﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾[1].
“ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحسد غمٌ دائم ونفس متتابع”[2].
“الحقير ابن الحقير فقل الشامت بموت الناس” (الإمام علي (ع)).
“لا تفرحنّ بسقطة غيرك، فإنك لا تدري ما يحدث بك الزمان”[3].
* ***
“لا تفرحنّ بسقطة غيرك، فإنك لا تدري ما يحدث بك الزمان”، مقولة وإن بدت بصورة الموعظة، لكنها تخاطب عمق خواطر الناس في عداوات الحياة والصراع العنيف فيها الذي يحولهم إلى متبلّدي الضمير والإحسان والبصيرة فيما تحصِّله الأيام من أهوال وأحوال.
ففي الإنسان قطبان يتجاذبانه:
أحدهما فورة الانفعال التي تأخذه بخطفةٍ سريعة نحو ضباب من الجهل الذي لا يميز فيه الطريق ولا المعالم ولا الأشخاص، عند أول شرارة من حسد، أو شماتة وتعيير تتقد أمام ناظريه، أو على مسامعه، فيتيه فيها ليتحول إلى مسلوب من الدراية والطيبة والواعية ظنًا، أو قل: توهمًّا منه أنه بذلك يحقّق المكتسب على خصمه لمجرد وقوعه في مكروه، وكأن ذاته باتت من الوهن، بحيث إنها لا تراهن على مراكمة القوة إلا بتحقيق الإساءة في غيرها من أينما حصلت تلك الإساءة، وأنّى كانت نتائجها. ومن هذا ما عبّر عنه بعضهم بالقول: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد غمٌّ دائم ونفس متتابع. والحسد رفيق الشماتة يواكبها أنّى اتجهت ركابها، وكلاهما يصدران عن نفس لئيم ويورثان الغم والهم الذي قيل فيه: لله درُّ الحسد ما أعدّ له بدأ بصاحبه فقتله.
أما القطب الآخر، فهو الذي يعتمد المهلة بعد المهلة، والعبرة بعد العبرة، فلا يلوك لسانه إلا ما عقل، ولا يضمر قلبه إلا ما استعبر. من كان غنى القلب رأسمال حياته، كان كطير يسيح في فضاء ممتد فاردًا جناحي الأمل والقناعة مسترسلًا بصفيف يجاري الريح، وعند الشدة يدفُّ في مسار طيرانه ليبقى صامدًا لا يتزعزع. تحكمه الثقة ولا تخرجه عن التعقل في مواكبة المجريات وسنن الأيام، فكم من شامت بالناس قد ابتلي، إذ لا عاصم لفتن الحياة طالما في العمر بقية.
قد تظن أيها العزيز أني أزيد جرعة النقد في أمر قليل الحدوث، ولا يستأهل مثل هذا الاهتمام، فتعالى لنطوَّف سويًّا في بعض ما شهدناه، ولننظر ثم بعد النظر لنحكم الرأي.
ماذا يعني أن تضج الحياة من حولنا بأهاويل الموت والقتل المجاني والدمار والتهجير لمئات آلاف من الشعوب والناس الذين تتساكن معهم على أرض واحدة، بل وفي حارة واحدة أحيانًا، فلا يثير الأمر فيك أي تعاطف، بل أن تقمع روح الرحمة والشفقة عليهم ثم تأخذك روح القطيع مع من تتفق معهم لتقول لو وجد الله فيهم خيرًا لما أذاقهم وبال أمرهم وأرائهم وسياساتهم؟
أن تفصح عن شماتتك لتقطع أوصال كبارهم وحرق حتى أطفالهم، وبدل أن تذرف دمعة تهديها شكرًا لله على ما زرع فيك من الإنسانية، فإنك تقدّم شكرك للقاتل وبروح القطيع تفعل ذلك؛ لأن القطيع إذا ما انزلق في آتون بحر لجّي لا نجاة منه، فإنما يمتثل ذلك لفعل أو موقف من زعيمه، وبدون أن يتبصر أن القاتل الذي شحذ خنجره هو قادم لكل من عارضه دون استثناء، فإما الذبح وإما العبودية. وأن ما طال غيرك ما كان ليتجاوزك، وإن تعددت الأعذار وتنوعت الأسباب.
إن هذا كله يعود للأقنعة التي يتردّد بينها وفي خيارات ارتدائها من نسي نفسه عند لحظة هشاشة، نسي فيها نفسه وقلبه وإنسانيته. وإذا كنا في بداية الكلام نتحدث حول خواطر بدائية من الحسد والشماتة بين فرد وفرد، أو قريب وقريب، أو جار وجار. فنحن هنا نتحدث عن أزمة هشاشة الذات في أصل وجودها الجمعي وهويتها الإنسانية. فالقناع الذي نلبسه ما هو إلا بفعل الانجرار لما عليه من سياقات التربية والجامعة والمدرسة والطائفة والحزب والعشيرة والمنطق، فكي لا يقصوك عنهم تلبس القناع وتنسى ذاتك. وهكذا تعيش العزلة والغربة، فالكل بالنسبة إليك صار غريبًا أو سارقًا، ولم يعد في قلبك أن الآخر هو نصفك، بل هو أنت فأحبب الغريب. قد تلبس قناعًا مزيفًا تسميه الحرية وتنسى أن في القلب الحر يعيش الوفاء والمسؤولية والواجب الأخلاقي.
