نشأة المدن: دراسة في أنثروبولوجيا الاستيطان
المقدمة
إن نشأة المدن والتجمعات السكانية من الظواهر المهمّة في حياة الإنسان كونها تعكس الطبع الاجتماعي لهذا المخلوق، سواء أكان طبعه الاجتماعي هذا مرتبط بالحب أو بالكره.
تبيِّن الدراسات التاريخية والآثارية أن أول التجمعات السكانية المستقرة قد ظهرت على سواحل البحار، وكذلك على ضفاف الأنهار، وكانت هذه التجمعات في البداية حول مصادر المعيشة، وحول المراكز الدينية، فكانت في البداية كقرى متفرقة، ثم انبثقت المدن عن تلك القرى البسيطة، وقد ظهرت وتكونت المدن نتيجة تطور القوى العاملة المنتجة التي عملت في الحرف المختلفة[1].
كما ولقد اختلط العمل المهني في أماكن التجمعات بالاستثمار الزراعي، لذلك كانت المدينة مركزًا زراعيًّا وحرفيًّا وتجاريًّا، بالإضافة إلى كونها مركزًا دينيًّا وإداريًّا.
نشأة المدن والتجمعات السكانية
إن نشأة وتطور المدن والقرى قد ارتبط بطبيعة ونوع المساكن (البيوت) التي كان الإنسان يسكن فيها، فلا يمكن أن نعتبر أن أول المدن قد تكونت من الكهوف، أو في المناطق الجافة، أو في المناطق البركانية.
ذلك أن شرط نشوء المدن هو تمتعها بنوعٍ من الاستقرار، إضافة إلى سبب للبقاء، ومصدر للعيش، وقدرة على التطور والتكاثر، مع إمكانية الصمود أمام التقلبات والأخطار الطبيعية والبشرية.
ولقد أبدعت موهبة الاختراع البشرية تنوعًا هائلًا لأشكال البيوت ولّدتها ظروف مراقبة التقلبات المناخية والإمكانات الجغرافية. فمثلًا نجد أن المساكن الواقعة قرب البحيرات والمستنقعات قد شيدت فوق أعمدة أو عوازل معينة، فالبيوت هي محل للسكينة والاستقرار النفسي، قال تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً﴾[2].
وكذلك هي محل للشعور بالأمن والاستقرار من الطوارق والأخطار، قال تعالى: ﴿وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ﴾[3].
إن الإنسان عندما بدأ بكتابة تاريخه، وحين بدأ عصر الثقافات الراقية، فإن مجموعات كبيرة من القبائل اتحدت معًا لتشكل مجتمعات تتجاوز مفهوم القرية، ساعد على ذلك أدوات العمل التي اخترعها الإنسان وطورَّها على استخدام الحجارة المطروقة كمادة لبناء المساكن والمنشآت العامة فنشأت المدينة.
لم تكن الأبنية والنصب الضخمة مجرد شواهد على السلطة والغنى، بل أيضًا على متانة البناء الذي استطاع الصمود عبر القرون، وما بقي منها لحد الآن إلا شاهد وعبرة على ذلك.
قال تعالى: ﴿وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾[4].
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾[5].
إن المدن تتصف بكونها أماكن مركزية تقوم بتقديم خدماتها ووظائفها لسكانها، فضلًا عن سكان الإقليم، ومن هنا فهي تعبِّر عن أهميتها الاجتماعية والاقتصادية ضمن إطارها الإقليمي، ويمكن التعبير مورفولوجيًّا من تلك المعالم الجغرافية التي تحدّد الهوية الوظيفية للمدينة بمظهرها، وهو الكل المرئي منها خطة المدينة ونمط أشكال الأبنية ونمط قطع الأراضي التي تعمل بصيغة متفاعلة وذات رباط وثيق وعلاقة عضوية جدلية تؤكد الحقيقة الجغرافية لذلك المظهر العام. كل ذلك وفقًا لطبيعة العوامل والمتغيرات التي أسهمت في تشكيله طبقًا لطبيعة المرحلة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا وتقنيًّا، وطبيعة التحولات والمتغيرات ضمن سلسلة التراكم الحضري (تاريخيًّا).
