ميشال فوكو، ما الفلسفة؟ (بيروت، دار الساقي، 2025). ترجمة د. الزواوي بغورة. 320 صفحة.
يُتابع الباحث الجزائري المتميّز، د. الزواوي بغورة، رئيس قسم الفلسفة في جامعة الكويت، جهوده للتعريف بعالم الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو(M. foucault) (1984 – 1926) المعرفي، من خلال ترجماته وبحوثه الجادة، وآخرها “ما الفلسفة؟”، والعنوان الموضوع يتقاطع مع عمل مواطنه جيل دولوز (G. Deleuze) المُنجز في العام 1991. وعمل فوكو يعود إلى فترة أسبق بكثير، ففي العام 1966، نشر نص “الكلمات والأشياء”، ما أثار جدلًا كبيرًا، إذ تعرّض المؤلف لانتقادات لإعلانه “موت الإنسان”. وفي الفترة نفسها، كتب مخطوطة أخذت لاحقًا عنوان: “الخطاب الفلسفي”، لم تنشر في فرنسا إلا في العام 2023 (بعناية أورازيو إيريرا، ودانييلي لورينزيني، وإشراف فرانسوا إيوالد).
مفهوم الخطاب.
ومن المهم بداية إدراك ما يعنيه فوكو بالخطاب؛ فمفهوم الخطاب يُعدّ من الركائز الأساسية في مشروعه الفلسفي، حيث لا يقتصر على كونه مجرد وسيلة للتعبير أو التواصل، بل يتجاوز ذلك ليشكّل نظامًا معرفيًّا يُنتج الحقيقة، ويُعيد تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي. ويُعرّفه بأنه “مجموعة من العبارات أو المنطوقات التي تنتمي إلى تشكيلة خطابية محددة”، وهو ليس مجرد تجميع للكلمات، بل شبكة معقدة من العلاقات التي تُنتج المعرفة، وتُحدّد ما يمكن قوله أو التفكير فيه ضمن سياق تاريخي واجتماعي معين. ويرى أن الخطاب ليس محايدًا، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلطة والمعرفة. فالخطابات تُنتج وتُعيد إنتاج السلطة من خلال تحديد ما يُعتبر “حقيقة” وما يُستبعد أو يُهمّش. وهذا ما يُعرف بمفهوم “السلطة – المعرفة”، حيث لا يمكن فصل المعرفة عن السلطة، فكل معرفة هي نتيجة لعلاقات سلطوية معينة. وبالتالي، يُظهر مفهوم الخطاب عند فوكو كيف أن اللغة والمعرفة ليستا محايدتين، بل هما أدوات تُستخدم في ممارسة السلطة وتشكيل الواقع. ومن خلال تحليل الخطابات، يمكن فهم كيف تتشكل المفاهيم والمعايير الاجتماعية، وكيف تُسهم في تعزيز أو مقاومة أنظمة السلطة القائمة.
تشخيص الحاضر.
يستكشف فوكو في الكتاب معنى الخطاب الفلسفي في العصر الحديث ودوره في مواجهة الأحداث الجارية. ويردّ بشكل غير مباشر على الانتقادات الموجهة إليه بسؤال: “ما هي الفلسفة؟”. بالنسبة له، لا يُشير “موت الإنسان” المُعلن عنه في “الكلمات والأشياء” إلى نهاية الفلسفة، بل يُشكّل شرطًا لإمكانية استئنافها. ولدعم هذه الفكرة، يناقش الأطروحات التي صاغها حول هذا الموضوع أسلافه ومعاصروه: مارتن هايدغر، وجان بول سارتر، ولويس ألتوسير – على سبيل المثال لا الحصر.
في سعيه لتعريف دور الفلسفة (على الأقل كما كان ينوي ممارستها آنذاك)، توصل فوكو إلى فكرة مفادها أن من مسؤولية الخطاب الفلسفي “تشخيص” الحاضر.
وعندما نقول: إن الفلسفة لديها اليوم مهمة التشخيص، فهل نريد شيئًا آخر غير ربطها بمصيرها القديم؟ فما الذي يمكن أن تعنيه كلمة “تشخيص – هذه الفكرة عن معرفةٍ تَعبُرُ وتُمَيَّزُ – إِنْ لَمْ تَكُن نظرة متعمقة، وإنصاتٌ مُرهق، وحواسّ أكثر انتباهًا، تتجاوز ما هو محسوس، ومسموع، ومرئي، لتُبرز في نهاية المطاف بسطوع المعنى في النص، والشر في الجسد؟ ألم يكن سبب وجود الفيلسوف، منذ بداية الفلسفة اليونانية، هو: التأويل والعلاج والعمل على انبجاس ملفوظ المعنى، ودرء الشر في خطاب متضامن. وطوال الثقافة الغربية لم يتوقف الشر والمعنى قط عن دعم بعضهما، وتعزيز بعضهما، وضم بعضهما بعضًا، بصورة غامضة أو واضحة، وهو ما أدى إلى رسم صورة كانت مكانًا لفلسفتنا، وباعثًا للتفلسف من جديد”. (ص 16).