وهذا ما يجعلك منفلت العقال لا ترتجي الخير بعد أن فقدته في عيون قلبك الناظر إلى عيون قد أعماها الغدر والقهر، لتصبح كالأعمى يسير في طريق مجهول تراكمت فوقه أغبرة عواصف الأيام، وأوراق الخريف الذابلة بفعل الجوع والموت، ولنكن دقيقين في التوصيف ولا تأخذنا الانفعالات.
إن ذاتك التي جُعِلت فيك، تملك من الطيبة والخير الكثير، لكنها تمتلك الاستعداد لتتشكّل وفق ما تمليه عليك إرادة الفعل والموقف اتجاه ما يحيطك ومن يحيط بك. ولطالما كان فعلنا أو إرادة الفعل فينا تمتزج فيها ما جعله الله من إنسانية وطبع خير وحر مع مركب من الرغبات والمصالح والصلة الجمعية التي نرتبط فيها لنشكل هويتنا، وهنا تحضر الأسرة والأقرباء والرفاق والصحبة والطائفة بقوة مؤثرة، تحضر لتجعل منك مجرّد موجة عابرة على سطح بحرها الغميق والواسع. وهل للموجة من دور إلا شهادة على ما يعتمل بحرها من أوضاع وحالات تتلاطم؟ هي ناسية ذاتها، ثم تنقضي لتتسابق مع رفيقاتها من أمواج أُخر، لتؤكد على ما يعبّر عن محيط انتسابها. وهكذا ننسى أننا موجودات مؤهلة لتشكيل المحيط والحفاظ عليه، فلنلبس قناعًا تلو قناع من موج لا يفرز إلا زبدًا يذهب في نهاية الأمر جفاء. وأخطر ما في هذا الجفاء الفارغ حينما يتحول إلى كراهية وعنصرية بغيضة لفرد أو جماعة أو أمة أو دين، أو حتى حين نسجنا لها في نفوسنا صورة بفعل ما قادنا إليه زعيم القطيع، ولبسناها قناعًا يخبّئ ضميرنا وسقوطنا في ضعفنا لنستقوي على الآخر، ونشمخ أمام أنفسنا بقناع هو الكراهية التي امتهنت الشماتة والحسد والإقصاء.
وهنا ننسى حكمة الأيام والدهور، وعِبَر التاريخ والأحداث التي لطالما لمسناها بوعينا ووجداننا، لكننا كنا نغض الطرف عنها حتى لا يرفضنا القطيع وزعيم القطيع، وما سنّه من قواعد في المسير. ننسى حكيم الدهر عليًّا عندما قال بلسان العبرة والحياة ووجداننا الذي أطفأناه بأقنعة من الزيف والوهم؛ إذ أذّن في قلب الحياة قائلًا: “لا تفرحنّ بسقطة غيرك، فإنك لا تدري ما يحدث بك الزمان”. لعلّ ما أراد علي أن يشير إليه هو حقيقة الأيام. فالزمن الذي يشكّل الأيام يمثّل بساط الحياة في دنيا لا تقوم إلا على التدافع بين أهلها ومصالحهم وأوضاعهم. فكم من عظيم كان يصنع أحداث الأيام صار بفعلها وبفعل طبيعتها المجبولة على جدلة الموت والحياة، والبقاء والفناء، نعم صار مجرد خبر بعد أن كان صانع أثر.
كم من أمم هلكت بعد أن استخلفت الأرض ومن عليها، وكم من عدوّ صار صديقك، ومن صديق صار عدوك… فلا تفرح بسقوط أحد؛ إذ الفرح عند حال السقوط سقطة في الشماتة فلا تجعل من نفسك عُرضة لها. لأن الأيام تُداول، يوم لك ويوم عليك، وتلك الأيام نداولها بين الناس. فافتح عين قلبك، وانفذ ببصيرتك ترى. وافتح عقلك فلم نخلق لنكره، وعلام نفرح أو نشمت بسقوط غيرنا؟ أو هل نحن من حقّق الهدف، هذا إن كان مجرد السقوط هدف؟ ثم كم من الناس وقع في حفر الزمن، ثم عاد ليقوم، وكم من قيام شكّل قومة استدعت نهضة. لا تسترخي أمام ما يقع قبال ناظريك فليس كل ما يلمع ذهبًا، وليست كل صورة حقيقة. كن أنت لتستطيع أن تكون عاملًا إضافيًّا في صناعة التغيير والأحداث.
[1] سورة آل عمران، الآية 120.
[2] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء1، الصفحة 629.
[3] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء3، الصفحة 2209.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