إن البحث في مورفولوجيا المدينة ـ أي مدينة ـ إنما هو خوض وظيفي ومكاني لإعطائها هويتها وتحديد ملامحها كحقيقة جغرافية، ومن ذلك طبيعة التفاعل بين (الوظيفة) و(الشكل) اللذان هما عاملان غير متشابهين، إذ غالبًا ما تكون العلاقة بينهما معقدة وصعبة الفهم عبر مراحل تطور المدينة.
لقد وضعت تفسيرات عديدة لنشأة المدينة، كانت الأولى منها تدور حول قضية حفظ الكيان الإنساني من الأخطار الطبيعية والبشرية، تبعها بعد ذلك تفسير تجاري لنشأة المدينة هو في حقيقته تفسير قائم على وجود التجمع الأول الذي أشرنا له، إذ لم يخرج عنه، بل هو متفرع عنه، فمثلًا (إن التفسير العسكري لأصل المدينة يمتُ بصلة كبيرة إلى التفسير السياسي، ذلك التفسير الذي يبيَّن أن الناس، من تجار وحرفيين، كانوا يجتمعون في هذه الحصون والقلاع لأجل حماية أنفسهم وتجارتهم من خطر الغزوات والهجمات. وبمرور الزمن تتزايد أهمية ذلك الموضوع بزيادة حجم التبادل التجاري فيتحوَّل إلى مدينة. والمدينة السياسية عند أنصار التفسير السياسي تُعدُّ من أقدم أنواع المدن وأكثرها وضوحًا)[6].
تعريف المدينة
إن تعريف المدينة قد وقع الاختلاف فيه أيضًا عند المتخصصين أنفسهم، فما الذي يعنيه هؤلاء بالمدينة؟ فمن بين التحديدات التي توصَّل إليها المتخصصون الذين يميلون إلى نظرية السكان والعوامل الاقتصادية التعريفات الثلاثة الآتية:
- المدينة هي المكان الطبيعي للفرد المتمدن المتحضر؛ وذلك لأنها تمثل رقعة حضارية خاصة.
- المدينة هي أي مكان مستقر ينشغل فيه أكثرية شاغليه بأنماط إنتاجية غير النمط الزراعي.
- المدينة هي أي مكان محدد من الأرض يجتمع فيه الناس من مختلف الأجناس. وأن تكون نسبة تجمعهم كثيفة.
ولقد حدد الباحث الاجتماعي (فيليب هوسر) جملة شروط وخصائص لتحديد وضعية مكان ما من الناحية التمدنية وشروطه هي: توافر الكثافة في حجم السكان، والتقدم التكنولوجي، ومدى الإمكانية في السيطرة على الظروف الطبيعية، وتطور المؤسسات الإنتاجية والاقتصادية والسياسية[7].
على أن الأمر وبشكل عام لم يكن بعيدًا عن فكر العلماء المسلمين من جغرافيين وبلدانيين أو مؤرخين، فلقد كانت لهم نظرتهم العلمية الخاصة، كما وأنهم قد أسهموا في تحديد المعايير الخاصة لما يسمى بـ(المِصْر)، أو(المدينة).
فمثلًا نجد أن العالم الجغرافي (المقدسي) قد وضّح في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) شروط المدينة أو المِصر إذ يقول: إن المِصْرَ في رأي الفقهاء يقصد به كل بلد جامع تقام فيه الحدود ويحله أمير ويقوم بنفقته، ويجمع رستاقه. ثم يقول معقبًا: إن المصر كل بلد يحله السلطان الأعظم ويجمع فيه الدواوين وتقلد منه الأعمال[8].
وهذا ما نجده كذلك عند ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي[9]، وعند ابن خلدون في مقدمته[10].
أسباب نشأة المدن في المنظور القرآني
لقد ذُكرت أسباب عدة لنشأة المدن، وتكوَّنها، وتطورها، انطلقت وتنوعت هذه الأسباب بتنوع العلوم الباحثة في هذه النشأة. أما في إطار الأنثروبولوجيا الاجتماعية فقد ذُكرت عدة أسباب لنشأة وتطور المدن أوردتها كتب الأنثروبولوجيا بشكل عام من غير أن تتطرق للتفاصيل.