هذا يعني، أولًا وقبل كل شيء، أن الفلسفة تحافظ على علاقة وثيقة مع “الآن”. وخلافًا للمثال الأفلاطوني لخطاب تكون قيمته الحقيقية مطلقة، يرى فوكو أن أي خطاب يعتمد دائمًا على ظروف اجتماعية تاريخية معينة (مثل التصريحات العلمية، والهيئات القانونية، والممارسات الاجتماعية، إلخ). ومهما كان الخطاب الفلسفي تجريديًّا وتقنيًّا، فإنه، كغيره، يشير دائمًا إلى حدث راهن، إلى “الآن” الذي قد يتخذ أشكالًا مختلفة، ومن هذا المنظار، يجب على الفيلسوف أن يدرك ويقبل ارتباطه بعصر معين، في حاضر فريد. بتعبير أدق، تتمثل ممارسة “التشخيص” في فن تحديد وتفسير علامات ثقافة العصر. وبهذا التعريف، يبدو الفيلسوف وكأنه يتقمص دور الطبيب (معالج للأرواح). ولكن إذا كان من الممكن اعتباره طبيبًا للثقافة، فإن مهمته ليست “العلاج”، أي تهدئة الألم الاجتماعي والتوفيق بين التوترات؛ بل وظيفته ببساطة هي شرح كيف أن حاضرنا مختلف تمامًا عن كل ما هو ليس هو، أي عن ماضينا.
الوظيفة النقدية للخطاب الفلسفي.
هذا العبء التشخيصي، المُلقى على عاتق الفيلسوف، يُزعزع تمثيله التقليدي: فبتجذره في “الآن”، يجب على الخطاب الفلسفي أن يتخلى عن موقعه كطاغٍ على الواقع، وعن سعيه وراء حقيقة أسمى والتي سيكون الكشف عنها خلف المظاهر أمرًا حتميًّا. بعبارة أخرى، يدعونا فوكو إلى التخلي عن مفهوم “الأساس” الكلاسيكي، لأنه لم يعد، بالنسبة للفلسفة، الأساس النهائي للمعرفة. لقد فقدت الحقيقة بُعدها الأصلي: يجب أن تنبثق الآن في الخطاب نفسه. ولكي نفهم هذا المفهوم لـ”الخطاب”، لا بدّ من ربطه بتطورات “الكلمات والأشياء”، أي بتأثيرات الانقطاعات التي تعبّر عن الفترات التاريخية والتي تشكل أنظمة متميزة من الحقيقة، والتي أطلق عليها فوكو اسم “الإبستيمات” في أعماله السابقة.
لذا، يمارس الخطاب الفلسفي وظيفةً نقديةً في كل عصر: فمهمته هي اكتشاف آثار الخطاب في ما يتجاوز ما يُقدّم نفسه تلقائيًّا على أنه خطابي. بعبارة أخرى، يتعلق الأمر بكشف السذاجة الصامتة التي غالبًا ما تكمن وراء الخطابات السائدة في عصرٍ ما: الظروف التي تُمكّنها من الوجود واعتبارها حقيقية. ومن الناحية النقدية، تطرح الفلسفة نفسها كخطاب عام للعالم، تضع في الكلمات ما هو استثمار صامت وعقلاني لكل ما يبدو أنه يفلت من اللغة، باختصار، خطاب لكل الخطابات الأخرى. تفترض “المهمة النقدية للفلسفة اكتشاف خطاب سُفلي وحول ما ليسَ خِطابيًّا، والكشف عن السذاجة الصامتة للخطابات التي يمكن أن تبدو الأكثر سيادةً والأكثر شمولًا. وبالتالي، فإنَّ الفلسفة بوصفها نقدًا ستكون من ناحية خطابًا عامًّا للعالم، يُعطي صوتًا لكلِّ ما هو صامت، واستثمارًا عقلانيًّا لكلِّ شيءٍ يبدو كأنه ينفلتُ من اللغة ويكون صالحًا على الفور في حد ذاته (سيكون مثل المعرفة الكونية للعالم). وأما من ناحية أخرى، فسيكون خطاب جميع الخطابات الأخرى، وسيَعْرِفُ كيفَ يقول ما لا يمكنهم قوله عن أنفسهم، وسيقول تحت أية شروط يمكنُ أنْ يُوجَدوا، ويكونوا صالحين وحقيقيين، (وستكون الفلسفة بعد ذلك، وبمعنى أكثر صرامة، نقدًا لكل معرفة)”. (ص 78).
