ترجمة العلوم الإغريقية
قبل الحديث عن ترجمة العلوم اليونانية للغة العربية، لا بدّ من التأكيد على أن الحضارة الإسلامية تتميز عن غيرها من الحضارات السابقة أو اللاحقة عليها بميزتين: الأولى: أن الحضارة الإسلامية ذات جذور إلهية، أي أنها حضارة دين سماوي، والثانية أن الدين الإسلامي دين عقل ووحي، حيث أكّد الإسلام على أهمية العقل الإنساني، ومنذ ظهور الإسلام بالوحي الإلهي الذي نزل على النبي الأكرم (ص)، أخذ الإسلام بقيمه المتسامية والمتسامحة ينتشر في أرجاء العالم، وخلال أقل من قرن كان قد وصل إلى معظم دول العالم القديم، وكان من الطبيعي أن تلتقي الحضارة الإسلامية بالحضارات السابقة عليها، في فارس ومصر وروما واليونان، وأن تتفاعل بالتخاصم والتلاقي، فكان علماء المسلمين يردون الرد على علماء الغرب من الإغريق، فكان عليهم أن يتعرفوا على فكرهم للرد على تهجمهم على الإسلام المنتشر بالعدل لا بالسيف، فكان لا بدّ من قراءة فكرهم، ومن أجل قراءة هذا الفكر كان لا بدّ من ترجمة كتبهم، وهذا ما حدث، ومن تلك اللحظة حدث التأثير والتأثّر، فقد تمّ في ظل السلطة العباسية نهضة هائلة للفكر العلمي والفلسفي بين القرن الثامن والعاشر الميلادي، ولقد ترافقت هذه النهضة بحركة ترجمة واسعة للنصوص اليونانية القديمة، شملت مختلف ميادين علوم الفلك والطب والرياضيات والكتب الحربية والتنجيم والفلسفة الأرسطية بوجه خاص، كان من نتائج ذلك إنجاز المدونات من النقل والتعليق والشروح والتأليف، المدونات التي شكلت “ركيزة الفكر العربي، ومصدرًا لاتصال الغرب بالعصور القديمة الإغريقية”[1].
إن ظاهرة الترجمة العربية ربما تكون تلبية لما أراده بعض الخلفاء العباسيين، ولكنها أيضًا تمثل ظاهرة تعني المجتمع العباسي الوليد في العراق وتطوراته، لماذا؟ لأن الذين ساهموا في الترجمة والاهتمام بها كانوا تجارًا ومالكين عقاريين بقدر ما كانوا خلفاء وموظفين في الدولة العباسية، كما كانوا عربًا وغير عرب ومسلمين وغير مسلمين في آن واحد.
ومن الناحية التاريخية، فإن هذه الظاهرة تعبر عن التلاقي الذي حدث خلال ما يقارب قرنين بين الحضارة العربية والحضارة الإغريقية، وذلك في ظروف اجتماعية وسياسية وأيديولوجية سمحت بهذا التلاقي الذي أغنى الإنسانية، والبروفيسور ديمتري غوتاس يشير إلى أن استخدامه لكلمة “يوناني”، أو “عربي” لا تعني الإشارة إلى شعب ذي عرق أو أصول معينة، وإنما للتدليل على اللغة التي عبرت بهما كل من هاتين الحضارتين (اليونانية والعربية) عن فاعليتهما التاريخية الفكرية والعلمية والفلسفية[2].
إن الحضارة العربية تكونت بمساهمة عدد من شعوب المنطقة، عربية وغير عربية، إسلامية وغير إسلامية، بفضل استخدام اللغة العربية فيما بينها تواصلًا وثقافة وإبداعًا داخل الإمبراطورية العربية ـ الإسلامية.
باختصار، إن حالة جديدة تاريخية قد عرفت طريقها إلى الحياة والازدهار في جميع الجوانب، ومن جهة ثانية فإن وصول السلالة العباسية إلى السلطة وانتقال مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد، خلق شروطًا جديدة سكانية واندماجية وثقافية أطلقت حركة الترجمة، لماذا؟ لأنه على امتداد العصر الأموي، ظلّت اللغة اليونانية منتشرة في مناطق واسعة كلغة للتجارة ولأعمال الإدارة، وذلك حتى بدأت الإصلاحات التي قام بها الخليفة “عبد الملك” وابنه “هشام” في تعريب الديوان والعمل على تعميم اللغة العربية[3].
فالواقع أن كثيرًا من موظفي الدولة كانوا يتكلمون اللغة اليونانية في الوقت الذي كانت فيه هذه اللغة لغة تدريس بالنسبة للنخب المسيحية، غير أن هذه النخب الدمشقية التي احتكت مباشرة بالأمويين الذين زاولوا الإدارة البيزنطية في حكمهم، كانت على شاكلة النخب المسيحية في العاصمة البيزنطية تحمل في أعماقها العداء للثقافة الإغريقية- الهيلينية الوثنية، هكذا بعيدًا عن التأثير البيزنطي السائد في دمشق، فإن مجتمعًا بغداديًّا جديدًا متعدد الثقافات قد حدث وتوطّد.