وبما أن بحثنا يتعلق بالأنثروبولوجيا القرآنية، لذا سنحاول الوقوف عند مجمل الإشارات القرآنية التي وردت في الآيات المباركة حول جملة من أسباب نشأة المدن، وهذا لا يعني أن (نتعبد) بذلك، فالقرآن أورد ذكر الكثير من الأشياء من باب (المثال)، فهدف إعطاء العبرة هو هدف مهم يضاف إلى الهدف التشريعي الأساسي للقرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً﴾[11].
إن القرآن الكريم يورد لنا إشارات جميلة حول أسباب نشأة المدن، ويذكر لنا تنوّع أسباب النشأة للتجمعات السكانية المكونة للمدن وأهدافها، ومن تلك الأسباب يمكن ذكر ما يأتي:
- أسباب دينية
تعتبر الأسباب والعوامل الدينية من أهم العوامل التي جمعت الناس في مكانٍ واحد من أجل هدفٍ واحد ألا وهو (العبادة). فلقد كان للعامل الديني السبب الأساس والرئيس في نشأة الكثير من المدن، وهو في التاريخ القديم أكثر منه في التاريخ الحديث.
لقد كان للمدن – من حيث التأسيس – صبغة دينية عند البابليين والآشوريين والسومريين، والمصريين، بل عند كل الشعوب القديمة من (مايا) و(ازتك)، وفي بلاد الهند وآسيا القديمة، وأفريقيا، وجميع الأصقاع الأخرى.
ففي مصر، كانت المدن تسمى بأسماء الآلهة، مثال ذلك بوصير؛ وهي بيت الإله أوزيرس، وبويسطه؛ بيت الإله يسط، وميرمانتو؛ بيت الإله منتو، وتون آمون – مدينة آمون – وفي اليونان بدأت أثينا كمعبد للآلهة أثينا[12]. وعند السومريين أسست المدن للعبادة كمدينة نيور وأريدو، فالمدينة عندهم نطاق مقدس[13].
فنشأة المدينة متعلق بنوع الارتباط الحاصل بينها وبين الحدث الديني (الخارق)، الذي تأسست من أجله المدينة بما له من انتخاب مكاني وفيزيوغرافي.
فالمدن الدينية تنشأ في الأغلب حول نواة صغيرة هي في الأصل صنم أو حجر مقدس أو ضريح أو قبر، وهذه النواة تكون أول مظهر لنشأة المدينة، فعندها تولد التجارة والصناعة، وعندها ينشأ أول سوق للمدينة، ثم تنمو أوجه النشاط الأخرى مع الزمن، وتجتذب المدينة السكان تدريجيًّا، وينحصر كل النشاط المدني داخل هذا الإطار الديني الرئيسي، وبهذا الشكل استطاعت المدن الدينية أن تكون مراكز للتجارة والصناعة والثقافة بمرور الزمن[14].
أما لو جئنا إلى القرآن الكريم، فإن هذا المعنى في نشأة المدن موجود، وسنستدل بآية مباركة لها مدخلية كبيرة في أهم ركن من أركان الدين الإسلامي، ألا وهو؛ (الحج)، والآية تتحدث عن اتخاذ النبي إبراهيم (ع) مسكنًا له في مكان مقفر، عند (البيت الحرام)، ثم عقب (ع) بالدعاء عسى أن يكون هذا المكان عامرًا بالناس، وأن يكون مهوًى للأفئدة.
قال تعالى: ﴿رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾[15].
فعلى الرغم من عدم توفر مؤهلات العيش الرغيد في هذا المكان الصحراوي المقفر إلا أن السبب الديني كان له الدور الكبير في نشوء مثل هذه الحاضرة الكبيرة حول (بيت الله تعالى).
