أبو طالب: بصيرة سياسية(2)

الموضوعية العلمية في مقاربة التاريخ الاجتماعي للأعلام يحتّم أن ندرسها في سياقها الزمني من حيث البيئة المعرفية من جهة، والأحوال التاريخية السياسية التي حكمت تلك المرحلة، ليتسنى لنا سبر غور الملابسات الإشكالية التي طُرحت، فلا يصح طرح الإشكاليات وكأنها خارجة عن الزمان وحتى المكان.
لم يهاجر النبي (ص) إلّا بعد وفاة أبي طالب، إذ طمعت قريش فيه ما يؤشر لموقعه الاجتماعي السياسي، من وجهاء الأعيان من بني هاشم والسند للرسول (ص) في مواجهة قريش.
أولًا: حماية الرسالة.
مات عبد الله بن عبد المطلب والنبي (ص) حمل في بطن أمه، وحينما ولد (ص) تكفله جده عبد المطلب، وقد ورد عن ابن شهر آشوب قضية حول وصية عبد المطلب لابنه أبو طالب تحديدًا: “لما حضرت عبد المطلب الوفاة دعا ابنه أبا طالب، فقال له: “يا بني قد علمت شدة حبي لمحمد (ص) ووجدي به، انظر كيف تحفظني فيه، قال أبو طالب: يا أبتي لا توصني بمحمد (ص)، فإنه ابني وابن أخي”، وأنشد يقول:
لا توصي بلازم وواجب إني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكاتب حديثه رويته عن راهب[1].
الكفالة الإلهية.
يتبين من البيتين السابقين بأن أبا طالب كان يعلم بأخبار النبي (ص) وعنده يقين بها، ومسألة كفالة الرسول(ص) تتجاوز القرابة والنسب، إذ أوكل إليه كفالته مع قلة موارده المادية، ولو كانت المسألة ترتكز إلى الكفالة القرابية كما يدعي البعض في حماية أبي طالب للرسول (ص) وكفالته، لأسند الكفالة عبد المطلب لإبنه الأكبر العباس لسعته المادية ولأنه الأكبر سنًّا، إلّا أنّ المسألة كانت أكبر من ذلك تتجاوز كل الاعتبارات القرابية والنسب إلى الرسالة الإلهية التي يشير إليها كل من عبد المطلب وأبي طالب بشعرهما مرة، وبخطبهما ووصياهما مرة أخرى.
ولما توفي عبد المطلب كان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله[2]، وكان عمره (ص) ثماني سنين، فكفله وقام برعايته أحسن قيام، وكان أبو طالب يحب النبي (ص) حبًّا شديدًا، وفي بعض الأحيان إذا رأى النبي (ص) يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي عبد الله، وكان عبد الله أخاه لأبويه [3]. كما قال بفاطمة بنت أسد: إنها كانت أمي، إن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني [4]، وقال النبي(ص) بعد وفاة عمه أبي طالب: ما نالتني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب[5].
تؤكد جميع الوثائق التاريخية حماية أبي طالب المستمرة للرسول (ص) والتصدي لقريش على الرغم من كبر سنّه، فقد ناهز إبان البعثة الخامسة والسبعين، فوقف منافحًا ومدافعًا عنه بلا أدنى تردد، بل جهر بذلك أمام قريش[6]. ولما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله (ص)، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: “يا أبا طالب! هذا عمارة فتى في قريش، فخذه، فلك عقله ونصره، واتّخذه ولدًا، فهو لك، وسلّم إلينا ابن أخيك فنقتله. فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدًا”[7].