فمشروع الفلسفة المتولد حديثًا هو التوضيح الجذري والكوني بدرجة تؤدي “إلى تغيير وجه العالم”. (ص 80)، وعليه يكون دورها أن تطرد من الخطاب اليومي “كل ما قد يكون ساذجًا وجاهلًا بأحوالها، وبالتالي وهميًّا ولا واعيًا. إنّ دورها إذن هو الارتقاء بالنثر اليومي للعالم إلى مستوى الخطاب الفلسفي الذي سيحدث بصورة عفوية كل يوم، والذي سيشغل الآن ومن دون حدودٍ جميع تواريخ التقويم، وجميع مناطق العالم، بل جميع الذوات المتكلمة. كلُّ السراب الفلسفي الكبير للغرب، وذلك منذ ديكارت، لم يكن يَتَمَثّلُ في المَلِكِ الفيلسوف، ولا في الفيلسوف الحكيم، ولا في الفيلسوف الذي يتحدَّثُ عن النظام الطبيعي للعالم، وإنما في الفيلسوف الذي يُغَيِّرُ الحياة اليوميَّة (حياة العلم، وكذلك الحياة نفسها) من خلال انبعاث نور. لقد حلمت ثقافتنا كلها بالوعي الذي سيكون ثورة”. (ص 80).
تميّز الخطاب الفلسفي.
الفلسفة بحسب فوكو ليست مجالًا للموضوعات ولا للغة معينة، وإنما هي “طريقة في الكلام، وفي وضع الخطاب والذات المتكلمة في علاقة بعضهما ببعض” ( ص 83)، وهو يظن أن هذا النمط من الخطاب قد ظهر في القرن السابع عشر وساد ولا يزال، ويُحدّد وقت ظهور هذا الخطاب الفلسفي. ففي القرن المذكور حدثت طفرة عامة في أنواع الخطابات (الديني، العلمي، التخييلي)، اتخذت فيها مواقف مختلفة وعملت بنمط جديد.
يتطلب سؤال “ما هي الفلسفة؟” أيضًا تمييز الخطاب الفلسفي كما تَصوَّر منذ العصر الكلاسيكي عما هو عليه، ولكن يُمكن مقارنته به، ألا وهو الخطاب العلمي والأدبي. وبتعبير أدق، بدأ هذا التوزيع الجديد للخطاب، و”صُنع” الخطاب الفلسفي في عصر دون كيخوت سرفانتس (الذي أسس، وفاقًا لفوكو، الخطاب الروائي)، وعصر غاليليو (الذي طوّر الخطاب المادي المستقل).
يُفصّل فوكو العناصرَ المُكوّنة لهذه الفلسفة الكلاسيكية، التي تُقاس بخطابات أخرى، لا سيما تلك التي تُنتجها العلوم والأدب. وفي ما يتعلق بالخطاب العلمي، يُصرّ على أنه لا يُمكن تبريره بمجرد تحديد نطاق موضوعاته أو منهجية تجاربه. من منظوره النقدي، لا يُشكّك الخطاب الفلسفي الكلاسيكي في شكل الخطاب العلمي وعلاقته بموضوعاته فحسب، بل يُشكّك أيضًا في شروط إمكانية وجوده وصلاحيته.
أما بالنسبة للخطاب الأدبي الذي تقترب منه الفلسفة عمومًا، فيتناوله فوكو انطلاقًا من مفهوم “الخيال”. ويُبيّن أن الخيال، بخلاف الخطاب الفلسفي، ينطوي على صوت (أنا التلفظ)، ليس له زمان أو مكان سوى ما يختاره لنفسه. وبالتالي، فإن “الآن” الأدبي ليس حاضر الفلسفة إطلاقًا؛ فالأدب لا يعرف “آنًا” آخر سوى حاضر النحو.
الطفرة النيتشوية.
باختصار، يتتبع فوكو في هذا العمل اللحظة التي تتغير فيها الفلسفة، اللحظة التي لم تعد تسعى فيها لصوغ خطاب حقيقي عالمي، بل أصبحت متجذرة تمامًا في واقعها، اللحظة التي يبدأ فيها الفيلسوف بدراسة الفضاء الذي يتكشف فيه الفكر، بالإضافة إلى ظروف هذا الفكر وطريقة تكوينه. مع الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه (1900 – 1844)، تبدأ أزمة “الحاضر”،إذ فقدت الفلسفة معه جميع موضوعاتها التقليدية، بدءًا من الله، معه، فقدت الفلسفة الله، لكن الله فقد فلاسفته أيضًا. علاوة على ذلك، طرح نيتشه فكرة العود الأبدي، التي بموجبها يبدأ العالم من جديد في كل لحظة. وأخيرًا، ساهم في تفكيك الميتافيزيقا الغربية وتصنيفاتها للخير والشر، والمظهر والواقع، والوجود والحقيقة، إلخ.
ويوضح فوكو أن ما يجعل عمل نيتشه حاسمًا هو تفكيكه للخطاب الذي تشكلت من خلاله الفلسفة الأوروبية حتى ذلك الحين: إنه يكسر، ويُفكك قطعة قطعة الإطار القوي الذي عزل الخطاب الفلسفي عن سائر الخطابات، لم تعد الفلسفة تتشارك في فضاء وشكل الخطابات الأخرى.
يُحدد فوكو في هذه اللحظة ما يُشبه أزمة الفلسفة، بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث تحدث تغييرات جوهرية في شكل الخطاب الفلسفي. ومن خلال التحليل الذي يُقدمه، فإن ما يظهر لنا، على نطاق أوسع، هو تحولات في المعرفة، وتوزيعات جديدة في نظامها.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