كذلك الحال بالنسبة للمدينة المنورة (يثرب)، فلقد (تحوَّل اسم يثرب في الإسلام إلى المدينة وهو اسم علم واسم نوع معًا. وقد كان المسجد أول بناء يقام في المدينة الإسلامية الجديدة، حيث أصبح مقرًّا للزعامة العربية الإسلامية وباعث النهضة فيها، وقد أضفت البساطة التي لزمت العرب في الصحراء والبادية طابعها على المسجد في أول نشأته، كما أنه يعتبر بحق أول دعامة من دعامات الفن الإسلامي وأول أثر من آثار النهضة الإسلامية)[16].
لقد كانت جميع الأديان بشكل عام، والدين الإسلامي بشكل خاص مشجعة على الحياة الحضرية، وحياة الاستيطان، وحياة الاستقرار، ناقدة لحياة (الأعراب)، ولحياة (البداوة) التي أساسها عدم الاستقرار المكاني، والذي يؤسس في النفوس خصلة (عدم الاستقرار) في كل شيء، فالإنسان ينمو ويتطور بـ(التجذّر) حاله بذلك حال الأشجار، فإنها حين تُقطع ستموت، لأنه من الصعب أن نعمّق شعور الوطنية، وقدسية المكان عند من ديدنه الترحال الدائم.
فالإسلام دين المدنية، وقد بنيت كثير من أسسه لتسير مع حاجات المجتمع الحضري المتنوعة، والنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه أعطى الحياة المدنية أهمية دينية عندما أعلن للمسلمين أن يتوجهوا إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة لاعتناق الإسلام، وهو بهذا يقصد ضمنًا تشجيع الهجرة إلى المدن واحترام حياة الاستقرار[17].
كما ونجد ذلك ظاهرًا، جليًّا، وواضحًا في الأحاديث المباركة التي شجعت على اتخاذ الدار الواسعة، والمستقر المكاني اللائق.
- أسباب اقتصادية
يذكر بأن ظاهرة نشأة المدينة هي نتيجة الانتقال من اقتصاد القرية إلى اقتصاد المدينة، ومن اقتصاد البداوة إلى اقتصاد الحضر، نتيجة التوسع في الإنتاج، وفي عدد السكان، تبعًا لنوع الرخاء الذي يعيشه السكان.
إن كل الشعوب قد مرّت باقتصاد القرية قبل وصولها إلى اقتصاد المدينة، فكلما تحولت قرية إلى مدينة فإن العامل الاقتصادي يعتبر من أهم العوامل في تكونها ونشأتها.
إن التوسع الكبير للإنسان نحو الحِرف والمِهن التي هو بحاجة لها مثل (الزراعة، والرعي، والتجارة)، قد أوجد ضرورة ملحَّة لقيام (المدينة)، فتكونت بذلك سلسلة شبكات المدن المتقاربة، والمتجاورة.
لقد كانت أسباب الحاجة هي المؤسس لظهور المدن، فإن انتفاء الحاجة لشيء سببٌ في اندثاره، فالتاريخ وعلم الآثار يحدثاننا عن أسباب نشوء مدن، وعن أسباب اندثار مدن أخرى.
فمثلًا يشير (اليعقوبي) إلى نص مهم في تاريخه عن أمور مهمة حصلت في أيام حكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب تخص المدن ألا وهي: (إن الإمام علي قد أمر بحفر الأنهر وشق الترع وتطهيرها، فكتب إلى عامله قرظة بن كعب الأنصاري: أما بعد فإن رجالًا من أهل الذمة من عمالك ذكروا نهرًا في أرضهم قد عفا واندفن، وفيه عمارة على المسلمين، فانظر أنت وهم ثم أعمروا ما يصلح النهر، فلعمري لئن يعمروا، أحب إلينا من أن يخرجوا، وإن يعجزوا أو يقصروا في واجب من صلاح البلاد، والسلام)[18].
لقد سكن البشر إلى جوار البحر – على سبيل المثال – من أجل الصيد، والقرآن الكريم يشير إلى ذلك:
قال تعالى: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ﴾[19].
إن استعمال تعبير (القرية الحاضرة) يبرز بجلاء كونها مدينة وأنها حاضرة البحر؛ أي بمعنى (المدينة المرفأ) التي تردها السفن لكونها ميناءً.