لقد قام هذا المجتمع على مزيج من السكان، مسيحيون ويهود ذوو لغة آرامية ـ مجموعات بشرية تتحدث اللغة الفارسية ـ عرب الحواجز وأعراب البادية في الحيرة، أو في شمال العراق ـ سنة وشيعة، متمركزون في الموصل أو في وسط العراق، أو في الكوفة والبصرة.
كل هذه المجموعات شاركت بشكل أو بآخر في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للعاصمة الجديدة العربية ـ العباسية، أي ما يسمّى عادة بالحضارة العربية الإسلامية[4].
إن عملية الترجمة إذن، كانت استجابة لواقع جديد فرض نفسه، أتى مع انتشار الإسلام بين شعوب ذات ثقافات مختلفة، وكانت عملية الترجمة تحتاج فقط لقرار رسمي من خليفة من خلفاء المسلمين، وهو ما جاء من الخليفة المأمون.
دور الخليفة المأمون في ترجمة الثقافة الإغريقية للغة العربية.
لئن بدأ التفاعل بين الديانات والأعراق في الدولة العباسية في بدايتها، إلا أن فضل الترجمة يعود للخليفة المأمون الذي اتخذ القرار الرسمي في الترجمة التي كانت ضرورة حتمية نتيجة وجود علاقات متعددة بين الشعوب التي يحكمها الخليفة العباسي، فقد بدأت ترجمة الكتب اليونانية منذ عصر الخليفة المأمون.
الخليفة المأمون.
وُلِدَ المأمونُ في عام 170هـ، أبوه هارون الرشيد وأمه فارسية، نشأ في حجر الخلافة وتهيأ له من أسباب التربية والتثقيف الكثير، وكانت مظاهر الذكاء والنجابة والبعد عن سفاسف الأمور من أهم سماته.. كما اشتهر بالحزم وحسن التدبير والطموح إلى الكمال، وكان استعداده الفطري أن يكون قائد أمة، فقد حبتْه قدرةُ الله فنَ الخطابة، وكان جهير الصوت وحسن اللهجة، كما كان على عرفان بشؤون الحياة، وكان حسن التوفيق في اختيار حاشيته وأهل الشورى حوله من ذوي العلم والحنكة، وقد اشتهر أيضًا بالحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة وشغف بالعلم والأدب والحوار الهادف[5].
كان هذا الخليفة عالمًا من كبار العلماء، مثقفًا واسع الثقافة، يجيد كثيرًا من العلوم يهب العلم وقته ورعايته، كما يهب العلماء عطفه وعنايته.
روى بعضُ المؤرخين: “أن المأمون لما دخل بغداد واستقر فيها، أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم، جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته، واختير لمجالسته مائة رجل، ظل يختارهم واحدًا بعد الآخر حتى حصل منهم عشرة”، كما كان يسهم مع العلماء في الحوار العلمي، ويستنهض العلماء إلى النقاش الحاد، فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء، حيث كانت أسعد ساعات العمر، هي التي يستمع فيها إلى الحوار المتبادل في موضوع واحد، وكان العلماء يتجادلون ويتناظرون في شتى المسائل العلمية، ويقول بعض المؤرخين: “أراد بعقد هذه المجالس إزالة الاختلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم”[6].
ويقول البعض الآخر عنه: “أراد أن يجعل مجلسه (محكمة) يتنازع فيها الخصوم: وكان يدلي بحجته، والمتنازعون هم العلماء، ثم تحكم المحكمة فيجب أن ينفذ حكمها.. ويجب أن يذعن المتنازع لحكم المحكمة، فلا يقول قائل برأي إلا ما قضت به المحكمةُ..”[7].
وبلغت في عهده الصالونات والمجالس العلمية الذروة.. فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، وقويت في عهده حركة النقل والترجمة من اللغات الأجنبية – وخاصة من اليونانية والفارسية – إلى العربية – فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والطب والعلوم التطبيقية والموسيقى.
القيام بالترجمة.
لم تكد تلك الذخائر النفيسة تصل إلى بغداد حتى عهد المأمون إلى جماعة من العلماء – منهم “حنين بن إسحاق” (194-264هـ)، (809-877م)، و”الحجاج بن نصر”، و”ابن البطريق” (المتوفى 184هـ – 800م)، و”قسطا بن لوقا البعلبكي” تُوُفِيَّ حوالي (300هـ – 912م)، و”ثابت بن قرة” المتوفى عام (288هـ -900م)، وهم يشكلون المرحلة الأكثر تألقًا في حركة الترجمة العربية[8].
كان “قسطا بن لوقا” يشرف على الترجمة من اللغات اليونانية والسريانية والكلدانية إلى العربية، كما كان “يحيى بن هارون” يشرف على الترجمة من الفارسية القديمة.