لمّا أدخلت قريش بني هاشم الشعب إلّا أبا لهب وأبا سفيان بن الحرث، فبقي القوم بالشعب ثلاثة سنين، وكان رسول الله(ص) إذا أخذ مضجعه وعرف مكانه، جاءه أبو طالب فأنهضه عن فراشه وأضجع ابنه أمير المؤمنين(ع) مكانه. فقال له أمير المؤمنين(ع) ذات ليلة: “يا أبتاه إنّي مقتول”، فقال:
“اصبرن يا بني فالصبر أحجى كلّ حيّ مصيره لشعوب
قد بذلناك والبلاء شديد لفداء الحبيب وابن الحبيب
لفداء الأغرّ ذي الحسب الثاقب والباع والكريم النجيب
إن تصبك المنون فالنبل يُرمى فمصيب منها وغير مصيب
كلّ حيّ وإن تمل بعيش آخذ من خصالها بنصيب”[8]
فأجابه أمير المؤمنين(ع):
“أتأمرني بالصبر في نصر أحمد ووالله ما قلت الذي قلت جازعا
ولكنّني أحببت أن ترى نصرتي وتعلم إنّي لم أزل لك طائعا
وسعيي لوجه الله في نصر أحمد نبيّ الهدى المحمود طفلًا ويافعا[9]“
فلا يشك باحث، ولم يتردد مؤرخ في حماية أبي طالب للنبي(ص) ورعايته له والدفاع عنه طوال حياته، بل من المؤكد أنه كان من أشد المدافعين عنه (ص) في أحلك الأحوال وأصعب المواقف منذ الأيام الأولى للرسالة، وحتى رحيله عن هذه الدنيا، فلا يزال رسول الله (ص) عزيزًا، ممنوعًا من الأذى، ومعصومًا من كل اعتداء، حتى توفى الله أبا طالب، وعندها جاء نداء ربّه يحمله جبرائيل: “اخرج من مكة فقد مات ناصرك” [10].
ثانيًا: السمات السياسية.
- القيادة والحكمة: كان أبو طالب بحسب روايات أهل السنة والإمامية سيدًا شريفًا مطاعًا مهيبًا مع إملاقه، ومن وجهاء مكةورؤساء قريش عامة وبني هاشم خاصة، فهذه السمات الاجتماعية السياسية التي اتسمت فيه أهلته ليرث زعامة الهاشميين من والده زعيم بني هاشم وسيدها، وقد تولى قبل بعثة النبي محمد (ص) منصبي (الرفادة (ضيافة الحجيج، والسقاية (إيصال الماء إلى الحجيج)[11]. وكان تاجرًا، يشتري العطور والقمح، ويبيعهما[12].
- تشريع السنن: كان أَوَّلَ من سن القَسَامَة– على أولياء المقتول- في الجاهليَّة في دم عمرو بن علقمة، ثم أثبتتها السنة في الإسلام،[13] ووصفه الحلبي قائلًا: “كان أبو طالب ممن حرم الخمرعلى نفسه في الجاهلية كأبيه عبد المطلب”[14].
وكتب ابن هشام في ذلك: “كان أبو طالب هو الّذي يلي أمر رسول الله (ص) بعد جدّه، فكان إليه ومعه… ولما خرج أبو طالب تاجرًا إلى الشام، وتهيّأ للرحيل، وأجمع المسير صبّ به رسول الله (ص) فرقّ له (أبو طالب)، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدًا[15]. “كان أبو طالب إذا أراد أن يعشي أولاده أو يغديهم يقول: كما أنتم – أي امسكوا- حتى يحضر ابني فيأتي رسول الله (ص) فيأكل معهم”[16].
ولما مات أبو طالب “تبع رسول الله (ص) جنازته، مع أنهم يروون أن ثمة نهيًا عن المشي في جنازة المشرك، وإنهم يروون أنه (ص) أمر الإمام عليًّا (ع) بأن يغسله ويكفنه ويواريه”[17]. وحين التشييع اعترض النبي الأكرم (ص) نعشه، وقال برقة وحزن وكآبة: “وصلت رحمًا، وجزيت خيرًا يا عم، فلقد ربيت وكفلت صغيرًا، ونصرت وآزرت كبيرًا”[18]. وقد فصلت ذلك: الرواية التي رواها علي بن ميثم، عن أبيه عن جده: أنه سمع عليًّا (ع) يقول: “تبع أبو طالب عبد المطلب في كل أحواله حتى خرج من الدنيا وهو على ملته، وأوصاني أن أدفنه في قبره، فأخبرت رسول الله (ص) بذلك، فقال: اذهب فواره، وانفذ لما أمرك به، غسلته، وكفنته، وحملته إلى الجحون، ونبشت قبر عبد المطلب، فرفعت الصفيح عن لحده، فإذا هو موجه إلى القبلة، فحمدت الله تعالى على ذلك، ووجهت الشيخ، وأطبقت الصفيح عليهما، فأنا وصي الأوصياء وورثت خير الأنبياء، قال ميثم: والله ما عَبَدَ علي، ولا عَبَدَ أحد من آبائه غير الله تعالى، إلى أن توفاهم الله تعالى”[19].
