة كبار التجار والطبقات الكادحة وخاصة الإمام الحسين بن علي (ع) بتولي يزيد على الرغم من لجوئه إلى التهديد ومحاولة فرضه بالقوة[9].

 تجليات أخلاق سيد الشهداء

كانت هذه هي الأوضاع التي أعلن الإمام الحسين (ع) رفضه لها في خطبة طويلة بمكة قبل خروجه للثورة: “ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ والمعيد، فيا عجبًا ومالي [لا] أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا”[10].

في هذا النص يوجه الإمام الحسين (ع) نقدًا للأوضاع (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، وللنخبة الإسلامية كذلك والتي استسلم الغالبية منهم لمصالحه الشخصية مع السلطة تاركًا المجال لها بالعبث بمصالح وحقوق الجماهير، محملًا إياها نصيبًا من المسؤولية عن انتشار التردي الأخلاقي كالخنوع للواقع والسلطة تحت ضغط المصالح، القبول بالقهر والاستضعاف والاستعباد، الاقتداء بالأشرار، السير في الشهوات، التجبر والقسوة.

   إن طبيعة الأخلاق المحافظة في هذا الوقت كانت تسعى بقدر إمكانها إلى إبقاء الأوضاع كما هي، في محاولة لإيهام الناس بضرورة الخضوع للسلطة مهما كانت، وأن سوء السلطة يعود إليهم بالأساس[11]، وهو ما رفضه الإمام الحسين (ع) محملًا سوء وتردي الأخلاق إلى سوء السلطة والنخبة المرتبطة بالمصالح معها مستغلة وجاهتها الدينية.

الأخلاق الثورية للإمام الحسين (ع) وأثرها في الثورة الحسينية

ربما كان وضوح الرؤية ومصداقية ارتباطها بالواقع بالنسبة لأسباب الخلل الأخلاقي في المجتمع الإسلامي، هو أول الأخلاق الثورية لدى الإمام الحسين (ع)، فالخلل الأخلاقي لا يعود لأسباب ذاتية وفردية، وإنما لأسباب اقتصادية واجتماعية، والجماهير ليست المسؤولة عن فساد السلطة كما قال الحسن البصري[12]، وإنما السلطة هي المسؤولة عن فساد الجماهير.

ويمثل وضوح الحلول لهذه الأوضاع بالنسبة للإمام الحسين (ع)، وهو إسقاط السلطة وتغيير هذه الأوضاع بالقوة، خلق ثوري آخر يرفض أي نوع من المهادنة مع السلطة تحت أي شعارات تغييبية أو متظاهرة بالرزانة، تبطن تغليبًا لمصالح النخبة في تحالفها مع السلطة على مصالح الجماهير: “اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسًا في سلطان، ولا التماسًا من فضول الحطام، ولكن لنرى المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإنكم إلا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم”[13].

 كما أن الزهد في أي مكتسبات (سلطة أو ثروة) قد تنتج عن هذه الثورة وإسقاط الأسرة الأموية، في مقابل تحقيق أهداف الثورة يعد خلق ثوري ثالث: “اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسًا في سلطان، ولا التماسًا من فضول الحطام”، فهذا التغيير المنشود لا يستهدف أشخاصًا بقدر استهدافه لتغيير أيديولوجيات وأساليب السلطة القائمة.

   أما الخلق الثوري الرابع، الذي يمكن رصده في مسيرة الثورة الحسينية، فهو وضوح حجم التضحيات المتوقعة أمام الكوادر والمشاركين في الثورة، وأمام الجماهير التي يتم تحريضها، ففي كتابه إلى بني هاشم قبل خروجه لمكة كتب الإمام الحسين (ع): “من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم. أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد. ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح والسلام”[14]، وقد تكرر هذا الموقف في مكة قبل خروجه إلى العراق، حيث قام خطيبًا: “خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا ملاقيه. كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا”[15]، كما تكرر خلال مسيرة الإمام الحسين (ع) من مكة إلى الكوفة، حيث بلغته أنباء استشهاد مسلم بن عقيل، فقام بعرض الأمر على مرافقيه من أقاربه وأصحابه ومن تبعه من الأعراب، وقد ساهم ذلك بالفعل في تخلي بعض هؤلاء الأعراب عنه، وتكرر الموقف في ليلة عاشوراء عندما رفض أقارب الحسين من بني علي وبني جعفر وعقيل التخلي عنه وأصروا على القتال[16].

أما الخلق الثوري الخامس فهو رفض مساومات وإغراءات السلطة السياسية وتابعيها، ومواصلة قيادة الثورة حتى مع التيقن من فشلها، لأن الخضوع للسلطة وقبول مساومتها يعني سقوط مبادئ الثورة وقيمها بشكل كامل، ومنح الواقع المثار عليه شرعية البقاء والاستمرار لفترات طويلة قبل أن يتمكن قائد ثائر آخر من إعادة تشكيل وعي الجماهير وقيادتها للثورة: “ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلة الناصر”[17].

 لقد ساهمت الأخلاق والقيم الثورية للإمام الحسين (ع)، وصلابة موقفه في مواجهة السلطة الأموية في تغيير موقف أحد قادة الجيش الأموي وهو الحر بن يزيد الرياحي، قبل لحظات من المعركة، ونجاحه في التغلب على ضغط مصالحة الشخصية لمصلحة إيمانه: “إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيء ولو قطعت وأحرقت”[18]، في الوقت الذي تمسك عمر بن سعد بن أبي وقاص بهذه المصالح وقبل بأن يقاتل الحسين (ع) للاحتفاظ بولاية الري، وفي حواره مع الإمام الحسين (ع) أبدى خوفه من أن تهدم داره وتسلب منه ضيعته، ولم تكن تلك المبررات سوى تجسيد لمصالحه الشخصية مع الأمويين، في الوقت الذي اتخذ فيه الحر بن يزيد قرارًا في لحظات أدى به للتضحية بحياته وللاستشهاد مع الإمام الحسين (ع)[19].

