لم تكن سنّة الأربعين الحسينيّ مجرّد تقليد دينيّ يتجدّد كل عام، بل تحوّلت في قلب الثورة الإسلاميّة في إيران إلى نبضٍ ثوريّ متكرّر، يمنع جمود الحراك، ويجدّد جذوة الاحتجاج الشعبي ضدّ الطغيان. فما بين دم الحسين على أرض كربلاء، ودماء الشهداء على شوارع تبريز وقم ويزد، نسج الشعب الإيراني خطًّا من العزيمة والإيمان لا ينقطع، خطًّا كان للسنن العاشورائيّة ـ وعلى رأسها الأربعين ـ دورٌ في تثبيته وتوسيعه، حتى بلغ صوت “يا حسين” قصر الشاه وأطاح بعرشه.
سنّة الأربعين من الطقس الديني إلى الفعل الثوري: سنّة الأربعين، بوصفها امتدادًا لعزاء الحسين، لم تكن يومًا مجرّد وقفة بكاء، بل هي في عمقها استذكار للثأر المستمر من الظالمين. وهذه الفلسفة كانت وراء تحوّلها إلى سلسلة زمنيّة تنبض بها الثورة، وتمنع انقطاعها أو انطفاء شرارتها. وكما يذكر الدكتور “علي شريعتي” في محاضراته حول دور الشعائر في الوعي الثوري، فإنّ “التحوّل من الطقوس إلى المواقف يبدأ عندما يصبح البكاء فعلًا، والعزاء مشروعًا للتحرير”. (علي شريعتي، التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي، ترجمة: ناصر هاديان، ص 89).
أربعين قم الشرارة التي أشعلت الذاكرة: في 19 دي 1356هـ.ش (10 كانون الثاني/يناير 1978م)، أقدمت قوّات نظام الشاه على قمع أهالي قم أثناء احتجاجات ضد مقال مسيء للإمام الخميني. وسرعان ما تحوّلت ذكرى الأربعين لهؤلاء الشهداء إلى مناسبة ثوريّة في مدينة تبريز، بتاريخ 29 بهمن من نفس العام، لتبدأ بعدها سلسلة الأربعينات، حيث كل أربعين تُحيي ذكرى قمع الأربعين السابق، وبهذا كانت الثورة تُغذّي نفسها زمنيًّا، وفق تسلسل يمنع أي فراغ سياسي أو روحي يسمح للنظام بالتقاط أنفاسه.
طقوس عاشوراء كمنظومة تعبئة شعبية: لم تكن المجالس مجرّد منابر عزاء، بل ساحات تعبئة، ومراسم إعداد لجيلٍ حسينيّ العقيدة، خمينيّ الهويّة. كانت القصائد تذرف دموعًا، لكنها أيضًا كانت تصنع وعيًا. يقول المؤرخ الإيراني “محمد اسفندياري”: “العزاء كان أداة التذكير، والمشاركة الجماعية في المجالس كانت المدرسة التي خرّجت المضحّين”. (محمد اسفندياري، تاريخ عزاداري در ايران، طهران، 2007م، ص 212).
الرمزية العاشورائية كلّ أرض كربلاء: أحد أبرز الشعارات التي شاعت آنذاك كان: “كلّ أرض كربلاء، كلّ يوم عاشوراء”. لم يكن شعارًا فقط، بل هويّة تعبويّة ربطت بين واقع الجماهير المقهورة وثورة الحسين. فالشوارع التي سقط فيها الشهداء باتت هي الأخرى كربلاءً جديدة، وصار الشاه يمثل يزيد العصر. هذه الرمزية عملت على توسيع دائرة الغضب الشعبي، وجعلت من كلّ قتيل شاهدًا على استمرار المظلومية الحسينية.
الشهادة في شعارات الثورة من خطاب العزاء إلى خطاب الجهاد: كان الشعار الثابت الذي ردّده الملايين: “حسين حسين شعارنا، الشهادة افتخارنا”. وهنا يظهر عمق التحوّل، فالحسين لم يكن فقط رمزًا للبكاء، بل صار نموذجًا يُحتذى به في الشهادة. أظهرت الإحصاءات التي جمعتها مراكز دراسات الثورة أنّ 15% من شعارات الجماهير كانت تدور حول مفاهيم الشهادة ومظاهر عاشوراء ومحرّم. وهذا دليل قاطع على أنّ الثورة استقت روحها من كربلاء، كما استقت أدواتها من الفكر العاشورائي. (مؤسسة “مطالعات تاریخ معاصر ایران”، تحقیقات میدانی درباره شعارهای انقلاب، 1981م).
تبريز ويزد أربعينات الثورة وسلاسل الدم الطاهر: بعد أربعين شهداء قم جاءت انتفاضة تبريز، ثم تلتها حركة يزد في أربعين شهداء تبريز. وهكذا بدأت الثورة في تصعيد دائريّ لم يكن للنظام قدرة على احتوائه. كانت الدولة أمام معضلة زمنيّة دائمة؛ فكل أربعين يعني تجديدًا للاحتجاج، وعودة الناس إلى الميادين، في وقتٍ كانت فيه الأجهزة الأمنيّة قد أُنهكت ولم تلتقط أنفاسها بعد من الجولة السابقة.
التحوّل الرمزي للمجالس من البكاء إلى الوعي: أكثر ما ميّز سنّة الأربعين خلال الثورة، هو خروجها من كونها مناسبة عاطفيّة إلى كونها مشروعًا اجتماعيًّا تعبويًّا. يقول الإمام الخميني (قده): “لقد أبقت هذه المجالس الحسينية الإسلام حيًّا، ولو لم تكن مجالس العزاء، لما بقي من الإسلام شيء. وكان يقصد بذلك مجالس العزاء التي تحوّلت في أربعينات الثورة إلى حواضن للخطاب الثوري، حيث تُمزج خطب العلماء بأخبار الشهداء، وتُشعل القصائد الحماسية نار الحماس في صدور الناس. (الإمام الخميني، صحيفة الإمام، ج 16، ص 179).
الأربعين، السلاح الزمني في وجه الاستبداد: ما جعل هذه السنّة ذات فاعليّة عالية، هو التكرار الزمني الذي فرض على النظام مناخًا دائم التوتّر، فلا تمرّ أربعون يومًا دون تفجّر أزمة جديدة. وقد كتب الباحث الإيراني “محسن كديور” أنّ “الخاصيّة الزمنيّة للأربعين هي التي منعت النظام من اختراق الجدول الزمنيّ للثورة”. (محسن كديور، نقش آیینهای شیعی در انقلاب اسلامی، مجلّة دراسات دينية، 1999، ص 114).
سنّة الأربعين لم تكن هامشًا في دفاتر الثورة الإسلاميّة، بل كانت في متنها، نبضًا زمنيًّا، وطقسًا تعبويًّا، وذاكرةً حيّة تعيد إحياء الحسين في كل شهيد، وكربلاء في كل ساحة. وحين ربط الإمام الخميني بين عاشوراء والثورة، وبين المجالس والحركة الشعبيّة، لم يكن يُنشئ رابطةً من وحي العاطفة، بل كان يكتشف حقيقةً متجذّرة في وجدان الأمّة: أنّ الحسين إذا بُكِي، فليُبك لأجل ثورة، وإذا ذُكر، فليُذكر لأجل قيام.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