في بحثنا في طيات التاريخ نجد الكثير من القيم الإنسانية التي تتسم بها شخصيتا عبد المطلب وأبي طالب، ولم يحدثنا التاريخ عن صفات تذمهم كغيرهم من أسياد قريش، ولا سيما الظلم، وسلب الحقوق، وغيرها من سمات زعماء تلك المرحلة، فضلًا عن حرصهم على سن سنن ثبتها الإسلام بعد البعثة النبوية، لذا لا نجد قرائن تاريخية علمية تؤشر تخليهم عن سنن النبي إبراهيم الخليل(ع)، فقد ورد في الأخبار أن مواريث الأنبياء كلها كانت عند عبد المطلب فسلمها إلى أبي طالب، فسلمها إلى النبي(ص)، وتتمتها في العقائد الإمامية، إذ يقول الشيخ أبو جعفر: “اعتقادنا في آباء النبي (ص) أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد الله، وإن أبا طالب كان مسلمًا، وآمنة بنت وهب بنت عبد مناف أم رسول الله (ص) كانت مسلمة، وقال النبي (ص): خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم، وقد روي أن عبد المطلب كان حجة، وأبو طالب كان وصيه”[20]. فهذا بحد ذاته دلالة بقائهما وغيرهم من بني هاشم على الشريعة الإبراهيمية الحنفية، فضلًا عن الدلائل التي سيأتي بحثها حول دورهما في الدعوة المحمدية، فلا ضير أو شك بأن هاتين الشخصيتين كانتا على دين التوحيد، كما نجد الكثير من الإشارات في أخبار المؤرخين والرواة حول علم عبد المطلب وأبي طالب بقدوم النبي والدعوة المحمدية، وفي تحليلنا لأوضاع المرحلة التي بعث فيها النبي محمد (ص) نجد أجوبة على الإشكالية التي طرحها أحدهم حول شرك أبي طالب، مستندين إلى رواية ضعيفة السند بسؤال أبي جهل لأبي طالب عند وفاته، يخيره بأن يقرّ بأنه على دين محمد أو دين آبائه الإبراهيمي الحنفي.
هناك إشكاليتان لهذه الرواية التي تكاد تكون الوحيدة إن صحت:
الإشكالية الأولى: بأن دين آباء أبي طالب هو التوحيد وليس الشرك كما يدعي مفسرو هذه الرواية، كما أن مقولة بأنه لم يشهد له بأنه كان يصلي، ففيها مسألتان: الأولى بأن إيمان أبي طالب كان سريًّا لحفظ الدعوة المحمدية كأصحاب الكهف، كما سيرد في حديث الرسول (ص) تباعًا، والثانية بأن الصلاة كانت تقام نافلة في حياة أبي طالب، ولم تفرض واجبة إلّا في المدينة بحسب ما ورد في كتب السيرة.
والإشكالية الثانية: في دراسة الأوضاع الحساسة لتلك المرحلة تؤشر بأن الصراع كان حول السيادة أو السلطة السياسية بالنسبة لأسياد قريش، ولم يكن التوحيد والشرك، فهم كانوا قد رضوا بوجود بني هاشم الموحدين، وكان بينهم معاهدة “الصحيفة”، ثم إن الأوضاع الحرجة التي كانت فيها الدعوة الإسلامية تستلزم بقاء عشيرة بني هاشم لحماية الرسول (ص) ودعوته، وهذا الإقرار السياسي العلني لزعيم الهاشميين أبو طالب يعرض الدعوة الإسلامية للقضاء عليها وهي في بدايتها ولم يشتد عودها، ونتلمس صدق هذا المؤشر من الأمر الإلهي بهجرة الرسول(ص) من مكة بعد وفاة أبي طالب الحامي للدعوة صونًا لهذه الدعوة، فضلًا عن أن أي دعوة إلهية ليكتب لها البقاء والاستمرار لا بدّ لها من بيئة تحتضنها، وتحميها، فكان أبو طالب حامي هذه الدعوة وحاضنها.