وقال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾[20].
فالقرية التي يأتيها الرزق من كل مكان يُفهم منه بأنها ميناء، أو مركز تجاري، أو نقطة التقاء وتجمع كونها مفترق طرق مهم للتجارة والحل والترحال.
لقد كان لرحلات التبادل التجاري الدور الكبير في الانتعاش الاقتصادي وظهور مناطق، وقرى، وبلدان عديدة بسبب ذلك والتي لم تكن موجودة أصلًا.
قال تعالى: ﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾[21].
- أسباب سياسية
لقد اقترن تأسيس مدن كثيرة عبر مراحل التاريخ بقيام الدول ونشأتها، فكل دولة تقوم لا بدّ أن تتخذ لها مركزًا للحكم، أو مقرًّا للسلطان أو الإمبراطور، أو دارًا للخلافة، أو عاصمة للدولة.
لقد اندمج العامل السياسي في نشأة المدن بالعامل الإداري، فلقد تشكلت المدينة سياسيًّا بشكل الوحدة المكانية الإدارية التي قامت من أجلها وتناسبت معها وتطورت بتطورها. وإن ذلك لعدة اعتبارات منها على سبيل المثال لا الحصر:
أ . العلو والرفعة
فمن طبيعة الإنسان (التفاخر، والتباهي)؛ إذ قد دخل هذان العاملان ـ على سبيل المثال ـ في كل تفاصيل حياته، فهو يريد أن يتفاخر ويتباهى بكل شيء صغيرًا كان أم كبيرًا، تافهًا كان ذلك الشيء أم قيمًا، حتى تحوَّل التفاخر عند البعض إلى أشبه بالمرض العضال. فكان من مصاديق هذا التباهي بناءه للقلاع والقصور والحصون بما يبهر العقول، ويسحر العيون.
إن التاريخ حافل بالصروح الباقية إلى وقتنا الحاضر لتعطينا دليلًا على ذلك، ولتكون لنا عبرة.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى﴾[22].
فهذه الأهرامات تعدّ دليلًا شاخصًا على طموح الإنسان نحو التفاخر والتباهي، ونحو العلو والرفعة.
وكذلك (سبأ) تلك الحضارة العريقة التي بنيت من أجل العلو والرفعة، والتي ذكرها القرآن الكريم في آياته لإعطاء العبرة في ذلك.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ﴾[23].
حتى وصل العلو والرفعة إلى حد التجبر والتكبر الخارج عن نطاق المألوف، فنجد ـ مثلًا ـ أن فرعون يأمر وزيره هامان أن يبني له برجًا عاليًا ليرى رب موسى (ع) كما ادعى.
قال تعالى: ﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبابَ * أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ﴾[24].
ب . الحروب
ومن ذلك الفتوحات، والغزوات، فقد تشكلت تجمعات في مناطق معينة، كانت في البداية حول قرى صغيرة، أو حول مصادر المياه، أو قرب واحاتٍ معينة، حتى وبمرور الوقت تشكلت وتكوّنت منها مدن عامرة ومشهورة، ظلت أسماؤها مخلَّدة في التاريخ (فأصبحت هذه المدن مركزًا للفتوح والإدارة، فقد كانت كل الجماعات القبائلية التي صحبت الجيوش العربية الإسلامية تحت مساحات معينة مركزها منطقة ملمومة واضحة الشخصية، سهلية مكشوفة قابلة للسكن والزراعة، ولو أنها كانت هامشية أو على رابية، ومثل هذا التشكيل الحضري من وحدات السكنى كان عاملًا مساعدًا للبدايات السياسية)[25].
ومن أمثلة ذلك ـ على سبيل المثال ـ مدينة يثرب (المدينة المنورة)، و(الكوفة)، ومدينة (الفسطاط).
ج . الهجرات القسرية والهروب من الظلمة
يشير القرآن الكريم في جملة من آياته المباركة إلى طبيعة وكيفية تشكل الجماعات والتجمعات، وذلك إثر أسباب متنوعة ومتعددة كالهجرات القسرية ـ مثلًا ـ والتي كانت بسبب الظلمة، وللنجاة منهم، أو ما كان سببها عداوة عرقية، أو قبلية، أو دينية، أو أسباب أخرى.