ويشير “القفطي” إلى تميز “حنين” في الترجمة، وأنه هو الذي أوضح مؤلفات “أبقراط” و”جالينوس” ولخصهما بأفضل السبل، وكشف غموضهما، ويذكر “ابن أبي أصيبعة” أن “حنينًا” قدم تلخيصًا سريانيًّا لكتاب “جالينوس” حول العقاقير البسيطة، وأن ترجماته كانت أكثر سلامة لغويًّا، وتعطي الانطباع بأنها نتيجة امتلاك سلس وعميق للغة وليست نتيجة جهد قلق، وقد ظهر هذا الأمر في التكييف السهل للأصل اليوناني وفي الدقة المدهشة للتعبير المنتج دون إسهاب[9].
أما “يحيى بن البطريق” فقد كان يهتم بكل كلمة يونانية ودلالتها، ثم يقدم الكلمة العربية المقابلة لها بالمعنى ويترجمها، ثم يأخذ كلمة أخرى، وهكذا تنتهي الترجمة[10].
وقد ذكر “ابن العبري” في كتابه مختصر تاريخ الدول، إن “قسطا بن لوقا” أحد مشاهير الأطباء ونقلة العلوم في الإسلام – تبحر في الفلسفة والتنجيم والهندسة والحساب والموسيقى، وكان يجيد اللغة اليونانية ويجيد العبارة بالعربية، ولذا فقد نقل كتبًا كثيرة من اليونانية إلى العربية، واشتهر بحسن النقل فصيحًا باللسان العربي واليوناني والسرياني.. ويشير “ماكس مايرهوف” إلى ما نقله “قسطا”، أنه ترجم الكثير من المؤلفات الطبية والرياضية والفلكية كما ترجم إلى جانبها مؤلفات فلسفية[11].
وقال بعض المؤرخين: إن المأمون كان يدفع ثمن الكتاب المترجم ذهبًا ويقولون: إنه “أي الخليفة هو الكاسب، وفي عهده أيضًا بدأ كثير من المسلمين في دراسة الكتب التي ترجمت إلى العربية، وعملوا على إيضاحها وتفسيرها والتعليق عليها وإصلاح أغلاطها، واشتهر من هؤلاء “أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي” (185-253هـ- 801-867م) – وهو عربي الجنسية من قبيلة كندة اليمنية – وقد نبغ في الطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق والهندسة وعلم النجوم، وحذا في تأليفه حذو “أرسطو”.. وترجم كثيرًا من الكتب اليونانية إلى العربية وشرح غوامضها، فمثلًا نقل كتاب الجغرافيا في المعمور من الأرض لـ”بطليموس”، وكان سريانيًّا، وقد نقله “الكندي” إلى العربية نقلًا جيدًا، كما نقّح ما ترجمه غيره من المترجمين.. وكان هذا العالم معاصرًا للمأمون ثم للخلفاء المعتصم والواثق والمتوكل.
وفي عهده وصل النشاط في مكتبة “بيت الحكمة” التي أنشأها والده الخليفة هارون الرشيد إلى ذروته.
وقال كثير من المؤرخين: “إن جميع النهضات العلمية العربية إنما هي فروع للأصل الذي أنبته المأمون.. وأن ما جرى في عهده من ترجمات للتراث اليوناني يُعتَبَر مضرب الأمثال”. كما رُوي أنه كان يضطهد أحيانًا أعداء العلم وجفاة الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرًا من أرباب الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين، لأنهم كانوا يعادون الفلسفة، ظنًا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، ويقول المرحوم الإمام محمد عبده في كتابه “الإسلام دين العلم والمدنية” مستفهمًا: هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا دينيًّا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة”؟ ثم يجيب على هذا السؤال بقوله: “لعلك لا تجده أبدًا”[12].
[1] البروفيسور ديمتري غوتاس، الفلاسفة الإغريق في الترجمات العربية، 2000، نقلًا عن رحيم العراقي في موقع الحوار المتدين.
[2] الفلاسفة الإغريق في الترجمات العربية، مصدر سابق.
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه.
[5] أبو يعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة العربية، بيروت، دار الكتاب، 1980، الصفحة 93.
[6] تجليات الفلسفة العربية، مصدر سابق، الصفحة 101.
[7] تجليات الفلسفة العربية، مصدر سابق، الصفحة 108.
[8] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مكتبة نور الإلكترونية، 2017، الصفحة 71، وبتصرف.
[9] المصدر نفسه؛ بتصرف من الصفحة 76.
[10] المصدر نفسه؛ الصفحة 80.
[11] تكوين العقل العربي، مصدر سابق، الصفحة 91.
[12] الشيخ محمد عبده، الإسلام دين العلم والمدنية، القاهرة، مكتبة الأسرة، 1997، الصفحة 92.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