فضلًا عن مؤشر تاريخي آخر، فبالرغم مما وصل إليه بنو أمية من التشنيع بأمير المؤمنين لمّ يسع معاوية وحزبه، وآل الزبير وأعوانهم، بذكر شرك أبي طالب لعدم صحته، وشيوع العكس، مع أنه (ع) كان يذمهم، ويزري عليهم بكفر الآباء والأمهات، ورذالة النسب[21]. فقد كتب في هذا السياق أمير المؤمنين (ع) رسالة مطولة لمعاوية جاء فيه: “ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق”[22]. ولم يرد في التاريخ أن ذكر معاوية ردًّا على رسالة الأمير (ع) يذمه بشرك أبو طالب أو عدم دخوله الإسلام، ما يشير إلى أن معاوية كان عاجزًا في تلك المرحلة عن تصديق الناس له لشيوع أصالة إسلام أبي طالب وعجزه عن الطعن بها، بالرغم من أنه وصل في ادعاءاته على الأمير وظلمه بأن سنّ سنة سبه على المنابر لمدة جاوزت العشرين عامًا.
وعن الإمام العسكري (ع): “إن الله تبارك وتعالى، أوحى إلى رسوله (ص): إني قد أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك سرًّا، وشيعة تنصرك علنًا. فأما التي تنصرك سرًّا، فسيدهم وأفضلهم: عمك أبو طالب، وأما التي تنصرك علانية: فسيدهم وأفضلهم ابنه علي بن أبي طالب (ع). وإن أبا طالب كمؤمن آل فرعون، يكتم إيمانه. وقد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع): أن رسول الله (ص)، قال: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين”[23].
” ولولا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصًا وقاما
فذاك بمكة آوى وحامى وهذا بيثرب جس الحماما
فلله ذا فاتحًا للهدى ولله ذا للمعالي ختاما
وما ضر مجد أبي طالب جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر إياب الصبا ح من ظن ضوء النهار الظلاما”[24].
هذه الكفالة والرعاية ثم الذود عنه بعد البعثة الشريفة، بكل ما اتسمت شخصية أبي طالب من القيم الإسلامية لا يمكن أن ندرجها إلّا في خانة الجهاد في سبيل الله.
ولم يزل رسول الله (ص) ممنوعًا من الأذى بمكة، موقى له حتى توفي أبو طالب، فنبت به مكة ولم يستقر له بها دعوة حتى جاءه جبرئيل (ع)، فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: اخرج من مكة فقد مات ناصرك، ثم أقبل على الناس، وقال: أما والله لأشفعن لعمي شفاعة يعجب لها أهل الثقلين[25].
قال الإمام الصادق(ع): “هبط جبرئيل على رسول الله (ص) فقال: يا محمّد، إنّ الله عزّ وجل قد شفّعك في خمسة: في بطن حملك وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وفي صلب أنزلك وهو عبد الله بن عبد المطّلب، وفي حجر كفلك، وهو عبد المطّلب بن هاشم، وفي بيت آواك وهو عبد مناف بن عبد المطّلب أبو طالب، وفي أخ كان لك في الجاهلية”[26].
أخرج البيهقي عن أنس قال: “جاء أعرابي إلى رسول الله (ص) وشكا الجدب والقحط، وأنشد أبياتًا فقام رسول الله (ص) يجر رداءه حتى صعد المنبر فرفع يديه إلى السماء ودعا فما رد يديه حتى التقت السماء بإبراقها ثم بعد ذلك جاءوا يضجون من المطر خوف الغرق، فضحك رسول الله (ص) وسلم حتى بدت نواجده، ثم قال: لله در أبي طالب لو كان حيًّا لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله: فقال علي (ع) عنه كأنك تريد قوله:
“وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للآرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم منهم عنده في رحمة وفواضل”[27].