   الخاتمة

   يجادل الكثير من الباحثين في جدوى ثورة الإمام الحسين (ع)، وجدوى إصراره على القتال على الرغم من معرفته بالنهاية المحسومة لمصلحة الأمويين، والواقع أن حركة التاريخ تشير بوضوح إلى جدوى ما فعله الإمام الحسين (ع)، حيث لم تتمكن الدولة الأموية من الصمود كثيرًا عقب استشهاده، كنتيجة مباشرة للأخلاق والمبادئ الثورية التي تمسك بها دون مساومة، الأمر الذي أحرق الأمر تحت أرجل الأسرة السفيانية وأسقطها سريعًا، ولم تلبث أن سقطت كل الأسرة الأموية على يد العباسيين بعد سبعين عامًا من حادثة كربلاء، ولولا هذا الإصرار من الإمام الحسين (ع) على المواجهة ورفض المساومة السياسية مع السلطة لاستمرت الأسرة الأموية لفترات أطول، واكتسب منهاجها الاقتصادي والاجتماعي وأدائها السياسي شرعية دينية، وهو ما كان يرفضه الإمام الحسين (ع).

[1] لينه مان، الأخلاق وبناء الأخلاق الثورية عمل مهم جدًّا، مقال بموقع صحيفة لام دونج أونلاين الفيتنامية https://baolamdong.vn/. منشور بتاريخ 18 يونيو 2023. شوهد بتاريخ 9 يوليو 2024. متاح من الرابط: https://baolamdong.vn/chinh-tri/202306/dao-duc-va-xay-dung-dao-duc-cach-mang-mot-cong-viec-rat-he-trong-ec50ec9/.

[2] السيد محمد عبد المجيد وآخرون، الأخلاق: مفهوم ورؤية، دراسة بالمجلة العربية للقياس والتقويم الصادرة عن الجمعية العربية للقياس والتقويم، القاهرة (يوليو) 2021، المجلد 2، العدد 4، الصفحة 24.

[3] بكشتانوفسكي وآخرون، علم الأخلاق، بدون ذكر اسم المترجم، موسكو، طبعة دار التقدم، 1990، الصفحة 7.

[4] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، طبعة دار إحياء التراث، الطبعة 3، 1983، الجزء 75، الصفحتان 116، 117.

[5] بكشتانوفسكي وآخرون، المصدر السابق، الصفحتان 68، 69.

[6] أحمد صبري السيد علي، الجذور الطبقية لثورة الإمام الحسين، بيروت، طبعة دار الحمراء للطباعة والنشر والتوثيق والتوزيع، الطبعة 1، 2008، الصفحتان 107، 108.

[7] أحمد صبري السيد علي، الجذور الطبقية لثورة الإمام الحسين، المصدر السابق، الصفحتان 108، 109.

[8] المصدر نفسه، الصفحة 109.

[9] المصدر نفسه، الصفحتان 109، 110.

[10] بحار الأنوار، المصدر السابق، الجزء 97، الصفحة 80.

[11] إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، بيروت، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة 2، 1351 هـ، الجزء 1، الصفحة 147. (رواه الطبراني عن الحسن البصري أنه سمع رجلًا يدعو على الحجاج فقال له لا تفعل أنكم من أنفسكم أوتيتم إنما نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير، فقد روى أن أعمالكم عمالكم وكما تكونوا يولى عليكم).

[12] كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، المصدر السابق، الجزء 1، ص 147.

[13] بحار الأنوار، المصدر السابق، الجزء 97، الصفحتان 80، 81.

[14] المصدر نفسه، الجزء 44، الصفحة 330.

[15] المصدر نفسه، الجزء 44، الصفحتان 366، 367.

[16] أحمد صبري السيد علي، الجذور الطبقية لثورة الإمام الحسين، المصدر السابق، الصفحات 117، 120.

[17] رضي الدين علي بن طاووس، الملهوف على قتلى الطفوف، تحقيق: الشيخ فارس تبريزيان الحسون، تهران، طبعة دار الأسوه للطباعة والنشر، الطبعة 4، 1425 هـ، الصفحة 156.

[18] المصدر نفسه، الصفحة 159.

[19] بحار الأنوار، المصدر السابق، الجزء 44، الصفحات 384، 388، 389.



المقالات المرتبطة

الإنسان والعقل والمعرفة في فلسفة السهروردي الإشراقية

يحتل السهروردي بمقولاته الفلسفية موقعًا متميزًا في الفلسفة والفكر الإسلامي، فهو يحمل في طياته مشروعًا مثيرًا، يطرح كثيرًا من الأسئلة، لا يمكن الهرب منها أو التغاضي عنها

وجهة نظر خاصة  حول الطبقية والبرجوازية في تاريخ الأمة

عندما كتب المؤرخون كتب التاريخ، جاءت كتاباتهم فيها نوع من الطبقية المشين، يدافعون عن الأمراء ضد الفقراء، والسلاطين ضد الدهماء

الفلسفة السياسية لولاية الفقيه

منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة على أسس علمانية في أوروبا انتقلت أفكارها إلى العالم الإسلامي بما تحمله من مشكلات مع الدين (الكنيسة)

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<