حينما صار الحسين وحيدًا في كربلاء، بعدما فقد كل من كان معه في أرض المعركة على يد جنود جيش يزيد بن معاوية، صرخ صرخته الخالدة بين أجساد أنصاره الملقاة على الثرى: “أما من مغيث يغيثنا لوجه الله، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله”[1].

يتعجَّب المؤرخون من تلك الصَّيحة ويتساءلون: لمن هذه الصَّرخة؟ من تنادي يا حُسين؟ كل من كان معك قد قتل، وظللت أنت وحيدًا غريبًا تذوق مرارة الظُّلم. لكنَّ أصحاب القلوب المرتبطة بـالإمام الحُسين ومظلوميَّته، الوالهةَ بحبّ النَّبي محمَّد وآل بيته وصلتهم الرّسالة، وهمُّوا بالإجابة؛ فقد وصلت إليهم رسالة الحُسين واضحةً جليَّةً عبر الأزمان والعصور.

التَّوابون يُلبُّون النّداء.

كان سُليمان بن صُرَد ممَّن أسلم في عهد النَّبي وحارب معه في غزوة الخندق، ثمَّ بايع علي وشهد حرب صفين[2]، ظلَّ على ولائه لآل علي الحسن، والحسين، إلى أن جاءت لحظة الاختبار الأعظم، وهي توجُّه الحسين (ع) إلى كربلاء للوقوف أمام جبروت يزيد. جمع سليمان بالفعل رؤوس الشَّيعة في الكوفة وسألهم إن كانوا مبايعين للإمام الحسين وعازمون على نصرته، أم سيتخلون عنه. وأجاب الجميع دعوة ابن صرد. أرسلوا المراسيل للإمام كي يُعلنوا له عن مساندته، لكنَّهم في لحظة الحقيقة خذلوه وتركوه وحيدًا هو وأصحابه.

قيل إن ابن زياد حاصر المدينة ومنعهم من الخروج، وقيل إنَّ شيعة علي الذين بلغوا أربعة آلاف مقاتل حُبسوا جميعهم، وقيل كذلك إنَّهم خذلوه وخشوا من سطوة ابن زياد وعقوبته. لكنَّ النَّتيجة أنَّهم لم يكونوا في نُصرة الحسين وتركوه محاصرًا عطشانًا حتى قُتل على يد شِرار الخَلق.

إلَّا أنَّه بعد استشهاد الحسين، وبعد ندائه الخالد الذي ربَّما استمع إليه سليمان بقلبه الذي تفطَّر ألمًا على فراق الحسين، خرج إلى أصحابه من شيعة الحسين، وجمع رجالهم كلَّهم وأقاموا جيش التَّوابين، الذين ندموا على خُذلانهم الحسين، وأصرُّوا على الثَّأر من قتلته، وبايعوا سليمان بن صرد على الشَّهادة من أجل تحقيق هذا الهدف الشَّريف.

قاد سليمان جيشه لمواجهة جيش يزيد بن معاوية. أربعة آلاف مقاتل يتَّجهون نحو عين الوردة، المكان الذي سيشهد مقتلة عظيمة لجيش التَّوابين الذي أنصَتَ لصرخة الحسين[3]، وخرج لتحقيق العدالة التي طالب بها الحسين الشَّهيد. في عين الوردة واجه جيش التَّوابين جيش يزيد المكوَّن من عشرين ألف جندي، لكنَّ جيش ابن صرد لم يهن ولم ينسحب، بل أصرَّ على تلبية نداء الحسين حتى آخر جندي يبقى حيًّا، ورغم استشهاد غالبية جيش التَّوابين إلَّا أنَّ ابتسامة نصرٍ ارتسمت على شفة كلّ شهيد منهم، فقد أدُّوا تكليفهم في نُصرة الإمام الحسين، حتى ولو جاءت الإجابة متأخرة.

المُختار الَّذي ثأر.

بعد أن تُوفي أبو طالب مُعين الرَّسول وناصره قرَّر النَّبي محمد (ص) الانطلاق إلى الطَّائف لدعوة أهلها من قبيلة ثقيف إلى الإسلام، لكنَّه لاقى منهم العَنت وطاردوه ورموه بالحجارة حتى بعد أن غادرهم[4]. ومع التَّعب الذي لاقاه استراح النَّبيُّ الأكرم تحت ظل شجرة في طريق عودته إلى مكة، وفي تلك اللحظة أرسل الله إليه ملك الجبال يخبره أنه جاء ليوقع العذاب على القوم الظَّالمين، فما كان من الرَّسول الرحيم إلَّا أن يقول: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يُشرك به شيئًا”[5].