من المعروف بأن هذه اللامية قد فاقت المعلقات السبع شهرة، وهي طويلة، وقد شُرحت شروحات عدة لكبار مفكرين وأدباء، منهم (علمي فهمان، والسهيلي، والبغدادي، وجعفر النقدي)[28].
عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع)، أنه قال: كان أمير المؤمنين (ع) يعجبه أن يروى شعر أبي طالب (ع)، وأن يدون، وقال تعلموه وعلموه أولادكم، فإنه كان على دين الله وفيه علم كثير.[29]
أجاب الإمام الرضا(ع) أبان بن محمود: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[30]، “إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار”[31].
قال العباس بن عبد المطّلب: “قلت لرسول الله (ص): يا بن أخي، ما ترجو لأبي طالب عمّك؟ قال: أرجو له رحمة من ربّي وكلّ خير”[32].
وقال الإمام علي(ع): “ما مات أبو طالب حتّى أعطى رسول الله (ص) من نفسه الرضا”[33]. وواضح أنّ رسول الله (ص) لا يرضى إلّا عن المؤمنين.
قال الإمام علي(ع): “والله ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنمًا قطّ، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به”[34].
رابعًا: لامية أبو طالب وديوان أبو طالب.
1. الإقرار بالعقيدة.
“يا شاهد الله عليّ فاشهدِ إنّي على دين النبيّ أحمدِ”[35]
“أنت الرسول رسول الله نعلمه عليك نزل من ذي العزّة الكتب”[36]
“بظلم نبيّ جاء يدعو إلى الهدى وأمر أتى من عند ذي العرش قيم”[37]
“وخير بني هاشم أحمد رسول الإله على فتره”[38]
- في الجهاد.
مخاطبًا أخاه حمزة:
فـصـبرًا أبا يعلى على دين أحمد وكن مظهرًا للـديـن وفـقت صابرا
وحط من أتى بالحق من عنـد ربه بصدق وعـزم لا تكن حمز كـافـرا
فقـد سرني أن قلت: إنـك مؤمن فكن لـرسول الله في الله نــاصرا
وباد قريشًـا في الذي قد أتـيـته جهـارًا، وقل: ما كان أحمد ساحرا[39]
نصرت الرسول رسول المليك ببيض تـلالًا كـلـمع الـبـروق
أذب وأحمـي رسـول الإلـــه حمايــة حـام علـيـه شفـيق[40]
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينـا ولا نعبـأ بقـول الأباطـل
أقـيم على نصـر النبي محمد أقاتـل عنه بـالقنـا والقـنـابـل
أنت ابن آمنـة النبي محمـد عـندي بمـثـل مـنــازل الأولاد
ألا إن أحمد قد جــاءهم بحق ولـم يـأتـهــم بـالـكـذب
أوصي بنصر نبي الخير مشهده عليًّا ابني وشيخ القوم عبــاسا
ودعوتني وعلمت أنك صادق ولـقــد صدقت وكنت ثـم أمينـا
ولـقـد عـلمت بأن دين محمد عن خـيـر أديـان الـبريـة ديـنــا”[41]
3. في السياسة
“ألا ليت حظي من حياطة نصركم بأن ليس لي نفعٌ لديكم ولا ضرٌ[42]
“ولما رأيت القوم لا ود فيهم وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد حالفوا قومًا علينا أظنة يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحةٍ وأبيض ماضٍ من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي وأمسكت من أثوابه بالوصائل”[43]
“كذبتم وبيت الله نترك مكة ونطعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدًا ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل”[44].
وقوله:
“والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك غضاضة فكفى بنا دنيًا لديك ودينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت دينًا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارى سبة لوجدتني سمحًا بذاك مبينا[45]
يستدل من هذه الأبيات، السياسة التي اتبعها أبو طالب مع بداية الدعوة، فهو ألزم قريش بحكمته وبسياسة التقية، إذ سد عليهم الذرائع لنفي الرسول(ص) خارج مكة، ليتسنى له (ص) الدعوة للقوافل الوافدة إلى مكة، واستند إلى سياسة الذود عن الرسول(ص) والرسالة بشد الوشائجية القرابية النسبية، فلف حوله آل هاشم التي شكّلت قاعدة مجتمعية لحماية الرسالة من طريق إقامتهم في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، ولا شك بأن هذه السنوات الثلاث هي التي أسست لبناء القاعدة المتماسكة للدعوة والانطلاق بها للتوسع خارج مكة.