إن في التاريخ أمثلةً كثيرةً على الهجرات القسرية، ولقد أورد القرآن الكريم إشاراتٍ عنها، ومثال على ذلك هجرة المسلمين إلى الحبشة، فلولا هذه الهجرة لم تشتهر الحبشة ـ جغرافيًّا ولا تاريخيًّا ـ إطلاقًا.
وكذلك الهجرة إلى يثرب (المدينة المنورة) والتي كانت الانطلاقة الكبرى نحو بناء الدولة الإسلامية على يد النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ﴾[26].
كما وإن القرآن الكريم قد أكد على أن المهاجرة قد تكون للنجاة بالحياة، والدين، بل وحتى في طلب الرزق.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾[27].
وكذلك فإن للهجرة أهمية كبيرة في طلب العلم، وفي التبليغ، والإرشاد.
قال تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[28].
أسباب خراب المدن واندثارها في المنظور القرآني
إن لخراب المدن أسبابًا أدّت إلى ذلك، ومن جملة تلك الأسباب ما يمكن أن نجمله في الموارد الآتية:
- الحروب والصراعات
إذ إن للحروب والصراعات أثرًا كبيرًا في خراب المدن واندثارها، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في أكثر من آية، وأعطى أكثر من سبب داخلي لذلك، منها:
أ. الفساد والإفساد
قال تعالى: ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً﴾[29].
ب. الغزو
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[30].
فيتبين من الأسباب السالفة الذكر أهم ما يسبب الخراب والاندثار للمدن، ولانتهاء الحضارات.
- الغضب الإلهي
إذ إن القرى عندما تكفر، وتخرج عن أمر الله تعالى فلا بدّ لها من رادع، فكان الرادع الأكبر هو الغضب الإلهي المتمثل بخسف القرى، وتدميرها، حفاظًا على النقاء الإنساني، ولإعطاء الدروس والعبر لكل بني الإنسان، ولصدق الوعد الإلهي تأييدًا لأنبيائه ورسله عليهم السلام.
قال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ * فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ﴾[31].
وقال تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ﴾[32].
- العوامل الجغرافية والمناخية
إن الطبيعة تحاول فرض نفسها على المدينة، أما الإنسان فيحاول جاهدًا أن يكيِّف نفسه ومدينته لهذه العوامل. لذا فعليه أن يتجنب جملةً من الأمور والتي منها:
أ. الابتعاد عن البناء في الأماكن التي تكون عرضة للكوارث الطبيعية: كالبراكين والبحار والمحيطات عند هيجانها، والجبال وانهياراتها، وما شاكل ذلك.
ب . أن يبني بنيانًا يتحمل ويتلائم مع العوامل المناخية: أي يتناسب مع الظروف الجغرافية التي يعيش فيها، فلا يبني بيتًا ـ على سبيل المثال ـ من خشب في ظل بيئة أعاصير ورياح عاتية وحرائق غابات. ولا يبني بيتًا من طين في ظل بيئة ماطرة ورطبة دائمًا.
والقرآن الكريم في مجال تناوله للعوامل الجغرافية والمناخية قد أشار إلى أمثلة قرآنية غير مباشرة حول الطبيعة ومقارنتها بأعمال الإنسان في آياتٍ متفرقة[33].
المراجع والمصادر:
أ . العربية
ـ المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، بيروت ـ لبنان، دار الكتب العلمية، ط1، 1423هـ.
ـ مصطفى عباس الموسوي، العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية والإسلامية، بغداد ـ العراق، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دراسات (295)، 1982م.
ـ ابن خلدون، المقدمة، بيروت ـ لبنان، مؤسسة الأعلمي، ط1، دون طبعة، دون تاريخ.
ـ جيمس هنري برستد، انتصار الحضارة، ترجمة: أحمد فخري، القاهرة ـ مصر، الناشر: المركز القومي للترجمة، 2012 م.