وبالفعل في العام الأوَّل من هجرة النَّبي إلى المدينة وُلد لـ”ثقيف” المختار بن يوسف الثَّقفي، صدقت كلمة النَّبي محمد، وخرج من أصلاب ثقيف من يثأر لمقتل ابن الرَّسول الكريم الحسين بن علي.

حين أرسل الإمام الحسين مسلمَ ابن عقيل سفيرًا له إلى الكوفة، كان أوَّل من استضافه في بيته المختار الثَّقفي، إلَّا أنَّ مسلمًا اضطر إلى الانتقال بسبب اكتشاف عبيد الله بن زياد مكانه. وبعد قتل ابن زياد لـ هانئ بن عروة[6]، وكان المختار خارج الكوفة عاد المختار ودخل على ابن زياد ينتهره، إلَّا أنَّ ابن زياد أمر بسجنه، فلم يستطع المختار في ذلك الوقت الالتحاق بثورة الحسين (ع)؛ إذ كان مسجونًا. لكنَّ صرخة الحسين: “أما من مغيث يغيثنا …” وصلت إلى قلب المختار، ووعى الثَّقفي الرّسالة المقدَّسة؛ فعاهد الله وهو في محبسه أن يثأر من كلّ من شارك في قتل الشَّهيد الأعظم.

وفَى المختار بوعده، وكوَّن جيش الثَّأر من قتلة الحسين وطارد ولاحق كلَّ من شارك في ظلم الإمام. فقتل ابن زياد، وعمر بن سعد، وحرملة بن كاهل قاتل عبد الله الرضيع، وشمر بن الجوشن، وغيرهم ممَّن شارك في قتل الإمام الحسين وأصحابه.

استمر المختار على عهده بالثَّأر من كل من شارك في قتل الإمام حتى لقي ربَّه شهيدًا، لم ينكث ولم يفر من قتال، ملبّيًا نداء الحسين: “… أما من ذابٍّ يذب عن حرم رسول الله”.

الإمام الخُميني مجدّدُ الصَّرخة.

مرَّت السنوات، بل والقرون على صرخة الحسين، لبّاها من لبَّى، ولفظها من لفظها، حتى جاء القرن العشرون الميلادي، وتولَّى محمد رضا بهلوي حكم إيران وسعى في خرابها. سعى بهلوي إلى فصل الدّين عن الدَّولة، وعقد الاتفاقات مع الغرب المُستكبر، وعاهد “إسرائيل” على السَّلام الدَّائم. لكنَّ رجال الدّين في إيران لم يستسلموا، وسعوا لمواجهة الاستكبار الأمريكي وممثّله في إيران بهلوي. حينها ظهر الإمام الخُميني، ظهر من استقر نداء الحسين في قلبه، بعد أكثر من ألف سنة عادت صرخة الحسين تُدوي في أذن روح الله، فعقد المجالس وحشد الطُّلاب والأساتذة، وأعاد مفهوم الدّين الصَّحيح مرَّة أخرى إلى أذهان الخاصَّة والعامَّة، الدّين الإلهي القويم الذي أوصله النَّبي الأكرم إلينا، وفسَّره عليٌّ لنا، وبثَّه الحسين في قلوبنا. دين الثَّورة على الظُّلم والثَّأر للمستضعفين. جاء روح الله الخُميني، ووقف بثبات أمام مخطَّطات بهلوي، واستنفر عقول الشَّعب الإيراني لمواجهة “يزيد العصر”.

شعر بهلوي بخطر دعوة الخميني، وكان الخطر الأكبر بالنّسبة له هو إحياء صرخة الحسين مرَّة أُخرى؛ فسَجن السَّيد القائد، ثم اضطر إلى نفيه، خشية خطر وجود الإمام في إيران، لكنَّ حرارة دم الحسين وصرخته خرجتا إلى العلن ولم يستطع البهلوي الصُّمود أمامهما.

استطاع الخُميني إيصال صوته لشعبه في إيران، وكان الشَّعب متعطّشًا لصوته الهادر، وسعى الإيرانيُّون إلى تنفيذ مطالب الإمام ونصائحه، وصمدوا أمام بهلوي وجيشه المدجَّج بالسّلاح، واستشهد المئات من أبناء الشَّعب الإيراني، أُسوة بمن سبقهم من أصحاب الحسين (ع). لكن ورغم جبروت الشاه وجلاوزته كان النَّصر حليفًا لإيران وشعبها. ووقف الشَّعب منتظرًا طائرة الإمام القادم من منفاه مستقبلينه بصرخة حسينيَّة جديدة: “الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا”.