خلاصة واستنتاجات.
نوجز بعض خلاصات من خطاب أبي طالب:
١. حماية الدعوة المحمدية في بدايتها، فضلًا عن المخاطرة بأهله وعشيرته من أجلها، وتقديم المال والولد دونها، وبتصريح أبي طالب في وصيته بأنه كان قد اتخذ سبيل التقية في شأن رسول الله (ص) من قريش، وأن ما جاء به الرسول (ص) قد قبله الجنان وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن، وأوصى قريشًا بقبول دعوة الرسول، ومتابعته على أمره، ففي ذلك الرشاد والسعادة، فالسلوك السياسي الذي انتهجه أبو طالب مع بداية الدعوة المحمدية، ينم عن السمات الشخصية التي اتسمت بها شخصيته من بصيرة سياسية.
- الإقرار الإلهي على لسان رسوله (ص): نضطلع مما ورد من أحاديث عن الأئمة الأطهار(ع) عن أبي طالب التي بقي ورودها عند آخر الأئمة (ع) الإمام العسكري(ع)، بالرغم ما اعترى الكثير من الأحاديث من التغييب القصدي بفعل الأوضاع السياسية القاهرة لعقيدة التشيع وما طالها من حرق المكاتب الكبرى، وإخفاء التراث الفكري الأصيل، بقي من الأحاديث ما يرفع المظلمة عن هذا العالم المجاهد، والسياسي الحكيم بإقرار النبي (ص) بإيمانه ودوره في الدعوة الذي لا ينطق عن الهوى(ص)، إن هو إلّا وحيٌ يوحى.
- يمثل شعره إقرارًا وإعلانًا ودعمًا، ووثيقة تاريخية يعتد بها في مختلف المناسبات التي تتطلب موقفًا فضلًا عما يمثله الشعر من خصوصية تاريخية مرحلية كالإعلام والسياسة اليوم، فضلًا عما تعرّض صاحبها من مخاطر من تبعات المدح والذم والرثاء.
المصادر والمراجع:
- ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، الطبقات، المحقق علي محمد عمر، القاهرة، مكتبة الخانكي، 2002، الجزء 1.
- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود، أنساب الأشراف، تحقيق: محمد باقر المحمودي، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 1، 1977، الجزء2.
- الشيخ المفيد، محمد بن النعمان الحارثي، إيمان أبي طالب، تحقيق: مؤسسة البعثة، مهر، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، 1413ه.
- ابن أبي حديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار إحياء الكتب العربية، 1378ه، الجزء 14.
- ابن أعثم، أحمد بن محمد بن علي، الفتوح، تحقيق: علي شيري، مكتبة مدرسة الفقاهة، الجزء3.
- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1378ه، الجزء 1.
- ابن هشام بن أيوب الحميري، عبد الملك، السيرة النبوية، دار الكتاب العربي، 1990، الجزء 1.
- الحلبي، علي بن برهان الدين، السيرة الحلبية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الجزء 1.
- خليل، محمد جواد، أبو طالب حامي الرسول وعظيم الإسلام، مکتبة التاريخ، التراجم والطبقات والأنساب،
- الخنيزي، عبد الله علي، أبو طالب مؤمن قريش، قم، دار الغدير، 1425 ه ق.
- الدينوري، ابن قتيبة، المعارف، القاهرة، دار المعارف، 1981.
- ديوان أبي طالب، جامع الآثار في مولد النبي المختار (ص)، الجزء 3.
- لامية أبو طالب، عبد الله بن أحمد، شعر أبي طالب وأخباره، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، قم، منشورات دار الثقافة، 1414.
- السيد الشريف الرضي، الفصول المختارة من العيون والمحاسن،1929 .