ـ أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر (ت 284 ﻫ)، تاريخ اليعقوبي، بيروت ـ لبنان، ط1، 1960م.
ـ ياقوت الحموي شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الرومي البغدادي (ت 626 هـ)، معجم البلدان، مصر ـ القاهرة، مطبعة السعادة، ط1، 1906 م.
ـ طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، بيروت ـ لبنان، دار الوراق للنشر والتوزيع، 2009 م.
ب . الأجنبية
1- Kenneth, Bolding: “The Death Of The City: A Frightened Look At Past Civilization” In The Historian And The City.
2- Philip Hauser: Urbanization: An Over –View In The Study Of Urbanization .
[1] كـ (استخراج المعادن وتصنيعها، وأعمال البناء، وصناعة الأنسجة والملابس، وغيرها).
[2] سورة النحل، الآية 80.
[3] سورة الحجر، الآية 82.
[4] سورة العنكبوت، الآية 38.
[5] سورة الصافات، الآيتان 137و 138.
[6] Kenneth, Bolding:” The Death Of The City: A Frightened Look At Past Civilization” In The Historian And The City, P.133.
[7] Philip Hauser: Urbanization: An Over –View In The Study Of Urbanization, P.102.
[8] المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، الصفحة 47.
[9] ياقوت الحموي، معجم البلدان، الجزء4، الصفحة 114، الصفحة 421، والجزء5، الصفحة 396، الصفحة 389.
[10] ابن خلدون، المقدمة، الصفحات 347، 360.
[11] سورة النازعات، الآية 26.
[12] انظر: طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، الصفحة 167.
[13] انظر: جيمس هنري برستد، انتصار الحضارة، ترجمة: أحمد فخري، الصفحة 165.
[14] انظر: مصطفى عباس الموسوي، العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية والإسلامية، الصفحة 159.
[15] سورة إبراهيم، الآية 37.
[16] Religion Deffontaines Pierre, Geography , p 147.
[17] انظر: مصطفى عباس الموسوي، العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية والإسلامية، الصفحة 158.
[18] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، الجزء2، الصفحة 179.
[19] سورة الأعراف، الآية 163.
[20] سورة النحل، الآية 112.
[21] سورة قريش، الآيات 1- 4.
[22] سورة النازعات، الآية 26.
[23] سورة سبأ، الآية 15.
[24] سورة غافر، الآيتان 36و 37.
[25] العوامل التاريخية لنشأة وتطور المدن العربية الإسلامية، مصدر سابق، الصفحة 127.
[26] سورة الأنفال، الآية 5.
[27] سورة النساء، الآية 100.
[28] سورة التوبة، الآية 122.
[29] سورة الإسراء، الآيات 4- 7.
[30] سورة النمل، الآية 34.
[31] سورة الأعراف، الآيتان 4 و5.
[32] سورة الفجر، الآيات 6-13.
[33] كـ (الآية 109 من سورة التوبة، والآية 264 من سورة البقرة، والآية 18 من سورة إبراهيم).
المقالات المرتبطة
أخلاقيات الثورة العاشورائية وشفافيتها وعدم مواربتها
بدايةً إنَّ أيّ حدث تاريخيّ، مهما كان عظيمًا، ينتهي بغياب أصحابه عن مسرح الحياة، ويصبح حديث تاريخ، ويدوّن في كتبه، وتذكر دلائل تواجد أشخاص الحدث، أو حدوث أحداث معينة يتم تخليدها
تأمّلات بشرية في حمل ومولد الكلمة المقدّسة السلام على الأرض والمسرّة للناس
في عيد ميلاد السيد المسيح، نذكّر أنفسنا والناس جميعًا، بالسلام والمحبة، والتي هي خلاصة دعوة المسيح عيسى(ع)، وهي نفس دعوات كل الأنبياء، وكل المصلحين، وكل الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام
الركائز الإبستيمولوجية للعلمانية(1)
يمتاز عصر النهضة بثلاثة أحوال هي:
تقديم “الأسباب” على “الأدلّة” في إعادة دراسة الرؤى والظواهر وعرضها.