نصرُ الله.. شهيدُ الصَّرخة.   

كان النّداء الجديد الذي رسَّخه الإمام الخميني “الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا” هو المحور الرئيس الذي بنى عليه السيد حسن نصر الله حياته كلها. على الرَّغم من عشق السَّيد للعلم، وأمنيَّته في أن يقضي حياته منذ صباه طالب علم ومُعلّمًا، إلَّا أنَّ إيمانه بصرخة الحسين ونداء الخُميني لم يجعل له سبيلًا غير الانخراط في نُصرة المستضعفين ومواجهة الاستكبار الغربي.

رغم صغر السَّيد إلَّا أنَّه كان من المؤسّسين لـ”حزب الله” أعظم حركة تحرُّريَّة من الاستبداد الغربي منذ نهاية القرن العشرين وإلى الآن. وبعد استشهاد السيد عباس الموسوي أجمع الحزب على أن يكون نصر الله هو القائد والمُحرّك لحركة المقاومة الإسلاميَّة، ومنذ انتخابه أمينًا عامًّا لـ”حزب الله” لم يتهاون السَّيد الشَّهيد في تلبية نداء الحُسين طرفة عين، رغم ما واجهه من صعوبات وتحدّيات.

حدّد السَّيد “يزيد زمانه”، ولم يشتّت نفسه في محاربة أكثر من جهة، بل وجَّه كل قواه وتفكيره وجهده إلى الكيان “الإسرائيلي”؛ فقد شخَّص نصر الله أن الكيان يمثّل كل موبقات نظام يزيد بن معاوية، فهو يهتك السّتر ويروّع النَّاس ويأسر المؤمنين، ويقتل الشيوخ والنّساء والأطفال، وهذا ما فعله يزيد بالحسين وأصحابه وأبنائه، وما فعله في واقعة “الحرَّة”، وغيرها من المواقف المشينة التي قام بها يزيد.

لبَّى السيد نصر الله نداء الحسين بتحرير الجنوب، وفي انتصار حرب تموز، وفي سوريا مع هجوم الدَّواعش والمارقين المتلحفين بعباءة الدّين وهم أبعد الناس عنه، ولبَّاه أخيرًا في حرب السَّابع من أكتوبر حين كسرت المقاومة الإسلاميَّة في غزة شوكة “إسرائيل” وغطرستها. ما دخل نصر الله في موقف من هذه المواقف الكبيرة إلا وكلمة “لبيك يا حسين” على لسانه وتسكن حشايا فؤاده. عاش السيد حسن نصر الله حياته كلها تلبية لصرخة صرخها الحسين منذ أكثر من ألف عام، وغادر الحياة أيضًا وهو يسعى إلى تلبية هذا النداء.

خاتمة

لم تكن صرخة الحسين في كربلاء “ألا من مغيث يغيثنا…” صرخة قانط يائس معاتب لله ولمن تركوه، بل كانت صرخة المؤمن المتوكّل على الله المُوقن بأنَّ ربَّ العالمين سيوصل صرخته إلى كلّ زمان وكل عصر. كان الحسين يعلم أن هناك من سيلبي هذا النّداء ولو بعد ألف عام. كانت صرخة الحسين تأسّيًا بدعاء رسول الله في الطَّائف: “اللهم إليك أشكو ضعف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، اللهمَّ إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني، أم إلى عدو ملَّكته أمري؟ …”[7]. وكما استجاب الله تعالى إلى دعاء النَّبي الأكرم (ص)، كذلك استجاب إلى صرخة الحسين (ع)، وأوصلها إلى قلوب المؤمنين عبر المكان والزمان. ولا تزال صرخة الحسين مُدوّية جليَّة، ولا تزال القلوب التي تسعها، والآذان التي تعيها موجودة، وكما قال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [سورة القصص: الآية 5].      

[1] المجلسي، بحار الأنوار، الجزء45، الصفحة 12.

[2] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، الجزء3، الصفحة 395.

[3] ابن كثير، البداية والنهاية، المجلد 4، الجزء8، الصفحة 795.

[4] ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، الجزء2، الصفحة 344.

[5] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، الجزء 6، الصفحة 437.

[6] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء3، الصفحة 146.

[7] ابن كثير، جامع المسانيد والسنن، الجزء5، الصفحة 125.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

One Comment

  1. اية أغسطس 1, 2025 at 10:39 ص - Reply

    الله الله الله🥺
    تسلم ايدك

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.