- الشيخ الأميني، إيمان أبي طالب، مكتبة الروضة الحيدرية.
- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، تحقيق: عبد الرحيم الشيرازي، 22، 1983.
- العاملي، جعفر مرتضى، ظلامة أبي طالب، المكتبة العقائدية، 2017.
- القمي، عباس، سفينة البحار، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1416ه، الجزء 5.
- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 2008، الجزء 15.
- المستنبط، نصر الله وباقر القرشي، أبو طالب وبنوه، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، 1969، الجزء1.
- النسائي، أحمد بن شعيب بن علي، سنن النسائي، مؤسسة الرسالة، 2001، الجزء 8.
- اليعقوبي، أحمد بن إسحاق، تاريخ اليعقوبي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1379ه، الجزء2.
* بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي العالمي الخامس مجمع الإمام الحسين لتحقيق تراث أهل البيت (ع).
[1] المستنبط، نصر الله وباقر القرشي، أبو طالب وبنوه، النجف الأشرف، مطبعة الآداب، الطبعة 1، 1969، الجزء1، الصفحة 16.
[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، الجزء 1، الصفحة 36.
[3] ابن هشام بن أيوب الحميري، عبد الملك، السيرة النبوية، دار الكتاب العربي، 1990، الجزء 1، الصفحة 116.
[4] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، الجزء 2، الصفحة 14.
[5] ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: عمر العمري، بيروت، دار الفجر، 1998، الجزء 66، الصفحة 339.
[6] ابن هشام، السيرة النبوية، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحتان 172-173.
[7] البلاذري، أنساب الأشراف، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 31.
[8] ديوان أبو طالب.
[9]شعر للإمام علي (ع)، ديوان الإمام علي، الصفحة 96. وذكرت في: الفصول المختارة: الصفحة 59.
[10] الشيخ المفيد، محمد بن النعمان الحارثي، إيمان أبي طالب، قم، مؤسسة البعثة، مهر، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، 1413ه.ق، الصفحة 24.
[11] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 13.
[12] الدينوري، ابن قتيبة، المعارف، القاهرة، دار المعارف، 1981، الصفحة 575.
[13] النسائي، أحمد بن شعيب بن علي، سنن النسائي، مؤسسة الرسالة، 2001، الجزء8، الصفحات 2-4.
[14] الحلبي، علي بن برهان الدين، السيرة الحلبية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الجزء1، الصفحة 184.
[15] ابن سعد، الطبقات، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 119.
[16] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1378ه، الجزء 1، الصفحة 37.
[17] السيرة الحلبية، مصدر سابق، الصفحة 164.
[18] لم يأمر عليًّا (ع) بالصلاة عليه، لأن صلاة الجنازة لم تكن فرضت بعد، لأجل ذلك قالوا: إن خديجة لم يصل عليها النبي الأكرم (ص) حينما توفيت، مع أنها سيدة نساء العالمين.
[19] القمي، عباس، سفينة البحار، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1416ه، الجزء5، الصفحة 321.
[20] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 2008، الجزء 15، الصفحة117. نقله من كتاب الاعتقادات للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المتوفي سنة 381 ه.
[21] الخنيزي، عبد الله علي، أبو طالب مؤمن قريش، قم، دار الغدير، 1425 ه ق. الصفحتان 272 و 273.
[22] ابن أعثم، أحمد بن محمد بن علي، الفتوح، تحقيق: علي شيري، مكتبة مدرسة الفقاهة، الجزء3، الصفحة 260.
http://www.archive.org/download/Kitabfotouh/Fotoh1-2.pdf
[23] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار إحياء الكتب العربية، 1378ه، الجزء 14، الصفحة 68.
[24] أبيات ذكرها أبي حديد في أبو طالب، مؤمن قريش، الصفحة 47. وانظر: المازندراني، محمد، شرح أصول الكافي، الجزء7، الصفحة 187. http://alfeker.net/library.php?id=2783
[25] الخنيزي، عبد الله علي، أبو طالب مؤمن قريش، قم، دار الغدير، الطبعة1، 1425 ه.ق، الصفحة 222.
[26] السيد الشريف الرضي، الفصول المختارة من العيون والمحاسن، الصفحة 59.
http://alfeker.net/library.php?id=1929
[27] “لامية أبو طالب، أبيات من قصيدة خليليَّ ما أُذْني لأوَّلِ عاذلِ، في السيرة الحلبية، الجزء 1، الصفحة 92 من السيرة الحلبية، الطبعة1، سنة 1330 ه. في استسقاء النبي (ص) في المدينة وأخرج قضية استسقاء أبي طالب (ع) بالنبي (ص) العلامة زيني دحلان الشافعي مفتي مكة المكرمة المتوفي سنة 1304 ه في كتابه المعروف (بالسيرة النبوية) المطبوع بهامش بـ (السيرة الحلبية)، طبع مصر سنة 1330، الجزء 1، الصفحة 92.
[28]المهزمي، عبد الله بن أحمد، شعر أبي طالب وأخباره، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، قم، منشورات دار الثقافة، الطبعة1، 1414ه، الصفحة 12.
[29] أبو طالب حامي الرسول وناصره، مصدر سابق، الصفحة 191
[30] سورة النساء، الآية 115.
[31] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء35، الصفحة 111.
[32] المصدر نفسه، الجزء 35، الصفحة 156.
[33] الشيخ الأميني، الغدير، الجزء 7، الصفحة 388.
[34] كمال الدين وتمام النعمة، ح32، الصفحة 174.
[35] قافية الدال، شعر أبي طالب وأخباره، الصفحة 94.
[36] ديوان أبي طالب، أنظر الرابط: https://www.aldiwan.net/poem20981.html
[37] ديوان أبي طالب، جامع الآثار في مولد النبي المختار (ص)، الجزء 3، الصفحة1546.
[38] يقال إنها شعر لطالب بن أبي طالب، شعر أبي طالب وأخباره، الصفحة78.
[39] قافية الراء، ديوان أبي طالب، شعر أبي طالب وأخباره، الصفحة 78.
[40] ديوان أبي طالب، الصفحة35، ذكره، أبو طالب حامي الرسول (ص) وناصره، نجم الدين العسكري، الصفحة 23.
[41] جعفر مرتضى العاملي، ظلامة أبي طالب، المكتبة العقائدية، الصفحة 83.
[42] “من قصيدة ألا لَيتَ حظِّي من حِياطَة ِ نَصْرِكُمْ”، ديوان أبي طالب.
[43] لامية أبي طالب.
[44] لامية أبو طالب، عبد الله بن أحمد، شعر أبي طالب وأخباره، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، قم، منشورات دار الثقافة، 1414، رواها أبي هفان، الصفحة 25.
[45] لامية أبي طالب، ذكرت في زهرة الأدباء في شرح لاميّة شيخ البطحاء، تأليف الشيخ جعفر النقدي، طبع المطبعة الحيدريّة في النجف الأشرف عام 1356 هـ، وهو في خمسين صفحة شرَحَ فيها قصيدةَ أبي طالب، وذكرت في شعر أبي طالب، مصدر سابق، الصفحة 35.
المقالات المرتبطة
الحوار السياسي العقلي والدور الرسالي للإمام الرضا(ع)
يتبين بوضوح كافي أن الإمام الرضا (ع) سار على النهج الرسالي المحمدي، رفض الظلم، لأن سياسة العترة الطاهرة هي سياسة بنّاءة تعمل على إيجاد الوسائل السليمة لرقي المجتمع وبلوغ أهدافه في الحياة الحرة الكريمة،
نشأة المدن: دراسة في أنثروبولوجيا الاستيطان
إنّ دراسة نشأة المدن تعتبر من أهم الدراسات، فهي تدخل في علوم متعددة، من جغرافية، وديموغرافية، وسوسيولوجية، وغيرها،
سوسيولوجيا الغدير قراءة مفاهيمية في ماهية سلطة الغدير وعلاقتها بسلطة الفقيه الشيعي
تعدّ سوسيولوجيا الغدير موضوعًا حديثًا غريبًا لعامليْن ينبغي ملاحظتهما. العامل الأول هو اقتصار دراسات قضية الغدير على الناحية التاريخية والدينية والأدبية.